السبت، 28 ديسمبر 2024

سفراء المعرفة العرب بين المعاصرة والتراث..


 

   مازالت قضية التراث ومحوه أو أو تقديره أو تقديسه أو تبخيسه مستمرة معنا منذ أجيال مضت وأجيال قادمة، أي أنها ستستمر معنا في عامنا القادم. من أجمل ما عرفتُ هذا العام 2024م برنامج سفراء المعرفة، الذي يقدم نماذج طيبة لهؤلاء الذين يعدون مشاعل نور للأجيال القادمة بما يقدمون من فكر وعلم وأدب في مناحي الحياة كافة، الذي يأتي في بث مباشر كل يوم، وخطته تقديم سفير من سفراء المعرفة في عالمنا العربي، لكي يهدينا خبرته وتجربته الطويلة في تخصصه، وكيفية تغلبه على الصعوبات التي واجهته بهدف تذليل الصعاب على شبابنا، وتخفيف العبء النفسي عنهم ويترك بصمة في درب النجاح من أجل بناء جيل أكثر فعالية في مجتمع سليم معافى، كل حسب إختصاصه؛ فهو برنامج ثقافي، تربوي، تنموي، حضاري وتوعوي، وكل ما يفيد مجتمعنا العربي ويزرع فينا الأمل، وهدف ملتقى الشباب العربي في لندن أن: (نسمو بكم ومعكم عاليًا في عنان الثقافة والمعرفة المتنوعة)!


   المدهش أن هذا البرنامج يقدمه "سفير سفراء المعرفة" ـ كما أصفه وأسميه ـ الإعلامي المحترم شريف التميمي، ويعاونه في إعداده طاقم من الإداريين والاستشاريين الجادين المثقفين، قد بدأ رحلته ـ أي البرنامج ـ من أخريات أيام عام 2019م وحتى تاريخنا الراهن، يعمل من قلب لندن من أجل إحياء ثقافة المعاصرة والحداثة ويناضل، في نفس الوقت، من أجل إحياء تراثنا العربي والإسلامي، بل يتحمل مُعده ومقدمه الكثير من الاستهجان والاعتراض على صنيعه هذا، ولعل من يتابع أسماء القامات من سفراء المعرفة العرب الذين جاء اختيارهم حسب معايير دقيقة لا تعرف المحاباة أو الانحياز، بل بحيدة علمية ونزاهة وتجرد، سيرى أنها تغطي أغلب بلدان عالمنا العربي، وسيعاين كَم الجهد المبذول في انتقائهم وتقديمهم.


   كما أن الموضوعات التي تم تناولها خلال تلك الأعوام تشكل وحدها موسوعة تضمها مجلدات، ومع هذا يصر المجاهد التميمي المُضي قدمًا بسفينته في هذه الأجواء التي تغطي منطقتنا من حروب واستهداف داخلي وخارجي، باذلاً من جيبه ما هو أحق به من مال في سبيل أن يُنجز ما أنجز وسينجز ولم يصبه هاجس من إخفاق أو نداء بالرجوع وكفى ما خسرناه أو ما ربحناه ..


    والربح المتحقق هنا هو مساهمته وفريقه وثُلة من سفراء المعرفة وأنا واحد ممن وقع الاختيار عليه لأنال شرف الإبحار معهم. ويشهد الله أنني لم أكن أعرف الرجل أو برنامجه أو طاقمه، وهو ما يمنحني شرف الاعتزاز بهذه السفارة التي أعتبرها تكليف لا تشريف، وقد رأى أخي شريف أنني أصلح كمشروعٍ لجندي مقاوم في سبيل تراث قومه؛ فقدمتُ وسأقدم معه عدد من حلقات البرنامج ولن ننتقل لموضوع غيره إلا إذا أحس ربان السفينة بأنه هنا يمكننا التوقف.


   في وداع عام واستقبال عام لا أجد سوى رفع أكف الضراعة لله تعالى أن نرى عالمنا العربي والعالم يسوده السلام، وأن يتوقف نزيف الدماء، وهدم البيوت، ودك الأحلام، وتقويض الأماني، وهجرة الطيور والبشر.. وأن نسعى لإحياء تراثنا لأنه هويتنا وجذورنا وعراقتنا وتنوعنا الثقافي والإنساني الذي يجب أن نحترمه وأن نتعلم كيف نُديره كما تديره الدول المتقدمة، وأن يمضي كل واحد منا إلى غايته في اطمئنان دون تنمر أو تذمر أو كيد أو شر لأخيه الإنسان في أي مكان، نحترم العقائد، والمعابد، والكتب المقدسة لكل دين.. فلكم دينكم وليَّ دين.. والسلام يضمنا .. والإنسانية تكفينا وتحمينا.. والحوار يثرينا.. واحترام وجهات النظر..


  وكل عام وأنتم جميعا بكل خير: ملتقى الشباب العربي ـ لندن، سفير سفراء المعرفة التميمي، وكل سفراء المعرفة الذين قالوا كلمتهم ومضوا أو من سيستمرون أو سيأتون، ومن يتابع ما يقولون من العرب وغير العرب.

الثلاثاء، 17 ديسمبر 2024

أداء دكتور السيد إبراهيم أحمد دور المسحراتي في تكريم الفنانين المشاركين ...

لقاء دكتور السيد إبراهيم في مناقشة قصص قصيرة جدا لـ محمد أيوب

لقاء دكتور السيد إبراهيم في الحديث عن مدينة طهطا وأعلامها

دعوة دكتور السيد إبراهيم لمهرجان فنون السويس

لقاء دكتور السيد إبراهيم في برنامج سفراء المعرفة ـ لندن ـ التراث العربي ...

احتفالية مصورة في عيد ميلاد دكتور السيد إبراهيم ـ من إعداد سارة السيد

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2024

طهطاويون منسيون: “أَنْطُون زِكْرِي” أنموذجًا..

 




    يعرف العالم العربي بل الإسلامي، وإن شئت بعض أهل الاستشراق مدينة طهطا، ليس لكونها أحد مراكز محافظة سوهاج بصعيد مصر، ولكن لكونها هي محل ميلاد وإقامة رائد النهضة أو اليقظة الحديثة ليس في مصر وحدها بل إن شئت في العالمين العربي والإسلامي، المُعلم والكاتب والشاعر والناثر والصحفي والأديب واللغوي والمترجم ورائد الترجمة المسرحية ومن رواد فكرة القومية أو الوطنية المصرية والمؤرخ الشيخ العلامة رفاعة رافع الطهطاوي.

    ذلك الاسم الذي مازال يتردد صداه بين تلاميذ أفكاره عبر الأجيال، وبين دفات الكتب، والدراسات، والمقالات والرسائل الجامعية، والمؤتمرات والندوات التي تقام هنا وهناك، تلك التي تناقش دوره أن سلبًا أو إيجابًا بحسب المعسكر الثقافي الذي ينتمي إليه المتحدث أو الكاتب أو الباحث عن سيرة ومسيرة هذا الرجل الذي صار علامة على موطنه الذي أنجب قبله وبعده الكثير من العلماء والأدباء والأكاديميين، ولم يلمعوا في سماء الشهرة والمجد مثله، مع كون انتهاء اسماء بعضهم بنفس اللقب أو النسبة “الطهطاوي”. ومنهم من سأذكره على سبيل الاستدلال لا الحصر، وإلا طالت القائمة مع ضيق المقام:

ـ الصوفي الشهير وصاحب الألقاب التي يطول حصرها، والجد الأكبر لعائلة الطهطاوي وينسب إليه جميع مشاهير وعلماء هذه العائلة العريقة: “أبو القاسم بن عبد العزيز بن يوسف بن رافع الحسيني الطهطاوي”، وقد أنشأ مسجدًا في طهطا وليس له آثار علمية مكتوبة، وتوفى عام 762ه.

