الخميس، 9 فبراير 2017

عرعار: في ظلال القصيدة والثورة والحوار...




  أشعل ابن مدينة الحديد الشاعر الجزائري ياسين عرعار الفضاء الإلكتروني والورقي بحواراته القيمة والعميقة، والزاخرة بأسئلتها الراقية الرشيقة مع عدد من قامات الأدب والثقافة والفكر العربي، والحوارات التاريخية حول ثورة التحرير الجزائرية التي لفتت الأنظار إليه، وقد عكف على القصيدة الخليلية إبداعًا، فأصدر ديوانه الأول والثاني أوشك على الصدور حتى ذاع اسمه، فشارك في الملتقيات والمهرجانات الوطنية والعالمية، وغامر بدخول المسابقات العديدة المحلية التي حصد فيها الجوائز المتقدمة، اختيرت قصيدته: "اللحن الأخير" من أجمل القصائد المهداة للمعلم، وقام الشاعر الجزائري عادل سلطاني بترجمة قصيدته: "أنا العربي"، وعانقت الموسيقى كلمات مقطوعته الشعرية: "ماذا سأجني؟" التي صدح بها المطرب الجزائري جمال الدين درباسي، كما ضمت اسمه الموسوعة الكبرى للشعراء العرب التي أعدتها الباحثة المغربية فاطمة بوهراكة، ثم حصل على الدكتوراه الفخرية من المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني تقديرًا لنشاطه الإبداعي والإعلامي الصحفي وكتاباته التي  تخدم القضايا العربية.
   غمس الشاعر ياسين عرعار يراعه في محبرة النقد حيث دبج الدراسات النقدية الشعرية المتنوعة لأعمال الشعراء الأقدمين والمحدثين من مختلف الوطن العربي،  انتهاءً بعمله كأستاذ للأدب العربي، وممارسة الصحافة بجريدة الحوار الجزائرية.
  بعد هذا التطواف الذي يختزل محطات كثيرة في مشوار الإبداع لضيف الحوار الذي أحاول استثمار روافده الكثيرة في أسئلة تتناول القصيدة والنقد والسياسة والتعليم والرياضة والمرأة، فلنبدأ:
 ـــ شاعرنا الكبير ياسين عرعار، نزحت من أسرة قدمت الشهيد والثائرات والثوار، فَلِمَ لَمْ تسكن الثورة مفردات قصائدك؟
 أولًا: أقدم تحياتي الخالصة إلى شخصكم النبيل أخي الأستاذ السيد إبراهيم أحمد مُعبرًا عن سعادتي بهذا اللقاء الفكري الجديد بيننا لأكون ضيف حوارك، لك مني فائق الاحترام والتقدير، وتحية مضرجة بالحب ومعطرة بنسائم  الأوراس الأشم  ومسقية ورودها  بدماء الشهداء.
 وثانيًا: هي الثورة الخالدة التي ورثناها تاريخًا حافلًا بالأمجاد، ثورة المليون ونصف المليون شهيد، هي التي سكنت دماءنا فتلونت مفردات قصائدنا بلونها، تمجد البطولة وتعانق الفخر في سجل الشعراء الذين خلدوا التاريخ في كتاباتهم وآثارهم مسلمين مشعل الوطن الحر الأبي إلى الأجيال.
  إن الشهيد (رمضان عرعار) الذي عانق الاستشهاد دفاعًا عن الوطن ولينال الجنة عند الله لقول الله تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا  بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)، قرأنا عن الثورة، وحكى لنا الآباء عن الثورة التحريرية وجرائم الاستعمار الفرنسيفي الجزائر، فحملونا على حب الوطن والاحتفاظ بأمجاده، فكانت الثورة روح كتاباتنا، ومفرداتنا بدمائها. ولعل تجربتي الأولى في البحث التاريخي كانت في كتابي المنشور إلكترونيا (الشهيد رمضان عرعار رجل من ذاكرة الجزائر).
  إن شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكرياء رحمه الله كتب التاريخ شعرا، في أعظم ملحمة شعرية (إلياذة الجزائر) التي ضمت ألف بيت شعري. ترك للجزائر خصوصًا والعالم العربي عمومًا مرجعًا تاريخيًا ثقافيًا وأنموذجًا في تدوين التاريخ شعرًا.
أما نحن الجيل الجديد نغرف من الذاكرة الشفوية، والصور الحية الشاهدة على ويلات الاستعمار الفرنسي لنكتب أوجاعنا وحبنا للوطن.
   ــ تسكن مدينة الونزة قلب باريس بحديدها الذي يشكل برج إيفل، وتسكن فرنسا الونزة التي أنشأتها في بدايات القرن العشرين، ويسكن جزائريون كثر مدن فرنسا.. نريد توضيح لتلك الجدلية في العلاقة بين فرنسا والجزائر؟
العلاقة بين فرنسا والجزائر ....قائمة منذ الأمد البعيد تمتد صفحات روايتها عبر الزمن وتختلف  من مشهد إلى آخر ولكن ضغينة الاستعمار تبقى قائمة مهما تغيرت فصول الرواية، أما عن (برج إيفيل)  الذي يفتخر به الفرنسيون فقد صُنِعَ من أطنان الحديد المستخرج بالكامل من منجم مدينة الونزة بولاية تبسة ــ حاليًاــ بالشرق الجزائري، سرقته فرنسا من الجزائر عام 1889م أي حوالي 30 سنة بعد احتلال فرنسا للجزائر. ما يفوق حوالي 10000 طن من الحديد الجزائري الذي تحول إلى 18000 قطعة حديدية و كل معدات ربط القطع ببعضها البعض.
"برج إيفل" الذي بنته شركة "إلكسندر غوستاف إيفل" بعد 59 سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الفرنسية. استنزفت فرنسا عرق الجزائريين لتبني عظمتها على كواهل جزائرية.
أما عن الجزائريين الذين يسكنون فرنسا، فحالهم كحال كل العرب الذين استوطنوا في كل دول العالم مهما اختلفت الأسباب والأهداف، وتبقى  أرض الله واسعة  وليست ملكًا لأحد لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) .
ــ كونك صحفيًا قديرًا، هل تتناول مقالاتك هذا الحراك من أنات ساكن الونزة مما يلاقيه من المعاناة والسلبيات، والدعاوى التي تطالب بتحويل "الونزة" إلى ولاية؟
بصراحة لم تتناول مقالاتي شيئًا مما ورد في سؤالكم، لأن اتجاهي الصحفي كان مُنصبًا على الثقافة والإبداع بعيدًا عن كل القضايا الأخرى وهذا تبعًا لميولي الصحفي وطبيعة المهمة المسندة لي بجريدة الحوار الجزائرية.
ولكن هذا المشروع الذي أشرت له أنت، فهو حلم كل واحد من سكان مدينة  (ونزة) التي قدمت الكثير للاقتصاد الجزائري، فهي العمود الفقري في الثروات فالمدينة حاضرة بثرواتها ودورها الكبير في تحقيق الميزان التجاري الرابح بعد ثروة البترول الذي يمثل الركيزة الأساسة في الاقتصاد الجزائري، إن مدينة (ونزة) حاضرة بقوة في الاقتصاد الوطني والدولي بفضل منتوج الحديد، أما الدعاوى التي تطالب بحقها في التنمية وتحويلها إلى ولاية فهي قائمة كأي دعاوى قائمة في مدن جزائرية أخرى، ترى لنفسها أسبقية الترقية الإدارية ومع ذلك تبقى هذه الترقية خاضعة لمقاييس تحددها السلطة التشريعية في البلاد ومن هذه المقاييس (طبيعة الموقع الجغرافي وامتيازاته ــ عدد السكان ــ الثروات الطبيعية).
ــ درستم في بواكير دراستكم الجامعية: "قانون العلاقات الإقتصادية الدولية"، لماذا تظل  المدينة الأغنى في دولتها متدنية إجتماعيًا عن غيرها، كمدينتي السويس في مصر، والونزة مدينتكم في الجزائر..أنموذجًا؟
ــ من وجهة نظري يبقى سوء التخطيط الاقتصادي هو السبب الرئيس في هذا التدني الذي يهضم حقوق المدن رغم امتيازاتها الاقتصادية وحراكها الاقتصادي العالمي. الذي يساهم في ازدهار التنمية الرائدة في جميع الميادين. و مع ذلك فموضوع سؤالك يا صاحبي لا يعد مقياسًا حقيقيًا أو حقيقة مطلقة بل ربما وجهة نظرك صحيحة صادرة عن قناعتك الشخصية فقط بمقاييس يمكن أن تتواجد في العالم العربي. ولكن لا يمكن أن نعمم هذا الأنموذج من موضوع سؤالكم على كل العلاقات الاقتصادية الدولية لأن السياسات الاقتصادية تتغير من بلد إلى آخر رغم اشتراك العالم كله في المقياس الاقتصادي كمحور تعامل بين الدول وفق علاقات تبادلية تجارية نفعية .
