الاثنين، 22 سبتمبر 2025
تعزية ومواساة ملتقى_الشباب_العربي_لندن
الاثنين، 15 سبتمبر 2025
علم الصيدلة في التراث العربي الإسلامي...
شأن كل إنسان على وجه الأرض أصابه المرض، عرف العربي القديم المرض وبحث عن العلاج الذي التمسه تارة في النبات وتارة في غيره، ولكن مما لا شك فيه، أن العرب في جاهليتهم، قد توصلوا إلى معلومات طبية خاصة بالتداوي بالنباتات، وتم لهم ذلك من تجارب عديدة، أو خبرات نقلت إليهم بتنقلهم بين شبه الجزيرة وما يتاخمها من دول، وكان للأطباء منهم مركز مرموق بين أفراد قبائلهم، وقد تعرفوا على عديد من الأمراض، مثل: الجدري والحصبة واليرقان والطاعون وداء الثعلب والسلال والصداع والجذام والاستسقاء وعرق النسا، وعرفوا أن بعض الأمراض معدية مثل الجرب والجذام، وعالجوا هذا الأمر بعزل المصابين بهما.
وإذا كانت أشهر الأدوية عند العرب واحدة من ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم، وكية نار، فإنهم عالجوا بعض أمراضهم بالنباتات وبذروها وأصولها. كما أشار إلى ذلك الدكتور كمال الدين حسن البتانوني في دراسته: "نباتات في أحاديث الرسول" التي طبعتها إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر.
وقد كان توجهي في الأساس أن تكون مقالتي عن النبات في التراث العربي الإسلامي، ذلك لأن الاهتمام الطبي بالنبات عند العرب قديم، ويشكل أهم المواليد الثلاثة في صناعة الأدوية التي اعتمد عليها المصري القديم في مجال العقاقير الذي أتى موازيًا لمجال الطب، وهي: النباتات والحيوانات والمعادن. ولا أدل على ما قلناه من هذا العدد الكبير من المعاجم المختصة بالنبات والشجر التي ألفت وجمعت في العصر الإسلامي وضمت معارف العرب القديمة في هذا الباب واعتمد عليها واضعو معاجم اللغة وكتب المفردات النباتية، ويمكن الرجوع لتلك المعاجم بمطالعة كتاب "معجم المعاجم" الذي أعده محمد إقبال الشرقاوي ويضم اثنين وثلاثين معجما.
لم يكتفِ العرب بالطب النبوي ـ مع أهميته وتوافقه مع المبادىء الأساسية للعلوم الطبية الحديثة ـ فبدأ المهتمون منهم في علوم النبات والطب والصيدلة منذ القرن الثاني الهجري بالوقوف على تجارب الأمم السابقة عليهم، ونقل كتب الأقدمين بالترجمة. ومن أهم ما ترجموه بل بدأوا به كتاب: "هيولي الطب في الحشائش والسموم" لـ "ديسقوريدس" الذي احتوى ـ بحسب نصه اليوناني ـ على ستمائة عشبة مع أدوية وعطور، ومواد في الأدوية المفردة والصموغ والأدهان والأشربة والمعاجين وأعضاء الحيوان، وكان نصيب النبات من مواد الكتاب حوالي الثلثين، وقد وضع ابن جلجل في مطلع القرن الحادي عشر ذيلا لترجمة هذا الكتاب استكمل ما فات ديسقوريدس من أسماء العقاقير الطبية، وفد أضاف العرب ألفي نبات فوق ما كان يعرفه علماء اليونان.
وقد حذا صيادلة العرب حذو "ديسقوريدس" ـ الذي اعتبروه أعظم علماء النبات القدامى ـ في التأليف، بل تتبعوا أدويته النباتية بالتحقيق، فعكفوا على ضبط قراءتها وتحديد ماهياتها والبحث عن مقابلاتها العربية واعتمادها في مؤلفاتهم؛ فقد كان رئيس العشابين ابن البيطار ـ لقب يناظر الآن "نقيب الصيادلة" ـ يقول عن ديسقوريدس "الأستاذ الأفضل"، لذا استوعب ابن البيطار في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغدية" مادة كتاب "ديسقوريدس" كلّها تقريبًا، وقد كان حُجة ـ أي كتاب ابن البيطار ـ انتهت إليه معرفة النباتات وتحقيقها ووصفها وأسمائها وأماكنها، ولا يُجارَى في ذلك، وقد جمع في كتابه هذا ـ الذي يعتبره العلماء أكبر موسوعة في مجال الصيدلة ـ أكثر من ألف وأربعمائة صنف من الأدوية المختلفة مرتبة على حروف المعجم، منها ثلاثمائة لم يتعرض عالِم أو كتاب في الصيدلة والدواء لها من قبل، مما جعل الكثير من الصيادلة ينهلون من علمه، ومنهم "يوسف بن إسماعيل بن إلياس الخويي البغدادي الكتبي"، في كتابه "ما لا يسع الطبيب جهله" الذي رتَّبه أبجديًا عن علم العقاقير، واستند فيه إلى "جامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار.
يقول المستشرق الإنجليزي الشهير "روم لاندر" فى كتابه "الإسلام والعرب": (أن ابن البيطار صنف أوسع كتاب فى الموضوع ـ أي فى علم النبات ـ بل أهم كتاب ألف فى علم النبات طوال الحقبة الممتدة من ديسقوريدس إلى القرن السادس عشر الميلادى، لقد كان كتاب الجامع فى الأدوية المفردة دائرة معارف حقيقية فى هذا الموضوع ضمت بين دفاتها كامل الخبرات الإغريقية والعربية).
كما قال المستشرق الفرنسي لوكلير Leclerc عن ابن البيطار: )أنه أعظم نباتي العرب ولا يضاهيه من أطباء الغرب والشرق في صنعه أحد(. بل إنه أعظم عالم في النبات وفي الصيدلة فى القرون الوسطى، بل فى جميع العصور؛ فقد ظل كتابه المرجع لعلماء أوروبا فى علم النبات حتى عصر النهضة الأوروبية.
واتصالا بذكر ديسقوريدس، أرى من الواجب أن أذكر أيضا نابغة الأدوية في الحضارة الإسلامية "ابن وَافد بن مهند اللَّخْمِيّ" الذي وجه عنايته لقراءة كتب جالينوس وتفهمها ومطالعة كتب أرسطوطاليس وَغَيره من الفلاسفة، ودرس الطب على العلامة أبي القاسم الزهراوي، كما درس علوم الصيدلة والنبات، واهتم بالفلاحة والأدوية المستخلصة من الأعشاب الطبيعية، وقال عنه القاضي أبو القاسم صاعد الأندلسي في كتابه "طبقات الأمم": (تمهر بِعلم الْأَدْوِيَة المفردة حَتَّى ضبط مِنْهَا مَا لم يضبطه أحد فِي عصره وَألف فِيهَا كتابا جَلِيلًا لَا نَظِير لَهُ جمع فِيهِ مَا تضمن كتاب ديسقوريدس وَكتاب جالينوس المؤلفان فِي الْأَدْوِيَة المفردة ورتبه أحسن تَرْتِيب).
لقد عكف ابن وَافد على جمع كتابه: "الأدوية المفردة" وترتيبه وتصحيح ما ضمنه من أسماء الأدوية وصفاتها، وتفصيل قواها وتحديد درجاتها ما يقارب العشرين سنة، ويعد كتابه هذا من أهم كتب الأدوية وعلم الصيدلة، وقد تُرجِمَ إلى اللاتينية بعنوان: "كتاب في العقاقير البسيطة"، وذاع وانتشر في أوروبا خلال القرون الوسطى، بل كان من أهم المراجع العلمية لعلماء الغرب، ولابن وَافد كتاب في الفلاحة بعنوان "مجموع في الفلاحة" وأيضا تمت ترجمته إلى اللغة اللاتينية.
والمشهور أن ابن وَافد كان من المُتقنين لعلوم الطب والصيدلة والنبات حتى صار الطبيب الأبرز، والصيدلي الأشهر، والنباتي الأكثر علمًا في تاريخ الحضارة الإسلامية، وكان مذهبه في الطب ينحصر في اعتماد التداوي على الأغذية دون اللجوء للأدوية ما أمكن، واللجوء للأدوية المفردة أو البسيطة إذا دعت الضرورة لذلك دون الأدوية المركبة، وفي حالة الضرورة إِلَى الْأَدْوِيَة المركبة فلا يجب الإكثار بل يجب الاقتصار على الأقل منها.
لم يكن مذهب ابن وافد إلا مبادئ في العلاج الدوائي توافق عليها الأطباء والصيادلة المسلمين دون اتفاق بينهم، وكان من أهميتها ودقتها أن صارت أسسًا علمية يعمل بها صيادلة العصر الحديث، ومنها ما ذكره أبو بكر الرازي في كتابه "الحاوي": (إن استطاع الحكيم أن يعالج بالأغذية دون الأدوية فقد وافق السعادة)، ويقول "عليّ بن العباس المجوسي" في كتابه المعروف بـ "الملكي" أو "كامل الصناعة الطبية": (إن أمكنك أن تعالج العليل بالغذاء فلا تعطه شيئًا من الدواء، وإن أمكنك أن تعالج بدواء خفيف مفرد فلا تعالج بدواء مركب ولا تستعمل الأدوية الغريبة والمجهولة)، وهو نفس مذهب ابن سينا: (في حالة الأدوية المركبة فإن المجرب منها خير من غير المجرب، وقليل الأدوية خير من كثيرها في غرض واحد).