ـ العالم المشهور والفقيه الحنفي “أحمد بن محمد بن إسماعيل الدوقاطي الطهطاوي”، اشتهر بكتابه: “حاشية الدر المختار”، أربع مجلدات في فقه الحنفية، وتوفى 1231ه.

. الأديب الشاعر الفقيه “أحمد بن عبد الرحيم بن مسعود بن أبي السعود القلتي الشافعي، الطهطاوي”، كان والده مفتي السادة الشافعية، ونائب الأحكام الشرعية بطهطا، ومن الذين التحقوا بمدرسة الألسن، من آثاره ومؤلفاته: الأسئلة النحوية المفيدة والأجوبة العربية السعيدة في النحو، نظم المقصود في الصرف، النقطة الذهبية في علم العربية. ولد 1233ه، وتوفى 1302ه.

ـ الحافظ الفقيه أحمد حجازي بن عبدالله بن محمود بن أبي تليح عبدالعال الطهطاوي المولد، والحجازي الأصل، والمولود في مدينة طهطا في عام 1303هـ، وهو شيخ القراء بمكة المكرمة في العهد السعودي، ألف رسالة سماها: “القول السديد في أحكام التجويد” التي تم ترجمتها إلى اللغة الملايوية والبنغالية. استمر الشيخ الفقيه متوليًا لمشيخة القراء ورئاسة الفقهاء بمكة المكرمة نحو ثمان وعشرون سنة حتى وافاه الأجل في الخامس من شهر رجب عام 1381هـ، وشيع من داره الكائنة بحي أجياد بمكة ودفن بمقابر المعلاة.

ـ الشيخ “محمد رافع بن عبد العزيز القاسمي الحسيني الطهطاوي الأزهري”، العالم الأزهري، حنفي المذهب، له إسهامات في التفسير والفقه والحديث، ومن آثاره: “كمال العناية بتوجيه ما في ليس كمثله شئٌ من الكناية”، ولد 1249ه وتوفى 1336ه بطهطا، وهو والد الشيخ العلامة أحمد رافع.

ـ الشيخ “أحمد رافع الحسيني القاسمي المصري الطهطاوي الحنفي”، ابن العلامة السيد محمد رافع ابن المرحوم السيد عبد العزيز رافع، وواحد من كبار علماء المذهب الحنفي في عصره، كان يوصف بأنه “مسند عصره” عن جدارة، وكان صاحب اهتمامات أدبية وفلسفية، وقد أنشأ ببلدة «طهطا» في سنة ١٨٩٨م مدرسة خيرية إسلامية، سماها “مدرسة فيض المنعم” تخرج منها كثير من التلاميذ الذين حازوا بعد ذلك الشهادات العالية، ومكث ينفق عليها نحو أربع عشرة سنة، ثم قدمها إلى مديرية جرجا في سنة ١٩١٢م لإدارتها بمعرفتها، من كتبه: (رفع الغواشي عن معضلات المطول والحواشي”، و”الثغر الباسم في مناقب جدي الطهطاوي أبي القاسم”، و”القول الايجابي في ترجمة شمس الدين الأنبابي”، توفي عام 1936م.

. السيد الشريف محمود رفاعة عنبر الطهطاوى الحنفى، الأزهري، أنشا أول معهد أزهري في صعيد مصر بعد معهد أسيوط عام 1914م بمدينة طهطا من ماله الخاص، كما قام بتأليف كتاب “التحفة العنبرية فى معرفة الأحكام القرآنية” وطبعه على نفقته الخاصة عام1931م، والكتاب مقرر على طلاب معاهد القراءات بالأزهر الشريف، ومن آثاره أيضا: “الكشكول العنبري في سوانح الأفكار وحقائق الأخبار”، توفي الشيخ عنبر عام 1961م .

  وقد يسترعي انتباه البعض وجود اسم “رافع” مع تراجم بعض من ذكرناهم، وذلك لأن: محمد رافع، وأحمد رافع، ورفاعة رافع، كلها أسماء مركبة تركيبًا إضافيًا، وهو أمر اختص به رجال العائلة الطهطاوية. وغير هذه الأسماء ممن لا ينتهي نسبهم إلى بلدهم “طهطا” الكثير ممن نعرفهم لذواتهم ومؤلفاتهم دون معرفة أن “طهطا” محل ميلادهم.

 ويبقى السؤال: فلمَّ كان تركيز المقال على المؤرخ أنطون زريق أو أنطون بن أنسطاس أنطون زكري (1900 – 1950م) خاصة؟! وتكمن الإجابة في أنه على الرغم من كون زكري مسيحي الديانة، كاثوليكي المذهب! إلا أنه فرع رائع متفرد تدلى من شجرة العلامة رفاعة رافع الطهطاوي الذهبية المتنوعة؛ فهو يشبهه في موسوعيته، وتنوعه المعرفي، وشغله بعض وظائفه، خاصة الترجمة، واهتمام أنطون يرقى لاهتمام الطهطاوي بأمور وطنه، وانشغاله بقضاياه، حتى غمس قلمه في محبرة البحث عن الحلول مع الصفوة من المتخصصين والمهتمين بأي فرع من فروع العلم الذي يتعرض لمشكلة برزت على الساحة، وتؤثر تأثيرا بليغا في بني وطنه، وتماسكهم المجتمعي، وهو ما يبدو واضحًا في مؤلفاته.

  من المهم تعريف القراء بمعلومات حول المتعدد المواهب “أنطون زكري” الذي ذكرتْه بعض صفحات من: كتاب: “أعلام علماء مصر”: نبيل أبو القاسم، مكتبة المشارق، القاهرة،2018، و”معجم المطبوعات العربية والمعربة”: يوسف بن إليان بن موسى سركيس، 1928، مطبعة سركيس مصر، وكتاب: “الأعلام”: خير الدين الزركلي، 2002، دار العلم للملايين، بيروت. وكتاب: “معجم أعلام العرب المسيحيين في العصور الإسلامية”: حسن البطوش، علاء الرشق، مروان حمدان، المعهد الملكي للدراسات الدينية، عمان، 2004م. ومؤسسة هنداوي للعلم والثقافة، القاهرة، وندزر، بيركشاير.

  ولد عالم اللغات، والأثري، والمؤرخ، والمترجم “أنطون زكري” عام 1900م في مدينة “طهطا” بمحافظة سوهاج المصرية لأسرة من الأقباط الكاثوليك، وقد شغف بالآثار القديمة منذ صغره فانكب على دراسة التاريخ واللغات القديمة كالقبطية والمصرية القديمة والعبرية، وقد عمل أمينًا لمكتبة المتحف المصري الأمر الذي مكنَه من الاطلاع على الكثير من الكتب والمراجع الهامة في “المصريات”، وقد أشبع قربه المستمر من الآثار، بحكم طبيعة عمله، وشغفه الشديد بالتاريخ الفرعوني، فألف العديد من الكتب الهامة في هذا المجال. وقد توفي زكري قتيلاً في حادث اصطدام سيارة مروع عام 1950م.