ــ كتبت العديد من الدراسات النقدية حول أعمال شعرية صاغها شعراء من القدامى والمحدثين، ولكن لماذا لم يتناول النقد أعمالك حتى الآن؟
ــ ساقتني شاعريتي لأتصفح القصائد العربية بعيدا عن جغرافيا الشعر أو خارطة الانتماء، قرأت واستمتعت بالفكر المغاربي والفكر المشرقي،  وقمت بدراسات نقدية لقصائد بعض الشعراء: قراءة نقدية بعنوان "لغة الطبيعة وصراع الألوان في شعر ابن خفاجة الأندلسي"، وقراءة نقدية في قصيدة "كأس من الشعر" للشاعرة السورية زاهية بنت البحر، ودراسة سيميو فيزيولوجية في قصيدة "كقطع من الليل" للشاعر الجزائري محمد الصالح شرفية"، ودراسة سيميو نفسية في قصيدة "غدًا تعرفين"  للشاعر الفلسطيني  طلعت سقيرق، وقراءة تأملية في ديوان "آخر السفن" للشاعر الجزائري محمد الصالح شرفية، وقراءة تأملية في ديوان "قناديل منسية" للشاعر الجزائري بغداد سايح، ومقاربة نقدية في قصيدة "شوقي إليك" للشاعر السوري حكمت خولي، الحس الرمزي في قصيدة "غابة التيه" للشاعر السوري حكمت خولي.
  كما تبادلت المناقشات مع الكثير من الشعراء من خلال الصفحات الأدبية حتى وإن كان نقدًا عابرًا من الإعجاب والتعليق، فهو حافز لي على المواصلة والإبداع.  ولا أشاطرك الرأي في أن النقد لم يتناول أعمالي الشعرية  لأن الدراسة النقدية التي قام بها الأستاذ الدكتور الجزائري عز الدين ذويب، وهو  أستاذ بجامعة تبسة، الذي أشرف سنة 2010م على دراسة ديواني (مهر ليلى) في رسالة ليسانس بعنوان "مظاهر التقليد و التجديد في الشعر الجزائري المعاصرــ  ياسين عرعار ــ أنموذجًا" في تخصص (تحليل الخطاب) نظام (ل ــ م ــ د)، من إعداد الطالبتين (صبح حراث ــ  لموشي سماح)، كانت دراسة عميقة اكتشفت من خلالها ذاتي الشاعرة  وتجربتي الإبداعية في مختلف المستويات الفنية.
كما قام الأديب الجزئري السعيد مرابطي بقراءة نقدية منشورة في صحيفة المثقف الإلكترونية بعنوان "حول ديوان مهر ليلى للشاعر ياسين عرعار"  حيث تضمنت هذه القراءة النقدية جزأين أولهما: التجربة الإبداعية التي انطبعت بالعشرية السوداء التي مرت بها الجزائر، وثانيهما سيميائية الغلاف "اللوحة المنتخبة  والخط  وعنوان الديوان"  .
  كما تطرق الشاعر الجزائري بغداد سايح إلى الديوان الشعري في قراءة  بعنوان "مهر ليلى، قبس من إبداع الشاعر ياسين عرعار" منشورة بمجلة أصوات الشمال الإلكترونية حيث تطرق الشاعر بغداد سايح إلى  استقراء ما يلي: "دلالة عنوان الديوان ــ المفردة الشعرية ــ  الإبحار الشعريّ مع ياسين  ــ  غنائيّة الشعر عند ياسين  ــ ثلاثية ياسين: الكتابة- الأنا – الآخر.
 كذلك المقدمة التي وضعها الأستاذ الباحث الناقد الدكتور لزهر فارس، وهو أستاذ النقد بجامعة تبسة، للطبعة الثانية من ديواني (مهر ليلى( سنة 2013م والتي نشرتها في طبعة إلكترونية، كانت قراءة نقدية متميزة .
ــ صدر لك ديوان: "مهر ليلى" عن وزارة الثقافة سنة 2008، وتنتظر المجموعة شعرية: "أشرعة الحب" الأذن بالصدور، ألا ترى أن الفترة طويلة، على الرغم من غزارة إنتاجكم وجودته؟
ــ موضوع الطباعة يا صاحبي ... لم أربط به شاعريتي يوم نزف اليراع وألقيت بقصائدي إلى القارئ ليسمع دقات قلبي، على مدار 12 سنة تقريبا أي من سنة 1992م إلى 2004م، كنت أكتب فقط، لتصل قصائدي عبر الجرائد الورقية الوطنية، لقد كانت أجمل فترة في حياتي وهي مرحلة اكتشاف الذات الإبداعية والشاعر الذي يسكنني، كنت أرى أن الطباعة أمر صعب ليس من حيث تكاليف ومصاريف الطباعة لأن حالي ميسورة آنذاك لأطبع على نفقتي الخاصة. لكن القدر هو الذي مكنني من الطباعة بعد مشاركتي في الملتقى الوطني للشعر وتحصلت فيه على الجائزة الأولى في الشعر العربي (بمدينة بتيزي وزو ــ ديسمبر سنة 2003م) لأحظى بتكريم من مدير الثقافة لولاية تبسة السيد "أحمد ذباح" وهو أن يسهر على طباعة ديوان فرحبت بالفكرة وجمعت 14 قصيدة من بين قصائدي في ديوان عنوته "مهر ليلى"  في خمس نسخ  وفق النظام المعتمد في الطباعة مرورًا بلجنة القراءة ثم القبول والطباعة ومع ذلك كان التأخر في الطباعة بسبب الأمور الإدارية ليصدر الديوان سنة 2008م بدعم من وزارة الثقافة في إطار الصندوق الوطني لترقية الفنون وآدابها وتطويرها. ليتوج الديوان المطبوع بـ 2000 نسخة ورقية.
كان صدورًا جميلا رغم الأخطاء المطبعية لأنني حظيت بفرصة ناجحة في حياتي الإبداعية، ولم أتوقف عن الإبداع بل أخذت فترة أنتظر فيها النقد والذي من خلاله أبني عليه تجربتي الإبداعية ومواصلة مشواري الأدبي .
 أما عن مجموعتي الشعرية الثانية "أشرعة الحب" وغيرها من المجموعات فهي لا تزال قيد الورق ولم تخرج إلى الطباعة رغم الجهود التي أبذلها .. حاولت أن أطبعها على نفقتي الخاصة ولكن لم أستطع بسبب المصاريف الباهظة في الطباعة، فأصبحت بين خيارين أحلاهما مر وهو الاحتفاظ بأعمالي أو الاستسلام  للعقود الاستغلالية التي تمنحك 10 بالمائة وتستثمر كل طاقتك الفكرية أو تأخذ منك مبالغ باهظة للطباعة فقط دون التوزيع .
ولعل الحل الأفضل هو النشر الإلكتروني الذي سمح للكثير من الأدباء والكتاب والباحثين بالحفاظ على ممتلكاتهم الفكرية وتوزيعها للقارئ مجانا وهذا أفضل بكثير. وهذا ما فعلته في إعادة إصدار ديوان (مهر ليلى) إلكترونيا ليسهل توزيعه مجانا للقارئ العربي. وفعلا نجحت في الأمر وأعتبره مكسبًا كبيرًا. 
أما عن تأخري في إصدار المجموعة الثانية (أشرعة الحب) فأنا أشرت إلي، (مشكلة الطباعة وعقودها المبرمة)، وأنا موظف لا يستطيع المغامرة بأجرته الشهرية وأسرتي أحق بالرعاية المالية وبمرتبي الشهري المتواضع .
ومازالت معي قصائد كثيرة أخرى منها المنشورة إلكترونيا بفضل وأخرى لا تزال في مكتبي، سأجمعها لتكون مشاريع دواوين أخرى إن شاء الله .كما أنني لا أعد أيام إبداعي وسنوات تجربتي الإبداعية بطباعة الكتب. هذا من وجهة نظري، فأنا كاتب ككل المبدعين ولكل مبدع حظوظه في النشر والتوزيع.
ــ برأيكم .. ما مستقبل القصيدة العربية في ظل التحولات السياسية الراهنة؟
ــ  القصيدة العربية تنتفض من حين إلى آخر تبعًا للأحداث السياسية و غيرها، ولكن تبقى محل دراسة في جميع مستوياتها الإبداعية، لأن الشاعر قد تكون ذائقته عالية ورؤيته واسعة، فيصور الحدث في أبلغ صورة أدبية شعرية راقية تخلد العصر وتطبع الشعر في سجل ذهبي لأن الشعر ديوان العرب .
