دكتور السيد إبراهيم أحمد
الاثنين، 29 ديسمبر 2025
السبت، 27 ديسمبر 2025
قراءة في رواية "حكم عزيز" للروائية إيمان الوكيل..
تراهن الروائية إيمان الوكيل منذ اللحظة الافتتاحية لروايتها "حكم عزيز" على عزمها الأكيد في أنها سَتُحِكم سيطرتها على القارئ؛ فلن تدعه يفلت منها، وأنها ستتسيد شكلا ومضمونا، لا من حيث كونها المؤلف، ولكن من حيث امتلاكها لأدواتها مع ضربة البداية في تجسيد الأحداث برأسها وتخيلها من ناحية، وعند صبها على الورق من حيث السبك والبناء واستخدام التكنيك السردي بمهارة من ناحية أخرى، غير أن الأحداث في سكبها وسبكها لا تشير إلى خيالٍ محض بل إلى واقع وراهن نفسي رأته الكاتبة ورصدته ووعته، وتفاعلت به ومعه حتى انصهرت فيه وبه، واحتواها واحتوته، واكتوت به معايشةً وتفكيرًا، ثم أهدته إلى قارئها ليكون شاهدًا معها عليه، ويقيما الحجة على الإنسان في سؤال وجودي: أهو بطل خرج من رحم المثالية.. أم ضحية عذبتها سياط المعاناة؟ أم ضحية تتصنع البطولة؟ أو كما بلورت الكاتبة مأساة شخصيات الرواية في سؤال همس المحوري في تعجب: (لا أعرف لماذا يكره المجتمع المتحابين؟!) ص68.
عتبات النص:
من نافلة القول أن أشير إلى أهمية وجود عتبات النص تلك التي أولاها "جيرارد جينيت" اهتمامًا كبيرًا لما لها من فضل في إزاحة عتمات النص وفهمه، وكونها تعكس مقصود الكاتب وتُعين في توجيه القارئ نحو الأحداث، ومحاولة جذبه لاستكشاف الجوانب الفنية والجمالية للنص، مما يعني أن هذه العتبات تضيف منظورًا جماليًا له تأثيره الذي يجعله عنصرًا من عناصر القيمة الإبداعية للنص الأدبي.
ولهذا جاء عنوان الرواية "حكم عزيز" محملًا بالعديد من المعاني والدلالات، وربما أولها الدلالة الدينية في "حكم" التي تشير إلى الحكم الشرعي الذي يصدر من الله تعالى، وهو حكم يدل على القوة والسيطرة، والحكم الإلهي الذي يدل على أن الله تعالى هو الحاكم الوحيد على الكون.
أما الدلالة الدينية في "عزيز" فتكمن في كونه اسم من أسماء الله تعالى، وهو يدل على القوة والسيطرة، وهو ما يأتي متسقًا مع المعنى اللغوي، والدلالة القرآنية؛ فهو يدل على الله تعالى الذي هو عزيز لا يُغلَب.
وتشير الدلالة النفسية في العنوان إلى الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي شخصية "عزيز" التي تتميز بالقوة والسيطرة، وهو ما نجحت فيه الكاتبة حين جعلت من دلالة العنوان كعتبة نص خارجية تشير بقوة وثقة إلى اتجاه الرواية، وهو اتجاه لا يركز فقط على الشخصية الرئيسة بل على المجتمع الذي تعيش وتتحرك فيه، بالإضافة إلى ما يثيره من جلب عنصر التشويق والإثارة لدى المتلقي، وتأويله وتفسيره ـ تخمينًا ـ لما تحويه الرواية من قبل أن يقرأها.
أما عناوين عتبات النص الداخلية التي بدأتها الكاتبة بالإهداء لمن علَّم وأضاف بصبرٍ وخبرة الكاتب والمحرر الأدبي للعمل "خالد الجزار" تحية إعزاز وتقدير منها إليه، وهي دلالة على حرص الكاتبة أن تنسج عملها في أبهى صورة محاطة بإطارات التدقيق اللغوي والتحرير الأدبي والغلاف المعبر عن مضمون العمل، والدار التي أحسنت طباعته، وهو ما يُحسب لها لا عليها، خاصةً وأنني أحد الذين قرأوا العمل وهو لم يزل مخطوطًا، ونشرتُه في كتابي: "نظرات نقدية في إبداعات عربية" التي اختارته ونشرته دار "شمس ببليشينج" بدسلدورف في ألمانيا الغربية حين كان عنوانه "حب بلا دوبامين" ووقع في ثمانية فصول، ولم يتدخل المحرر الأدبي في أحداثه أو خطوطه العريضة ومنمنماته.
