دكتور السيد إبراهيم أحمد
الثلاثاء، 27 مايو 2025
الجمعة، 23 مايو 2025
إدارة التنوع الثقافي في المنظمات: الآثار والتحديات..
مييز المقيت بين الأفراد.
لقد برزت ظاهرة التنوع الثقافي في القوى العاملة وعدم التجانس أو التماثل بشكل واسع النطاق من خلال التباين في الجنس، واللغة، والسن، والثقافات وغيرها، حيث طغى على السطح مصطلح "التنوع الثقافي" خاصة وأنه جاء بسبب ظهور العولمة؛ إذ نادرا ما يكون هناك أي مجتمع أو شركة أو مؤسسة أو أي تجمع بشري إلا ويحوي في تركيبته عناصر مختلفة من الأجناس والأقليات البشرية.
إن إدارة التنوع الثقافي هي بمثابة إجابة تنظيمية عن سؤال يتسم بكيفية إدارة هذه الأخلاط من البشر المتباينة داخل المنظمات لتحقيق هدف "التكيف" مع سوق العمل، وتسيير الموارد البشرية بهدف خلق محيط عمل سليم وصحي، كما يمثل تسيير التنوع عملية انخراط في مقاربة تحسينية مستمرة، من أجل خلق بيئة عمل عادلة في فرصها، ومحفزة للتفوق والتنافس الشريف، ومنتجة كذلك، مع إيجاد الحلول لمختلف المشاكل التي تنبثق عن الاختلاف، واستثمارها في المجتمع.
مما يعني أن التنوع الثقافي صار ضرورة من ضرورات التعايش بين الناس، غير أنه لابد من تفعيل إستراتجية التدريب على التنوع الثقافي واحترام التعدد داخل المنظمات والمجتمعات والشركات، ذلك أن التنوع الثقافي سر من أسرار التقدم لكافة التجمعات البشرية ومن عوامل نهضتها، وأن إقصاء الآخر وتهميشه لمجرد المخالفة في التنوع الثقافي جريمة في حق الإنسانية بل ضد حقوق الإنسان ذاته، وعلى الجميع أن يتدرب على التفاهم الثقافي المشترك، من أجل أن ندير التنوع.
وهذا الأمر يجرنا إلى مقاربة مفاهيمية حول مصطلح "التنوع الثقافي" باعتباره إرث يتشارك فيه الناس، بل أصبح ظاهرة عالمية لا يكاد يخلُ منه مجتمع من المجتمعات، غير أنه يمثل أصل الإنسان في اختلافه الإثني أو العرقي أو الديني أو الجنسي، وهو ما يوجب احترامه، لأنه من خلق الله تعالى، وهو تنوع كوني أيضًا، في كل الكائنات، أي أنه في النهاية سمة من سمات الإنسانية المنتمية إلى الكون، وقد قبلت المفردات الكونية هذا التنوع، وهو ما ينبغي على الانسان قبوله واحترامه لأنه لا يمكن تغييره.
وفي غير التنوع الثقافي وداخل الثقافة الواحدة هناك تنوع في الفروق الفردية، ومنها بالطبع فروق الذكاء، والقوة والضعف، واختلاف اللون، واختلاف الأقدار والمشيئات الإلهية من حيث الجهل والعلم، والغنى والفقر، والذكر والأنثى، وغيرها من الفروق كاختلاف البصمة، وكل هذا يقره مبدأ الاختلاف والتنوع الإنساني في ذاته، وكأنه مدخلًا كبيرًا لكي يقبل الناس بالتنوع الثقافي الذي هو تنوع حضاري، ولذا فالحضارة تحميه وتعمل على بقائه.
ويندرج تحت مصطلح التنوع الثقافي كل الألفاظ أو المصطلحات التي تشير إلى كافة التعددات على المستوى المجتمعي والحياتي والإنساني، ومن هذه المصطلحات: التعدد، والتنوع العرقي الناتج عن اختلاف البيئات، والتنوع اللغوي والتنوع اللساني والتنوع اللهجي، هناك التنوع الديني، وتعتبر ظاهرة التنوع الثقافي من معالم القرن الواحد والعشرين كنتيجة لعوامل أبرزها العولمة.
وبالتالي يجب تحديد مفهوم إدارة التنوع الثقافي التي تكمن في تمكين كافة القوى العاملة المتعددة في بيئة عملها بطريقة تتسم بالعدالة، وتتجافى عن التميز بين قوى العمل المتنوعة لكونها تتضمن العديد من المواهب والمصالح المختلفة بالإضافة إلى أنها تحقق الأهداف التنظيمية التي تضمن استمرار المنظمة من خلال تجنيد كل الموارد البشرية اللازمة لذلك، وبناء الوعي الثقافي، وإرساء قواعد المعرفة التنظيمية التي تكمن في تشكيل مجموعة من الموظفين متنوعي الثقافات من أصحاب الكفاءات العالية لتحقيق تلك المعرفة.
ومن هنا تسعى الإدارة داخل المنظمات في الإجابة عن سؤال هام عن مدى كيفية التعامل مع التنوع الثقافي ـ الذي تتزايد أهميته ـ التي تقتنع بضرورته في توفير الفرص المتكافئة للجميع، ذلك أنه يساهم في تحقيق سمعة جيدة للمنظمة في محيطها، لكن في المقابل يؤثر هذا التنوع على الأهداف التنظيمية للمنظمة، مما يفرض وجوب إعادة النظر في العمليات التنظيمية التي تتمحور حول: الفعالية التنظيمية، والرضا الوظيفي، والشعور بالاندماج، الأمر الذي يخلق تحديًا في كيفية خلق هوية مشتركة تشمل العاملين جميعهم من خلال إحساسهم بالانتماء للمنظمة، وإظهار ممارسات تطبيقية ومهنية أفضل تدعم الحفاظ على تماسك القوة العاملة المتنوعة.