كما أن العولمة التي اتسعت مجالاتها، فكانت لها تأثيراتها الإيجابية والسلبية فالأدب كائن معنوي يسكن الإنسان، الذي قد يتأثر سلبًا بالعولمة بحكم المستوى الفكري في التعامل مع تبعات العولمة، فيتراجع ويتخلف عن القيم الحضارية التي يصنعها الأدب وقد يتأثر إيجابًا فتكون الحداثة حداثة حقيقية على المستوى القيمي والأخلاقي والحضاري .
ولا يمكن أن نحكم على القصيدة العربية من منظور سياسي فقط، لأننا بذلك نكون قد حاصرناها وضيقنا عليها الحيز وقتلنا أبعادها وأعدمنا مسؤولياتها المتعددة. وعلى الرغم من ذلك أرى أن القصيدة العربية تساير الحياة كلها وليست الأحداث السياسية فقط، لذا فهي تشق طريقها نحو الأفضل محاولة احتواء قضايا العصر والتعبير متطلبات الإنسانية.
ــ تئن العربية من إهمال أولادها لها على مساحة الوطن العربي من مغربه لمشرقه، بوصفكم أستاذًا للأدب العربي: كيف ترصد هذه الظاهرة في واقعكم الجزائري وفي متابعتكم للواقع العربي، وما هو العلاج من وجهة نظركم؟
ــ اللغة العربية هي هويتنا وجزء لا يتجزأ منا.. فهي لغة القرآن الكريم والحديث الشريف ولغة الشعر العربي وهي البحر الغني بالمفردات لقول الشاعر المصري حافظ ابراهيم :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن        فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟
أخي الرائع المحاور الفذ السيد إبراهيم أحمد، لعل الإجابة موجودة في الشطر الثاني من البيت الشعري (فهل سألوا الغواص عن صدفاتي؟). فأي غواص يقصده الشاعر قد يخرج لنا صدفات اللغة في هذا البحر العظيم؟
فعلًا أنت طرحت قضية جديرة بالاهتمام لأن العربية مازالت تعاني الإهمال من أولادها بالإضافة إلى محاولات التشويه القائلة بأنها لغة لا تنجب العلم، هذه المحاولات التي استحوذت على عقول الكثير من الأشخاص فراحوا يروجون لإضعافها و تغريبها وتحطيمها.
ثم أن الخطر الثاني هو وليد بيئتنا العربية لأن اللهجات العامية في العالم العربي تنافس اللغة العربية وربما نجد أن اللهجات هي الأكثر حظًا في الظهور على الساحة وباتت العربية دروسًا في المدارس والجامعات إلا القليل من يتحدثون بها. فالعربية نجدها تواجه تيارين هما وجهان لعملة واحدة في اندثار عربيتنا، فالأول تيار العامية والثاني تيار اللغات الأجنبية ولعل التيار الأول أجده أكثر تدميرًا لهذه اللغة الجميلة التي أصبحت تعاني من الدخيل عليها من لهجاتنا العامية .
أما الخطر الثاني من وجهة نظري هو العولمة الإلكترونية، التي باتت فضاءً لترسيخ اللغات الأجنبية أكثر من العربية، فالأمة العربية تستهلك البرامج المروجة للغات الأجنبية أكثر لأنها لم تجد الإنتاج الوفير الذي يخدم العربية أكثر من غيرها وهذا الإنتاج لا يتأتى إلا بجهود أبنائها .وتجدر بي الملاحظة هنا أن العامية أصبحت رائجة بكثرة على مواقعنا الإلكترونية الأدبية والفكرية فهل العربية صعبة على أبنائها إلى هذا الحد؟
إن الحكومات تضع برامج للحفاظ على مكانة لغاتها محاولة استقطاب العالم والسيطرة الفكرية والعلمية لتسويق منتجاتها وأفكارها وهذا أكبر غزو في عصرنا الحديث. لذلك أصبح من الواجب علينا وضع مخططات قوية للنهوض بلغتنا الجميلة على الصعيد العربي ابتداءً من المناهج التعليمية الدراسية التي ترفع من لغتنا بعيدًا عن التشويه والإحساس بالضعف، ثم إحداث المنافسة على مستوى العولمة بلغتنا العربية فالأمة العربية تمتلك الكفاءات القادرة على هدم هذا العجز.
ــ أقمت العديد من الحوارات الثرية والذكية مع العديد من قامات الأدب والفكر العربي، لماذا لم تضمها وتصدرها في كتب ينتفع بها القاريء العربي والمؤسسات الثقافية المختلفة؟
ــ تجربتي الثقافية الصحفية فتحت عوالمي المعرفية أكثر لأن الحوارات التي أقمتها كصحفي بجريدة الحوار الجزائرية أو كناشط ثقافي مبدع في الكثير من المواقع الأدبية الثقافية، مكنتني من الحوار الفكري المتجاوب مع الأدباء المثقفين من كل البلدان العربية وربما كانت التجربة الإلكترونية أوسع وأسهل في هذه الحوارات ومن بين هذه الحوارات على سبيل الذكر لا الحصر: حوار مع الشاعرة الاماراتية أسماء صقر القاسمي، ومع الشاعرة المغربية فاطمة بوهراكة، ومع الشاعر الفلسطيني لطفي الياسيني، ومع الشاعر العراقي هلال الفارع، ومع المفكر السوري محمود عباس مسعود، ومع المفكر الموسوعي المصري محمد حسن كامل، ومع الأديب المصري السيد إبراهيم أحمد، ومع الشاعر الجزائري عادل سلطاني، ومع الشاعرة السورية زاهية بنت البحر (مريم يمق)، ومع الأديب الفلسطيني وهيب نديم وهبه، ومع الأديب العراقي فالح الحجية الكيلاني. وغيرها من الحوارات التي أجريتها في منتدى (نورالأدب) تحت عنوان (شرفة ياسين عرعار للمؤانسة والحوار) والتي أجريتها أيضًا في منتدى صدانا تحت عنوان (مسافات للبوح وفضاءات للحوار)، ومن الحوارات الإلكترونية أيضا ما تم نقله إلى جريدة الحوار الجزائرية الورقية وهذا من سنة 2011م ــ 2013م.
فأنت مشكور أخي السيد إبراهيم أحمد لإشارتكم لي بطبع هذه الحوارات وإصدارها في كتاب ينتفع به القارئ العربي والمؤسسات الثقافية المختلفة ... فعلًا هي فكرة رائعة لضمان الحفاظ على هذا النتاج الفكري المشترك بين الأقلام العربية ... سأحاول بإذن الله جمعها ومراجعتها ونشرها إلكترونيًا في كتاب على أجزاء لأن الحوارات كثيرة. ويمكن للمؤسسات الثقافية نشرها أيضًا.
ــ هل يرى شاعرنا الكبير أن البنية الثقافية العربية ما زالت تمتلك مقومات النهضة على كافة الأصعدة الإبداعية في عالم إبداع اليوم بالتزامن مع الحدثين الأخيرين التي أحدثهما العرب على أرض فرنسا؟
ــ البنية الثقافية العربية ستظل تمتلك كل مقومات النهضة على كافة الأصعدة في عالم إبداع اليوم، وستستمر خاصة وأن كل الضروريات المتعلقة بالإعلام موجودة بالمقارنة مع الزمن الماضي ولن تتأثر البنية الثقافية العربية من حيث كيانها المستقل بذاته ، رغم كل محاولات التدخل الأجنبي من أجل زعزعة استقرارها،  وتشتيت قوتها ووحدتها لأن ما يسمى بـ (الربيع العربي) ما هو إلا فكرة غربية تغلغلت إلى الأوساط العربية محاولة هدم الشخصية العربية وتركها تتخبط في مشاكل عويصة ومع ذلك وجدت هذه الفكرة الصهيونية طريقها لتتسلل إلى المجتمع العربي محدثة ارتجاجًا كبيرًا في بعض الدول، وقد تزامن هذا الارتجاج مع سلبيات الأنظمة العربية التي ظهر عليها الفساد، فكانت الأرض خصبة ليزرع الأجانب أفكارهم ومع ذلك مازال المثقف العربي على وعي كبير بالمخططات الصهيونية المدمرة يواجه خطر الإبادة محاولاً استرجاع الاستقرار والأمن رغم الدماء والحروب والخسائر الكبيرة.
ــ كانت لكم تجربة طيبة من خلال عناق الموسيقى لأبياتك الرائعة، ومع نجاح تلك التجربة فلم تكرروها..لماذا؟