وقد جاءت عناوين الفصول بعيدة كل البعد عن الغموض بينة الدلالة، متحققة في المتن، وكانت بحق بابًا كبيرًا لولوج القارئ للنص من القراءة الأولى، وإن لم يكسر حاجز التشويق، بل دافعًا لامتطاء صهوة الأحداث في شغف، وربط ما يتلوه مع فهمه في السابق أو لانتظار اللاحق.
استخدامات الكاتبة لتقنيات الرواية:
يُحسب للكاتبة إيمان الوكيل أنها لعبت على كثير من الأوتار التي عزفتها والخيوط التي ضفَّرتها جيدًا في عملها بحيث لم تتغلب واحدة على الأخرى؛ فالتناول الاجتماعي الواقعي في الرواية قائم من حيث رصدها لكافة العلاقات القائمة في المجتمع وخاصة الأسرة وامتدادية تأثير الآباء في الأبناء مهما كانت ثقافتهم، وذلك بتوريثهم نظرتهم الدونية إلى المرأة والتي أفلحت الكاتبة أن تلعب على جيلين من النساء: الراضخة والمستسلمة للإهانة من الجيل القديم، والرافضة له ولو كلفها الأمر الاضطهاد والتعنيف مما يمكن أن يكون إشارة من الكاتبة للحركات التحررية النسوية، كما تشير إلى الرضوخ المستسلم في الطاعة المبالغ فيها من الابن للأب ولو كان خاطئًا في اتجاهاته ومواقفه وهي تستصحب معها النصوص الانتقائية من الدين التي تؤطر لهذه الهيمنة.
تضع الكاتبة القارئ في قلب الأحداث دفعة واحدة في تصاعد درامي لا يسمح له أن يرفع نظره، مع محاصرته بأسئلة استفهامية يفرضها النص من خلال دخول اسماء الشخصيات دون تمهيد منها، عن عمد، حتى تترك له مساحة من البحث عن العلاقات الناشئة بين الشخصيات الأساسية والثانوية، بل قد تطرح اسماء على لسان الشخصيات لم تظهر بعد، وذلك مبعثه أن ينمو الحدث مع الشخصية استثارة لدهشة القارئ ودفع الملل عنه بالمعرفة المسبقة، مع الاحتفاظ بوجود القارئ في العمل من حيث اكتشافه بنفسه مسار الشخصيات وإيجابياتها وسلبياتها.
لجأت الروائية إيمان الوكيل إلى عرض الرواية عرضًا سينمائيا استخدمت فيه كافة أساليب التشويق، ومنها: الأسلوب البوليسي بطريقة هتشكوك وما شابه، وذلك من خلال عرض الحوارات المجتزأة، والعلاقات المبتورة في وقت الحديث وستنجلي حقيقتها فيما بعد، والعبارات الملغزة، كما زاوجت بين زمنين أظهرت الأول وهو نتيجة وأخفت الزمن الثاني وهو المقدمة للأحداث والمنشئ لها وإن كان في ذاته يبدو نتيجة لعلاقات سابقة عليه، وهو ما يعني أن المتن الحكائي لا يطابق البناء الحكائي، وقد امتلكت في التلاعب بالزمن السردي آلية تحريك الأحداث بنعومة دون إحداث قفزات مفاجئة دون أن تفتقد التتابع المنطقي، أو عقلنة تطور أو تحول الشخصيات، وهي بهذا تراهن على فهم المتلقي للنص المفتوح، المتعدد الدلالات والتأويلات.