   كان زكري ينشر مقالاته بمجلتي المقتطف والمنار، ومنها ثلاث مقالات بالمقتطف، وهي: “ذكرى شامبليون”، أغسطس 1922، و”توت عنخ أمون”، يناير1923، و”اللغة المصرية القديمة”، أغسطس 1924، ومقالة واحدة بالمنار تحت عنوان: “أقدم كتاب في العالم أثر مصري منذ 5500 سنة”، مارس 1923. وهي المقالات التي حوتها كتبه التي من تأليفه أو ترجمته.

 أمَّا الكتب التي من تأليف زكري، فهي: “النيل في عهد الفراعنة” و”مفتاح اللغة المصرية القديمة ومبادئ اللغتين القبطية والعبرية” صدر في عام 1924م، و”الأدب والدين عند المصريين القدماء”. والكتب التي تولى تعريبها أو ترجمتها، فهي: ” الحكومة الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية”، و”الدليل العصري للمتحف المصري”، و”الطب والتحنيـط في عهد الفراعنة”.

   وكان قد أعلن زكري عن قرب صدور كتابه: “تاريخ مصر القديم لهيرودوت في القرن الخامس ق.م”، بعد أن ترجمه، ونمق حواشيه، وانتقى صوره، وجاء الإعلان في الصفحة السادسة من كتاب: “الحكومة الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية” الذي انتهى المؤلف من تأليفه في 1935م، إلا أن كتاب هيرودوت المذكور لم يصدر بترجمة أنطون ذكري، ولكن بترجمة وتحقيق دكتور وهيب كامل المدرس في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، تحت عنوان: “هيرودوت في مصر: القرن الخامس قبل الميلاد”، وقد نقله وهيب عن اليونانية، وصدر في الأول من يونية عام 1946م، عن دار المعارف بمصر، ولم أعثر على كتاب زكري الذي لم يصدر غالبًا.

  اعتاد انطون زكري ذكر الأسباب التي دفعته لتأليف أو ترجمة الكتاب الذي يقدمه للقراء، وذلك مثلما فعل حين ترجم كتاب: “الدليل العصري للمتحف المصري” عن الفرنسية لمؤلفه العالم الفرنسي الأثري “جورج دارسي”، السكرتير العام لمصلحة الآثار المصرية، عام 1921م:

وقد وجه زكري كلمة للزائر الكريم: (لا يحصل الزائر على فائدة حقيقية إذا دخل المتحف ولم يقع بصره فيه إلا على هياكل صامتة قائمة، وقد يقع في نفسه لأول وهلة أن أربابها قوم اتسعت لهم أوقاتهم فشغلوها بدمية هذبوها وصخرة تحتويها، وهكذا يغيب عن ذهنه السر الحقيقي الذي بعثهم على تكبد المشاق في استبقاء آثارهم والاحتفاظ بجلائل أعمالهم. لذلك كله شعرنا بحاجته إلى مفتاح يفتح له المغلق منها، ودليل يقوده إلى حقيقة الواقع).

  وحين ترجم زكري كتاب: “الحكومة الاشتراكية منذ 3500 سنة مصر الاقتصادية فى عهد الأسرة 18 الفرعونية” عام 1935م، وكعادته يوجه كلمة لحضرات القراء، يقدم فيه تعريفا بالكاتب والكتاب، ودافعية ترجمته ونشره، فيقول: (أتقدم بهذا الكتاب أثرًا تاريخيا تأليف الأستاذ القدير “سرج ديرين”، دكتور بالحقوق، وخريج مدرسة العلوم الاقتصادية، ومدرسة اللوفر. وهو فريد في نوعه؛ لِتضَمُّنهِ حقائق لم تأتِ بها المؤلفات الأخرى عن تواريخ مصر القديمة، وفي مباحثه إيضاح كاف لتطور الهيئات الحكومية في تلك العصور؛ لأن العدل ونشر المساواة كانا وجهة الجميع، مهما تنوعت الأدوار الثمينة للأدوار الحكومية).

  وإذا لم يخص زكري القراء بفقرة خاصة في الصفحات الأولى من كتبه أحيانا، يأتي بها ضمن مقدماته الرائعة لغويا، وفكرا، وعمقا، وتخصصا، إلى الحد الذي تنسى ديانته أو مذهبه وتتذكر فقط “طهطاويته” وأنه تربى في كتاتيب بلدته، وتسربت الثقافة الإسلامية في تضاعيف جمله المتماسكة، والتي يدرك القارئ من خلالها مدى تمكنه من ناصية الفروق الفردية، والمترادفات اللفظية، ويشترك على الرغم منه مع ابن مدينته الرائد العلامة الإمام رفاعة رافع الطهطاوي، في حب الوطن، والخوف على مواطنيه، وحقوقهم، وحرصه على أن ينفعهم في ترجماته بالمفيد، والتزامه بحياد العلماء، وتصويب الأخطاء التاريخية التي تعرض لها عند تصحيحه لما شاع عن عروس النيل البشرية التي يقدمها المصريون للنيل لكي يجري.

  ويقدم من خلال كتابه “الأدب والدين عند قدماء المصريين” مقدمة تحس فيها بأنه شيخ معمم حيث بدأها بالبسملة واستهلالٍ كاستهلال الأزهريين، مما يؤكد تأثره ببيئته الأولى في “طهطا” واحترامه للدين في المطلق، واعتزازه بانتسابه لحضارة تعتز بالشرف وقيمه المستقرة في نفوس مواطنيه، وأن الانحلال أتى مع الدخلاء من الأجانب الذين قننوا الدعارة والعهر في البلاد، وشارك من خلال كتابه: ” تحريم البغاء عند قدماء المصريين” في حض الحكومة على إلغائه، وذلك بعد أن أرسلت له الحكومة المصرية من خلال تأليف لجنة مهمتها إلغاء البغاء وعدم اتخاذه مهنة بين الرعاع والأسافل، مطبوعًا تستطلع فيه رأيه: (ولكوني ممن شملهم حسن الحظ بوصول بطاقة من هذا المطبوع إليَّ، ولاتصالي بمعلومات تاريخية، عما يتعلق بهذا المبحث وأمثاله في عصور الفراعنة… فقد دفعني الواجب الوطني لأن أكون في جملة من قاموا بقسطهم في هذه الخدمة الوطنية).

    ولأن ما قدمه الرجل خلال نصف قرن هي كل عمره على الأرض، من علمٍ مفيدٍ وباذخ، ونافع، مما جعل عجلات المطابع ودور النشر تسعى سعيا إلى كتبه تعيد تقديمها لأهل التخصص وممن يهتمون بما كتب، خاصة وأن العديد من الكتب والدراسات الأكاديمية بطول الوطن العربي تنتفع بها كمراجع تقف فيصلا للاستشهاد بها خاصةً في مجال اللغة القبطية، وهو ما يعني أنه على الرغم من وفاته مازال حاضرًا في المشهد العلمي بكافة تنوعاته، شأنه في هذا شأن أعلام طهطا في كافة المجالات حين انطلقوا من مدينتهم ونقلوا العلوم والمعارف للدنيا وهذه خصيصة من أعظم خصائصهم: حب العلم، ونشره، ونفع المجتمع، وحب الوطن، والحرص على سلامته، وتقدمه.