ــ نعم، هي تجربة جميلة ناجحة جاءت مصادفة، امتزجت فيها الموسيقى بالشعر حيث قام الأستاذ المطرب الجزائري (جمال الدين درباسي) بتلحين وغناء مقطوعتي الشعرية (ماذا سأجني؟) حيث ظهرت في حلة فنية أنيقة بازدواجية العمل الفني(شعر وموسيقى). شخصيًا، لم أتعامل مع عشاق الموسيقى ولم أعرض عليهم أن يلحنوا أو يغنوا، فشعري ليس ملكي فمجرد أن أنشره  يصير ملكًا للقارئ بمختلف مستوياته الفنية ولكل قارئ ذائقته في التفاعل مع إبداعي الشعري.
ــ القارئ العربي على العموم  يستعذب سماع الشعر ويبتعد عن القراءة بمَ تفسرون هذا الاندثار الجزئي  للقراءة الشعرية؟
ــ أوافقك الرأي لأنها حقيقة جديرة بالعرض وإعادة النظر في تراجع المقروئية الشعرية، لأن المتلقي ربما صار ميالًا للراحة بفضل تكنولوجيا العصر التي وفرت له متعة الاستماع، فاستغنى عن حاسة العين لتصير الأذن أكثر نشاطا ومع ذلك تبقى القراءة الشعرية ضرورية فللسمع نكهته وللقراءة أيضا نكهتها وما أحوج النقاد إلى إعادة القراءة في الكثير من المرات ! للوقوف على مادة النص و تحليلها وإصدار الأحكام المتعلقة بالنقد البناء .
وأحيانًا لايمكننا في حال من الأحوال أن نستغني عن صوت الشاعر الذي يسرق السمع  ويهز النفوس والمشاعر أثناء القراءة  فيعطي نفسًا مميزًا لقصيدته. فكم من شاعر اهتز الجمهور لصوته وتفاعل القراء مع كلماته وشاعريته المتدفقة ولغته الراقية. وحتى يكون الاتزان فلا إفراط ولا تفريط ولنجعل لحواسنا ذائقة مميزة تقتضي ضرورة التوافق بين الاستماع والقراءة . لذلك نجد أن الكثير من المسابقات الشعرية اليوم تعتمد في مقاييس انتقائها على صوت الشاعر وعلى القصيدة المكتوبة أيضًا. خاصة في زمن تطوت فيه تكنولوجيا الاتصال والتواصل.
ــ من خلال إجابتكم شاعرنا عرعار، لو خيروك بين سماع الشعر وقراءته أيهما تفضل؟ ولماذا؟
ــ هما خياران جميلان ولو تحتم الأمر أميل إلى القراءة لأنها أكثر جاذبية وأفضل تأملًا واستغراقًا في الفكر، كما أنها تسمح لنا بالتدقيق والمراجعة والتفاعل الذاتي بعيدًا عن العاطفة التي يفرزها إلقاء الشاعر لقصيدته، فلربما يؤثر فينا بصوته أكثر من كلماته مع الاعتراف له بمستوى الكتابة الراقية وليس الإلقاء إنقاصًا من إبداعه. أنا بصراحة أحب أن أقرأ القصيدة  لأنها هي التي تفجر الاحساس بداخلي لا أن يؤثر إلقاء الشاعر لقصيدته في مشاعري.
ــ ماذا أعطتكم الطبيعة إنسانيًا؟ وإلى أي مدى ساهمت في إبداعكم؟
ــ الإنسان مفطور على حب الجمال أما الشاعر فهو يرسم بالكلمات ذلك الجمال ولتصير الطبيعة مدرسة لتربية الذوق والحس،  وتصير الحياة أجمل إن كنا نواجهها العطاء الراقي، ويصير الإبداع أسمى إن كنا أكثر قابلية وانسجاما مع كل القيم الجمالية والفنية التي تمنحها لنا الطبيعة.
ــ كانت لكم تجربة رائدة على صفحات اتحاد الكتاب والمثقفين العرب بدعوة من رئيسه الدكتور محمد حسن كامل، في تدشين "الكتاب الذهبي الأول" في فن الحوار والذي لم يصدر بعد، ويقام الحوار الثاني الذي سيصدر في عدة كتب بعدة لغات، لكنك لم تساهم فيه.. نرجو توضيحًا لموقفكم؟
ــ تجربة ثمينة وضعتُ فيها كل جهودي الفكرية محاولًا الوصول بالطرف الثاني إلى الحوار الحقيقي بعيدًا عن الذات، مع احترام وجهات النظر التي تعبر عن صاحبها، وفعلًا كان حوارًا طويلًا يعبق بجواهر الفكر لأن ضيف الحوار هو حبر اتحاد الكتاب والمثقفين العرب أقصد شخصكم الكريم أخي الأستاذ السيد إبراهيم أحمد لأنني شخصيًا أعتبرك كنزًا من كنوز المكتبة العربية، حيث تناولنا فيه الكثير من الجوانب السياسية والثقافية والفكرية المرتبطة بالمجتمع العربي في ظل التحولات السياسية الأخيرة. لقد كان حوارًا ثريًا رائعًا باستجابتكم وإجاباتكم الغنية بالفكر والعميقة في طرحها الموضوعي للكثير من القضايا المتعلقة بمستقبل المثقف العربي .مع الشكر الجزيل للدكتور محمد حسن كامل الذي وفر كل الجهود لنجاح التجربة وتلاقح الأفكار بمشاركاته ومداخلاته، ولم يكتف بذلك بل وضع ملخصًا سمعيًا بصريًا لهذا الحوار في (يوتوب) رائع  للغاية.
 ــ لحظة الكتابة هل تخصص للقارئ مساحة معينة في النص الإبداعي بخطاب معين أم تترك للانطباع أو الرمز المهمة في إيصال الرسالة الإبداعية له؟ كيف؟
ــ  الكتابة الابداعية تختلف من فن إلى آخر، فالشعر من وجهة نظري  فن مبني على الانفلات الفلسفي ولعلني أوافق ميول الفكر الأفلاطوني الذي انحاز إلى الفلسفة حين جسد الصراع القائم بين الشعر والفلسفة، لذا فالخطاب هو ذلك السؤال الضمني الخفي الذي يجعل القارئ في بحث مستمر من خلال تفاعله الفكري مع النص الشعري، محاولا الوصول إلى أعلى مراتب الاستقراء الذهني الذي يحقق الشعور بالمتعة أثناء القراءة.
أنا لا أخصص مساحة معينة للقارئ  في النص الإبداعي الشعري، بل أترك القارئ يحجز لنفسه مكانا داخل النص الإبداعي، لأن المساحة يكتشفها مع ذلك الطرح الفكري الفلسفي عبر مسامات النص الشعري محاولًا مطابقتها بواقعه وتجارب حياته.
ولعل القصة أو الرواية هما الفضاء الشاسع الذي يجعل القارئ يعيش الأحداث منذ بداية النص الإبداعي، وهنا أجد الكاتب هو المتحكم في إيصال الرسالة الإبداعية لأنه ينقل الأحداث في أسلوب مشوق خلاق للمساحة عند المتلقي للنص الإبداعي. أما عن القارئ في حد ذاته، فإن الذائقة تختلف من شخص إلى آخر.
ــ أخي الشاعر ياسين عرعار، ما أسعد اللحظات في حياتك؟
ــ أسعد لحظة عشتها يوم 25 مايو 2016م يوم رزقني الله بابنتي (سجى إيمان) فهي أجمل قصيدة في حياتي، بصراحة سرقت مني قلبي وموهبة الإبداع لتتربع على عرش القصيدة بطفولتها الرائعة.
ــ حفظها الله، من المؤكد أنه يوجد في سجل ذكرياتك شاعرنا لحظة حزن عشتها؟ ما هيَ؟
ــ  كانت لحظة محزنة ولا تزال مرارتها تعصر قلبي، يوم فقدت والدتي ذاكرتها، كان ذلك منذ خمس سنوات واكتسبت وثيقة جديدة (مرض الزهايمر)، لأنني كلما نظرت إلى والدتي أحس بالتعب والأسف الشديد لحالتها الصحية، وأسأل الله أن  يشفيها، آمين. 
ــ وأتمنى معك أن يمن الله عليها الشفاء. بإيجاز .. ماذا تعني لك الكلمات الآتية: (الأم ــ القصيدة ــ الكتابة ــ آسيا جبار ــ الربيع العربي ــ الوطن العربي ــ الدكتور محمد حسن كامل ــ الشاعر لطفي الياسيني)؟    
ــ الأم: مصدر السعادة والحنان، القصيدة: حبيبة أعشقها، الكتابة: إبداع وحرية، آسيا جبار: أديبة كبيرة من عباقرة العصر، الربيع العربي: بحر من الدماء، الوطن العربي: مازال في غربة، الدكتور محمد حسن كامل: كاتب موسوعي ومفكر موهوب، الشاعر لطفي الياسيني: المجاهد البطل وفارس الشعراء.
ــ شاعرنا الكبير كلمتك الأخيرة عقب هذا الحوار؟
ــ جزيل الشكر لك أخي السيد إبراهيم أحمد، لأنك زرت قلبي بصدقك الكبير وخاطبت فكري بأسئلتك الراقية ... إنها صفحة جميلة من صفحات عمري أهديها لك ولكل أديب.. خالص تحياتي وتقديري.