امتلك الشيخ الرئيس ابن سينا خبرة واسعة في نباتات الصحراء والبلاد الحارة، ونباتات المناطق المعتدلة والباردة، مما هيأه لذكر نباتات لم يكن يعرفها النباتي اليوناني الأول "ديسقوريدس"، وكما ذكرتُ سالفا عن مدى ارتباط علم النبات بعلم العقاقير وانعكاسه واضح على المشتغلين بالطب، ولهذا خصص ابن سينا جزءًا من طبيعيات "الشفاء"، وأن يعرض لخصائص النبات وفوائده في كتابه "القانون" الذي أثرى علم العقاقير العربي، بل مهد بذلك لمفردات ابن البيطار و"تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب العجاب" للشيخ داود الأنطاكي، وقد وصف الدكتور عبد الحليم منتصر كتاب التذكرة بقوله: (سيظل عمدة لأهل صناعته، ونهجًا يُحتذى في البحث والتأليف، ولا شك أنه كان يلائم العصر الذي كُتِبَ فيه، ولو قد أعيد تحقيقه ونشره بأسلوب العصر وأضيفت إلى مادته العلمية ما استحدثه العلم من أساليب وطرائق لكان فذًا في موضوعه وفريدًا في بابه ولظل بحق كما كان أبدًا تذكرة أولى الألباب والجامع للعجب العجاب).
كما ترك كتاب "القانون" لابن سينا تأثيره البالغ في علم العقاقير اللاتيني وليس العربي فحسب، ولعل البعض قد لا يعي قدر وقيمة كتاب "القانون" إلا إذا ذكرنا ما قيل عنه وفيه، وعدد مرات ترجمته وطبعه؛ فقد وصفوه بأنه "معجم من مليون كلمة للمعارف الطبية"، بل هو موسوعة طبية تنقسم إلى خمس مجلدات، يهمنا منها المجلد الثاني والمجلد الخامس فقط، فأما المجلد الثاني، وعنوانه: "الأدوية المفردة" فيتناول علم صيدلة الأدوية البسيطة: المعدنية والنباتية والحيوانية، ويتألف من جزئين: يتناول الجزء الأول تحديد العلاجات من خلال التجربة، والذي يقترب من التحليل المعاصر عن طريق ملاحظة الآثار المعروفة لكل علاج، وتحديد الجرعات اللازمة والمناسبة، والبحث عن الأدوية التي يمكن حفظها دون أن تتعرض للتلف. بينما يعرض ابن سينا في الجزء الثاني لحوالي ثمانمائة دراسة دوائية "دواء بسيط"، وهو الدواء الذي يتكون من مكوِّن واحد، مع توضيح فائدة هذه الأدوية وقوتها وتأثيراتها والتعليمات الخاصة باستخدامها. وقد خصص ابن سينا المجلد الخامس للصيدلة وعنونه: "الأقرباذين" أي "دستور الأدوية"، ويستعرض فيه تحضير وتقديم الأدوية المركبة.
يقول "نوبرجر" في كتابه "تاريخ الطب": (إنهم كانوا ينظرون إلى كتاب القانون كأنه وحي معصوم، ويزيدهم إكبارًا له تنسيقه المنطقي الذي لا يُعاب ومقدماته التي كانت تبدو لأبناء تلك العصور كأنها من القضايا المسلمة والمقررات البديهية).
كما يقول "كمستون" في كتابه "تاريخ الطب من عهد الفراعنة إلى القرن الثاني عشر": (ما على الإنسان إلا أن يقرأ جالينوس ثم ينتقل منه إلى ابن سينا ليرى الفارق بينهما، فالأول غامض والثاني واضح كل الوضوح، والتنسيق والمنهج المنتظم سائدان في كتاب ابن سينا ونحن نبحث عنهما عبثًا في كتاب جالينوس).
وبعد زمن ابن سينا بألف عام أو يزيد زرع الدكتور "ديتليف كوينترن" في "جولهامبورج" باسطنبول ست وعشرين نباتا من مئات النباتات التي ذكرها ابن سينا في كتابه القانون، ومنها نبات "نيجيلا ساتيفا" وهو الاسم اللاتيني لحبة البركة، وقد استخدمها ابن سينا لعلاج العض أو لدغات الأفاعي ومضادات للتسمم، وعلاج الروماتيزم، وما تزال تستخدم حتى يومنا هذا.
ويرى ابن سينا رأيا قاطعًا في أن الذهب والفضة والأحجار الكريمة يشفون من الأمراض المستعصية، وقد قال عنه A. C. Wooton مؤلف كتابه "معضلات الصيدلة": (وربما كان هو الذي أدخل عملية التفصيص والتذهيب على صناعة الحبوب). ويُقصد بـعملية "التفصيص": تغليف الحبوب أو أقراص الدواء التي يتعاطاها المريض.
ويقول العلماء: (إن الطب كان معدومًا فأوجده أبقراط، وميتًا فأحياه جالينوس، ومتفرقًا فجمعه الرازي، وناقصًا فكمَّله ابن سينا)؛ فقد كان الرازي هو جالينوس العرب وابن سينا أبقراط العرب.
وقد عُرِف الشريف الإدريسي بالعشَّاب لإتقانه معرفة خصائص النبات الطبية إلى جانب اشتهاره بالتبحر في الجغرافيِة وعلمه بالطب، لذا فقد استثمر كثرة أسفاره بدراسة نباتات الأقاليم، وله كتاب "الجامع لصفات أشتات النبات" والمعروف أيضًا بـ "المفردات" أو "الأدوية المفردة"، وهو قاموس طبي يتضمن قائمة بالأدوية والنباتات البسيطة وآثارها العلاجية ومرادفاتها بلغات متعددة، استدرك فيه ما أغفله ديسقوريدس وما جهله من نبات ومن خصائص كثيرة في النبات، حتى نال كتابه شهرة عالَمية؛ فقد ضمنه أسماء النباتات باللغات السريانية واليونانية والفارسية واللاتينية والبربرية والعربية، وقد رتب كتابه على أحرف الهجاء مستفيدًا ممن سبقه، مضيفًا ما اكتشفه. وقد ترجم بعض مقتبسات منه الطبيب والمستشرق الألماني"ماكس مِيِّرْهُوف" وذكره المستشرق الإسباني "بالنثيا"، والمستشرق الروسي "كراتشكوفسكي"، والمستشرق الإيطالي "الدومبيلي"، واستفاد منه ابن البيطار.
كما برز اسم العالم "يحيى بن أحمد بن العوام الإشبيلي الأندلسي" في كتابه "الفلاحة" الذي تمت ترجمته إلى الإسبانية والفَرنسية، حتى اعتبره المستشرق الإسباني "خوسن فاليكروسا" ذروةَ التأليف الأندلسي في علم النبات، وقال عنه: (إنه مؤلف ضخم جمع فيه كل المعارف الزراعية في العصور الوسطى، وكان له أعظم الأثر في هذه العلوم في القارة الأوروبية).
ويعد كتاب "النبات" الذي ألفه "أحمد بن داود الدينوري" من أهم الكتب العربية في علم النبات؛ ومن علماء النبات العالم بالفلسفة والرياضيات والفلك "قسطا بن لوقا البعلبكي" وله كتاب "الفلاحة الرومية"، كما بزغ اسم أبو عبدالله محمد بن إبراهيم البصال في الأندلس كأحد أشهرعلماء النبات والفلاحة فيها، وله كتابًا بعنوان "الفلاحة" تناوله المستشرق الإسباني "خوسيه فاليكروسا" بالنشر وترجمه إلى الإسبانية، ونوجز ما قال عنه: (إن هذا الكتاب يمتاز بأن مؤلفه يتحدَّث فيه عن تجاربه الخاصة، لا في إسبانيا وحدَها، بل كذلك في بلاد المشرق؛ حيث قام برحلات كثيرة).
ظهر في خلافة هارون الرشيد عددًا من الصيادلة النوابغ في فنون العقاقير والأدوية، ومن مشاهيرهم: "آل يختيشوع"، وهم من علماء السريان، وقد أمر الرشيد "صابر بن سهل" في وضع دستور للأدوية والمادة الطبية سمَّاه "كرابادن" التي جاءت منها كلمة "أقربازين" وهي فارسية، وكان ابن سهل عالمًا صيدليًّا كبيرًا درس جميعَ الأدوية المفردة وتركيبها، وقد حوى مؤلَّفُه كربادن سبعة عشر بابًا كانت المرجع الوحيد في ذلك الوقت في جميع مستشفيات الحكومة والصيدليات، ثم ألف يوحنا بن ماسيويه الصيدلي كتاب "البرهان والبصيرة"، وكتاب "الأدوية المسهلة".