    وحسبي أني تناولتُ ولو طرفًا من سيرة العالم اللغوي الشهير، والمترجم، والأثري، والمؤرخ، والبليغ “أنطون زكري” الطهطاوي، حين أسقط اسمه صاحب كتاب:”مائة شخصية قبطية على أرض مصر”، مع انطباق كافة الشروط المعلنة عليه تماما، إلا أنه ليس أرثوذكسيًا، ولكنه مصري، قبطي، وتألمتُ للغاية حين لم أجد اسمه بين علماء اللغة القبطية أو علماء القبطيات المتنوعة بحسب التقسيم الموضوعي للشخصيات كما وضعه الكاتب، لعله يتدارك ذلك في طبعات قادمة؛ فالرجل يستحق بحق أن نبعث سيرته، وننوه عن مؤلفاته وجهده البارز في مؤلفاته ومترجماته التي اعتنى بها، وقضى فيها عمرًا من وقته.

القفلات المدهشة وجمالياتها في القصة القصيرة جدًا:"بدون إبداء أسباب" لـ "محمد أيوب"..




 

استطاعت القصة القصيرة جدًا أن تحجز لها مكانًا ثابتًا لا تتزحزح عنه في عالم السرد العربي، خاصةً وأنها انتشرت انتشارًا سريعًا بين من يقبلون عليها كتابةً، أو تلقيًا وتذوقًا؛ لكونها تواكب الحركة المتدفقة في المجتمعات المعاصرة التي تلازمها السرعة في حركة السير، والانتقال، والمعرفة، وتطورات الأحداث السياسية وانعكاساتها على كافة الأنشطة الحياتية.


     كما أنها صارت المتحدث الرسمي عن هموم وحال فئات عديدة من المجتمع، في أوجز عبارة، وانتقاء لحدث أحادي، وشخصيات لا تعرف الازدحام في النص القصير، والبعد عن الوصف، والترادف، والاتكاء على التلميح، وإجبار المتلقي على أن يكون طرفًا مشاركًا في القص، دون أن تتنازل عن الحكي السردي، والتكثيف، والمفارقة، والبنائية، والشعرية والبلاغية في اللفظة الموحية ضمن تراكيب لغوية سهلة، ولو تجاورت مع أجناس أدبية أخرى أو تفرعت عنها أو استمدت وجودها منها؛ فالقصة القصيرة جدًّا "صيغة جديدة في الكتابة لها أوليَّاتها الجوهرية التي يجب أن تُكرَّس كثوابت ومتعاليات". بحسب تعريف الدكتورة سعاد مسكين في كتابها: "القصة القصيرة جدًا في المغرب- تصورات ومقاربات".


    غير أن "فن القصة القصيرة جدًا فنٌ صعب لا يجيده إلا الأكْفاء من الكتَّاب القادرين على اقتناء اللحظات العابرة قبل انزلاقها على أسطح الذاكرة، وتثبيتها للتأمل الذي يكشف عن كثافتها الشاعرية بقدر ما يكشف عن دلالاتها المشعة في أكثر من اتجاه". بحسب رأي الدكتور جابر عصفور في مقاله: "أوتار الماء، عمل يستحق التقدير".


ومما لا شك فيه أن القاص محمد أيوب من زمرة الكتًاب الأكفاء؛ فقد صدر له: مجموعتان قصصيتان: "من خلف النظارة السوداء" و"شارع ٢١٧ سابقاً"، ورواية "هزائم متكررة"، ومجموعة من القصص القصيرة جدًا: "ما لا يصح أن يقال"، ومن نفس الجنس الأدبي مجموعة: "بدون إبداء أسباب" الصادرة عن دار زين للنشر والتوزيع، القاهرة، عام 2024م، وتضم (77) قصة، غير الإهداء والتعريف بالكاتب والشكر.


ولابد من تدوين ملاحظة هامشية تتعلق بالعنوان: حيث أدخل الكاتب حرف "الباء" على "دون"، والصواب: أن يكون عنوان المجموعة "دون إبداء أسباب". أي: تُستعمَلُ "دون" مُفْرَدَةً من غيرِ حرفِ جرٍّ، بمعنى "من غَير"، وذلك في ضوء أحكام "دون" ودلالاتها السياقية في لغتنا العربية.


وإذا كان بناء القصة القصيرة جدًا قائمٌ على العنوان والمتن والقفلة وغيرها من الخصائص، إلا أن الدراسة اقتصرت على خصيصة القفلة وجمالياتها، ذلك أنها: "جملة الختم شكلا، ولكنها مناط السرد عملا، فمنها انطلاق التأويل، وإليها يستند التعليل، وعليها يندرج التحليل، فهي ذات أهمية قصوى". بحسب تعريف دكتور مسلك ميمون لها.


كما أنه يضع لها عدد من الخصائص التي يجب أن تلازمها؛ فيجب أن تكون قفلة مفاجئة لا يتوقعها المتلقي، وأن تحُدِث فيه توترًا وانفعالا، وأن تكون باعثة على التأمل والتساؤل، وتفتح آفاق التأويل والتحرر من تخوم النص، غير متصنعة، ولا متكلفة، ولا معقدة، تتسم بالعفوية، وتضفي جمالية دلالية وبلاغية على النص، وأضيفُ من عندي: المباغتة، والدهشة وهي من أهم خصائصها، وينتظرها القارئ من الكاتب، مهما بلغت قصته من التكثيف أو الرمز أو الحذف أو الإضمار، ولا يمكن لنسقية النص والتصوير البلاغي أن تجعل من القفلة استثنائية، مهما غطى كل ما سبق ذكره على دلالتها وتأثيرها، ولن يتحقق هذا إلا في وجود القاص الاستثنائي، والقارئ الاستثنائي الذي لا يعرف سوى انتظار جمالية القفلة المدهشة في نهاية النص، بل ربما أسقط الناقد القصة كلها باعتبارها مخالفة لشروط القصة القصيرة جدًا، لأنه أيضا تعود على النهايات والخواتيم المدهشة، وربما كنا في انتظار ناقد استثنائي أيضا.


ولعل من سيطالع قصص المجموعة سيشهد لكاتبها بمدى وعيه بأهمية القفلة، ومدى احترافيته في صناعتها وصياغتها المدهشة التي تحير المتلقي بإيجازها وإضمارها وتكثيفها، وتفسد تنبؤاته، بوقعها الصادم، مُتمسكًا بوحدة الحبكة، وسيادة المفارقة، والحكي السردي الذي لا يفارقه التكثيف اللغوي، وصولا إلى الانبلاجة أو الانبثاق أو الإعلان النهائي عن تمام الوصول أي "القفلة" المغلقة أو المفتوحة.


لقد غلب على أيوب اللجوء إلى السرد بضمير المتكلم في كل قصص المجموعة، وهو أمر يرى البعض أنه يعود للمبدع الذي يحاول خلق مساحة من الحميمية وتضييق الفجوات بينه وبين المتلقي بُغية التأثير فيه، وهو ما يحسه قارئ المجموعة التي بين أيدينا ونجح في استخدامه الكاتب، باعتبار أن "هذه هي أكثر الوسائل استعدادًا لإبراز الإحساس الذي ينقله القاص دراميًا.. كما أن من شأنها أن تؤدي خدمة بأن تدفع القصة إلى الأمام" كما يرى بيرسي لوبوك في كتابه: "صنعة الرواية". مع ضرورة الوعي التام بأن القاص ليس هو بطل العمل، بل يتمثل بضمير المتكلم ضمير السارد الذي يقدمه في واجهة الحدث ويتوارى هو خلفه.