أيها المدخن: لله عد







رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/111690/#ixzz4YCdEbpLi

إدمان وعناد




يحمدُ الصحيح ربَّه تعالى عندما يسمع ذلك السُّعال الذي يشبه النُّباحَ الصاعد من صدر المدخِّن، واللَّافت للانتباه أن أكثرَ من يدخِّنون من الفقراء والعامة والدَّهْماء، ويتصوَّرون أن الحل إنما يكمُن في بعض آهاتٍ يخرجونها مع دخان التَّبغ، هي التي ستحل كافَّة المشاكل، ومَن رأى نهايات السَّاسة والمفكِّرين والأدباء وغيرهم، عَلِم أن التدخين كان الضالع بنسبةٍ كبيرة في التعجيل بنهاياتهم، دون أن يحلُّوا مشاكلَ البشرية المعقَّدة التي يزيدها التدخين تعقيدًا.

لقد شاعَتْ ظاهرة التدخين كأسوأ الظواهر السلبيَّة التي لازمت الإنسان مسيرة حياته على الأرض، في الوقت الذي يغيبُ فيه عن المدخِّن عدةُ حقائق هامة؛ منها: أن التدخين يُسهم في قتل نصف عدد المدخنِّين عالميًّا، وأنه بدخَّانه يسهم في قتل أقلَّ من مليون من البشر، وأن 90% يصابون بالانسداد الرئوي نتيجة مباشرة للتدخين، كما ثبَت أن التدخين يترك بصمتَه على الشفرة الوراثية لجزيء الحمض النووي، مما سيسهم - حتمًا - في تغيير النشاط الجيني للإنسان، وهذا معناه إصابة آلاف الجينات بالسرطان.

أما المدخِّن العربي فلا يعلم أنه يسهم بنسبة تزيد عن المليار دولار يصبُّها في خزينة شركات السجائر؛ إذ بلغت نسبة المدخِّنين من الذكور %50، بينما الإناث 18%، والمؤسف أن التدخين أصاب عددًا كبيرًا من الأطباء الأردنيِّين، كما أن هناك ستة مليون سعودي يدخِّنون ويدفعون أكثر من ملياري دولار، بينما في قطر نسبة التدخين تصل إلى 12%، ويسهم سبعة مليون عراقي مدخن بنصف مليار دولار، كما يدفع ثلاثة مليون  تونسي مدخن ربعَ دخلهم لبائعي التدخين.

إن التحايل على إقلاع المدخن عن التدخين لم يفلح في معظم الأوقات؛ إذ لم تفلح زيادة الضرائب على السجائر في حظر شرائها، كما لم تفلح المبالغة في رفع سعرها في الحد منها؛ ففرنسا التي رفعت الأسعار إلى 300% لم تفلح إلا في خفض الإقبال عليها، ولقد أقدم رئيس تركمانستان على منع دخول التَّبغ البلاد، وإحراق الآلاف من علب السجائر، وأيضًا لم يفلح غير أن يحوِّلها إلى سوق سوداء يدفع المدخن في سبيل الحصول عليها أضعافَ ما كان يدفعه.

ولم تفلح المساجد التي تهتزُّ منابرها كل جمعة بالتحذير من التدخين، وأن الشيطان والمبذِّر إخوان، كما لم تفلح التحذيرات الطبيَّة الصادرة في منشورات وتقارير وزارات الصحة، وأيضًا لم تفلح البرامج التي يقدمها التلفاز والتي تعرض بالصور والأفلام مصير دخان السجائر، وفعلها في أجهزة الإنسان الحسَّاسة، وإذا بالمدخِّنين يتابعون وهم يدخنون وكأنهم يشاهدون فيلمًا مسلِّيًا ليس إلا، مع العلم أن الأحوال الاقتصادية لكثير من المدخِّنين لا تستقيم مع هذا التبذير اللَّعين، بل إن منهم من يستدين ويستهين، ولا يلين لأقوال الناصحين، ومن أفلحوا فتعلَّقوا بالوسائل البديلة من المخترعات الحديثة لتلهيَهم عن التدخين تدريجيًّا لحين الإقلاع عنه نهائيًّا، إذا بهم يتعلَّقون بالبديل الدخيل حتى صار هو الأصيل، وذهبت المحاولة أدراج الرياح!

الغريبُ أنك كلما اقتربت من مدخِّن وخاطبته بأسلوب حسن يهشُّ ويبشُّ لك، أما إذا تطور الموضوع إلى حدِّ الإلحاح في النصيحة، علا الصوت حتى يصير الأمر صراخًا وفضيحة، فإذا هدأ ذلك المدخِّن من عراكه قليلًا لعب على الوتر الإنساني لناصحِه، بأنه لولا التدخين لكان كالثور الهائج، ولن يستطيع أن يتعامل مع البشر، ولا يعلم هذا المريض الجاهل أنه ثبت بالدليل العلمي أن التدخين لا يؤثِّر بالإيجاب في تحسين الحالة المِزاجيَّة للمدخن أبدًا.

يبدو أن الإدمان يصيب أكثر المدخِّنين بحالة نفسية تحوِّلُهم إلى مرضى بالعند أكثر من عناد الأطفال، فيرفضون الحقَّ مع كونه حقًّا، ويعلمون هذا، فأصبحوا حاملين لظاهرتين سلبيَّتين: التدخين والعناد، وعلى الرغم من مخاطبتهم بالنصائح الطبية، والحقائق العلمية، والأرقام والإحصائيات – فإنهم يبالغون في الإقبال على التدخين بأنواعه؛ محاولة منهم لرفض نصيحتك، أو الإحساس بالاستقلالية أو الاستعلاء.

يجب أن نسلِّم في النهاية بأن التدخين ظاهرة متجذِّرة، لن يفلح في اقتلاعها النصيحةُ وحدَها ولا كلُّ ما تفعله الأجهزة المختلفة، فإن لم يكن الوازعُ من المدخِّن نفسه بالإقلاع عنها بإرادته، فلن تنجح أيُّ محاولة مهما حاولنا، غير أن ما لا يدركُ جلُّه لا يُترك كلُّه، وما علينا سوى تضييقِ الخِناق عليه؛ لكسب أنصارٍ أكثر ممن يقلعون، والحمد لله هناك نتائجُ مبشِّرة، غير أنه يجب أن ندعم محاولاتنا بالدعاء لله أن ينقذ كوكب الأرض من قتلةِ أنفسهم ومَن حولهم من المدخِّنين.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/spotlight/0/108765/#ixzz4YCbWvv1R

الاثنين، 10 أكتوبر 2016

اشتراط السوم في الزكاة بين المالكية والجمهور

    الزكاةُ أحد أهم أركان الإسلام، ولقد قرَنها الله تعالى في كتابه الكريم بالصلاة في اثنين وثمانين موضعًا؛ مما يدل على عِظم شأنها، وكمال الاتصال بينها وبين الصلاة، وقد أجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام، وعلى كُفر مَن جحَد وجوبها، ووجوب قتال مَن منع إخراجها.

وتجبُ على المسلم متى توافرت فيه خمسةُ شروط، وهي: الإسلام، الحرية، امتلاك النِّصاب، التملُّك، ومُضي الحول على المال، هذا في غير الخارج من الأرض؛ كالحبوب والثمار، إنما يبقى تمام الحول مشترطًا في النقود والماشية وعُروض التجارة.

ولقد أوجب اللهُ تعالى الزكاة في بهيمة الأنعام، وهي: الإبل، والبقر، والغَنم، وتجب الزكاة فيها بشرط:

1- أن تبلغ نِصابًا.
2- أن يحول عليها الحول.
3- أن تكون للنَّسل والدَّر، لا للعمل.
4- أن تكون سائمةً؛ أي راعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((في كلِّ سائمةِ إبلٍ: في أربعينَ بنتُ لَبونٍ، لا يُفرَّق إبِلٌ عن حسابِها))؛ رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

وهي أن ترعى الماشيةُ أكثرَ السنة في العُشب العامِّ في الفلاة، ولم يشترطه في وجوب الزكاة الإمام مالك، وهو عملُ أهل المدينة.
والجمهور على اعتبار هذا الشرط، ولم يخالف فيه غيرُ مالكٍ والليثِ؛ فإنهما أوجبا الزكاة في المواشي مطلقًا، سواء كانت سائمة، أو معلوفة، عاملة أو غير عاملة.

لكنَّ الأحاديث جاءت مصرِّحة بالتقيُّد بالسائمة، وهو يفيد بمفهومه أن المعلوفةَ لا زكاة فيها.
قال ابن عبدالبر: (لا أعلم أحدًا قال بقول مالكٍ والليثِ مِن فقهاء الأمصار).

وسأبدأ بأدلة المالكية، باعتبارِهم أصحابَ الرأي المخالف لجمهور الفقهاء، على أنْ أُورِدَ بقيةَ المذاهب على الترتيب الزمني لها، كالتالي:
• أدلة المالكية على حُكم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
إن السَّوم عند المالكية‏ لا يشترط في زكاة الأنعام، فأوجبوا الزكاة في المعلوفة من الإبل والبقر والغَنم، كما أوجبوها في السائمة سواءً بسواء؛ لعموم قولِه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ((إذا بلغَتْ خَمسًا من الإبل ففيها شاة))،‏ وقالوا‏:‏ إن التقييدَ بالسائمة في الحديث؛ لأنه الغالبُ على مواشي العرب؛ فهو لبيانِ الواقع لا مفهوم له‏.‏

يقول أحمد بن أحمد المختار الجكني الشنقيطي[1]: (ورأي الإمام - يقصد الإمام مالكًا - هنا مبنيٌّ على أن النصاب في هذا الحديث، وفي حديث: ((في أربعين شاةً شاةٌ))، هنا عُيِّن بصيغة الإطلاق، فلم يقل بتقييد هذا الإطلاق المنطوق بمفهوم المخالفة في قوله: ((في الغَنم السائمة زكاة))، وأيضًا فإن علةَ الزكاة نعمة الملك، وهي حاصلة في المعلوفة كما هي حاصلةٌ في السائمة، إلا أن السومَ وصفٌ مكمل؛ فإن نعمةَ الملك مع السوم أتم، فلو قلنا: إن السومَ وصف تترتب عليه الزكاة، لوجبت الزكاةُ في الوحوش السائمة في أرض تملِكها، ولا أحد يقول بذلك، فعُلم أن علة الزكاة متمحضة في نعمة الملك، وهي حاصلة في معلوفة الأنعام وعاملتها).