لقد نشأ مصطلح إدارة التنوع الثقافي من داخل حركات الحقوق المدنية الأميركية ثم انتشر بالتدريج حتى عمَّ قارة أوروبا، وكان أول تصور لتنفيذ برامج المساواة في الحقوق الإنسانية، ثم ما لبث أن تطور ليصبح أداة إدارية تم تطبيقها بالفعل حتى يمكن الاستفادة من إمكانات الموارد البشرية، ومع الوقت ذاع وانتشر حتى تصدر صفحات الكتابات الأكاديمية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين، خاصة بعد التقرير المقدم من طرف “جونسون باكتار” في عام 1987م بعنوان: "العمل والقوى العاملة في القرن الواحد والعشرين″، وقد نشر التقرير "معهد هادسون / Hudson Institute" وهو مركز أبحاث أمريكي محافظ وغير ربحي، الذي درس التغيرات السكانية داخل القوى العاملة واستهدفت الدراسة التغيرات التي حدثت داخل القوى العاملة من خلال التعرف على الهيكل العمري، ودخول النساء أو ما يسمى بالنوع الاجتماعي أو الجندر، ودخول العرقيات الجديدة، مما ترك أثره الإيجابي على قطاع إدارة الأعمال الدولية.
التنوع الثقافي في المنظمات: تحدياته وآثاره:
أولا: تحديات التنوع الثقافي في المنظمات:
غالبا ما يواجه التنوع الثقافي العديد من التحديات التي تكون قوية وحادة، وأسوأ ما يظهر التنوع الثقافي في نفوس الآخرين، هو رفضهم للتنوع وليت الأمر يقف عند الرفض النفسي، بل يتعداه للإقصاء والتهميش، ومنها تصفية كل ما هو تنوع أو تعدد، إلى حد التطهير من المجتمعات، والاكتفاء بثقافة واحدة بعينها، وهو ما يعني انتفاء العدالة الاجتماعية التي تعني اقتسام الحياة في المجتمع، واقتسام الأرزاق، والعيش في أمان وكرامة وحرية ودون اضطهاد، وما يحدث في المجتمع هو بعينه ما يحدث في المنظمات ومنها الصعوبات الجمة التي يواجهها بعض المسؤولين والمديرين ورؤساء العمل، وذلك عندما يكون تحت إدارتهم أفراد آتون من خلفيات وبيئات ثقافية متباينة، ويحاول المسؤول وضع مقاييس تناسبهم جميعًا.
تشكل اللغة المتعددة حاجزًا يحول دون التواصل بين المجموعات البشرية داخل المنظمات والذي غالبًا ما ينجذب كل أصحاب لغة واحدة لبعضهم دون أصحاب اللغات الأخرى على الأغلب، هذا إلى جانب أن إدارة المنظمات كثيرُا ما توجه اهتمام لا يتسم بالعدالة تجاه مجموعة الأغلبية على حساب الأقليات وهو ما يكون في بعض المجتمعات ومثله تماما داخل المؤسسة الواحدة، وقد تثور النزاعات نتيجة الاختلاف في الآراء أو في وجهات النظر تجاه أمر من أمور العمل أو الحياة، كما يمثل الاختلاف في الدين عاملا من أقوى التحديات داخل المجتمعات أو المؤسسات، وقد تؤثر المذاهب الدينية على قيم العمل، وهو الأمر الذي يوجب إدارة التنوع الثقافي بحكمة بين المختلفين.
ثانيا: عناصر التنوع الثقافي في المنظمات:
أجمل ما في التنوع الثقافي أنه يرسي مبادئ التسامح وقبول الآخر، وتعدد الثقافات، والانفتاح عليها، ويتيح للإنسان أن يتعرف علي قيم وعادات وطبائع جديدة مخالفة لما عليه هو، مما يتيح تبادل ثقافي، وخبراتي مهم، وإرساء مبدأ الاحترام للتنوع، والتغاير، والتمايز، والسعي للتعرف على الجوانب الإيجابية فيها والاستفادة منها، بما يعني قبولها، غير أنه يجب على المدير في إطار العمل الدولي أو المنظمات أن يراعي ما يمكن أن يتضمنه عناصر التنوع الثقافي التالية، وهي:
ـ القيم والاتجاهات في المنظمات الدولية:
يجب على المدير أن يراعي التباين الموجود في القيم التي تسود بعض اﻟﻤﺠتمعات والتي تنعكس بطبيعة الحال على القيم التي يؤمن بها الأفراد العاملين في المنظمة الدولية من هذه الدول، وعليه أن يتولى تشخيص القيم التي تسود تلك الدولة التي تنوي إدارة المنظمة ممارسة النشاط فيها، حتى يتمكن من فتح قنوات الاتصال وتبادل المعلومات مع الجميع.
ـ اختلاف منظور العاملين لقيم العمل:
غالبا ما تختلف نظرة العاملين في المنظمات إلى العمل من دولة لأخرى، كذلك تختلف نظرتهم إلى العطلات ، وبالتالي تؤثر نظرة العاملين للعمل على الأسلوب الإداري الساري في المنظمة.
ـ آراء التغيير والتجديد:
دراسة أحوال الناس في مجتمعاتهم تجاه رفض أو قبول التطوير والتجديد، في حين أن بعض الأفراد في المجتمع يقبلون التغيير وآخرون يعارضونه، وما يسري على الناس يسري على العاملين.
مراحل إدارة التنوع الثقافي وآثاره:
أولا: مراحل إدارة التنوع الثقافي:
جاءت مراحل إدارة التنوع الثقافي من خلال اهتمام منظمات الأعمال العالمية بقضايا إدارة التنوع بحسب قوة العمل وفق مستويات متعددة، تبدأ غالبا في بعض الفترات بإبداء الرفض في قبول التنوع الكبير بل غالبا ما يكون هناك توجه عام كلي نحو سيادة الثقافة الواحدة أو الموحدة داخل المنظمات، بحيث لا تقبل الاختلاف أو انبثاق ثقافات فرعية، لكن هذا الموقف ما لبث أن تغير في عالم الأعمال اليوم بعد أن أصبح التنوع الثقافي حالة إيجابية تستطيع الإدارة من خلالها تعزيز القدرات التنافسية، مما خلق إجماع عالمي هدفه إيجاد الأساليب والطرق المختلفة الهادفة للترحيب بخلق تكامل ثقافات متعددة وليس بثقافة موحدة للمنظمة من خلال مراحل تطور الوعي بالتنوع الثقافي التي تبدأ بالتكامل، باعتباره سلوكًا متعدد الثقافات في ذاته، مما يعين الشركة على أن تجعل من التنوع والاختلافات نموذجا تتكامل فيه الرؤى سلوكيًا أو إدراكيا أو بالتعامل مع الواقع المعيش، ثم تأتي مرحلة القبول للآخر تتبعها مرحلة تقليل الاختلافات بين العاملين.