القفلة الحوارية:


احتلت القصة الحوارية المساحة الأكبر من المجموعة حتى تعدت أكثر من النصف، وقد استخدم أيوب الحوار ببراعة الواعي بتكنيكه، وضرورة الإيجاز والتكثيف فيه، ومراعاة عدد الكلمات ومدى تأثيرها، كما في قصة: "مؤتمر جماهيري":


 "طلبتُ من أعز أصدقائي إعداد مؤتمر جماهيري ضخم، قلتُ له: أنني سأعلن أمام كل الناس عيوبي، وما فعلته من خطايا..


صديقي كان مندهشًا.. لكنه فعل كل ما طلبته وبكل دقة، وقبل موعد المؤتمر بلحظات وجدتني أرتعش وأقرر عدم الخروج ومواجهة ما ينتظرني، اعترض صديقي: الأمرُ بات حقيقي، والناس في انتظارك..


قلتُ له: أخرجْ.. وأخبرهم أن بعد انتهاء اعترافي، سيقع الاختيار على عشرة أفراد منهم يعترفون مثلي أمام الجمع أيضًا!


وقبل أن يعود صديقي، تأكدتُ أن الساحة أصبحت فارغة .. لكنني مازلتُ أرتعش!"..


لا تكمن جمالية هذه المقطوعة في خاتمتها أو قفلتها المدهشة، بل تكمن أكثر في الحوار الداخلي (المونولوج)، وفي الحوار الموجز في دهشة الصديق التي لم يذكرها النص إن كانت لفظًا أو بالنظرة أو بلغة الجسد سواء بالإيماء أو بالامتعاض، وأنها تحمل أكثر من دهشة بينية قبل الانتقال إلى النهاية عند الصديق وعند المتلقي بالمفارقة في كون (المرشح) دائمًا ما يستأسد في الإنكار لمن يواجهه بأفعاله، حريصٌ على تعمية الناخبين والمجتمع عن تاريخه، فإذا به يفصح ويُقر معترفا بإرادته، ثم يحس بجرم ما سيقدم عليه، فيحاول التراجع، ثم يفجر القنبلة بضرورة اعتراف الآخرين من المرشحين، وتأتينا الدهشة الباعثة على التأمل والخرجة المفتوحة، والسخرية، بأن أحدًا لن يعترف، وهذا الأحد في مجتمعاتنا العربية.. كلنا .. نحن.. وهذه ليست دهشة القفلة فقط بل فلسفتها النابعة من وعي الكاتب.. والهروب الدائم من المواجهة..


القفلة السردية:


أظهر الكاتب تعاملا واعيا في السرد الحكائي عبر العديد من قصص المجموعة، وقد بدا هذا واضحًا من خلال اختياره العناوين، وخاصة من خلال "العامل المثالي" و"عدالة" التي يجمعهما التضاد الجلي ومفارقة صريحة بين العنوان وبين النص، تؤكد امتلاك أيوب خصائص القاص الذي يتعامل مع هذا الجنس السردي، ومنها أن يكون ساخرًا، ويمتلك نظرة نقدية متعمقة، والقدرة على الإثارة والإدهاش، وقراءة النفس البشرية وتناقضاتها، وإبرازها بطريقة سردية فنية غير مباشرة، وهو ما يكسبها جمالية الطرح، وهو ما سيلاحظه المتلقي في العمود الفقري الدرامي الجامع بين أحداث النصين:


"العامل المثالي":


"تم اختياري العامل المثالي لهذا العام، جاء في القرار أنني قدوة حسنة لباقي العمال، وأنني ذو أخلاق حميدة وأحافظ على المؤسسة وممتلكاتها، فسألتُ نفسي: هل أرد ما اختلسته بالأمس وأكتفي بالجائزة المالية المخصصة لي أم أعتذر عنها؟!


وجدتُ ما اختلسته أكبر فرفضتُ الجائزة وتبرعتُ بها وأصبحتُ أمامهم الأكثر مثالية!". 


...............................


"عدالة":


"كانت أول مبارة لي حَكم في قسم الدوري الثالث "المظاليم"، قلتُ لنفسي: هل يجوز أن أتقاضى رشوة من أول مباراة؟! حتى وجدتُ حارس المرمى يقول: أن المبلغ أقل من المتفق عليه، وهذا أغضبني، وقال المدير الفني لفريقه: أن هذه المباراة جاءت في وقتها لأن الديون باتت تحاصره، فذهبتُ لرئيس النادي المنافس وطلبتُ نصيبي!". 


استخدم أيوب عنوان "العامل المثالي" لبطل القصة بحسب ما تراه المؤسسة، وهو يرى كيف استخدم "المثالية" بانتهازية ليؤكد مثاليته المزعومة في نفسه، ويؤكد صواب الاختيار من جانب جهة عمله، وتأتي القفلة الأكثر مثالية تمثل أكثر دهشة وغرابة لدى القارئ، بينما يفسر الـ "عدالة" من وجهة نظر الحَكم المستعد لقبول الرشوة لكنه ينتظر المباراة المناسبة في التوقيت، وحارس المرمى والمدير الفني للفريق بل والفريق كلهم مرتشون، إذًا فمن العدالة أن يطلب هو نصيبه! وتصبح هذه المباراة مناسبة تماما لقبول الرشوة، وهنا يصنع أيوب الدهشة في قفلته السردية ليس على الورق ولكن في ذهن المتلقي الذي نجح في إرباكه، وتحيره، وصنع مواقف متباينة من الموافقة والرفض بين جموع القراء.


القفلة المضمرة:


وهي القفلة المرتكزة على الحذف والإضمار، وما تتميز به من دلالات لا تعرف النهايات، وتتعدد فيها التأويلات، غير أن الكاتب أضاف الاعتماد على النية المضمرة عند المتلقي في تفسير تلك القفلة الملغزة الغامضة اعتمادًا على عقله وتأويله الذاتي، غير أن أيوب قد صبغها بمسحة فانتاستيكية ليزيدها غرابة وجنوحا نحو الخيال وارتدادًا نحو الواقع في آن، كما في قصة: "توسل":


 "بعد عدة محاولات نجحتُ في التسلل إلى الغابة، ولقاء الأسد في عرينه، قلت له: أتوسلُ إليكَ أن تساعدني في استرداد حقوق كثيرة لي عند الكثير من البشر.. 


أومأ فقط دون حديث، وأرسل معي أحد زوجاته، وعادت الحقوق!".. 


القفلة التناصية الإحالية:


وهي التي تعتمد في الإحالة على نص قديم أو معاصر، بأن تأتي القفلة بآية من القرآن الكريم، أو حديثٍ شريف أو ببيتٍ من الشعر، أو قول أحد مشاهير الأدباء، أو أحيانًا مقطع من أغنيةٍ معروفة، وقد يكون هذا التداخل النصي داخل القص، أو في نهايته، استدراجًا للمتلقي نحو قفلة مفتوحة لا تتوقف على الدهشة فقط، وقد استخدم الكاتب الطريقتين في قصتيَ: "تحدي"، و"الصفعة":


قصة: "تحدي":


"تسلمتُ العمل اليوم، وعلى الفور قمت بحملة على بعض أطفال الشوارع حرصًا مني على مكافحة التسول، والحد من السرقة بالإكراه.