وهو ما يعني أن الكاتبة استخدمت تقنية الاستباق التي عرفها جيرار جينيت بأنها "حركة سردية تقوم على أن يروى حدث لاحق أو يُذكر مقدما" فالاستباق وهو من تقنيات المفارقة الزمنية وهو استعادة تقديم الأحداث اللاحقة والمتحققة في امتداد بنية السرد الروائي على العكس من التوقع الذي قد يتحقق وقد لا يتحقق، من أجل أن تحافظ الوكيل على بنية التشويق والمفاجأة، والشواهد في الرواية مما سيلحظها القارئ بداهةً حتى دون الإشارة مني، تضامنًا مع الكاتبة التي تراهن على قارئها الذي سينشغل حتمًا بتتبع آثار الشخصيات والأحداث بشغفٍ وشوق.
كذلك لجأت إيمان الوكيل لاستخدام تقنيات: الفلاش باك "الاسترجاع" وخاصة من وسط المشهد وأيضا الاسترجاع العكسي، وهو أجود استخدام لها، مع التداخل بالمونولوج الداخلي والخارجي والذي يأتي كحديث في النفس يدور بينما الشخصية تتحرك صامتة، والثاني حين تصرح الشخصية بأفكارها لنفسها بصوتٍ مسموع يند عنها، مع المزاوجة بين الحلم والكابوس في إطار تبادلي، وذلك خروجًا من سيادة الملل على المشهد وتأثير انعكاسه على القارئ فيفر من صفحات الرواية.
كما استطاعت الكاتبة أن تربط بين حدثين يفجران الصراع الدرامي داخل بطلة الأحداث والتي تركت آثارها على بعض الشخصيات الأخرى في العمل، وذلك بالربط بين انفجار الشعب بثورته ضد الحاكم وانتقال صوت الغضب الثوري إلى داخلها فأطلق الشرارة التي كانت تنتظرها جموع أحاسيسها الجياشة في صدرها ونفسها لتتمازج وتتوحد مع الثوار في صب الغضب على الجميع.
لقد أفلتت الكاتبة من الحكم أو التعليق المباشر على أحداث الراوية، تاركة للشخصيات التفاعل فيما بينها من جدل تم استدعائه من خلال الاسترجاع، أو من خلال المونولوج، وقد ظهر ذلك جليًا في أن تتولى "همس" مهمة التحليل النفسي لزوجها "كامل" ولو جمعنا ما قالته لاستطاع القارئ تكوين صورة نفسية مبدئية عنه تكشف مدى ضعفه أمام والده "عزيز" أو ابنه "فارس" أو حتى أفراد الأسرة، وخاصة أمام "همس" تلك التي لم تسلمه مقود شخصيتها ليوجهه حيث يريد هو ووالده وأسرته، بل واجهته بحقيقته حتى عرت ذاته تماما، ولم يستطع أن يدافع عنها ولو مرة:
ـ أنت ظل عزيز، ولا أصدق أنك تخاف منه حبًا له، أنت تظهر حبه خوفًا منه.
ـ أنت مسخ يا كامل .. مسخ .. مسخ..
ـ عزيز يسترجع فيكَ ما فعلته أمه به، وكلكم تسترجعون فيَّ ما فعله عزيز بكم.. كلكم مرضى، أنتم نِتاج نطفة مشوهة احترقت بنار غلٍ وكراهية فأنتجت زبانية .. لم لا تحولون طاقة آلامكم إلى حبٍ وحنان، لما تفعلون بي ما تشكون وتكرهون منه؟
ـ أنتم خاضعون خانعون لأحكام الحاكم بأمره السلطان عزيز.
ـ أنت عروسة "ماريونت" يمسك عزيز بخيوطها أو ببغاء تردد كلام أبيك وأمك، وكأنك تسعى لخسارتي يا كامل بك، أقصد يا حاج عزيز..
ـ تضحك عليَّ أم على نفسك؟ كان من الأمانة أن أعرف الحقيقة، ثم أقرر إن كنت أقبل بأحكام عزيز أم لا.