ـ ضرورة بناء استراتيجية لتطوير التنوع الثقافي بالمنظمة:
لضمان تحقيق النجاح لمراحل إدارة التعاون الثقافي، كان من الضروري بناء عملية لتطوير الوعي بالتنوع والتكيف معه، ومن خلالهما يمكن الانطلاق من الاعتماد على عنصرين هامين، وهما: المنظمة والأفراد، ويبقى من الممكن قبول التنوع والتعدد الثقافي من خلال أربعة سلوكيات تأتي متراتبة، وهي: الفهم، والصبر، والتسامح، والرغبة في تبادل الحوار مع الآخر في إطار التنوع.
ثانيا: آثار التنوع الثقافي:
من أهم آثار التنوع الثقافي الذي يعمل داخل المنظمات أثر السلبية واللامبالاة وهو غالبا ما يكون ناتجا عن الحواجز والحدود الكامنة بين الأفراد، وتصنع ـ بدورها ـ عددا من الآثار، ومنها:
ـ التعصب العِرقي:
وهو ما يكون من ميل طبيعي للشخص داخل المنظمة للمجموعة التي ينتمي إليها عِرقيا أو إثنيا، أو ينتسب لكل حزب أو مجموعة من فِرق العمل التي تعمد إلى وصف الفِرق الأخرى بنعوت تضايقها، كما تعمد إلى التقليل من إنجازاتها، باعتبار أنهم الأفضل إنجازًا والأمهر والأذكى، كما توجد اختلافات بارزة في الأعراف والبديهيات والمُسلمَات الاجتماعية، ومنها ما يبدو في تقدير وأهمية الوقت، وما يرتبط به من أهمية سرعة الإنجاز وحسن تقدير الوقت منسوبا للعمل والأداء، وطريقة الحديث، ونبرة الصوت المصاحبة له، والتعصب العرقي يفرض انحيازات سأتناولها في التفرقة العنصرية التي يعاني منها أفراد كثيرة من العاملين.
ـ التفرقة العنصرية:
وهي فرع من فروع التعصب العرقي ويقوم في الأساس على ركائز الجنس والدين واللون واللغة والعقيدة الدينية والمذهب الديني أو السياسي أو الحزبي وكل هذه الاختلافات تترك آثارها على إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة من خلال التحيز في التعيين بالعمل في وظائف معينة، أو اختيار الترقيات والوظائف والمناصب الأعلى لأناس بأعينهم، ومنح المزايا التفضيلية العينية من مسكن ونقل وتأمين صحي، بل وهناك تمييزات تحدث في تنوع الأجور بشكل ملحوظ ومبالغ فيه.
ـ التجني أو التحامل أو التصرف العدائي: يتفرع عن هذا الأثر العديد من الأشكال التي تتمثل في:
أ ـ التحامل المرتكز على الحالة الجسمية: وهو ما يمارسه البعض ضد المعوقين أو المشوهين، وكانت النظرة إليهم غير الجيدة في عدم إلحاقهم بالعمل، غير أن القوانين الصادرة لحماية حقوقهم، جعلت من الشركات تتقبل إلحاقهم بالعمل لتقليل التعصب ضدهم.
ب ـ التحامل المرتكز على العرق والجنس: وهو ما يمارسه البعض من أصحاب الجنس الواحد عندما يقتنعون بأنهم هم مركز الكون والعالم والمنظمة، ويعتبرون بقية الأجناس الأخرى متدنية في الترتيب البشري، وغالبا ما يقوم التفضيل داخل المنظمة على كون الجنس الأبيض مثلا هو الأقدر على تسيير العمل والإنجاز، بينما بقية الأجناس الأخرى مُعوِقة في العمل ولا تنجز مثلهم، وهذا السلوك المتحامل من بعض القوى الواحدة وغالبا الأغلبية والذي يمارسونه ضد بعض الأقليات مما يدفع تلك الأقليات إلى رفع القضايا للتشكي ممن يمارسون معهم مثل هذا السلوك العنصري، الأمر الذي يترك أثرا سيئا وسلبيا على المنظمات والشركات التي يمارس فيها بعض الأفراد هذا السلوك ويفوز الطرف المعتدى عليه بالقضية بينما سيسجن الخاسر زمنا ما، وهو ما يعني حرمان المنظمات من عمالتها المتفوقة والكفاءة، وينعكس أيضا بالسلب على نفس الفئات داخل المجتمع مما يقوض بنيانه.
ج ـ التحامل ضد العنصر النسائي في المنظمات: وهو تحامل صار مصدرًا للشكوى الدائمة خاصةً من العنصر النسائي داخل العديد من منظمات الأعمال على مستوى العالم، ويتمثل في وقوف بعضهم ـ بضراوة ـ في تحجيم مكانة المرأة في العمل، وتقزيم دورها، وحجب ترقياتها أو تثبيتها عند درجة معينة لا تتجاوزها، وغالبا ما تتم مثل هذه الفعاليات بسرية تامة ودون مكاشفة فيما يُعرف بسياسة: "الأسقف الزجاجية" التي لا يستطيع أحد أن يراها بينما تخفي كل أنواع التحامل الذي يُمارس ضد المرأة، وغالبا ما لا يوجد أسباب منطقية تعوق الترقي للمرأة بسبب التمييز والتفرقة والتحيز، لتحول بينها وبين الوصول لمستويات أعلى في الإدارة وهو أمر يترك أثره على المرآة بشكل عام داخل المجتمع حتى التي لا تعمل، لشعورها بالقهر الممارس بانتظام ضد بنات جنسها مما يخلق احتقانا وانشقاقا بين الرجل والمرأة، خاصة عندما تثبت المرأة جدارتها واستحقاقها.