وقد أظهر "حنين بن إسحاق" في عصر الخليفة المأمون نبوغًا في الصيدلة والعقاقير ونقل ما استطاع من كتب اليونان والرومان والفرس، ثم مال إلى دراسة الأدوية والعقاقير، وله كتاب "الأدوية المفردة"، وكتاب "الأدوية الموجودة بكل مكان"، وكتاب "الأدوية المسهلة"، وكتاب "صنعة العلاج بالحديد"، وقد ألف "يعقوب بن إسحاق الكندي" كتاب "الترفق بالعطر"، أو "في كيفيات العطر والتعميدات"، غير أن أشهر علماء العرب في الصيدلة والعقاقير في عصره هو "الشيخ أبو بكر محمد بن زكريا الرازي"، الذي ألف كتاب الحاوي في ثلاثين مجلدًا، وتم طبعه في مدينة البندقية.
ولا يقف تعقب الصيادلة العرب والمسلمين على من سبقهم من صيادلة الأمم الأخرى، بل تعقب الصيادلة المسلمين مؤلفات صيادلة مسلمين، يقول أحمد مضر صقال في مقاله "ما لا يسع الطبيب جهله لابن الكتبي": (لقد حدد ابن الكتبي ـ في كتابه "ما لا يسع الطبيب جهله" ـ نقاط الضعف في كتاب ابن البيطار من ناحية تناوله لموضوعاته في مفردات الأدوية، وقد كان تحديده موفقا ويدل على تعمق في النظرة العلمية، وتمكن من كليات الطب وعلم الأدوية المتوفر في زمانه وتفاصيلها، وها هو بعد تحديده لنقاط الضعف تلك يعمل على تلافيها وإكمال النقص فيها فيساهم بذلك مساهمة جديرة بالاهتمام في تاريخ علم الأدوية).
وعلى الرغم من أهمية كتاب: "الأدوية المفردة" للعالم النباتي والطبيب الأندلسي "أبو جعفر أحمد الغافقي" لغزارة مادته، واعتماد مؤلفه على مصادر طبية وصيدلية عربية إسلامية بلغت ستين مؤلفا لعلماء من العرب والأعاجم، إلا أن "أبو العباس بن الرومية الإشبيلي" الذي يعتبر من أعظم النباتيين المسلمين في بلاد الأندلس، وعالمًا من علماء الحديث، قد وضع كتابًا عنوانه: "التنبيه على أغلاط الغافقي"، حيث اعتمد أكثر الأطباء والصيادلة والنباتيون في معلوماتهم عن نبات "الماميثا" على ديسقوريدس مما أوقعهم في خطأٍ فاضح حيث خلطوا بين هذا النبات ونبات آخر هو "الخشخاش الساحلي" المعروف بالمقرن لوجود توافق بينهما وبذلك تاهت عليهما الصفات الحقيقية لكل منهما. وعندما لاحظ أبو العباس ذلك ناقش هذا التناقض الغير منطقي بصورة علمية سليمة. في نفس الوقت الذي وجّه فيه أحمد الغافقي في كتابه هذا نقدًا لاذعًا لمن سبقه من الأطباء والصيادلة اتهمهم فيه بالاتباع والتقليد لبعضهم البعض حتى في نقل الأغلاط، كما اتهمهم بأنهم "ناقلون لا باحثون"، بل إنهم يجمعون بين كلام لديسقوريدس في دواء وكلام لجالينوس في دواء آخر ويضيفون هذا إلى ذاك على أنهما کلام واحد عن شيء واحد.
لعل القارئ العزيز سيلاحظ عبر هذه المقالات/الدراسات موسوعية الفكر عند العلماء المسلمين ـ الذين نتناولهم عبر التراث العربي الإسلامي ـ واتسامهم بالتكامل المعرفي الذي يتيح لكل عالم منهم الجمع بين علوم الوحي أو الشرع وعلوم الطبيعيات والفنون واللغة وغيرها، مثلما جمعوا بين علم الفلاحة "الزراعة"، وعلم النبات، وعلم الطب، وعلم الصيدلة، والتنظير والتطبيق، والعلم والتجربة، والتشخيص والعلاج. ولهذا قد يتردد اسم العالم منهم في أكثر من دراسة، كما أن هذا التكامل المرتبط بالحضارة العربية الإسلامية، يرتكز ويتصل بكتاب الله الكريم الذي يعتبر المصدر الأول للعلم الحق المؤدي إلى الإدراك التام الواعي لحقيقة الوجود الإلهي والكوني والإنساني، وما يصدر عنه من علوم ومعارف متعددة.
وقف الاستشراق والمركزية الغربية من إنجازات علماء المسلمين في الصيدلة والنبات موقف الإشادة بما أحدثوه في العِلميْن، ولم يشذ غير واحد عنهم وهو المستعرب الفرنسي "هـ. ب.ج. رونو" الذي زعم أن الطبيب المغربي أبا القاسم ابن محمد الغساني الوزير مؤلف كتاب "حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار" اتَّبع في تجنيس النبات لم يسبقه إليها غيره من المؤلفين في الأقطار الإسلامية، وهو ما يعني أنه نقل نظامه التصنيفي من أحد النباتيين الإيطاليين من رجال عصر النهضة أو من أحد الفرنسيين الذين كانوا يعملون في خدمة سلاطين المغرب في القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تصدى لهذا الزعم بالهدم والتفنيد المستشرق الأسباني "ميكيل أسين بلاثيوس السرقسطي" في مقدمة معجمه، وأثبت أن مزاعم "رونو" ليس لها أي أساس وأكد أن الغساني قد اقتدى في تجنيسه للنبات بسلفِه "الإشبيلي" صاحب كتاب "عمدة الطبيب في معرفة النبات" وهو السّبَّاق ـ أي الإشبيلي ـ إلى ابتكار نظام للتصنيف النباتي هو أقرب من غيره إلى نظام التصنيف الحديث، وأنه لم يسبقه إلى ذلك أحد فيما يُعْرَف.
لقد ذكر المستشرق "رينالدي": (أن العرب أعطوا من النبات مواد كثيرة للطب والصيدلة، وانتقلت إلى الأوروبيين من الشرق أعشاب ونباتات طبية وعطور كثيرة؛ كالزعفران والكافورش)، كما ذكر "ليكلرك" مجموعة من المواد الطبية التي أدخلها العرب في العقاقير والمفردات الطبية، يزيد عددها على الثمانين، وقد أوردها بالنص العربي ومقابلها من كلمات لاتينية.
ويقول كاباتون: (وكانت مدنية العرب في إسبانيا ظاهرةً في الأمور المادية؛ وذلك بما استعملوه من الوسائل الزراعية لإخصاب الأراضي البُور في الأندلس).
ويعترف سيديو بأنَّ العرب أضافوا مواد نباتية كثيرة؛ كان يجهلها اليونان جهلًا تامًّا، وزودوا الصيدلة بأعشاب يستعملونها في التطبُّب والمداواة.
ويقول المؤرخ والكيميائي جورج سارتون في كتابه "مقدمة لتاريخ العلم": (لقد كان التراث العربي أو الإسلامي في حقل الأعشاب، هو في كل ناحية تقريبا أعظم بكثير من أي أمة أخرى في هذا الحقل نفسه).
وإجمالا للدور العربي الإسلامي في مجال علم الصيدلة يمكننا الوقوف على كثير من الحقائق التي لا تحتاج لدليل أو برهان لما حازته من إجماع العلماء والباحثين والمؤرخين من داخل الشرق الإسلامي أو الغرب المسيحي بالاعتراف والإقرار له بالريادة في جوانبٍ عديدة، ومنها:
ـ أن العرب كان لهم قصب السبق في ابتداع علم الصيدلة؛ فقد كانوا أول من اشتغل في تحضير الأدوية الطبية، وابتكروا أنواعا كثيرة لم تعرفها الحضارات السابقة عليهم، وحين انتقل هذا العلم لأوربا احتفظت الكثير من العقاقير بأسمائها العربية، وفي ذلك يشهد "ماكس ميرهوف" أعظم باحث في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب: (ظل علماء العقاقير الطبية في أوروبا يستخدمون المؤلفات العربية في الصيدلة ويستعينون بها حتى سنة 1830م تقريباً). ذلك أن الصيادلة العرب والمسلمين أول من عرف التركيبات الدوائية بصورة علمية فعالة، ونتيجة لبحوثهم وتجاربهم الدائمة والعلمية والعملية على السواء تطور علم الصيدلة تطوراً كبيراً نتيجة تطور معرفتهم الطبية بالأدوية والعقاقير التي لها علاقة بعلم النبات من خلال التجربة والاختبار، خاصة وأن موسوعيتهم الفكرية وتكاملهم المعرفي بالطب وكتب الصيدلة ساعدهم في هذا كثيرا.
ـ ساعد التكامل المعرفي للأطباء والصيادلة العرب والمسلمين في الوقوف على مجاليَ الطب والصيدلة واتساعهما، مما أوجب ـ ولأول مرة في التاريخ ـ أن يتم الفصل بينهما، وبهذا نشأت الصيدلة علمًا له قواعده وأصوله ومرتكزاته، وصارت الصيدلة مهنة مستقلة منذ بواكير القرن التاسع، يقول أبو الريحان البيروني: (أن الصيدلة أصبحت مستقلة عن الطب لغويًا كانفصال علم العروض عن الشعر، والمنطق عن الفلسفة، لأنها عامل مساعد للطب أكثر منها كونها تابعة له). وافتتحت أول صيدلية في بغداد ـ لأول مرة في التاريخ ـ قبل أن تعرف أوربا الصيدليات إلا بعد خمسمائة سنة.