إن هذه الرواية بفصولها الاثنى عشر لتشهد أننا أمام روائية رفيعة المستوى أنضجت عملها على نار هادئة، ولم تفصل بين ثقافتها وتخصصها المهني في التعامل معه منذ عتبة النص "حكم عزيز" والتي تركت مفهومه ملغزًا يستحث ميول وغريزة القارئ في فهمه والتعرف عليه، كما يبدو من حيث التعامل مع المرض النفسي الذي تعاني منه بطلة الرواية والأدوية التي تستخدم في كل مرحلة منه، وهو ما ينعكس على جمل الحوار القصيرة وتكرارها، وتذكر الأحداث المؤثرة في شخصيتها ونفسيتها عن طريق التراكم والتكتم.
وهو ما يعني سيادة تيار الوعي في الرواية منذ بداية السرد متزامنًا ومصاحبًا للرواية الواقعية النفسية، من حيث التركيز على الداخل النفسي للشخصيات، وتناول الموضوعات النفسية بطريقة دقيقة، واهتمام كلا الروايتين بتحليل الشخصيات ودراسة نفسيتها ودوافعها من خلال تناولهما للموضوعات النفسية والاجتماعية بطريقة واقعية، باستخدام تقنيات السرد الداخلي مثل: التداعي والتدفق الذهني لتقديم الداخل النفسي للشخصيات، وتأثيرهما على القارئ حيث تجعلانه يتفاعل مع الشخصيات والأحداث بطريقة أكثر عمقاً.
كما نجحت الكاتبة في تنويع أنماط الشخصيات وتحريكها ببراعة في التجسيد، ومهارة في الطرح باستخدام لغة سلسة، بليغة، مكثفة، زاخرة بالمعاني الظاهرة والباطنة، كما لم يكن هناك فجوات في النص المتماسك بنيانه، والمحتفظ برشاقة عرضه دون ترهل أو إسهابٍ غير مبرر وممل أو إيجاز مخل، ودون تدخل من الوكيل في فرض وجهة نظرها، أو استصدار أحكام الإدانة أو إظهار التعاطف مع شخصيات روايتها، بل كان الحياد سمتها، ولم تؤثر على سير الأحداث استمساكًا برؤية أخلاقية، أو ميل عاطفي، أو توجه ديني، أو مجتمعي، وليس أدل على ذلك من نهاية الرواية التي جاءت، على الرغم من سينمائية العرض، مفتوحة، تاركةً للقارئ قلم الروائي ليخط به مشهد النهاية بحسب تصوره وثقافته وذوقه الدرامي في حرية تامة.
الأحد، 21 ديسمبر 2025
الأحد، 16 نوفمبر 2025
الاثنين، 27 أكتوبر 2025
حتى لا ننسى: "تاريخ وانتصارات السويس" ..
لعل من تابع أو يتابع سيرة ومسيرة الرجل يعلم أنه يحمل على كتفه أفكارًا يستخدمها من أجل تدعيم وتعزيز فكرة واحدة عاش ويعيش وعمل ويعمل من أجلها، ألا وهي مدينته بل معشوقته: "مدينة السويس"، إنه البرلماني والإعلامي والسياسي الدكتور كمال عبد الحميد الذي أخرج العديد من المؤلفات والدراسات والمقالات التي تدور في أغلبها عن "السويس" وفي أقلها عن "مصر"، وأحدث حبات ذلك العقد الفريد من مؤلفاته، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وعنوانه: "حتى لا ننسى" الصادر في 2024م، وحقوق طبعه محفوظة للمؤلف.
تضم صفحات الكتاب البالغة (156) صفحة من القطع المتوسط: إهداء ومقدمة وقسم يضم (12) مقالًا متنوعًا، وقسم ثانٍ يؤرخ ويوثق لتاريخ وحوادث المدينة بالصور والوثائق، هذا بالإضافة إلى أن كافة المقالات الواردة بالكتاب موثقة في نهايتها بالصور والوثائق أيضا. وجاءت عناوينها متتالية على النحو التالي:
"أسئلة محرجة"، "طمس البطولات.. هل مقصود؟!"، "مقالات الذاكرة ضد عدونا"، "100 يوم حرب السويس/غزة"، "السويسي الذي خدع إسرائيل"، "ميلاد الجيش الثالث الميداني"، "إشاعة تسليم السويس"، "قائد الجيش الثالث الميداني يزور الكابتن غزالي"، "عادل إمام .. أحمد الهوان"، "نشيد السويس الوطني الفنان محمد حمام"، "رد الاعتبار لمحافظ السويس في أكتوبر 1973م"، "المحدال العبري ـ اعترافات الإسرائيليين وبطولة المقاومة".