للتنوع الثقافي أهمية قصوى داخل المجتمعات والمنظمات، ولئن جعل الله التعدد والتنوع والاختلاف سنة كونية لعلمه ـ سبحانه ـ بما يريده لتسيير الكون، وحاجة الناس إليه وإن غابت عنهم حكمته، غير أنه في النهاية لصالحهم، وأن المشكلة لا تكمن في التنوع الثقافي وإنما في كيفية إدارته وهو الأمر الذي يجب أن يفهمه من يديرونه، إلى جانب أطقم العمل معهم داخل المنظمات.
ومما يوجب تنبيه أذهان الكافة إليه أن نجاح إدارة التنوع الثقافي في المنظمات المتعددة الثقافات يستوجب إعطاء فرصة للأقليات والنساء، وتوسيع قنوات الاتصال بين العاملين المختلفين ثقافيا، ومحاربة كل أشكال التمييز، واستثمار ظاهرة التنوع الثقافي باعتبارها خبرات إنسانية متراكمة، تترك تأثيرها المختلف في تجانس وتناغم وتقارب الثقافات بديلا عن التباعد بينها، وينعكس نجاح إدارة التنوع الثقافي في المنظمات على كافة الفئات المختلفة ثقافيا في المجتمع مما يزيد تماسكه، ويذوب الفوارق الطبقية، ويقلل من النظرة العنصرية، وبالتالي تنتصر القيم الإنسانية المطلقة في نظرتها للبشر على أساس العمل والعطاء والنماء والفرص المتكافئة في ظل تنافس شريف مشروع مفيد.
مراجع للاستزادة:
1ـ غرياني، عبدالحميد (2016)، إدارة التنوع الثقافي في الشركات متعددة الجنسيات، مج5, ع، 2، مجلة الحوار الثقافي، جامعة عبدالحميد بن باديس - كلية العلوم الإجتماعية - مخبر حوار الحضارات والتنوع الثقافي وفلسفة السلم، الجزائر.
2ـ براهمى، زرزور (2015)، إدارة التنوع الثقافي داخل المنظمات دراسة حالة: مىظمة الصحة العالمية ، أعمال المؤتمر الدولي الثامن: التنوع الثقافي، مركز جيل البحث العلمي، طرابلس، لبنان.
3ـ حليمي، إلهام (2020)، إدارة التنوع الثقافي كإستراتيجية لبناء ميزة تنافسية بالمؤسسة: قراءة في تجربة مؤسسة "International Business Machines IBM"، م مج9, ع2، مجلة أداء المؤسسات الجزائرية، الجزائر.
4ـ الخفاجي، وليد عبد جبر (2016)، إدارة التنوع الثقافي واستدامة التنمية في المجتمعات الانتقالية: العراق أنموذجا: دراسة اجتماعية - تحليلية، ع119، مجلة الآداب، جامعة بغداد - كلية الآداب، العراق.
5ـ حموده، عبدالناصر محمد علي (2006)، إدارة التنوع الثقافي في الموارد البشرية، س 28, ع 107، معهد الإدارة العامة ، سلطنة عمان.
6ـ نجلاء، نعمان (2018)، إدارة التنوع الثقافي بين النظرية والتطبيق، ع9، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، جامعة بغداد - كلية الآداب، الجزائر.
الاثنين، 19 مايو 2025
"السرقات الأدبية: بين الأمانة العلمية ـ الفكرية والإبداع المزعوم"..
أدارت
الحوار معي الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن: مديرة مكتب سوريا
للاتحاد الدولي للصحافة والإعلام الالكتروني، وسفيرة النوايا الحسنة وحقوق الانسان
لمنظمة الضمير العالمي ولحقوق الإنسان والعضوة بعدة اتحادات عربية.
ـ أهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء المميز، الذي
نسعى من خلاله إلى مناقشة أحد المواضيع الحيوية في عالم الأدب والنقد، وهو السرقات
الأدبية، وتأثيراتها على العمل الأدبي، والمجتمع، والثقافة.
تُعد
السرقات الأدبية قضية شائكة ومُلِحة في عصرنا الحالي، حيث أصبح التميز والإبداع في
عالم الأدب يواجهان تحديات متعددة، تتراوح بين الأمانة العلمية والفكرية، والحقوق
الأدبية، وتأثيرات العصر الرقمي على نقل الأفكار والتأثيرات المتبادلة. كيف نتعامل
مع هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن أن يؤثر الانتحال على مصداقية الكتَّاب والأدباء؟ وهل
توجد معايير ثابتة يمكن أن تميز بين التأثيرات المشروعة والسرقة الأدبية؟
هذه الأسئلة
وأكثر سنناقشها اليوم مع ضيفنا الكريم، الذي يسعدنا أن نرحب به، الدكتور السيد
إبراهيم، أحد الباحثين البارزين في مجال الأدب والنقد، والذي له العديد من
المساهمات الأكاديمية القيمة. الدكتور إبراهيم هو شريك لعدة حوارات أدبية هامة،
ويُعد من القامات الفكرية التي تسهم بعمق في إثراء النقاشات الأدبية الأكاديمية.
إنه لمن
دواعي سروري أن أرحب بضيفي الكريم، الذي سيقدم لنا رؤى وتحليلات غنية حول هذه
القضية المعقدة. ونحن على يقين أن حوارنا اليوم سيكون غنيًا بالأفكار والنقد
البناء.
أهلاً
وسهلاً بك، دكتور إبراهيم، في هذا الحوار الهام. نبدأ
الآن حوارنا، ونحن في انتظار آرائك القيمة وتوجيهاتك الفكرية:
ـ ما هو
الخط الفاصل بين الاقتباس المشروع والسرقة الأدبية في الأدب المعاصر؟
يسعدني أن نبدأ حوارا هاما وجادًا محاورتنا
الكبيرة روعة هانم الدندن التي دائما ما تبحث عن القضايا النوعية المؤثرة في الفكر
العربي المعاصر، ومنها قضية السرقات الأدبية تلك القضية القديمة الجديدة
والمتجددة، وأوقن أنني لا أعلم متى بدأت في أفق التاريخ البشري بشكل عام غير أنني
أعلم يقينًا أيضا أنها لن تنتهي إلا بنهاية كوكب الأرض.