ـ يرجع الفضل لعلماء الحضارة الإسلامية في وضع القواعد المهنية التنظيمية لممارسة مهنة الصيدلة، فلا يمارس أحد هذه المهنة إلا بعد اجتيازه الامتحان أمام المحتسب وقيد اسمه في جداول خاصة بالصيادلة ومنح الترخيص له بالعمل، بل تم تعيين عميدًا للصيادلة لكل مدينة، وجعلوا على كافة الصيادلة نقيبًا يُسمَّى "رئيس العشابين".
كما تم منع الأطباء من ممارسة مهنة الصيدلة أو امتلاك صيدلية خاصة بهم أو أن يعملوا بتركيب الأدوية، وأيضا تم منع الصيدلي أن يمارس الطب ولو كان عالما به، وهذا لأول مرة في التاريخ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد من التنظيم بل تم وضع نظاماً لمراقبة الأدوية، وفرض تسعيرة على الأدوية، أي أن المهنة محكومة بالرقابة السابقة واللاحقة من الدولة، حيث لم يتوقف دور "المحتسب" أو "المفتش" على منح تراخيص ممارسة المهنة بل كان لكل مدينة مفتشها أو محتسبها الخاص الذي يراقب عمل الصيدليات للتأكد من توافر الدواء فيها، ومتابعة طريقة تحضيره بطريقة آمنة وبعيدًا عن الغش، وأن الدواء لا يتم بيعه إلا بتقديم وصفة طبية من طبيب، كما كان على كل صيدلية أن يكون لديها كتب الأقرباذين، وأن يتوافر فيها أنواع العقاقير المفردة والمركّبة المختلفة.
يقول عبد الله الدفّاع في كتابه “أعلام العرب والمسلمين في الطب”: (وَضَع العلماء المسلمون في كل مستشفى صيدلية منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وهكذا فإن فكرة إنشاء صيدلية داخل المستشفى، هي فكرة نقَلها العالَم عن الحضارة العربية الإسلامية التي طبّقتها قبل أكثر من ثمانية قرون).
يقول “جوستاف لوبون” في كتابه “حضارة العرب”: (إن أهم تقدُّم للمسلمين في عالم الطب، هو ما كان في أنواع الأدوية والصيدلة، وظهور عدة طرق يعود الطب الحديث إلى بعضها بعد إهمالها قرونًا كثيرة).
لقد شهد العلماء والمؤرخين لإسهامات صيادلة الحضارة العربية الإسلامية الكبيرة في مجال الصناعات الدوائية؛ فقد طوروا العلاجات الخاصة بالعديد من الأمراض، هذا بالإضافة إلى ما كان لهم من ريادة في طرق التحضير؛ فكانوا أول من وصف التقطير والترشيح والتصعيد والتبلور والتذويب، ومهارتهم في تقسيم الأدوية إلى مفردة ومركبة، بل تقسيم المفردة إلى أولى وثانية تبعا لتركيبها الطبيعي، وأيضًا تقسيم الأدوية المركبة وتسميتها تبعًا لخواصها إلى حارة وباردة ورطبة ويابسة.
وبعد، فهذه سياحة يسيرة في عالَم النبات وعالَم الصيدلة في التراث العربي الإسلامي، بينتُ خلالها الأسبقية والريادة لعلمائنا الموسوعيين والمتبحرين في أكثر من علم جمعوا بينها وأفادوا منها في نهجهم التكاملي المعرفي، فاستطاعوا أن يستفيدوا من إحاطتهم بعلوم: الطب والنبات والحيوان والكيمياء، فشخصوا الداء ووصفوا الدواء الذي استخرجوه، واستخلصوه، اهتداءً بعلوم السابقين، التي توازت مع إضافاتهم الثرية بالتصويب تارة وبالاكتشاف تارة أخرى حتى تركوا لنا تراثًا نباهي به الأمم التي سبقت ولحقت والمعاصرة كذلك، تُشيِد كتب الصيدلة العربية الإسلامية الفذة بعبقرية أصحابها، وتشهد على موضع المركزية العربية الإسلامية منفردة في هذا المجال، بما شهد لها به علماء تاريخ العلوم في الغرب، وأهل الاستشراق من المنصفين ممن طالعوا هذه المؤلفات الفذة التي أسست ـ بعد نقلها وترجمتها ـ لقيام علم الصيدلة في أوروبا، وكانت من ركائزه في عالمنا الراهن.
الأحد، 31 أغسطس 2025
التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...
قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعمادة، بينما كانت الحضارة الثانية ناقلة عنها، ومتتلمذة على يديها، ولا ينكر أحد أنها أبدعت وأضافت حتى تسلمت الراية منها الحضارة الإسلامية، فجددت وصوبت وأضافت ونقلت غير أنها تعترف أنها نقلت عمَّن سبقها من حضارات، ثم سلمت الراية إلى قارة أوروبا التي أنكر بعض أهل العلم منها على الحضارتين المصرية والإسلامية شرف الريادة والنقل، وقصرهما على الحضارة الإغريقية وحدها.
من أفدح الأخطاء الشائعة في عصرنا هذا ما روي عن الحضارة الإغريقية من أنها أم الحضارات الغربية وأنها لم تكن في حاجة إلى غيرها من المدنيات التي سبقتها، وأنها على ذلك لم تخضع في أصولها وفي أزمان تطورها فيما بعد على وجه التقريب لأي تأثير وفد عليها من خارج تربتها... ومما لا نزاع فيه أن الشعوب التي أسهمت في تقدم المدنية البشرية منذ نشأتها هي الشعب المصري والشعب الكلداني ثم الشعب الهيلاني المبكر.. والواقع علي أن مصر قد لعبت دورًا هامًا عظيما في الثقافة الهيلانية القديمة وبخاصة في ثقافة القوم الذين كانوا قبل الشعب الهيلاني وهم الذين ورث عنهم الإغريق حضارتهم وأعني بذلك اغريق الجزر اليونانية وبلاد الإغريق الكلاسيكية. هذا ما أثبته سليم حسن في موسوعته عن مصر القديمة ج14.
كما ينفي عن الإغريق ريادتهم المزعومة للطب ويؤكد ريادة الحضارة المصرية القديمة، فيقول:
(جرت العادة عند علماء الطب الأحداث إذا تحدثوا عن الطب ابتدءوا كلامهم بالحديث عن العهد الإغريقي وبخاصة عهد "هبوقراط" "ابقراط" وكأن كل ما قبل ذلك صحيفة بيضاء لم يخط الزمان فيها سطرًا واحدًا في الطب وانتشاره... والواقع أن علم الطب الأول نبع في وادي النيل منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد سار في هذا العلم المصريون شوطًا بعيدًا وضربوا فيه بسهم صائب؛ فتدرجوا في إقامة أصوله على حسب تدرج المدنية إلى أن وصلوا به إلى مدى بعيد لم يكن في الحسبان ... ومما لاريب فيه أن علم الطب كان قد بلغ في خلال القرن الخامس قبل الميلاد أعلى مستوى له، في الوقت الذي كان الإغريق يفِدون ويروحون على مصر للتعليم فيها وقد تمثل ذلك فيما كتبه ابقراط ومدرسته).
وهو ما ينفي أيضا أن "أبقراط" هو أبو الطب كما يشيع البعض عنه ذلك؛ فقد استفاد بل استمد أكثر علمه من الطب المصري، وقد ذكر هيرودوت المؤرخ اليوناني الشهير انفراد المصريين بممارسة فن التحنيط. كما يؤكد الدكتور غليونجي في مقالته: "أثر قدامى المصريين في الطب اليوناني"، أن الطبَّ المصري كان له الفضل الأكبر والأعظم على أبقراط، مستشهدًا بما قاله العالم الفرنسي "فرانسوا دوما" بأن أبقراط تعلَّم في مصر، كما أن الطب في مصر القديمة كان أرقى مجالًا من الطب عند الإغريق.
يقول وول ديورانت في كتابه "قصة الحضارة": (أمَّا أكبر مفخرة علمية للمصريين فهي علم الطب)، ولقد أثبتت البرديات أن كثيرًا من التراث "المصري" الذي يُحسَب لليونان، إنما هو مصري كتبه مصريون بحروفٍ يونانية .. أضف إلى هذا أن هؤلاء كانوا يتخذون اسماء يونانية أو اسماء تحمل إضافة (os) في آخرها كالأسماء اليونانية في حركة تقية تلجأ إليها الأمم العريقة في محنتها في عملية البقاء والمداراة ثم أخذ دور ولو تحت اسم مستعار.
ذلك أن بعض المصريين في العهد البطلمي قد تأغرقوا في محاولة ارتقاء طبقي أو صراع طبقي، كما أن الإغريق قد تأقلموا في مصر بالقدر نفسه فتعلموا اللغة المصرية، وعبدوا آلهة مصرية بل اتخذوا اسماء مصرية وعادات مصرية.. والذي لا شك فيه أن مصر هي واضعة تذكرة الطب المشهورة "كرنيليوس كلسوس" وظلت الدنيا تستعمل عقاقير مصر القديمة إلى القرن الثاني عشر الميلادي. ووضعت مصر المسيحية غالبية المصطلحات الطبية وعليها تتلمذ جالينوس ولها شهد "نيتولتسكي" في كتابه "الطب الشعبي المقارن". كما تقول دكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها "التراث والحضارة".