أما قسم الملاحق [الصور والوثائق] فيقع تحت العناوين التالية: صور تدمير المنازل في أحياء المدينة عام 1967، حرائق ومصانع البترول، تدمير دور العبادة "مساجد وكنائس"، تدمير السويس أثناء حرب الاستنزاف، صور الناس في السويس: التدمير والتهجير، محاولة احتلال السويس، دبابات العدو، أكاذيب العدو، قرارات رئيس الجمهورية، وسام نجمة السويس، ثم يختتم الدكتور كتابه بسيرته الذاتية.
يذكر الكاتب دافعه نحو تأليف هذا الكتاب بهذا العنوان ضمن مقاله الهام الذي يوجه فيه أسئلة محرجة ليست بالنسبة له ولكن لمن يوجهها لهم، وهي أسئلة تتميز بموضوعيتها، وتكثيفها، وأن من يعلمها بالضرورة مهتم بما تحويه من قضايا من أهل الاختصاص وهم رجال السياسة ونواب مجلس الشعب، وخاصة النائب كمال عبد الحميد الذي جاءت أسئلته نابعة من دراسات وكتب، ومقالات، وطلبات إحاطة واستجوابات، سيتم ذكرها عند الحاجة إليها.
أما الدافع فجاء في سؤاله: (لماذا تم ترميم عمارة المثلث التي دمرها العدو على ناصيتي طريق العوايد ـ تقاطع شارع ناصر وناصية المثلث ـ والتي وُضِعَ أمامها لافتة كبيرة تحمل عبارة: "حتى لا ننسى" إحياءً للانتماء والذاكرة الوطنية؛ وقد أُزيلَت اللافتة ليصبح الواقع "ننسى" وتأثيره الخطير على وعي الأجيال القادمة؟).
يتصل بهذا السؤال أسئلة تتصل بمحو الذاكرة، وترسيخ نسيان تاريخ وذكريات المدينة أمام الأجيال القادمة التي حتمًا ستنسى بفعل تباعد السنوات: (لماذا تم تجاهل المخطط العمراني لإعمار السويس الذي قام به بيت الخبرة الإنجليزي بقيمة 5 مليون جنيه إسترليني والمفترض فيه أن تترك مباني وعمارات سكنية وبعض أجزاء المصانع التي تم تدميرها إحياءً للذاكرة الوطنية وفهم الأجيال القادمة لخسائر الحرب وفظاعة الإجرام الصهيوني؟).
وأيضًا: (لماذا تم طمس جدارية أشعار المقاومة الشعبية للكابتن غزالي وفرقة أولاد الأرض من على سور ورشة قطارات السكة الحديد بطول 1200 متر والتي صممها دكتور علي السويسي ونفذها الخطاط محمود خطاب بالألوان، والتي كانت تحي الذاكرة الوطنية؟).
هذا فيما يتصل بالحجر أما فيما يتصل بالبشر والرموز، فتأتي الأسئلة التي تدور حول أسباب تجاهل قرار الرئيس السادات باعتبار 24 أكتوبر عيد مدينة السويس والمقاومة الشعبية، بل تم إلغاؤه من قائمة الأعياد المصرية الرسمية، وكذلك أسباب تعطيل قرار الرئيس السادات بإنشاء ومنح وسام نجمة السويس لأبناء السويس الذين قدموا تضحيات من القيادات المدنية والعاملين الذين قدموا للوطن الغالي والنفيس، وسبب تحويل حديقة الخالدين الرمزية لشهداء السويس أمام مبنى الديوان العام للمحافظة لموقف للسيارات الخاصة وإزالة أشجار الحديقة.