ذهبتُ إلى ميدانٍ ما يتكدس به هؤلاء الصبية، لكني لم أجد به أحدًا باستثناء صبيٍ مُستلقي على ظهره، رافعًا رجل فوق الأخرى، على الرصيف الذي يتوسط الطريقين، وينظر للسماء بوجه مبتسم ويستمع عبر هاتفه أغنية: "ما تسيبنيش أنا وحدي أفضل أحايل فيك، ما تخليش الدنيا تلعب بيا وبيك".


القفلة المفاجئة ـ الفانتاستيكية:


تعتمد هذه القفلة على مفاجئة المتلقي في عوالم بين العجائبية والغرائبية تتصل بجسد النص، وصولاً إلى إلى القفلة الممزوجة بالدهشة، مثلما جاء في قصة: "رؤوس":


"بدأتُ راحتي الأسبوعية بصلاة الفجر في المسجد، ثم ذهبت للشاطئ البعيد عن بيتي باحثًا عن حالة هدوء ولو لدقائق، بعد عدة ساعات انتبهتُ أن الصمت قد طال، قمتُ أستطلع فرأيتُ المارة بلا رؤوس!


 فزعتُ وقررتُ العودة، وأثناء السير وجدتُّ مَحِلاً ضخمًا به جسد يجلس أمام مكتب كبير وتلفاز يعرض مباراة كرة قدم مُسجّلة، لكنه بلا رأسٍ أيضًا، رَغم خوفي وقفت واقتربت كي أجد تفسيرًا لما أرى؛ فوجدت آلاف الرؤوس على أرففٍ كأنها بضاعة للبيع، وكانت رأسي بينها!"..



لقد رسم الكاتب لوحة سيريالية ببراعة استخلصها من الواقع، وصب عليها خيالا منبثقًا من حقيقة، يريد منها تبشيع ذلك السجن الجماعي الانفرادي الاستعبادي الإرادي أمام اللاهدف، واللافعل، في مشهد عبثي متكرر في إدمان النظر نحو فعلٍ مستعادٍ خَالٍ من الدهشة والطرافة، ويَلقى نفس الاهتمام، بينما الكاتب وهو، الأغرب، يدينهم ويبشع مسلكهم وهو منهم، في شبه بل هي بالفعل إدانة جماعية باعثة على الدهشة والاستنكار.


القفلة التراجيدية:


هي القفلة المأساوية التي تلحق بشخصية القصة، وما عاناه من آلام، وتكبده من مشاق في واقعه المعيش، مثلما جاء في قصة: "اعتراف":


"سألني القاضي: أنت أشعلت النار في مُدَرِسك؟


قلتُ: نعم.


قال: لماذا فعلتَ ذلك؟


قلتُ: لأنه منذ سنوات أهانني وضربني، جعلني أكره الحياة وأكرهه، فكان لابد أن أحاسبه على كل ذلك".


تكمن قفلة الدهشة في مقطع "منذ سنوات"، وهي ما قد تمر دون الانتباه إلى ما يقصده الكاتب من دق ناقوس الخطر فوق رؤوسنا جميعًا، من العنف الأسري تارة والمدرسي تارة أخرى، وأي نوع من أنواع العنف، وما سيسببه من ألم نفسي سيظل يتراكم داخل النفس البشرية مع الوقت حتي ينجح في أن يصنع من صاحبه قاتلاً مع سبق الإصرار والترصد، وهو ما يعني أن للقصة القصيرة جدًا دورها في صياغة الإنسان والمجتمع، وإعادة تدويرهما تربويا حفاظا على التماسك المجتمعي والكيانات البشرية كذلك.


القفلة الساخرة:


لا يستخدم محمد أيوب في هذه القصص التي تنتهي بمثل هذه القفلة بإطلاق الألفاظ الدالة على السخرية بل يترك المفارقة لتصنع هذا بشكل واضح، كما جاء في قصة: "رد الجميل":


"رفقًا بظروفي المادية الصعبة، أصدقائي قرروا تعليمي السرقة كي أحيا مثلهم في نعيم، وبعدما أصبحتُ محترقًا قررت رد الجميل لهم، وتعليمهم شيئ جديد، سرقتُ كل ممتلكاتهم واختفيت، لابد أن يتعلموا الكفاح وأنه لا يأس مع الحياة!


تكمن السخرية في هذه القفلة التي لامست التناص مع قول الزعيم مصطفى كامل "لا يأس مع الحياة"، كما تقاطعت مع الانزياح في العدول بالقول من معناه الحقيقي إلى معنى ساخر على النقيض منه باعث على التهكم والتفكه، وقد كان من الواجب أن يُعين الأصدقاء صديقهم بالمال ولو على سبيل القرض الحسن، أو يعلمونه مهارة لصنعة تُدِر عليه مالاً أكثر، فإذا بهم يعلمونه السرقة، فكانوا أول ضحاياه، بينما علمهم هو الكفاح من أجل تعويض المال المسروق، وعليهم ألا يفقدوا الأمل!


قفلة القفلات: 


مما تم عرضه وبيانه، أستطيع أن أجزم بكثيرٍ من اليقين أننا أمام مبدع متميز يمتلك ناصية القص القصير جدًا بوعيٍ وبفهم، وحب لهذا الجنس الأدبي الصعب، ويمتلك جرأة اقتحام بعض الموضوعات الواقعية ويناقشها عبر العديد من الحبكات السردية الموجزة والملغزة إلى حدٍ ما؛ فهو يصر على أن يشرك قارئه معه في مغامرة اقتحام بعض الموضوعات، وامتطاء صهوات القفلات الجياد المدهشات وجمالياتها الباعثة على التأمل، وتحريك المياه القصصية الراكدة في ذهنه، عبر العديد من القفلات التي ستهز قناعاته سيما وأنه يتميز بالحكي السهل في ظاهره، والزاخر بالمضامين التي تربك المتلقي، وتخلخل قناعاته، أو تحاول تثبيتها في غيرها من الموضوعات بكل انسيابية، سواء في السرد أو التراكيب اللغوية البعيدة عن التعقيد.


جاءت جماليات القفلات المتنوعة عبر المجموعة لتؤكد مدى قدرة محمد أيوب وتمكنه من آليات القص القصير جدًا، وقد ساهم ضيق مساحة الدراسة في إغفال عدد من القفلات التي تناولها، وأخرى لم يتناولها، ربما يكون قد اخترق أجواءها في مجموعته القصصية السابقة والتي لم أطالعها لأقضي بهذا، وربما فاته التناول، وسيلامسه في مجموعات قادمة، خاصةً وأنه أحب هذا الجنس الأدبي وينوي المضي فيه مبدعًا ينحت اسمه على جدار السرد المصري والعربي، وهو ما يوجب عليه الانتظار وقتًا كافيا بين الإصدارات حتى يأتي بالجديد، ولا يقع في خطيئة التكرار، والبحث بتأنٍ عن موضوعات صادقة، وقفلات مدهشة صادمة، وهو غالبًا ما يفعله.