والاقتباس سواء في البحث العلمي أو الأدبي أو
المسرح أو السينما مشروع إذا تم استخدامه بشروطه، ولو تم مخالفة شرطِ منه تحول إلى
النقيض، أي سيصبح سرقة في المطلق. ومفهوم الاقتباس العلمي والمشروع أن يأخذ الباحث
أو ينقل بعض المعلومات نقلا حرفيا نصيا من أحد المصادر البحثية والمعرفية، لخوفه
من أن يخل بمعناها أو مبناها فيما لو أعاد صياغتها بأسلوبه، على أن يدرجها في بحثه
أو كتابه، مع ضرورة أن يقوم بتوثيق المراجع
أو المصادر التي نقل أو أخذ منها، وهو ما يعني أنه بهذا الصنيع يحفظ حقوق الكاتب الأصلي،
ولو صنع غير هذا كان مخالفًا لأخلاقيات البحث والإبداع، والأمانة العلمية.
ـ إذًا يا
دكتور الاقتباس ليس في البحث العلمي أو الأدبي وحده ولكن في السينما والمسرح..
أليس هذا ما تقصده؟
نعم يا فندم، بل الاقتباس أيضا في الموسيقى، غير
أن لكل فن من هذه الفنون شروطه في الاقتباس ولو خالفها المبدع كان سارقا كما
أسلفنا، والذي يحدد هذه الشروط أهل كل فن منهم؛ فالاقتباس في المسرح تعني إعادة
صياغة المسرحية العالمية من حالة معينة كانت عليها إلى صياغة أخرى، وهو ما تجدينه
مكتوبًا "إعداد" لكن لو أخذ أحدهم الفكرة وأدخل عليها بعض التعديلات صار
هذا الصنيع "اقتباسًا"، وذلك لأن النص في أصله العالمي يناسب بيئته
وثقافتها، وقضاياها، وعند نقله لمجتمع آخر لابد أن يناسب ثقافتها وقضاياها مع ضرورة الإشارة إلى أن العمل مقتبس من مسرحية كذا.
والاقتباس
السينمائي يكمن في تحويل رواية إلى فيلم، على ما فيه من اختلاف بينهما، فيرى البعض
أن الاقتباس يعد تناولا فنا وإبداعًا جديدًا للرواية التي ستتعرض بعض أحداثها
وشخوصها لعمليتيّ الحذف والتغيير، ولا يعد هذا الفعل خيانة من المُقتبِس، لكنها ضرورة
تفرضها متطلبات الفيلم، ولا تدخل في باب السرقات.
وللتفرقة بين الاقتباس
الموسيقي والسرقة وضعتْ جمعية الموسيقيين معيارها الذي تُقَّدِر به حالات السرقة التي تثبت
بعد نقل أحد الموسيقيين أربعة موازير كاملة، والمازورة تعني الجملة الموسيقية، غير
أن الاقتباس يكمن في التنويع على جملة موسيقية واحدة فى لحن من اقتبس، والاقتباس
في السينما والموسيقى يحتاج لتفصيل ليس هنا موضعه.
ـ هل تختلف
المعايير بين الأنواع الأدبية (الشعر، السرد، المقالات الأكاديمية) من حيث ما
يُعتبر سرقة أدبية؟
الاتفاق العام على أن السرقة الأدبية أو العلمية أو الفنية ينصب على
فعل الفاعل الذي ينسب لنفسه عملا ليس من إبداعه أو ابتكاره، وبالنسبة للبحث العلمي الأكاديمي هناك الكثير من
المؤلفات والمطبوعات التي تعلم الباحث ضوابط وقواعد الاقتباس وتجنب السرقة، وفي
الجامعة يلجأ الأساتذة للبرمجيات التي تكشف السرقات. وأنبه أن السرقة الأدبية
فضيحة قبيحة مرذولة قد تُنهي مستقبل مرتكبها، كما أن السرقات الأكاديمية في البحث
العلمي تغطي الوطن العربي على اختلاف دوله، وليس هذا ببعيد عن الدول الغربية، وبالنسبة
للشعر فقد وضع النقاد القدامى وبعض المعاصرين العديد من القواعد، ومنها التساهل مع
سرقة الشعر فيما يسمى بـ "حسن الآخذ"، وذلك في حالة لو أن القائل بالمعنى الجديد للبيت القديم أعمق
ممن أخذه منه. ومما يذكر أن النقاد العرب القدامى قد تعرضوا لهذه القضية التي
صنفوها إلى: الانتحال، والإنحال، والإغارة، والمواردة، والمرادفة، والاجتلاب
والاستلحاق، والاصطراف، والاهتدام وغيرها.
وقد طالت السرقة السرد القصصي والروائي كبار
أدباء الغرب والشرق على السواء الذين يحتلون مكانة سامقة في الإبداع، ومنهم من
دافع عن نفسه واعترف بجريرته في الشباب، ومنهم من لم يدافع واستمر في إنتاجه الأدبي
ضاربًا بكل الاتهامات عرض الحائط مع كونها صحيحة، ومنهم من طاله السجن والغرامة.
. هل يمكن اعتبار التأثيرات الأدبية والاقتباسات المتكررة جزءًا من
الإبداع الأدبي، أم أنها تساهم في خلق حالة من "الاستنساخ الأدبي"؟ وهل يتحمل
الكاتب مسؤولية الحفاظ على أصالة عمله؟
التأثيرات الأدبية لها مكانتها في كل فن من
فنون الإبداع بل والبحث العلمي كذلك، والفنان والأديب وغيرهما يتأثران بمن سبقهما،
ويقلدانه في أول أمرهما ثم مع النضوج الفني والعلمي يتخذ كل مبدع أسلوبه الذي
ينفرد به ويتميز فيه عن غيره، وإلا صار تابعًا ومقلدًا ولا وزن له في دنيا الفكر
غير الترديد والتقليد.