وأخيرًا ما الأسباب التي تقف وراء تجاهل المسئولين لقرار إنشاء متحف السويس للتاريخ الوطني للمحافظة. ولهذا أتبع الكاتب الأسئلة بعنوان يحمل أيضًا سؤالا موجها ومحرجًا: "طمس البطولات.. هل هو مقصود؟!"، وقد اكتفى بالصور التي تؤكد محو وإزالة وتعدي "الدولة" على الأماكن التي ذكرها في مقاله السابق.
جمع الكاتب بقية المقالات تحت عنوان كبير: "مقالات الذاكرة ضد عدونا"، استمدادًا من مفهوم ومضمون عنوان الكتاب: "حتى لا ننسى"، فيقدم من خلال التأمل في الحرب الإسرائيلية على غزة مقاربة من الذاكرة الوطنية بين ما يحدث فيها من جرائم حرب وما حدث في السويس، والمقاربة بينهما تشمل التاريخ ومنهج دوافع جيش الاحتلال وأساليب وأدوات الحرب والطرق الإجرامية فى التدمير مع الحرب النفسية والحصار، وقد توصل إلى نتيجة مؤداها:
(وبعد إذا كانت المقاومة فى السويس قد حققت انتصارًا مُهمًا وهزمت إسرائيل ضد محاولة احتلال السويس والالتفاف على انتصار الجيش المصري فى 6 أكتوبر 1973 وفى النهاية أدى إلى انسحاب إسرائيل ومطالبتها الجثث وتركها دباباتها مدمرة فى شوارع السويس وأصبحت مزارًا لتصوير الذكريات، كما أن المقاومة الفلسطينية فى غزة قد هزمت الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أمام العالم دفاعًا عن قضية عادلة وسوف يتم قطف ثمارها بالإرادة والمقاومة).
يجد القارئ المهتم بكتابات الدكتور عبد الحميد كمال أن المقالات الواردة بالكتاب منشورة في العديد من الجرائد، وبعض كتبه، وبعض لقاءاته التلفازية، وهو ما يؤكد أن الرجل مهموم بوطنه وقضاياه، وتكراره لها والإصرار عليها تشبه المقاومة منه لوضعها موضع الحل، ولا يساهم هو الآخر في إهمالها توطئة لنسيانها، ولعل من الأمور اللافتة تناول الكاتب لعدد من القضايا التي تتصل اتصالا مباشرًا بالفن، ولا يجد في نفسه غضاضة من ذلك الفعل، وقد تناوله في مقدمة كتابه "عادل إمام .. صاحب السعادة"، وقدم عرضًا رائعًا وعميقًا يزاوج فيه بين دور الفنان ودور البرلماني، بل أظهر مدى وعيه بدوره النيابي ومتطلباته، فيقول: (فإذا كان النائب يقوم بدوره الرقابي والتشريعي كواجب دستوري باعتباره ممثلًا للشعب والدفاع عن همومه وقضاياه وطموحاته من أجل حياة أفضل؛ فإن الممثل يقوم بنفس الأدوار تقريبًا من خلال ما يطرحه من أفكار وآراء في شكل فني حين يتناول موضوعًا يهم المجتمع ويمس الناس وحياتهم، فلكل من النائب والفنان أدواته الخاصة).
غير أن السبب الجوهري في تناول الكاتب لأعمال الفنان محمد حمام والفنان عادل إمام وغيرهما يكمن في اتصال بعض أعمالهم بمدينة السويس، أو لتقاربه معهم الإيديولوجي والحزبي أو تناوله كمؤرخ حين تناول سيرة الفنان عادل إمام في كتاب عنه بعنوان: "عادل إمام .. صاحب السعادة" استعرض من خلاله بعض سيرة البطل أحمد الهوان، وكتابه الأروع والأهم: "الأبنودي .. السويس: تجربة وطن"، وتناول من خلاله سيرة الفنان محمد حمام.