وظلت أوروبا ردحًا طويلا من الزمن تعزو حضارتها إلى اليونان متجاهلة أو جاهلة النبع البكر أو النبع الحقيقي: مصر. أما اليهود فهم يتعمدون عزو الحضارة الغربية إلى اليونان لشدة وطأة تفوق مصر القديمة على نفوسهم وإحساسهم بالتبعية لها حتى غدت عقدتهم الكبيرة "حضارة مصر". يعترف بهذا "سيجموند فرويد" في كتابه "موسى مصريا": (على أن عزوهم الحضارة الغربية إلى اليونان له غرض آخر خبيء .. وهو حجبهم مدى نقلهم عن مصر وإحباط ريادات مصر).
وربما كان سبب هذا أن المصريين كانوا ينفرون أشد النفور، ويضمرون أشد المقت لليهود الذين وفدوا على مصر من بلاد كوش يلتمسون المأوى بعد تجوالهم الطويل في الصحراء، وهم الذين ساعدوا الغاصب الأجنبي، كما يقول "هندريك فان لون" في كتابه "قصة الجنس البشري".
وسينتقل دور اليهود في ظل الحضارة الإسلامية خاصة في العصر الحديث وذلك حين لم يعملوا داخل الحركة الاستشراقية بوصفهم "مستشرقين يهود" حتى لا يعزلوا أنفسهم وبالتالي يقل تأثيرهم.. ولهذا عملوا بوصفهم "مستشرقين أوروبيين"، وبذلك كسبوا مرتين: كسبوا أولا فرض أنفسهم على الحركة الاستشراقية كلها، وكسبوا ثانيا تحقيق أهدافهم في النيلِ من الإسلام، وهي أهداف تلتقي مع أهداف غالبية المستشرقين النصارى التي رصدها دكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه: "الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري".
مما سبق يتضح أن الطب المصري كان المنهل الذي روى ظمأ الطب والأطباء الإغريق، ولا يعني هذا أننا ننتقِص من قيمة الطب الإغريقي بالبحث عن أصول له، ولكن كل نهر له منابع، وأكبر الأنهار وأجملها أكثرها روافدَ وأصولًا؛ ولذا فإن الهدف من تلك المقارنات إنما هو تأكيد وحدة الحضارة التي ازدانت بها شواطئ البحر الأبيض المتوسط منذ فجر التاريخ، والتي نشأت في مصر، ثم تناولها الإغريق فوصلت إلى قمتها عندما اجتمع المنطق اليوناني والواقعية المصرية، فظهرت معجزة الإسكندرية التي كانت البوتقة التي انصهرت فيها أصول الطب والتشريح عند قدماء المصريين مع اجتهادات اليونانيين القادمين مع الانتشار الهيليني شرقًا وغربًا، فأصبحت القاعدة التي انطلقت منها كل العبقريات والنظريات التي فتحت أبواب الكشوف الطبية والتشريحية أمام العلم أجمع عبر العصور التي تلت عصر الإسكندرية الذهبي؛ الذي وإن كان قد انتهى ماديًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا، فإنه لم ينته فكريًّا وعلميًّا وحضاريًّا، إذ إنه تحول إلى عصارة حيوية تسري في عروق الحضارة الإنسانية عبر العصور.
التراث الطبي في الحضارة العربية الإسلامية:
إن وصف الحضارة العربية الإسلامية بكونها إسلامية، لا يُلغي حقيقة أنها بدأت من جزيرة العرب، ولا يعني ارتباطها بالعرب أن أي قوة سياسية تستطيع بناء حضارة ... من الطبيعي أن تؤثر هذه الحضارة العربية في جميع البلاد التي اعتنقت الدين الإسلامي ولا سيما ونحن نرى تأثير هذه الحضارة في غير المسلمين، وهو ما يعني أن ما خلفته هذه الحضارة العربية ليس بسبب ارتباطها بالإسلام فقط، بل بقدرة اندماجها مع الحضارات السابقة وأثرها الواضح الباقي في الحضارة العالمية حتى وقتنا الحاضر... أثرت وتأثرت حتى باتت حضارة عالمية شارك في صناعتها العرب وغير العرب من المسلمين وغير المسلمين من يهود ونصارى أيضًا.
إن الطب تراث إنسـاني ساهم ـ ومازال يساهم ـ في صنعه وتطويره أطباء وعلماء من دول شتى، وقد كان للطب المصري القديم ـ كما ذكرنا ـ دوره في ظهور الطب اليوناني القديم، بل شكل عامل من أهم عوامل تقدمه، وقد سجل "هيرودوت" إعجابه بما شاهده في مصر حين زارها في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد بشكل عام، وبالطب المصري المتعدد الفروع والأطباء وتخصصاتهم المتنوعة بشكل خاص، كما تميزت الإسـكندرية في العصر البطلمي بريادة الطب، وخاصة في عِلمـي التشـريح ووظائف الأعضاء، ثم جاءت الحضارة الإسلامية التي أسهم علمائها في تقدم الطب وعلومه لتتفوق بشكل واضح في تنظيم مهنة الطب، وتنجح في ربطها بالقيم والأخلاق، وتنشئ "البيمارستانات" أو المستشفيات لعلاج المرضى، وتعمل على إعداد الأطباء والعلماء الذين انكبوا على دراسة الأمراض من أجل أن يضعوا لها طرق التشخيص والعلاج، التي خرجت منشورة في كتب ومؤلفات تصف المرض وتقنن العلاج والدواء.
ولقد كان لهذه الحضارة الفضل الكبير في مجال تطور الطب؛ فقد نقلت علوم من سبقها من أصحاب الحضارات إلى السريانية والعربية، كما لم تحرم علماء البلاد التي دخلها الإسلام من المشاركة في صنع الطب وتطويره وممارسـته.
غير أنه من المهم أن نذكر أن العرب لم يأتوا إلى الدنيا بأيدِ فارغة، ولم يعيشوا قبل ظهور الإسلام بمعزلٍ عن بلاد الحضارات في مصر والشام والعراق، ونؤكد أن المقصود بجاهليتهم كمصطلح ظهر مع ظهور الإسلام، وهو لا يعنى الجهل الذي هو نقيض العلم، بل يعني عدم الإيمان باللّٰه تعالى أو بالإسلام وعدم إفراده بالألوهية وبالحاكمية، فتشرك مع اللّٰه آلهة أخرى، ولا تحكم بما أنزل اللّٰه.
يقول صاحب كتاب "طبقات الأمم" أبو القاسم صاعد الأندلسي القرطبي: (كانت العرب في صدر الإسلام لا تعنى بشيء من العلم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتهم، مع استثناء صناعة الطب؛ فإنها كانت موجودة عند أفراد من العرب غير منكرة عند جماهيرهم لحاجة الناس إليها في حياتهم).. وقد كان لهم فيها تطبيب ووصفات علاجية اكتسبوها من تجربتهم الخاصة أو استمدوها من تجارب جيرانهم، وعلى هذا لا يمكن المجازفة بالقول أن طبهم هذا يرقى لعلم الطب.
تعود بدايات الطب العربي أو البحث فيه إلى العصر الأموي لاتصال العرب المباشر بالمراكز العلمية: "مدرسة الاسكندرية القديمة، وأنطاكية، والرها نصيبين، وجنديسابور"، غير أن مدرسة الإسكندرية هي التي نقل عنها العرب علوم اليونان إلى السريانية، وبدؤوا بترجمة "جوامع الاسكندرانيين" من السـريانية إلى العربية، ثـم انتقلوا بعد ذلك إلى ترجمة تراث جالينوس الطبي برمته، ثم ترجمة أعـمال ابقراط وديوسـقوريدوس، وزادت الترجمة في عصر العباسيين فعرفوا الطب الهندي أيضا، خاصة وأن الطب اليوناني قد احتوى على طب المصريين القدماء والبابليين، ولذا كان هو النبع الأعظم الذي نهل منه أطباء العرب واستقوا علومهم منه.
وقد ضم كتاب: "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" لابن أبي أصيبعة في صفحاته أسـماء عدد كبير من الأطباء الممارسين قبل زمن الرشيد، وقد استفاد العرب أيما استفادة من ازدهار عصر الترجمة فنقلوا الطبيْن: الفارسي، والهندي، بل امتدت معرفتهم الواسعة بالعدد الوافر من الأدوية المجلوبة من إفريقيا ومن حوض المحيط الهندي، الأمر الذي دعم تنوع مصادرهم الطبية واستفادوا منه كما استفادوا من المعارف الطبية المصرية واليونانية والشـامية والعراقية.
ربما كان من الأوفق أن أستعرض ما قدمه علماء الحضارة العربية الإسلامية من مساهمات ومنجزات تثبت أنهم ساهموا في بناء الحضارة الإنسانية القديمة والمعاصرة، وأنهم لم يكونوا عالة على الأمم السابقة عليهم ولا عالة على الغرب بل أفادوه في نهضته، حيث كان الطب العربي هو الوريث الشرعي للتراث الطبي القديم المنقول عن حضارات العراق والشـام ومصر، والطب الهلنستي في جنديسابور والإسكندرية، ويرجع الفضل للعرب في ترجمة ما سبق من علوم طبية حفظوها من الضياع، حتى خطا الطب العربي أربعة قرون فسيحة، ووصل إلى درجة مرموقة، وهو دون نزاع أدق وأشمل من الطب القديم والمتوسط، وقد مهد للطب الحديث، وسبقه.