الجمعة، 13 سبتمبر 2024

قراءة في ديوان "فوق ختم العودة" للشاعر عادل نافع..

 






يخلق العنوان التقديمي السابق على عنوان الديوان ـ محل القراءة ـ إشك​​​​​الية عند المتلقي توجب عليه أن يعاين الفارق بين الزجل وشعر العامية، وغالبًا ما لا يرى البعض هذا الفارق في كونهما إبداع بالعامية المجافية للفصحى، إلا أن البناء الفني وشكله للزجل هو الذي يحدد هويته باعتباره نظمًا شعريا غرضيًا يُصاغ بالعامية ويلتحم بالواقع ويعالج القضايا السياسية والاجتماعية والنقدية من منظور نقدي لا يقوم على نقل الأحداث كما هي ولكنه يعيد بناءها حسب الرؤية الفنية للزجال، أمَّا قصيدة العامية فتسعى إلى نقل حالة من التوتر الشعري للمتلقي عبر المفردات والتراكيب والصور. [انظر: محمد العزب: تحولات الشعر العامي بين الأصالة والمعاصرة].


كما يرى الشاعر الباحث عبد الستار سليم فن الزجل أنه: (شعر شعبي في شكل القصيدة العربية أي يشاركها الوزن والقافية وتعدد البحور الشعرية، ويختلف شعر العامية عن الزجل في المضمون والشكل والوسائل المستخدمة لصياغة مضمون التجربة؛ فالزجل يتناول غرضًا محددًا متضمنا الحكمة ومعتمدًا إيقاع يحمل العناصر المميزة للشعر العربي القديم كاستخدامه إيقاعًا واحدًا وبحرًا واحدًا ونمطًا واحدًا من القافية.


وهو ما التزم به الشاعر عادل نافع، في ديوانه: "عامية بتغريد زجل.. فوق ختم العودة" الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، إقليم القناة وسيناء الثقافي، فرع ثقافة السويس عام 2023م، حيث استطاع أن يلتزم بقواعد القصيدة العامية في شرطها الشعري والجمالي والثقافي على الرغم من إبحارها في الحياة اليومية ومحافظًا، في نفس الوقت، على البناء الزجلي في تظمه الشعري، واعتماده على المفردات اللغوية الرشيقة.


كما تعانق القضية الغرضية لقصائد الديوان ومقطوعاته، في أغلبها، القضايا الحياتية في تنوعاتها بحسب رؤية الشاعر الإبداعية الإنسانية التي تصطبغ بنظرته، وفلسفته، والتي تؤكدها نهاياتها الحاسمة، وتمسكه بالنوعين، لما للشعر العامى من اكتمال عناصر الشعرية، من الصور والعوالم والحالات الشعرية، والإيقاع، والرموز الفنية، والتشكيلات الجمالية، والرؤى الفكرية إلى جوار الوزن والقافية، كما يرى أحمد مجاهد في تعريفه لشعر العامية.


يحاول الشاعر عادل نافع المحافظة على صوته المتفرد، وبوحه المتجدد في دوحة الشعر؛ مستكملا ما بدأه في ديوانيه: "أنا الحَكَّاي" و"عن شطي ليه تبعدي"، وقد سبق لي قراءتهما وتناولهما نقديًا، غير أنه أتى في الأول بحكايات ساخرة على أنغام الزجل، متساوقًا مع أحد أغراض فن الزجل وهي "الحكمة" التي سرت في ديوانه الذي بين أيدينا، حيث رصد الواقع اتكاءً على خبرته الإنسانية وربما أظهر فيها استشرافًا للمستقبل في أسلوب من القصائد التي تعتمد على البناء الحكائي المرسوم ببراعة الحركة الكامنة فيه، كما سيبدو في إيراد مقتطفات منه.


يرسم الإهداء الذي تصدَّر الديوان لوحة من وفاء الابن نحو الأم في مناجاة لا تنتهي بينه وبينها؛ فكل أبياته التي كتبها ويكتبها وسيكتبها مهداة إليها، وهي في ذاتها الحديث الممدود بينهما، فكيف ينتهي بينهما طريق التلقي من الأم "المُعلمة" والابن "التلميذ"، فيقول:


لأغلى حضن علمني معاني العِشرة بالمعروف


لأجمل ضي لملمني في نور العِبرة والآية


في حضنك بس يا أمي لغيت كل معاني الخوف


وحتى لما سبتيني بذورك طارحة جوايا


عشانك بس يا أمي


أنا بهديكي أبياتي كأني معاكي باتكلم


عشانك بس يا أمي


حكيت للحرف حكاياتي وأنا بضحك وبتألم


ولا يكتفي الابن البار بكلمات الإهداء، وإن كانت معبرة، فيرسل لأمه التحيات في ثنايا الديوان في قصيدة "تحياتي" التي لا تخرج في كثير عن بعض موضوعات القصائد الأمومية التي لم يبذل الشاعر فيها جهده من الاختلاف في الموضوع شكلا ومضمونا، فبدت سهلة إلى حد المباشرة.


ولقد لفت انتباه الشاعر أن "الأم" في ذاتها "وطن" مما حدا به أن يجعل قصيدة "تحياتي" متوسطة الموقع الجغرافي في ديوانه بين القصائد التي أتت مفتتحًا جيدًا لحدائق الديوان، وخاصة تلك التي رشرشها بحبه للوطن في أحاسيس صادقة، رسمها بيد فنان يجيد سبك المعنى في ألفاظ خلت من المباشرة، وأتت جلية بالصور الندية التي صاغت معاني عشق الوطن المشتركة بين المصريين في لوحات غلَّقت ألوانها فهم الشاعر لكل ما يحيط ببلده من قضايا أشار إليها.


تُعانق الحكمة الوطنية عبر قصائد الديوان؛ فقد تخترق بعض كلمات ومعانٍ عن الوطنية قصيدة موضوعها الحكمة، تمامًا مثلما قد تسكن بعض كلمات حكيمة بروج الوطنية، دون افتعال أو قصد من لغو أو حشو أو سهو؛ فسيلاحظ القارئ أن قصائد الديوان الوطنية ومقطوعاته أتت من صدر شاعر يدري ما معنى الوطن والوطنية دون افتعال أو مزايدة أو متاجرة أو ضجيجٍ ممجوج مطروق الكلمات والمعاني، ولعل من سيقرأ هذا النوع من القصائد والمقطوعات سيتكشف له ما قلتُ دون عناء، وهذه القصائد والمقطوعات تحمل عناوين: "محدش لينا هيقسِّم"، "أنا ابن النيل"، "حروفها تلاتة"، "كلمة وطن"، "شريان حياة"، "هاتي التاريخ واشهدي".