ومع هذا الانجذاب نحو التأريخ الفني إلا أن النائب والباحث عبد الحميد كمال ساهم في إمداد المكتبة البرلمانية والسياسية المصرية بالعديد من الكتب والدراسات الهامة وبعضها غير مسبوق، ومنها: "المحافظون في مصر واللا مركزية (1960 ـ 2020) ـ السويس أنموذجًا"، و"المحافظون في السويس والتنمية المحلية"، "الفساد في مصر: دراسة حالة محافظة السويس"، "المسكوت عنه في المحليات"، "مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد"، "قطار السويس يدهس قلب المدينة"، "مطار السويس الدولي"، "أطفال السويس الحاضر والمستقبل"، "البطالة بين شباب السويس: المشكلة والحل"، "هموم المعلمين بالسويس"، "مشاكل الأوضاع الثقافية بالسويس"، "تلوث الشواطئ في السويس".
على الرغم من وجود الجيش الثالث الميداني في السويس إلا أن الغالبية من أبناء المحافظة والمصريين لا يعلمون قرار انشاء الجيش الثالث الميداني أو ميلاده كما جاء في الكتاب، وهي خطوة هامة من الكاتب في بناء الذاكرة، وما يقوم به هذا الجيش من مشروعات تنموية وخدمية وطبية وترفيهية في السويس خلق علاقة بين شعب السويس والجيش الثالث الميدانى تعتبر النموذج في العلاقات المتينة أثناء فترات الحرب والسلام والتوجه للبناء والتنمية حتى أصبحت نموذجًا راقيًا لكافة الجيوش الميدانية وعلاقتها بالمحافظات، وكذلك المناطق المركزية والجيش المصرى العظيم بكامل أرض الوطن.
كما يشيد الكاتب بتكريم الجيش للمدنيين من المقاومين ممثلاً في زيارة قائد الجيش الثالث الميداني للكابتن غزالي أحد أبطال المقاومة الشعبية لمنزله بالسويس، بعد مروره بوعكة صحية، لذا فهو يطالب من الدولة والمدنيين بالسويس أن يردوا الاعتبار لمحافظ السويس الأسبق اللواء محمد بدوي الخولي الذي أشاع البعض عنه أنه حاول تسليم المدينة المحاصرة بالقوات الإسرائيلية فى 24 أكتوبر 1973م.
ولقد ألح الدكتور عبد الحميد كمال على هذا المطلب الذي تم نشره عبر فترات زمنية متعددة ومتباعدة في العديد من الصحف، وكتاب سواسية الجماعي: "انتصارات السويس: صفحات مجهولة"، والذي يمكنننا القول أنه وكتاب "حتى لا ننسى" يشكلان معًا كتابًا واحدًا مهمًا لإحياء وتخليد تاريخ وانتصارات السويس لدى الأجيال المعاصرة والقادمة، كما يمكنني القول أن ما نشره الكاتب حول رد الاعتبار وتكريم اللواء الخولي هو في ذاته رد اعتبار للرجل، وتبييضًا لصفحته، وترسيخًا لدوره الحقيقي في مسيرة السويس التاريخية.
لقد جاء كتاب "حتى لا ننسى" صرخة من نائب وبرلماني سابق، وابن من أبناء السويس المهمومين بتاريخها في الماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا لم تنقطع مسيرته عن العمل السياسي والحزبي حتى تاريخه؛ فقد تم اختياره ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية لحزب الجبهة الوطنية، وهو ما يعني أننا أمام رجل وكاتب متنوع في كتاباته واهتماماته وثقافته ودراسته وأسلوبه في العرض والسرد، وهو ما يوجب قراءة هذا الكتاب الأحدث في مسيرته الفكرية الزاخرة والهامة في تاريخ العمل المحلي والبرلماني والحزبي والسياسي على المستويين السويسي والمصري.
-
هناك مسافة فاصلة تجاه التراث العربي الإسلامي بعامة والتراث العلمي العربي الإسلامي بخاصة وبين الاستشراق بكافة مدارسه؛ فكان نصيب هذا التراث ...
-
هناك أشخاصٌ لا يمرّون في حياتك مرورًا عابرًا، بل يتركون أثرًا يشبه بصمة الضوء على الروح، ويفتحون لك أبوابًا لم تكن تعلم أنها تنتظرك. إنه...
-
صار المكان من العناصر الفعالة في تشكيل الرواية، وله أهميته في بنائها، وإن كان لا يشبه المكان الواقعي تمامًا؛ إذ أن المكان الواقعي يمثل حيز...