والاقتباس
من الضرورات التي يستند لها العالم والأديب سواء في البحث العلمي أو الأدبي؛
فالاقتباس ضرورة فكرية وعلمية يتم عن طريقه ـ أي الاقتباس ـ تحقيق التفاعل بين أفكار السابق واللاحق من
الأجيال، ومن خلال التفاعل يتم تقديم أفكار جديدة، ورؤى عميقة قد تبني على ما سبق
ولكنها تساهم في تطوير الأفكار، أو تصويبها، أو تفسيرها، ولهذا لا يمكن اعتبار
الاقتباس سرقة ما دام من اقتبس ذكر ذلك في متن كلامه أو في الهامش وفي صفحة
المراجع، مما لا يُعد الاقتباس استنساخا بل مرجعية يستند عليها الكاتب أو الباحث
ليؤيد قوله الجديد في طرحه، مما يجعل الاقتباس جزءًا أصيلًا من الإبداع الذي استند
عليه.
تنتهي مسئولية الكاتب عندما يقدم عمله إلى دور
النشر ليخرج للقراء، بعد أن تأخذ هذه الدور الموافقة من الجهات المعنية بالتوثيق
وحق الملكية الفكرية والإذن بالنشر، وقبل كل هذه الإجراءات هو الذي يقع في
مسئوليته من الصبر والدأب في تقديم إبداع غير منقول عن غيره نقلا تاما، أو من غير
الإشارة إلى النقل في هوامشه ومراجعه ومتن نصه، وأن يكون قد أتى بما يرضي عنه من
إبداع يراه غير مسبوق في كله أو معظمه، والأصالة هنا محل خلاف بين السابقين
واللاحقين من النقاد والبلغاء، بل بين الغربيين أنفسهم، ومنهم "لانسون"
الذي يقول: (إنَّ أمعن الكُتَّاب أصالةً إنما هو راسب من الأجيال السابقة. وبؤرة
للتيارات المعاصرة، وثلاثة أرباعه مُكوْن من غير ذاته، فلكي نجده ـ نجده هو في
نفسه ـ لابد أن نفصل عنه كمية كبيرة من العناصر الغريبة، يجب أن نعرف ذلك الماضي
الممتد فيه، وذلك الحاضر الذي تسرب إليه، فعندئذٍ نستطيع أن نستخلص أصالته
الحقيقية، وأن نقدرها ونحددها).
. كيف تؤثر السرقات الأدبية على علاقة الكاتب مع جمهوره؟
بعض
جمهور الكاتب يتأثر، وبعضهم يستمر في شراء إبداعاته وقراءتها، وهناك من الأسماء
الكبيرة في سماء الإبداع العربي من الشعراء والروائيين والكتاب، ممن قامت الدنيا
حولهم ولم تقعد عن تتبع ورصد سرقات في ثنايا أعمالهم، أو سرقة العمل ونشره دون
تغيير فيه لظن الكاتب أن قِدَم النص لن يجعل أحدهم يلتفت إلى أنه ليس له، ولشهرتهم
يستضافون في البرامج التلفازية بل لبعضهم برنامج كل عام، وتستضيفه الدول العربية
في منتدياتها ومعارضها، ولم يناقشه أحد في سرقاته.
. هل يجب أن نعيد تعريف مفهوم "الملكية الفكرية" في عصر
الإنترنت والمصادر المفتوحة؟
أولا يجب أن نبين ما هو مفهوم الملكية
الفكري، وهو يعني ملكية الإبداعات الفكرية مثل: الاختراعات والأعمال الأدبية
والفنية ومصدرها، من تصميمات ورموز وأسماء، وكذلك الصور والعلامات التجاريّة
الخاصة بالمشاريع والشركات المستخدمة في التجارة. وهو مفهوم يدخل عليه التطور
مع ظهور ما يهدد تلك الملكية، خاصة وأن القوانين التقليدية مثل اتفاقية برن
واتفاقية باريس، قد تبدو غير كافية لمواجهة تحديات العصر الرقمي، خاصة في وجود
العديد من التحديات القانونية في حماية الملكية الفكرية في العصر الرقمي، ومنها: القرصنة
الرقمية التي يمارسها البعض في نسخ المحتوى الرقمي مثل: الأفلام والموسيقى والبرمجيات
دون إذن قانوني، وخطورتها تكمن فيما تحمله من خسائر مالية كبيرة للمبدعين والشركات،
غير أن تأثيرها الأخطر يكمن في فتور الحوافز الإبداعية والابتكارية عند أصحاب
الإبداع الأصليين الجادين، وهو ما يؤثر بالسلب على كافة المجتمعات البشرية.
كما أن من التحديات القانونية أن التكنولوجيا
الحديثة يسرت نشر المحتوى المحمي بحقوق الملكية الفكرية على نطاق واسع وبسرعة خارقة،
مما يجعل مسألة تتبع الانتهاكات القانونية واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الحقوق
الملكية أمر صعب جدا، يساهم في هذا أيضا ظهور تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي
وتقنيات البلوك تشين لتسجيل الملكية بطرق أكثر موثوقية وأمان، واعتماد الذكاء
الاصطناعي لرصد الانتهاكات، غير أن الأمر يتطلب تعاونًا دوليًا أكبر لتوحيد قوانين
حماية الملكية الفكرية.
ـ مع انتشار الأبحاث
المتاحة على الإنترنت ومنصات النشر المفتوح. هل يظل التمييز بين الأصالة والسرقة
الأدبية بنفس الأهمية التي كان عليها سابقًا؟
مازال وسيظل ولن ينتهي؛ فأصالة البحث العلمي،
والإبداع، والبحث الأدبي من أهم الدلائل على وجود العقول المفكرة، والقلوب النابضة
بضرورة تطور المجتمع من خلال آلياته العلمية والإبداعية، ولا يمكن أن ينتصر الباطل
على الحق تحت أي دواعي أو دوافع، وهناك من
الضوابط الكثيرة التي تتحرز لها الجامعات والمعاهد العليا والأكاديميات للتعرف على
الأصيل من المزيف، خاصة وأن هناك بند الدراسات السابقة في خطة البحث للماجستير
والدكتوراه وضرورة الإتيان بالجديد خاصة في الدكتوراه، وتبادل تلك الرسائل مع
الجامعات مما يجعل أمر اكتشافها بعد ذلك ليس ببعيد، ويجعل من سحب الدرجة العلمية
إجراء تلجأ إليه الجامعة لتنقية وحماية هيئة تدريسها وبالتالي حماية الطالب ثم
المجتمع كذلك.