يغطي شعر الحكمة معظم صفحات الديوان سواء الذي جاء على شكل قصيدة أو مقطوعة أنتجها الشاعر بنفس صافية صادقة تتردد نبرات خبرته ومعاناته والوصول إلى بر النجاة في كلماتها، غير أن أهم ما يميز قصائد الديوان أن الوطنية لم تكن زاعقة، كما لم تكن الحكمة مصطنعة، وأتت القصائد تحمل في داخلها جمالياتها، من حيث التشكيل والتصوير، والمرتكز الفكري والثقافي للقضايا المثارة في باطن تراكيبها، في بساطة غاية في التعقيد؛ فأما البساطة فأتت من تشكيل الكلمات في سلاسة، وأتى التعقيد في المعنى الملغز والمفاجئ والصادم للقارئ الذي سيتوقف ليعاود ثانية القراءة ثم التفكير وإيجاد أكثر من تفسير، والبحث عن دليلٍ يجعل من الشاعر مثقف مفكر يعني ويقصد ما يقول، أم أن ما قاله ليس إلا فذلكة شاعر يُزين القصيدة؟


والغالب أن للشاعر محددات وطنية استقاها من قضايا الساعة، ومنها تقسيم الوطن بحسب تصور الفكر الكولونيالي الاستعماري الجديد، وهو يرفض الأمر جملة وتفصيلا:


صباح الدمع


لما الدمع يتبسم


صباح الورد


لما بعطره يتنسم


صباح مشرق بإشعاعك


على خد القمر يرسم


تصبح شمس أحلامك


على عيونك


تغنيلك مواويلك


وتحكيلك وتتبسم


وأنا أكتب الغنوة بإحساسي


وأجيب اللحن وأقسم


يا مصر يا دنيتي وناسي


محدش لينا ها يقسِّم


محدش ليكي ها يقسِّم .. [محدش ليكي ها يقسِّم .. ص7].


وكما يرفض تقسيم مصر أرضًا وشعبًا، يرى أن ماضيها في حضاراتها السابقة يجعلها مزهوة، وفخورة ومعتدة على حاضر أبنائها في الحاضر دون تحديد زمن البدء والنهاية:


تملي ماضيها يتمنظر


على حاضر بليد فاني.. [حروفها تلاتة .. ص13].


وهو المصري الصادق في وطنيته، حين عدَّدَ أنواع الدموع في قصيدته: [السر في عينيها]، يصرخ في وجه أدعياء الوطنية، وهواة البكاء على حال الوطن:


أفدي الوطن بالروح


مش بس بالإدماع .. [ص28].


يستدعي الشاعر خطاب الذات في بعض قصائده، حيث تعني الذات عند الأدباء والشعراء والنقاد ـ عموما ـ التعبير عن نزعات النفس الإنسانية بأسلوب تظهر من خلاله العلاقة المباشرة بين النص والذات المنشئة، من جهة إحالته على الشاعر المنشئ له، بتعبيره ـ عادة ـ عن ضمير المتكلم مباشرة، كما يقول دكتور صالح زيادة عن الشاعر والذات المستمدة.


ويتجلى هذا الخطاب في قصائد: "اسمح للحاضر يتعلم"، "فوق ختم العودة"، "الغربة جوه الذات"، ويستدعي الشاعر أسلوب الالتفات الضميري في قصيدة "اسمح للحاضر"؛ إذ عدل من خطاب ذاته بضمير المتكلم إلى خطاب الغير وصولا إلى فصل القول في الحكمة أو النصيحة وهو عين ما فعله مع مقطوعة "الغربة جوه الذات"، وقصيدة "فوق ختم العودة" غير أن الالتفات الضميري انتقل إلى خطاب "الدنيا" وهو يتمثلها امرأة مراوغة مخادعة لكنه يقظ ضد اغراءاتها.


يلجأ الشاعر عادل نافع إلى البنية التكرارية كظاهرة جمالية لتأسيس بعض قصائده؛ فالتكرار زيادة على كونه يؤدي وظائف دلالية معينة، فأنَّه يؤدي كذلك إلى تحقيق التَّماسك النصّي، وذلك عن طريق امتداد عنصر ما من بداية النص حتى آخره، باعتبار التكرار شكل من أشكال التَّماسك المعجمي، في الألفاظ والتراكيب والمعاني لتحقيق البلاغة في التعبير ولتأكيد الكلام والجمال في الأداء اللغوي، ويتمثل في تكرار لفظ أو عدد من الألفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد، وهذا التكرار في ظاهر النص يصنع ترابطا بين أجزاء النص بشكل واضح.[انظر: صبحي إبراهيم الفقي علم اللغة النصّي بين النظرية والتطبيق، وانظر: محمود سليمان ياقوت، علم الجمال اللغوي],


وقد استخدمه الشاعر في قصيدة: "كلمة وطن" في سؤال تكراري من بداية القصيدة لمنتهاها مع تعدد الإجابات، مثلما استخدمه في بداية قصيدة "آذان الفجر" وثناياها، ومختتم قصيدة "ناس نادرة":


وألف خسارة ع القسوة


يا ألف خسارة ع القسوة.. [ص61].


وقد أفرط نافع في استخدام التكرار في نهاية أغلب قصائد الديوان، ويبدو أنه خلط بين كونه يكتب القصيدة للقارئ في ديوان ليس مطلوبًا منه الإلحاح على ذهنيته في التلقي، وبين كونه شاعر يلقي قصيدة في منتدى بطريقة مسرحية قد تستدعي أو لا تستدعي أيضا التزام أو تكلف مثل هذا النهج الذي لا يزيد في بلاغة أو جماليات السبك النصي لمضمون قصيدته.


تبلغ ذروة الإبداع حدها عند عادل نافع في اقتران النقد الاجتماعي بجماليات القصيدة العامية، وإبراز مدى ثقافته المجتمعية التي تتجلى في مراقبته للواقع البشري المعيش، منتقلا من قضية تبدو محلية إلى مدار الإنسان أيًا ما كانت جغرافيته وجنسه ولونه ومعتقده في تعامله مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ فمن خلال قصيدة "تملي تقيس على حالك"، يرصد مرض اجتماعي صار مسيطرا وحاكما وقاضيا وناقضا وناقدا بغير علم أو فهم أو مقياس معياره الصدق والحق.


بينما يتناول في مقطوعة "نسيم الفجر" على قلة كلماتها ما تعج به صفحات المجلات العلمية الأكاديمية والمتخصصة في رصد عيوب ومساوئ وسائل التواصل الاجتماعي، وإن لم يصرِّح بها، تاركًا للقارئ المصري والعربي مساحة من التفكير المقارن وارتباطه بوقت الفجر في عصرين، دون أن ينهي أبياته لا بحكمة أو نصيحة، بل وضع الجميع من الجنسين في قفص الاتهام، وكأنه يعري المجتمع ويكشفه أمام نفسه تاركا لهم الحكم على أنفسهم، يقول:


زمان الفجر كان ياخد على خاطره


عشان ذكر القلوب لله يادوب مسموع


ودلوقتي نسيم الفجر متشبع على آخره


بناس سهرانه للصبحية


بتتكلم في 100 موضوع.. [ص71].


مازال الشاعر عادل نافع يخوض غمار موجات بحر الشعر المتدفق المتجدد، بعقل يفتح بواباته للتعامل مع جديد الأحوال بجديد الأقوال، كشاعر يعرف للشعر قدره؛ فيتعامل معه بقدر كبير من الجدية، والالتزام، والانتقال من ديوان إلى ديوان بثوب قشيب عنده ما يضيفه لدوحة الإبداع، وما يضيفه لذاته الشاعرة من مجد ومكانة، مع إصرار منه على الاحتفاظ بفرادة موقعه على خريطة السرد الشعري مهما تعددت الأصوات من حوله، وهو ما يعد مكسبًا لدولة القصيد، وأملاً لقارئه في انتظار المزيد..