غير أن الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه: "في الفكر الإسلامي" يرى أن الطب العربي احتفظ بتراث اليونان، وهذا نفسه عمل جليل، ولكنه لم يقف عند مجرد حفظه ونقله، بل عدله وصححه، وأضاف إليه ما لم تضفه ثقافة أخرى، فكشف عن أدواء لم تكن معروفة، وتفنن في وسائل الدواء والعلاج، وخطا في الجراحة خطوات لم تكن يسيرة في القرون الوسطى، وبقيت الجراحة في الغرب عالة عليه عدة قرون، واستحدث أدوات جراحية لم تكن معروفة من قبل.
استفاد الأطباء العرب من ترجمة شيخ المترجمين ـحنين بن إسحاق الذي كان يجيد السريانية والفارسية واليونانية والعربية، وقد درس الطب في جنديسابور، وترجم مجموعة ضخمة من مؤلفات "جالينوس" وغيره، وإليه يرجع الفضل في أن تتسم اللغة العربية بالصبغة العلمية، الأمر الذي سمح لأطباء وعلماء العرب أن يعكفوا على العلوم الطبية ويتقنونها، حتى برعوا في تبويبها وإعادة تصنيفها مما أدى إلى خروج العديد من كتبهم التي اعتنت بتاريخ الطب بشكل عام، وبتـاريخ الطب العربي على وجه الخصوص.
وقد نقل علماء الغرب علوم المسلمين الطبية وغيرها ومارسوها خلال خمسة قرون، بعد أن نجح المسلمون في ترجمة ونقل العلوم اللاتينية والفارسية خلال قرن واحد. ذلك أن علوم الحضارة الإسلامية قد جاوزت حدود أوروبا الجغرافية عن طريق احتكاك الغرب بالشرق أثناء قيام الحروب الصليبية، وعن طريق حركة الترجمة التي نشأت وبدأت في جزيرة صقلية، وكانت الأندلس أوسع الطرق وأقواها من حيث المواد العلمية الغزيرة والأطول زمنا والأوسع في المدى.
ومن الكتب الطبية العربية التي تم ترجمتها إلى اللاتينية: كتاب "القانون" لابن سينا، وكان أشبه ما يكون بموسوعة حَوْت علم الطب عند العرب والإغريق والهنود والسريان والأنباط، وكتاب "الحاوي" للرازي الذي صدر في ثلاثين جزءًا ويمثل موسوعة علمية طبية جمعت معارف الطب من زمن أبقراط وقبله إلى زمن الرازي، وقد بلغ من قيمة هذا الكتاب أن لويس الحادي عشر ملك فرنسا دفع ما يقرب من وزنه ذهبا أو فضة، وظل مرجعًا لأوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي، كما أمد أطباء الأندلس المسلمين قارة أوروبا بالمرجع الأكبر في الجراحة وتجبير العظام، وهو كتاب: "التعريف لمن عجز عن التصريف"، لأبي القاسم خلف بن العباس، وكان قد تم إصداره باللغة اللاتينية في القرن الخامس عشر الميلادي.
لقد توصل الأطباء المسلمين إلى الطب الوقائي الذي يحول دون وقوع المرض من خلال وضع قواعد تحفظ صحة البشر ووقايتهم من شر الأمراض والأوبئة، كما اهتموا بالطب العلاجي اللاحق على إصابة الإنسان بالمرض، فاهتموا بالتشخيص، والوقوف على الأعراض ثم وضع طرق العلاج، كما كانوا أول من أرسوا قواعد الطب الجراحي وجعلوا له أصولا وقواعد ثابتة، والجراحة لا تقوم إلا ومعها علم وفن التشريح الذي برع فيه العرب إلى الحد الذي نبهوا على كثير من الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم من علماء الحضارات السابقة.
ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى دور الرائدات من النساء المسلمات العالمات في القرون الإسلامية الأولى اللواتي كان لهن دور مهم في علم الصيدلة والطب في التراث الإسلامي، ومنهن صحابيات مثل رُفيدة الأسلمية التي كانت أول ممرضة وداوت الجرحى بنجاح كبير، ومن غير الصحابيات: عائشة بنت الجيار، وأم الحسن بنت القاضي الطنجالي كن طبيبات وصيدلانيات بارزات وعملن في مجال تركيب الأدوية.
على الرغم مما قدمته الحضارة الإسلامية من علوم الطب المتنوعة، بات إصرار الأوروبيين على التمسك بالمركزية الغربية التي تعتبر الحضارة الغربية مركزًا للعالم، ويُقيّم الحضارات الأخرى بناءً على مدى توافقها مع القيم والمعايير الغربية، وكان من آثارها على التراث الطبي العربي الإسلامي يتمثل في تجاهل المساهمات الطبية العربية الإسلامية، وعدم الاعتراف بالمساهمات الطبية الهامة للعلماء العرب والمسلمين، بل تشويه تاريخهم الطبي من خلال تقديم صورة غير دقيقة عن التطور الطبي العربي الإسلامي، وادعاء تبعيتها للغرب.
وربما كان الدافع لمن يدافعون عن التراث العربي الإسلامي من العرب المسلمين وغير المسلمين المعاصرين، هو إبرازه ولفت الأبصار والبصائر والعقول إلى عطائه الوافر الزاخر منذ العصر الوسيط وحتى الآن، وتنكر بعض العرب المعاصرين لهذا التراث الرائع، الذي يرصد أسباب نكرانه الدكتور توفيق الطويل في كتابه: "في تراثنا العربي الإسلامي"، فيقول: (أما تنكر العرب للتراث العربي فمرده إلى أسباب ينفردون بها، منها شعور الجيل الحاضر بالضيق للتدهور الذي أصاب العرب في الآونة الأخيرة من تاريخهم، فداخله الشعور بمقت التفاخر بمجد الآباء والأجداد، ومنها افتتان الكثيرين بالمدنية الغربية مع جهل بماضي تراثهم، أو مجرد إلمام بقشوره، ومنها أن ما نشر من هذا التراث لا يزال بكرًا لم تتناوله دراسات علمية مفصلة).
لقد اعترف بعض علماء الغرب بفضل الحضارة العربية الإسلامية في مجال الطب، وسأكتفي بمقولة الدكتور غوستاف لوبون "Gustav Lebon": (إن أهم تقدم للعرب في عالم الطب هو ما كان في الجراحة وعلم الأمراض وأنواع الأدوية والصيدلة...، والطب مَدِين للعرب بعقاقير كثيرة...، والطب مَدِين ـ كذلك ـ بطرق طريفة في المداواة، عاد إليها على أنها اكتشافات حديثة، بعد أن نُسيت زمنًا طويلًا؛ وعلم الجراحة مَدين للعرب أيضًا بكثير من مبتكراته الأساسية، وظلَّت كتبهم فيه مرجعًا للدراسة في كليات الطب إلى وقت قريب جدًّا).
السبت، 30 أغسطس 2025
الأحد، 6 يوليو 2025
الأحد، 29 يونيو 2025
"الاستهداف الغربي للتراث العربي الإسلامي"...
شكلت نقطة الصدام المبكر بين الغرب والإسلام المنصة التي انطلقت منها المقولات التي تتسم بالتشويه واللامنهجية واللاعلمية واللامعرفية، واللاحيادية، واللاعدالة ـ في أغلب الأحيان ـ ضد الإسلام "الدين والحضارة والتراث" ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، خاصةً بعد أن أصبحت هذه المقولات تمثل الركائز التي بنى عليها "الاستشراق" أهدافه ومناهجه في التعامل مع التراث العربي والإسلامي.
لم يتحمل الغرب المسيحي انتشار الإسلام السريع وتجاوزه الفكري والديني والجغرافي لخارطة العالم، حتى دعت الحاجة الملحة لدراسته لا من أجل فهمه على الوجه الصحيح بل من أجل البحث عن الطرق التي تعرقل زحفه وكبح جماحه، وهو الأمر الذي مازال يشغل عقول الباحثين عن نقطة البداية المفصلية التي تحدد تاريخ الاستشراق أو الاستهداف الغربي في مراحله الأولى باعتباره صراعا تاريخيا بين العالم المسيحي الغربي والشرق والغرب الإسلامي خلال العصور الوسطى على الصعيدين الديني أو الأيديولوجي كما رصده "مكسيم رودنسون" في كتاب "تراث الإسلام"، أو بما لخصه "بطرس ساذرن R. W. Southern" في قوله: (يمثل الإسلام مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة) الذي ذكره في كتابه:"نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى Western Views of Islam in the Middle Ages"، الذي قرأ بخبرة واقتدار وتجرد ثمانية قرون ونصف القرن من الصراع الغربي مع الإسلام في القرون الوسطى، ورأى ونبه وقرر أن الغرب كان ينظر إلى الإسلام في تلك الفترة من خلال حزمة من الأفكار التي تتسم بالجهل والعداء والاعتقاد بالخرافات، مع استثناءات قليلة، وأن الغربيين في العصور الوسطى كانوا يفتقرون إلى معرفة دقيقة بالإسلام، وكانوا يخلطون بين القرآن والحديث، ويعتمدون على كتابات مسيئة للإسلام مثل كتابات يوحنا الدمشقي، وفي اعتقاده أن الحروب الصليبية عززت من النظرة السلبية تلك للإسلام، حيث تم تصوير المسلمين كأعداء يجب محاربتهم، مع وصفه لهذه الفترة بأنها تمثل عصرًا من الجهالة؛ لكونها تفتقر إلى الموضوعية والمعرفة الحقيقية بالإسلام، مع أن بعض المثقفين في الغرب، مثل الأطباء الإسبان، كانوا أكثر انفتاحًا على الإسلام ودرسوا تعاليمه بعناية كما يذكر "ساذرن".