يقول أبو الوليد الباجي [2]: (السائمة هي الراعية، ويحتمل أن يكونَ إنما قصَد إلى ذِكر السائمة؛ لأنها هي عامَّةُ الغنم، ولا تكاد أن تكون فيها غير سائمةٍ؛ ولذلك ذكر السائمة في الغنم، ولم يذكرها في الإبل والبقر، ويحتمل أن يذكر ذلك صلى الله عليه وسلم في كتابه لينصَّ على السائمة ويكلف المجتهدَ الاجتهادَ في إلحاق المعلوفة بها، فيحصل له أجر المجتهدين).

وقال أيضًا عند شرح قول مالك: "في الإبل النواضح، والبقر السواني، وبقر الحَرْث، إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله، إذا وجبَتْ فيه الصدقة": (وهذا كما قال؛ إن الإبل النواضح وهي التي يستقى عليها الماءُ من الآبار لسَقْي الأرض والنخل، والبقر والسواني وهي التي تسقي بالسانية لسَقْي الأرض والنخل، وبقر الحرث، وتجمع هذه كلها العوامل؛ فإن الزكاة واجبةٌ فيها كالسائمة، هذا قول مالكٍ رحمه الله، وقال أبو حنيفةَ والشافعي: لا زكاة في شيءٍ من ذلك، والدليل على صحةِ ما نقوله حديثُ أبي بكرٍ رضي الله عنه المتقدم في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها من الغَنم، في كل خمسٍ شاةٌ، وهذا عام في السائمة والمعلوفة، فيجب حملُ ذلك على عمومه إلا أن يخصه دليلٌ، ودليلنا من جهة المعنى أن كثرةَ النفقات وقلتها إذا أثرت في الزكاة فإنها تؤثر في تخفيفها وتثقيلها، ولا تؤثِّر في إسقاطها ولا إثباتها؛ كالخلطة والتفرقة والسقي بالنضح والسيح، ولا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا في تخفيفِ النفقة وتثقيلها، وأما التمكُّن مِن الانتفاع بها فعلى حدٍّ واحدٍ لا يمنع علفها من الدَّرِّ والنسل).

• وقال القَرافي في الذخيرة: (تؤخَذُ الصدقةُ مِن الغنم المعلوفة والسائمة، وكذلك الإبل والبقر).
ويبسط القَرافي أدلةَ ما استند إليه في الفروق، فيقول: (إذا ورَد أمرُ صاحب الشرع بإخراج الزكاة مِن كل أربعين شاةً شاةٌ؛ كما جاء في الحديث: ((في كل أربعين شاةً شاةٌ))، ثم ورَد بعد ذلك قولُه عليه السلام: ((في الغَنم السائمة الزكاة))، فمَن قصد في هذا المقام حمل المطلق الأول الذي هو الغَنم، على هذا القيد الذي هو الغنم السائمة، اعتمادًا منه على أنه مِن باب حمل المطلَق على المقيد - فقد فاتَه الصوابُ؛ بسبب أن الحملَ هنا يوجب أن المقيد خصَّص المطلق، وأخرج منه جميع الأغنام المعلوفة، والعموم يتقاضى وجوب الزكاة فيها، فليس جامعًا بين الدليلينِ، بل تاركًا لمقتضى العموم، وحاملًا له على التخصيص مع إمكان عدم التخصيص، فلا يكونُ الدليل الدال على حمل المطلق على المقيد موجودًا ها هنا، وهو الجمع بين دليل الإطلاق ودليل التقييد، ومَن أثبت الحكم بدون موجبه ودليله فقد أخطأ، بل هذا يرجع إلى قاعدةٍ أخرى، وهي تخصيص العموم بذكر بعضه، والصحيحُ عند العلماء أنه باطلٌ؛ لأن البعضَ لا ينافي الكل، أو مِن قاعدة تخصيص العموم بالمفهوم الحاصل من قيد السَّوم، وفيه خلافٌ).

• أدلة الأحناف على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
يتفق الحنفيةُ مع جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة وأكثر أهل العلم باشتراط السوم في وجوب زكاة الماشية، فتجبُ الزكاة في السائمة من الإبل والبقر والغنم، وكذلك الخيل عند أبي حنيفة؛ لِما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي بكر‏:‏ "في صدقة الغَنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاةٌ".

وأما الأنعام المعلوفة فلا زكاة فيها؛ لانتفاء السوم؛ لأن وصفَ الإبل بالسائمة يدل مفهومُه على أن المعلوفة لا زكاة فيها، وأن ذكر السوم لا بد من فائدة يعتدُّ بها؛ صيانةً لكلام الشارع عن اللغو‏.‏

ولِما رواه بَهْزُ بن حكيمٍ، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في كلِّ سائمةٍ في كل أربعين بنتُ لَبُونٍ))،‏ ومعنى بنت لبون: هي ما أكملت سنتين ودخلت في الثالثة، وسُمِّيت بذلك؛ لأن أمَّها آنَ لها أن تلِدَ فتَصير لبونًا.

وجاء في "المختـار للفتـوى في الفقه على مذهب أبي حنيفة"[3]، باب زكاة السوائم: (السائمة: التي تَكتفي بالرَّعي في أكثرِ حولها، فإن علَفها نصف الحول أو أكثرَه، فليست بسائمة).

وجاء في رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار[4]: (قال في النهر: وبدأ محمدٌ في تفصيلِ أموال الزكاة بالسوائم؛ اقتداءً بكتبه عليه الصلاة والسلام، وكانت كذلك؛ لأنها إلى العرب، وكان جلُّ أموالهم السوائمَ، والإبل أنفَسُها عندهم، فبدأ بها (قوله: هي الراعية)؛ أي: لغةً، يقال: سامت الماشية: رعَتْ، وأسامها ربُّها إسامةً كذا في المغرب؛ سميت بذلك؛ لأنها تسِمُ الأرض؛ أي: تُعلمها، ومنه: ﴿ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ﴾ [النحل: 10]، وفي ضياء الحلوم: السائمة: المال الراعي نهرٌ (قوله: وشرعًا المكتفية بالرعي إلخ)، أطلقها فشمِل المتولدة من أهلي ووحشي، لكن بعد كون الأم أهليةً، كالمتولِّدة من شاةٍ وظبيٍ وبقرٍ وحشي وأهلي، فتجب الزكاة بها، ويكمل بها النِّصابُ عندنا).

يقول الإمام علاء الدين الكاساني[5]: (وأما صفة نصاب السائمة فله صفات؛ منها: أن يكونَ مُعَدًّا للإسامة، وهو أن يُسيمها للدَّر أو النسل؛ لما ذكرنا أن مال الزكاة هو المال النامي، وهو المُعَدُّ للاستنماء، والنماء في الحيوان بالإسامة؛ إذ بها يحصُلُ النسل، فيزداد المال، فإن أُسِيمت للحمل أو الركوب أو اللحم، فلا زكاة فيها، ولو أسيمت للبيع أو التجارة، ففيها زكاة مال التجارة، لا زكاة السائمة.

ثم السائمةُ هي الراعيةُ التي تكتفي بالرعيِ عن العلف، ويمُونها ذلك، ولا تحتاج إلى أن تُعلَف، فإن كانت تسام في بعض السنة، وتُعلَف في البعض، يعتبر فيه الغالب؛ لأن للأكثر حُكمَ الكل، ألا ترى أن أهلَ اللغة لا يمنعون من إطلاق اسم السائمة على ما تُعلَف قليلًا مِن السَّنة، ولأن وجوبَ الزكاة فيها لحصول معنى النماء وقلة المؤنة؛ لأن عند ذلك يتيسر الأداء، فيحصل الأداءُ عن طِيب نفس، وهذا المعنى يحصل إذا أُسِيمت في أكثر السَّنة).