. هل يمكن اعتبار بعض السرقات الأدبية "ابتكارًا" أو
"تحويرًا" لأفكار سابقة بشكل لا يتسبب في استغلال غير أخلاقي؟
قد يكون كذلك فيما لو أشار الباحث أو المبدع إلى
أنه سيقوم بذلك؛ لظهور نظريات معرفية جديدة، أو اكتشافات أثرية، أو خروج بعض المخطوطات
إلى النور، أو ظهر بعض مذكرات أحد المعاصرين وتؤثر في بعض الحقائق التي يجب
تعديلها أو تصويبها، المهم الالتزام بالأمانة العلمية والحيدة والنزاهة.
. ما هو الدور الذي تلعبه التقنيات الحديثة مثل برامج كشف الانتحال في
توجيه مسار السرقات الأدبية؟
إن برامج فحص السرقات الأدبية كثيرة والأفضل
منها ما كان مدفوعا له المال، حيث أن الأخطاء تكون مصاحبة للبرامج المجانية،
وسأذكر أهمها دون اسمها بل عملها:
ـ برنامج يمكنه
فحص أي نص يتألف من ألف وخمسمائة كلمة، وهو من البرامج المجانية التي تقوم على
مقارنة النص المطلوب مع آلاف النصوص الموجودة عبر الانترنت للتأكد من نسب الاقتباس
أو السرقات الأدبية فيها، وهناك برنامج من أهم البرامج على مستوى العالم، وتستخدمه
الكثير من الجامعات ومدرسيها وطلابها لما تميز به من موثوقية ومصداقية نتائجه، حيث
يقوم بتلوين أماكن الاقتباس بعدة ألوان تشير لنسبة الاقتباس وهو ما يعني أن هناك
صراع بين الجامعة وبين الطلاب في كشف سرقاتهم العلمية لن ينتهي.
ـ هل تجعل
هذه البرامج العمل الأدبي أكثر أمانًا أم أنها تشكل تهديدًا للإبداع بسبب الضغوط
التي تفرضها على الكتاب؟
في الواقع العلمي والأكاديمي لا تشكل هذه
البرامج ضغوطا إلا على السارق ومن يقوم بمراجعة كتابه أو بحثه الأدبي أو العلمي،
لأن الغاية أن ينشأ طالب العلم على البحث بأمانة، وأن يكتسب ثقة في نفسه وقدراته، مما
يلزمه بإعمال العقل والتفكير والتأمل، ولا يلجأ إلى أهون أنواع النجاح بالحصول على
التقديرات المناسبة له بزعمه ولا يستحقها للجوئه إلى القص واللصق دون الفهم
والعلم.
ـ هل هو
التوازن بين التقليد والإبداع هو ما يشكل معيار العمل الأدبي الأصلي؟
غالبا ما
نبدأ أو بدأنا جميعا بالتقليد والمحاكاة لمن أعجبنا إبداعهم، فصرنا نقلدهم،
والتقليد ليس بالأخذ من الفن بل من الفنان، ثم مع العلم والفهم وتطور السلوك
المعرفي قد ننسلخ لنبحث لنا عن بصمة فكرية أو إبداعية تشبه ذواتنا، وليس هذا معناه
أننا لم ولن نتأثر، أو قد نقع في منطقة توارد الخواطر وغيرها. ومعيار العمل الأدبي
الأصلي يكمن في أصالة الفكرة والأسلوب الذي ينتهجهما المبدع، ويصبر على نفسه ولا
يتعجل الشهرة والثروة، والمبدع المقلد، مع ما بين الكلمتين من تنافر، ليس إلا نسخة
تضاف لصاحب الإبداع الأصلي، ولن يجد هذا المقلد من يقلده في وجود الأصل.
. هل يمكن اعتبار السرقات الأدبية حالة من "الفقر الإبداعي"
أم أنها مجرد نتيجة لظروف اقتصادية أو اجتماعية معينة؟
السرقات الأدبية عمل إجرامي بامتياز، وسطو
أفظع وأكبر من السطو المسلح، ولا يبرره
تدني الظرفية الاجتماعية أو الاقتصادية، بل يبرره فقط المنحى الأخلاقي للسارق،
والإبداع الحق المبتكر خرج من رحم الظروف الاقتصادية الطاحنة لكثير من المبدعين،
ولم يكن عائقًا لهم بل دافع، ووجدوا في الإبداع بغيتهم وسلوتهم وتفردهم وتميزهم عن
غيرهم من البشر قاطبة.
إن الذين يسرقون الفكر الإبداعي لغيرهم
يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم؛ لأنهم يسرقون ثمرات السنين من التحصيل والتعلم
والدرس وإعمال العقل، وحبس النفس عن الملهيات والمسليات، والانقطاع في محاريب
العلم والتفكر ليخرجوا بهذه الثمرات التي تميزهم إلى النور، فإذا بخسيس أو خسيسة
ينقض فيسرق كل هذا وينسبه لنفسه بجرة قلم دون أن ترتعد فرائصه خوفا من الله،
والفضيحة فيما لو تم اكتشاف أمره، وتقدم صاحب الإبداع للقضاء وقضى له، وعلى السارق
أو السارقة بالغرامة والسجن.