لقد استكثر علماء الغرب واستنكروا أن يكون للعرب قبل الإسلام حضارةً أو حضورًا في المشهد الإنساني بشكل مؤثر، ورأوا أن بداية انطلاق العرب جاءت مع ظهور الإسلام وهو ما ذهب إليه "رينان" في قوله: (لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السيامي، والثقافي، والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة).
وهذا الرأي من "رينان" وغيره من أجل أن يثبتوا أن أصالة الخلق والتجديد والإبداع في أمة الإغريق "العبقرية" كما وصفها أحدهم، على الرغم من التناقض في مقولة "رينان" الذي يؤكده "جوستاف لوبون" في كتابه: "حضارة العرب"، فيقول: (إن النضج الحضاري الذي وصل إليه العرب بعد ظهور الإسلام، ما كان له أن يكون إلا نتيجة مقدمات سابقة وسمات حضارية كان يتمتع بها العرب قبل الرسالة، وأن لكل حضارة مستحدثة إرثًا وجذورًا حضارية قديمة؛ فالشئ ـ في الغالب ـ لا يُخلَق من عدم).
إن ما يقف وراء استهداف الغرب للتراث العربي الإسلامي هو تمركزه حول ذاته، أي الغرب، وآفة هذه النظرة المركزية الغربية أنها لا ترى سوى ذاتها، بما يعني أنه ليس هناك قيمة مكانية وجودية على خريطة التفكير الغربي، أو كما يقول دكتور عبدالله إبراهيم في كتابه: "الثقافة العربي والمرجعيات المستعارة": (فحيث يكون الغرب فثمة منطق يقود الحياة إلى مصير خالد، وبهذا تترتب شئون الآخر، بمنظور غربي لا يريد أن يرى في موضوعه إلا ما يتقصد أن يراه هو فعلًا ويرغب فيه).
وهذه النظرة الاستعلائية الغربية التي تستند للإرث الإغريقي الذي يعظم تلك الذات ويميزها عن باقي الذوات كما يرى "جارودي" في نقده لتلك الذات، واتخاذ الغرب الفكر الديني المتمثل في المسيحية واليهودية، وتبني النظرية العرقية التي تمثلت في الإيمان بتفوق الجنس الآري على الجنس السامي تأسيسًا على معطيات علمية وفرتها النظرية الداروينية، مما أعطى كثير من مفكري وعلماء الغرب الحق في التفريق بين الذات الغربية وذوات العالم الأخرى ومن هنا كان استهداف العالم وتراثه ومنه دول العالم الإسلامي تحت دواعي التطهير العرقي، واستباحة تراثه وثرواته عن إيمان بحقهم فيه!
ولهذا كرس المستشرقون الأوائل، أمثال "رينان" و"إجناتس جولد تسيهر" جهودهم لضرب الخصوصية الإسلامية، بدءًا بالتشكيك في أسس المرجعية الإسلامية؛ أي مصادر الوحي لأن الغرب منذ القرن الخامس عشر وما تلاه حتى القرن التاسع عشر الذي يقضي بتقديم مشروع سياسي على صعيد العالم، وهو: مشروع تجانس الإنسانية المستقبلي من خلال تعميم النموذج الغربي"، وينبه "مولاي أحمد صابر" في مقاله: "الوجه الآخر للاستشراق: الانفلات من قبضة المركزية الغربية"، أن: (خطورة هذا المشروع تتجلى في تسويغ وتبرير الاحتلال الغربي للعالم، كما تتجلى في تبرير جرائم الحرب والرأسمالية الاستعمارية حالا وفي القرن الماضي وما قبله، إذ من الصعب أن نعثر على دراسات وكتابات لمستشرقين تستنكر فظاعة الغرب الاستعماري في صلته بالشرق، وحتى إن حصل ذلك؛ فقد انفلت أصحابها من قبضة المركزية الغربية).
لقد واصل الغرب الأوروبي ما يسمى بـ "الإجبار الحضاري" كما يرى البروفيسور ميثم الجنابي في رصده للمفارقة التاريخية لوعي الذات الثقافي ـ السياسي بين إسلام الشرق والشرق الإسلامي، في مواقف الغرب تجاه الشرق وتأثيره عليه من خلال الإجبار في مفاهيم وقيم الخضوع والسيطرة، حيث لم تعد السيطرة "المدنية" الجديدة للغرب الأوروبي استعمارًا بالطريقة الإغريقية ولا الرومية. لقد كان غزوها الشرق أقرب إلى البربرية المحصَّنة بوعيها الذاتي الضيق، وذلك لأن حوافزها وأفعالها كانت محددة بآلية الأخذ والاغتصاب والسرقة والنهب؛ فهي لم تعرف العطاء ولا البذل الروحي، ولهذا لم تشرك في فلك إبداعها "الغرباء"، لأنها لم تنوِ ذلك ولم تلهب هواجسها وحدانية الفكر ولا توحيدية القناعة ولا شعور الواحدية الإنسانية.
كما أن أهم ما توصل له "الجنابي" هو أن الاندفاع المتحمس لــ "الاكتشافات" الجغرافية، لم يكن حبًا للمعرفة ولا توسعًا للمدارك أي أنه لم يكن "تقليدًا" لروح الإغريق القدماء، بقدر ما كان استجابة لسطوة الأوروبية الرومية، أو المادية الشرهة، الأمر الذي أدى إلى خلق الأسطورة المثيرة عن الشرق، الذي أيقظ إغراء كوامن السطوة والاغتصاب واستثارة لعاب السرقة وإثارة روح الغزو والاستيلاء، وذلك لأن "اكتشافات" الوعي الأوروبي الجديد للشرق استثارت فيه روح المغامرة، وتثليم معارفه الشخصية القديمة، إلا أنها خلقت في الوقت نفسه الأساس الموضوعي للاحتكاك "السياسي ـ الحضاري" الجديد، الذي دفعه تطور البرجوازيات الأوروبية إلى نهايته المنطقية: التوسع العسكري والنهب الاقتصادي! وهي ظاهرة متميزة وفريدة في التاريخ العالمي سواء من حيث فعلها وغاياتها وآلياتها ونتائجها.
ولهذا كان استهداف الغرب للتراث العربي الإسلامي مبنيًا على السطو والسرقة والانتحال؛ إذ لم يعرف بعض علمائه أساسيات الأمانة العلمية في النقل والاقتباس، فتجاوزوها كرامة للعلوم الإغريقية ولو على حساب الحقيقة، وليس هناك أفضل من شهادة البروفسور التركي الألماني المسلم "فؤاد سزكين" الذي يقول: (كان الغرب يُترجمون الكتب التي نقلوها عن المسلمين على أنها مؤلفات يونانية، ولم يكونوا يفهمون تراث العلوم الإسلامية لعدم درايتهم بماهيّة الحقبة الماضية، وقد كتب بعض المترجمين الأوروبيين الأولين الذين ترجموا عن المسلمين أسماء مؤلفين يونانيِّين على تلك الكتب التي نقلوها عن المسلمين).
لقد مارس المستشرقون ظاهرتين قديمتين عرفهما التراث الإنساني عبر تاريخه الطويل، أشار إليهما شعبان خليفة في كتابه: "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى: الشرق المسلم، الشرق الأقصى"، وهما: "الانتحال"، و"النِّحلة"، أما "الانتحال"؛ فهو أن يقوم شخص بالسطو الفكري على كتاب شخص آخر، وينسبه إلى نفسه، وكأنه هو الذي كتبه، وأما "النِّحلة"؛ فهو أن يقوم صاحب الكتاب بتأليفه ثم ينسبه إلى غيره بكامل اختياره، وغالبًا ما يكون زُهاء مبلغ نقدي متفق عليه بينهما.
ولهذا ساد السطو على أعمال المؤلفين المسلمين وسرقة مخطوطاتهم حتى أصبح من: (من الأمور السائدة في الثقافة الغربية اليوم نسبة النهضة العلمية المعاصرة إلى جذور يونانية بعيدة تبعد عنها قرونًا متطاولة، مع إبراز فلاسفة وعلماء ليسوا أحقَّ من يُذكر في النسيج المعرفي المعاصر، مع أن هذه الجذور اليونانية استفادت من غيرها وأخذت منها، بل إن الفضل في التأثير المباشر على النهضة المعاصرة يعود إلى حضارة أخرى)، كما يقول طاهر صيام في مقاله: "جحود الغرب والإمبريالية المعرفية"، بل يؤكد: (جَهِدت أوروبا بكل وسيلة لأجلِ طمسِ أدلتِها الحسيةِ أو تجييرها بشتى التأويلاتِ، كِبْرًا وسَطوًا خِدمةً لأغراض شتى؛ منها: التعالي الحضاري والنفسي على البشرية، وقيادةُ العقول والأفكار، ثم غزو الأمم بزَيْف سبق التنوير والعلم والحداثة).