• أدلة الشافعية على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
السوم عند الشافعية أن يرسل الأنعامَ صاحبُها للرعي في كلأ مباح في جميع الحول، أو في الغالبية العظمى منه، ولو سامت بنفسها أو بفعل غاصب أو المشتري شراءً فاسدًا لم تجِبِ الزكاةُ في الأصح؛ لعدم إسامة المالك، وإنما اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف؛ لأن السومَ يؤثِّر في وجوب الزكاة، فاعتبر فيه قصده، والاعتلاف يؤثر في سقوطها، فلا يعتبر قصده؛‏ لأن الأصلَ عدم وجوبها، وبذلك يشترط عند الشافعية أن يكون كل السوم من المالك، أو مَن يقوم مقامه، فلا زكاة فيما لو سامت بنفسها أو أسامها غير المالك، وإن اعتلفت السائمة بنفسها أو علفها الغاصب القدرَ المؤثر من العلف فيهما، لم تجِبِ الزكاة في الأصح؛ لعدم السوم، أو كانت عوامل في حرث ونضح ونحوه؛ لأنها لا تقتنى للنماء، بل للاستعمال؛ كثياب البدن، ومتاع الدار‏.‏

قال الشافعي[6]: (رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((في سائمة الغنم كذا))، فإذا كان هذا يثبت فلا زكاة في غير السائمة من الماشية، ويروى عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنْ ليس في الإبل والبقر العوامل صدقةٌ، ومثلها الغنم تعلف، ولا يبين لي أن في شيء من الماشية صدقةً حتى تكون سائمةً، والسائمة الراعية؛ وذلك أن يجمع فيها أمران؛ أن يكونَ لها مؤنة العلف، ويكون لها نماء الرعي، فأما إن عُلفت فالعلف مؤنة تحيط بكل فضل لها، أو تزيد، أو تقارب، وقد كانت النواضح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه، فلم أعلَمْ أحدًا يروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منها صدقة، ولا أحدًا من خلفائه، ولا أشك - إن شاء الله تعالى - أنْ قد كان يكون للرجل الخمس وأكثر... وهذا يشبه أن يكونَ يدل على أن الصدقة في السائمة دون غيرها مِن الغنم).

ويقول أيضًا: (فإذا قيل في سائمة الغنم هكذا، فيشبه - والله تعالى أعلم - ألا يكونَ في الغنم غيرِ السائمة شيءٌ؛ لأن كلما قيل في شيءٍ بصفةٍ، والشيء يجمع صفتين، يؤخذ مِن صفة كذا، ففيه دليلٌ على ألا يؤخذ من غير تلك الصفة من صفتيه، بهذا قلنا: لا يتبين أن يؤخذ من الغنم غير السائمة صدقة الغنم، وإذا كان هذا هكذا في الإبل، والبقر؛ لأنها الماشية التي تجب فيها الصدقةُ دون ما سواها).

يقول النووي[7]: (لا تجب الزكاةُ في النَّعَم إلا أن تكون سائمة، فإن عُلفت في معظم الحول ليلًا ونهارًا، فلا زكاة، وإن عُلِفت قدرًا يسيرًا لا يتموَّل فلا أثَر له قطعًا،‏ والزكاةُ واجبةٌ، وإن أُسِيمت في بعض الحول وعُلِفت دون مُعظَمه.

ويقول أيضًا في المجموع: (وهذا المفهومُ الذي في التقييد بالسائمة حُجَّةٌ عندنا، والسائمةُ هي التي ترعى وليست معلوفةً، والسَّوم الرعي).

• أدلة الحنابلة على عدم وجوب الزكاة في الماشية المعلوفة:
يتفق الحنابلةُ مع جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية وأكثر أهل العلم باشتراط السَّوم في وجوب زكاة الماشية، فتجبُ الزكاة في السائمة من الإبل والبقر والغنم.

يقول ابن قدامة[8]: (فإن مذهبَ إمامنا -يقصد ابنَ حنبل- ومذهب أبي حنيفة أنها إذا كانت سائمةً أكثرَ السنة ففيها الزكاة، وقال الشافعي‏:‏ إن لم تكن سائمة في جميع الحول فلا زكاة فيها؛ لأن السومَ شرط في الزكاة‏، ‏ فاعتبر في جميع الحول؛ كالمِلك، وكمال النصاب، ولأن العلَف يُسقِط، والسَّوم يُوجِب‏، ‏ فإذا اجتمعا غلب الإسقاط، كما لو ملَك نِصابًا بعضه سائمة، وبعضه معلوفة، ولنا عمومُ النُّصوص الدالة على وجوب الزكاة في نُصُبِ الماشية، واسم السَّوم لا يزول بالعلَف اليسير).

ويقول أيضًا: (وفي ذِكر السائمة احترازٌ من المعلوفة؛ فإنه لا زكاةَ فيها عند أكثرِ أهل العلم).
ويقول المرداوي[9]: (لا تجب الزكاةُ في غير السائمة، والخارج من الأرض، والأثمان، وعُروض التجارة، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب).

• السَّوم الذي تجب فيه الزكاة:
وإذا كان الراجحُ مِن أقوال أهل العلم ـ وهو مذهب الجمهور كما تقدم ـ عدمَ وجوب الزكاة في الأغنام المعلوفة؛ لِمَا ثبت في صحيح البخاري، فإن القائلين بوجوب الزكاة في الأنعام السائمة يختلفون في اعتبار السَّوم الذي تجب به الزكاة؛ فاشترط الحنفيةُ والحنابلة أن ترعى العُشب المباح في البراري في أكثر العام بقصد الدَّرِّ والنسل والتسمين، فإن أسامها للذَّبح أو الحمل أو الركوب أو الحرث، فلا زكاة فيها؛ لعدم النماء، وإن أسامها للتجارة ففيها زكاة التجارة،‏ وإن أسامها بنفسها بدون أن يقصد مالكُها ذلك، فلا زكاة فيها عند الحنفية‏،‏ وأما عند الحنابلة - على الأصح - فلا يعتبر للمسوم والعلف نية، فتجب الزكاةُ في سائمة بنفسها، أو سائمة بفعل غاصبها؛ كغصبه حبًّا وزرعه في أرض مالكه، ففيه العُشر على مالكه، كما لو نبت بلا زرع،‏ ولا تجب الزكاة في معتلفة بنفسها، أو بفعل غاصب لعلفها، مالكًا كان أو غيره‏،‏ وذهب المالكية إلى أنه لا فرق بين السائمة والمعلوفة، فتُزكَّى مطلقًا.

ونقول: إنه إذا كان الإمام مالك قد ذهب إلى وجوب الزكاة في بهيمة الأنعام على الإطلاق، بغير تفرقة بين سائمة وغير سائمة، بما استدل به على ورود لفظ الإبل مطلقًا في بعض الأحاديث، ولم يقيد بالسائمة، كما في كتاب أبي بكر لأنس رضي الله عنهما: (في أربعٍ وعشرين من الإبل فما دونها في كل خمسٍ شاةٌ) - فقد ردَّ الجمهور على استدلاله بأن هذا الحديثَ مطلق، بينما الأحاديث الأخرى مقيدة بالسَّوم، والقاعدة المعروفة في هذا "أن يحمل المطلق على المقيد، إذا كان من جنسه" بلا خلاف[10]، وقد أوردنا الأدلةَ التي ساقوها واستدلوا بها على صحة ما ذهبوا إليه، مما لسنا في حاجة إلى تكراره.

وبعد استعراض أقوال المذاهب الفقهية الأربعة وأدلتهم في التمسك بشرط السوم لوجوب الزكاة، أو من وجوب الزكاة مطلقًا، إنما صدرت عن اجتهاد معتبر، وكان لتمحيص اللغة، وتفسير الأحاديث الشريفة، مع إعمال العقل دورٌ كبير فيه.
.....................................................................................................................................
[1] أحمد بن أحمد المختار الشنقيطي، مواهب الجليل من أدلة خليل، إدارة إحياء التراث الإسلامي، 1983، قطر.
[2] أبو الوليد سليمان الباجي، المنتقى شرح موطأ مالك بن أنس، مطبعة السعادة، 1332هـ، مصر.
[3] عبدالله بن محمود الموصلي، المختار للفتوى: على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، دار البشائر الإسلامية، 2012، القاهرة.
[4] محمد أمين عمر "ابن عابدين"، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، دار الكتب العلمية، 1992، بيروت.
[5] علاء الدين، أبو بكر الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، دار الكتب العلمية، 2003، بيروت.
[6] محمد بن إدريس الشافعي، الأم، باب "ما يُسقِط الصدقةَ عن الماشية"، كتاب الزكاة، دار المعرفة، 1990، القاهرة.
[7] أبو زكريا يحيى النووي، روضة الطالبين، دار ابن حزم للطباعة والنشر، 2002، بيروت.
[8] موفق الدين بن قدامة المقدسي، المغني، دار عالم الكتب، 1997، القاهرة.
[9] علي بن سليمان المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، مطبعة السنة المحمدية، 1956، القاهرة.
[10] شيخ الإسلام ابن تيمية، "مجموع الفتاوى" (32 /32).

الأحد، 9 أكتوبر 2016

قصة فانتازيا: ما زالت هناك تطير...