لن نتتبع السرقات الغربية للمؤلفات العلمية العربية الإسلامية خاصة؛ فهي أكثر من أن تتحملها هذه المساحة، غيره أنه من الأفضل أن نسلط الضوء على استهداف الغرب لسرقة وتشويه المخطوطات الإسلامية من قديم حتى عصرنا الحالي:
لقد هاجم أعداء تراثنا ـ أعداء كياننا العربي ـ هاجموا عملية بعث التراث "أي نقله من ورق أصفر إلى ورق أبيض" كما يصفونها.. وهو وصف غير صادق؛ لأن التراث وقتها لم بكن مطبوعا أو حتى كان مخطوطا على ورق أصفر كما يزعمون، بل كان نهبًا مشاعًا لغير العرب يحتكره المستشرقون، فيخفون في متاحفهم، ومكتباتهم وخزائن القصور والكنائس ما شاءوا، ويحرفون ما حلا لهم، ويطبعون ما عنَّ لهم بتشوبه مقصود تثيره روح التعصب والصليبية المتوارثة، أو بتشويه مبعثه سوء الفهم والعجز عن استشفاف روح حضارة مختلفة .. يومها كان الجانب الأكبر من التراث في أيدي أعداء الإسلام والعرب لأنه نهب. ويرصد محمد جلال كشك ميكانزم تعامل الغرب مع التراث الذي نهبوه، من خلال كتابه "الحق المر" فيقول مستكملا: (فهم أولا استعاروا هذا التراث كطالبي علم، قرأوه بالعربية، ثم ترجموه.. ثم لما استولوا على العالم الإسلامي، وكانت لهم الغلبة المادية منذ القرن السادس عشر، بدأوا عملية نهب مسلح، أو باستغلال حالة التخلف والفقر في الوطن الإسلامي، فنقلوا معظم "المخطوطات" إلى بلادهم).
ولقد تكاتف الغرب في عهوده الاستعمارية، مع الجهد التبشيري المكثف، والحقد الصليبي المتوارث، والتآمر اليهودي ـ الصهيوني الخبيث في إعلان الحرب على التراث العربي الإسلامي، وسرقة مخطوطاته ليس في التاريخ القديم فقط بل والمعاصر، وليس أدل على ذلك من صرخة استغاثة أطلقتها دكتورة ابتسام مرهون الصفار وهي المهمومة بتحقيق التراث العربي تحت عنوان: "أنقذوا ما تبقى من مخطوطات العراق"، تستعرض من خلالها ما تعرضت له ذخائر التراث العربي الإسلامي في العراق من سلب ونهب وتدمير منذ احتلال القوات الأمريكية للعراق، وما قام به النائب العمالي الصهيوني "موردخاي بن بورات" الباحث في "مركز إرث يهود بابل" قرب القدس المحتلة من شراء الكيان الصهيوني لعدد كبير من المخطوطات أثناء غزو 2003م، كما سرقوا نسخ ثمينة من التلمود يعود تاريخها إلى أكثر من 2500 سنة، في تقليد متوارث القائم على "الانتقائية" في سرقة المخطوطات الثمينة النادرة، خاصة العلمية منها، مثلما حدث مع مخطوطات المجمع العلمي العراقي والمجمعات العلمية والثقافية الأخرى.
لم يكن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عشوائيًّا، بل قام وفق مخطط مدروس لسرقة الهوية الفلسطينية، بدءًا من استهداف التاريخ بكل تفاصيله، إلى نهب الثقافة وما تحفظه من كنوز معرفية وتراثية، وصولًا إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية المزيَّفة.
منذ البداية كانت المعركة مع المحتل الإسرائيلي بالأساس حربًا على الهوية، لذا بقي ينسب كل شيء فلسطيني إليه، من مأكولات وأزياء، وحتى الطقوس التراثية سرقها، وحين حطَّ رحاله على أرض فلسطين وجد كنزه الثمين في مكتباتها العامة والمنزلية، فسرق الكتب والمخطوطات التي تحكي تاريخ بلدة قديمة شهدت صولات وجولات مع الغزاة، فحرق جزءًا منها لطمس وتشويه تاريخها، وسرق الآلاف ونسبها إليه ليصنع تاريخًا له.
والواقع يقول إن إسرائيل ـ وهي تمثل رأس جسر غـريب بـنوع جديد من الاستعمار الغريب في المنطقـة عـلى حـد تعبيـر عبـد اللطيـف الطيبـاوي ـ بدأت السرقة عام النكبة عندما قام المستوطنون بسرقة مقتنيات الفلسطينيين بعد تهجيرهم، فمن مدينة "يافا" وحدها حملوا خمسة آلاف شاحنة من الكتب والمخطوطات والصحف العربية، بطريقة منظَّمة وفردية، ويقدَّر عددها بنحو 80 ألفًا، أكثر من ثلثها نُهب من القدس وحدها، ونحو 30 ألفًا من هذه الكتب والمخطوطات نقلت إلى المكتبة العبرية تحت "قانون أملاك الغائبين"، منها مخطوطة لسُوَر من القرآن تعود للقرن العاشر الهجري، وكتاب "تهذيب الأخلاق" عمره أكثر من قرن، وما تبقّى من المقتنيات المسروقة إما بِيع كنفايات ورقية وإما أُعيد بيعه لفلسطينيي الأراضي المحتلة ومدارسهم.
وتذكر مها شهوان في مقالتها بعنوان "ضمن معركة الهوية.. تاريخ إسرائيل في سرقة مخطوطات فلسطينية: (وتعتبر "إسرائيل" هذا النوع من السرقات محاولة لتصويب الخطأ أو دحض التزوير العربي بحقّ اليهود، وهو جهد مكمِّل لما بذله المستشرقون الغربيون الذين جابوا المشرق العربي للبحث عن مكامن الضعف في الموروث الثقافي والحضاري، والاستثمار فيها بما يخدم مآرب الاستعمار، وتبديد الحق العربي ونفيه من الأرض، ومحو أي أثر أو ذكر له من الجغرافيا والتاريخ).
لقد استهدف الغرب تراثنا العربي الإسلامي في الحرب والسلم، وليس أدل على ذلك من سرقة ونهب وحرق المخطوطات العربية.. وستظل الحملة الصليبية الأولى خير شاهد على ذلك؛ فقد دمرت مكتبة بني عمار في طرابلس الشام وحرقت ما يقارب مئة ألف مخطوط، وقد مارس رجال الاحتلالين: الفرنسي والبريطاني مسلسل عمليات النهب المنظمة للمخطوطات والكتب والوثائق الأثرية التي تم نقل العديد منها إلى الدول الأوروبية.
ونصل في نهاية مقالنا للسؤال الجوهري الذي طالما راود عقول من يتعاملون مع الاستغراب ومع الاستشراق على حد سواء: لماذا يتنكر الغربيون لدور الحضارة الإسلامية وفضلها على حضارتهم المعاصرة، ولماذا يستهدفون تراثها بكل هذا الحقد والغل؟
وقد أجاب عن هذا السؤال المفكر الغربي المسلم "ناصر الدين دينيه ـ الفونس دينيه"، فيقول مُعددًا الأسباب: (إن التعصب الموروث لدى المسيحيين ضد الإسلام وأتباعه، فقد عاش فيهم دهورا طويلة، حتى أصبح جزءًا من كيانهم، فإذا أضفنا إلى هذا التعصب الديني تعصبا آخر هو أيضا موروث تزيده الأجيال المتتالية تمكنًا من النفوس بفضل مناهج الدراسات القديمة التي تسير عليها مدارسنا، وهو أن كل العلوم والآداب الماضية يرجع الفضل فيها إلى الإغريق واللاتين وحدهم، أدركنا في يسر كيف ينكر الناس عامة، ذلك الأثر العظيم الذي كان للعرب في تاريخ الحضارة الأوروبية، وسوف يبدو دائمًا لبعض العقول أنه "من المهانة أن تدين أوروبا المسيحية للمسلمين بإخراجها من ظلمات البربرية والتوحش!").
تعزية ومواساة ملتقى_الشباب_العربي_لندن
بقلوب صابرة محتسبة ملؤها الحزن والأسى ينعى #ملتقى_الشباب_العربي_لندن بكافة طاقمه الإداري والاستشاري وبالنيابة عن كافة الْأَعْضَاء الْكَرِ...

-
هناك مسافة فاصلة تجاه التراث العربي الإسلامي بعامة والتراث العلمي العربي الإسلامي بخاصة وبين الاستشراق بكافة مدارسه؛ فكان نصيب هذا التراث ...
-
مازالت قضية التراث ومحوه أو أو تقديره أو تقديسه أو تبخيسه مستمرة معنا منذ أجيال مضت وأجيال قادمة، أي أنها ستستمر معنا في عامنا القادم....
-
صار المكان من العناصر الفعالة في تشكيل الرواية، وله أهميته في بنائها، وإن كان لا يشبه المكان الواقعي تمامًا؛ إذ أن المكان الواقعي يمثل حيز...