لا شئ حولها يشي بالبهجة غير التخيل مع التحديق في المساحة الخضراء التي تحيط بمنزلهم، في تلك البقعة الهادئة من الضاحية التي تسكنها، ويفصلها عن البيوت المتشابهة في الطراز المعماري الأكثر ثراءً من بيوتهم غير بحيرة تتوسطها نافورة ومقاعد رخامية حولها.
  لكن الشيء الأعظم من تصورها الدائم بهبوط طبق فضائي عند البحيرة، هو أن ترى تلك الفتاة البديعة التي تلعب بدراجتها قرب النافورة، تتسلل سامية التي لم ترزق والدتها بسواها حتى الآن، من غرفتها وهي تقفز فوق الدَرج كفراشة، وتعلو إجابتها على سؤال أمها:
ــ دقائق يا أمي وسوف أعود..
  تتوقف الأخرى وتنزل من دراجتها، وتتقدم نحو سامية في حبور، تدعوها لأن ترافقها قيادة الدراجة، يمضيان وقتًا طويلًا يمرحان في دوائر حول النافورة، يتوقفان، ثم يعدوان في خفة السحب التي تسوقها الريح بقوة، يتضاحكان.. ثم يطلقا ساقيهما للريح، لكن الفتاة تطير بحق بينما سمية تسألها:
ــ كيف تفعلين ذلك؟
تواصل الطيران، وكأنها لم تسمع، تعاود سمية السؤال مصحوب بسؤال آخر عن اسمها؟
ــ  اسمي ميريهان.. والطيران هوايتي..قدرات.. تجربين؟
ــ لا ليس الآن..
تواصل ميريهان الطيران، بينما تستلقي سامية على عشب الحديقة المائل للبرودة ..تتابعها وهي ترتفع أكثر وأكثر ذاهلة..بينما تقف سيارة تابعة لمستشفى خاصة، ينزل منها رجلان يرتديان الزي الأبيض..يتقدمان نحوها ثم يسحبانها إلى السيارة، كادت أن تصرخ، لكنها لم تستطع فقد ذهبت  في شبه غيبوبة، ترى والدها يجري في ردهة المستشفى..يدخل غرفة، ويخرج في أعقابه أحد التابعين للمستشفى، تدور بعينيها فترى أمها مستلقية على سرير في غرفة وحدها في شبه إعياء.. تخرج من بطنها طفلة باهتة الملامح، تعطيها وردة ذابلة، تمسكها سامية مترددة، والخوف يتسلل إليها.. تخطفها منها أمها ثم تلقيها بجوار الطفلة الباهتة الملامح.. تقف سامية مشدوهة من رجل يرتدي بالطو أبيض وهو يحدِّق فيها.. يرفع سبابته آمرًا من حوله أن يخرجوها بعيدًا.. تجري مسرعةً دون أن تنظر وراءها في طرقةٍ طويلة بين مقابر متراصة، تضع على قبرٍ صغير باقة ورد، وخلفها والديها يرتديان ملابس سوداء، يبكيان.. تقفل عائدة من نفس الطريق الذي أتت منه نحو سيارتهم:
ــ لن أعود وحدي..بدونها.. لن أتركها وحدها هناك..
   تتقدم ميريهان منها:
ــ ألا تتعبين من الاستلقاء والتأمل، ألم تسمعين ندائي..هيا لنطير..
تمسك يدها ..يطيران.. يمشيان فوق البحيرة، دون أن يبتلا.. من شرفة منزلها تراقبها أمها والمشهد يصعقها:
ــ تصورت أن عندها توحد حين تكلم نفسها، الآن تطير!
تنادي ابنتها.. لاتسكت. تلح في النداء، تهرول سامية نحو بيتها، وهي تعتذر لميريهان، لكن الأخرى تمضي أيضًا نحو منزلها القريب من البحيرة..
ــ مع من تتحدثين يا سامية، وكيف تطيرين، من علَّمكِ هذا؟!
ــ  كنت أتحدث مع ميريهان.. صديقتي.. هذه الفتاة الرائعة، وهي التي علمتني الطيران، ألم تشاهدينها؟!
ــ لم يكن هناك أحد سواكِ بنيتي..
ــ ألا تصدقينني.. تعالي معي.. لقد تركت ميريهان دراجتها لنعود ونلعب بها..
   تصاحبها أمها رحلة التثبت.. بينما الجو الخريفي يبعث أنوارًا رمادية، تثير الذعر والبرد معًا في أوصالهما، لكنهما لا يأبهان.. حتى يصلا للدراجة، وتركبها سامية وهي تمضي في فرح نحو بيت صديقتها:
ــ تأكدتي ماما، هذه دراجتها..
بينما أمها تتابعها وهي تحملق في المجهول بعينين زائغتين، وقلب تعلو دقاته حتى تغطي أصوات المياه الفوارة في البحيرة..
ـــ تأكدت .. انتظري قليلًا، حتى أدركك..
   تسرع سامية، لا تأبه لرجاء أمها، وتنادي صديقتها، تقترب أكثر.. وصوتها يعلو بالنداء أكثر.. وأمها في أعقابها، تخرج امرأة متوسطة السن، تسألها، من تريدين:
ــ ميريهان ..
ــ ميريهان من؟!
ــ ميريهان ابنتك، أليس هذا بيتها وأنتِ والدتها؟!
تنظر السيدة بوجهٍ تعلوه أمارات الدهشة والحيرة والحرج، لا تدري ماذا تفعل:
ــ تعاليا اقتربا.. تفضلا..ادخلا.. أهلًا وسهلًا..
ما كادا يدخلان..حتى أشارت سامية إلى صورة لفتاة موجودة في إطار فوق منضدة جانبية، وهي تصرخ فرحة:
ــ مامي ..هذه صديقتي ميريهان..
تتقدم نحو البرواز وتمسكه، ثم تقدمه لأمها كدليل براءتها..تصرخ أم هايدي فيها:
ــ دعي البرواز مكانه..
 تنظر لأم سامية:
ــ سامحيني..هذه صورة ميريهان ابنتي التي ماتت..فكيف رأتها ابنتك ولعبت معها؟!
ــ أنا أسفة لموت ابنتك، ولكن متى، وكيف؟!
ــ ماتت من عامين، حين دهستها سيارة مسرعة وطرحتها من فوق دراجتها..
  تعدو سامية مسرعة نحو بيتها، بينما أمها تعتذر لأم ميريهان، على وعد باللقاء في ظروف أفضل.. تعدو وراء ابنتها، تستمهلها لتدركها، لا تستطيع..
  تقف سمية أمام البحيرة تحاول أن تقفز لأعلى، لا تستطيع.. تحس بخيبة الأمل.. ترتمي على العشب البارد متهالكة.. تجلس أمها على المقعد الرخامي الثابت بالحديقة، تراقبها دون كلام.. تحلق ميريهان عائدة ومعها أطفال صغار يطيرون في دوائر متقاطعة، والسحب تحوطهم، كل طفل معه وردة زاهية جميلة، يلوحون لها، تلوح لهم، أمها تتابعها وهي تبتسم، فقد عاد الإشراق لوجه سامية من جديد، تتحدث أمها في الهاتف وهي تستحث الطرف الآخر على المجئ.. تتحسس الأم بطنها التي ارتفعت قليلًا، ترى في يد ابنتها وردة جميلة شديدة الاحمرار..
  تقف سيارة يتقدم والد سامية من والدتها، بينما يتبعه رجلين يرتديان الزي الأبيض، يأخذان ابنتهما في هدوء إلى سيارة الإسعاف، وفي ردهة المستشفى الطويل ترى سامية والدها يهرع مسرعًا، بينما أمها تتبعها إلى غرفتها، ورجل يرتدي البالطو الأبيض وشعره مشوب باللون الأبيض، وسماعته تتدلى على صدره يتبعهما مسرعًا قلِقًا، بينما تهمس له الأم:
ــ منذ ماتت أختها ميريهان منذ عامين، في نفس المستشفى، وهي ما تزال تفتقدها، لأنها كانت لعبتها وصديقتها، وشريكتها في غرفتها، وكانتا تلهوان كثيرًا عند البحيرة التي تتوسط الحديقة..
تتحسس سامية بطن أمها، تعطيها أمها وردة زاهية وتطمئنها، أن في بطنها يلهو جنين ينتظر الخروج...
ــ ولكنها يا أمي كانت هناك..
ــ نعم بنيتي، ستكون هناك..
   تبتسم سامية، وهي تنظر إلى البحيرة من نافذة سيارتهم، وترى ميريهان ما زالت تطير فوق البحيرة.. تلوح لها.. 


حوار إذاعي مع الأديب والكاتب التونسي رضا سالم الصامت...


السبت، 8 أكتوبر 2016

قصيدة: "ثرثرة"...






فاتتك جميع القطارات
والمحطة خاوية..
وهناك..
لا ينتظرك أحد
أوراق الأشجار تواسيك
وذرات رمال ديسمبر الباردة..
ليس في عينيك ثورة عارمة..
شوقٌ محموم..
أو ابتسامة حانية..
رخامي الملامح
جلمودي البسمات
تجيب في إيماءة
وتنتظر في ثقة..
تطوي الصحيفة ..

عزيزتي: سأستقل القطار القادم..
فهناك مثلك عجوز تنتظرني
في محطة قادمة..
سأثرثر معها.. وبائع الجرائد..
وماسح الأحذية..
هناك دومًا من ينتظر..
حتى الثرثرة..


http://kasedat-elnathr.com/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%af-%d8%a5%d8%a8%d8%b1%d8%a7%d9%87%d9%8a%d9%85-%d9%8a%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ab%d8%b1%d8%ab%d8%b1%d8%a9/

التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...