ـ ما العوامل
التي قد تدفع كاتبًا إلى ارتكاب السرقة الأدبية، وهل يمكن تصنيف هذه الأسباب من
منظور اجتماعي أو ثقافي؟
السرقة الأدبية خلل في الأخلاق والتنشئة
الاجتماعية والنظام التربوي للسارق، وليس هناك سبب واحد يدفع للسرقة الأدبية من أي
منظور على الأرض، وأقابل وأكلم ناس أعلم ويعلم غيري أنهم من السراق ومع هذا لا
يخجل بل يستمرأ السرقات وينفيها عن نفسه ويتهم غيره بها، بل يسرق ويعيد الصياغة
ويحصل على التقديرات المزعومة في شهادات دكتوراه صادرة عن بعض المجلات الفيسبوكية
التي تتسم بالجهل المدقع، ومنهم من صار من أصحاب المنتديات الأدبية والصالونات،
وأقول مع الفاروق عمر رضي الله عنه: "اللهم إني أعوذ بك من جَلد الفاجر وعجز
الثقة"، وممن يرجوننا ألا نعلن عنهم سواء في بيئاتنا المحلية أو العربية.
. هل السرقات الأدبية تعكس أزمة في النظام التعليمي والتدريسي للمؤلفين
الشباب؟
ليس هناك علاقة مباشرة بين
النظام التعليمي والمؤلفين الشباب بصفة عامة، بل العلاقة تكمن في لجوء الطلاب خلال
المراحل التعليمية المختلفة بكافة بلداننا العربية إلى استسهال النقل، وتعطيل
العقل، وذلك نابع من إصرار بعض المدرسين وبعض أساتذة الجامعة على تكليفهم بعمل
بحوث مع كونهم لم يستوعبوا أو يفهموا المقرر الدراسي تماما، وبالتالي ليس هناك من
طريق أمامهم سوى سرقة البحوث من النت، أو الدفع لمن يعدها لهم.
ـ هل تعكس
السرقات الأدبية غياب الإرشاد المناسب أو ضعف التربية الأدبية في المدارس
والجامعات؟
معظم من عاصرتهم من الأجيال المبدعة من هواة
الترند والظهور في الندوات وعلى المنصات، وطبع ما يبدعون مع ما فيه من عوار وسرقة
ونقل، ودور النشر لا تدقق ولا تحقق ولا يعنيها سوى الاسترزاق من هؤلاء الشباب من
الجنسين، وعمل الدعاية لهم، كما أن المبدعين الشباب ـ غالبا ـ ما يكرهون النقد،
ولا يسعون لأصحاب الخبرات في المنتديات الأدبية التي ينتمون أو يذهبون لها، كما أن
انضمام الناشئة من المبدعين للشللية التي تشكل حائط صد وحماية لهم ضد كل من ينقدون
إبداعاتهم، فيقومون بترويع النقاد بالادعاء عليهم بالجهل أو التحامل أو المادية أو
الانحياز.
. كيف تؤثر السرقات الأدبية على مجالات النشر، خصوصًا فيما يتعلق
بالتنافسية في سوق الكتب؟
مجالات
النشر لا يعنيها "السرقات الأدبية" بل يعنيها الطبعات الأدبية، ولا
يعنيها أيضا التنافسية؛ فهي ليست طرفًا فاعلًا في سوق الكتب إلا بكثرة النشر، على
أن الأمر لا يشمل كل دور النشر في إطلاق تعميم جاهل، بل هناك بعض هذه الدور من
يملكون لجان علمية لتقييم العمل، وقد يفرضون على المبدع زيادة في الرسوم فيما لو
قاموا هم بتصويب عمله أو بتعديله، ولن يجد الشاب غضاضة في الدفع؛ فالمهم عنده
النشر وأن يدرك ديوانه أو روايته المعرض الدولي للكتاب، وعمل البروباجندا الوقتية
الزائفة للعمل ثم ينتهي المولد.
. كيف تتعامل المؤسسات الأدبية والجوائز الأدبية مع حالات السرقات
الأدبية؟
لو تقدم أحدهم بكتابه أو ديوانه أو مجموعته
القصصية أو روايته ونال عنها جائزة، وثبت بعد ذلك أنه سرقها من أحدهم، سيتم سحب
الجائزة ومقاضاته فيما لو تقاضى مبالغ مالية من المؤسسة الأدبية بغير وجه حق، وفي
القانون المصري أعطى لمبدع العمل، أي مؤلفه، الحق في التقدم بشكوى، ثم لورثته من
بعده، باعتبار الإبداع إرثًا لهم من حقهم الانتفاع منه وبه، ثم ينتقل حق الشكوى لكل
من تؤول له حقوق مثل: المنتج أو الموزع أو الناشر. ويكفي لهذا السارق
الفاجر أن يعلم الناس بسحب الجائزة منه وفقدانه للمصداقية.
ـ وسؤالي
الأخير لكم دكنور إبراهيم:هل سيساهم ظهور الذكاء الاصطناعي في الحد من السرقات
الأدبية؟
بحسب
ما تابعت من قضايا حول الذكاء الاصطناعي الذي يؤيد البعض أنه سيحد من السرقات
العلمية والأدبية، بينما يرى البعض الآخر أنه ـ ربما ـ ساعد أكثر في ازدياد حالات
السرقة، ومنها تلك القضية التي رفعها "جورج ر. ر. مارتن" الروائي الأمريكي
في أدب الفانتازيا والرعب والخيال العلمي، ومبتكر السلسلة الروائية الخيالية "أغنية
الجليد والنار" ضد OpenAI مالكة «تشات جي بي تي»، ومعه ثمانية صحف
أمريكية و(17) كاتب استخدمت أعمالهم من دون إذن منهم، وهي أزمة جديدة تُضاف إلى
احتجاجات كتّاب السيناريو في هوليوود ضد استخدام شركات الإنتاج لأنظمة الذكاء
الاصطناعي.
وبهذا نرى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تسرق
بطريقة منهجية ذكية مستترة أعمال ومنتجات أدبية وفنية سابقة، ثم ضخها من جديد في
قنوات بحثية تضيف إليها وتعدلها، ويدخل من يدفع وتبيع له، وقال المحامون الذين يترافعون
بالنيابة عن مارتن: (أن هذه الخوارزميات تنطوي على سرقة منهجية على نطاق واسع).
وغاية ما أنهي به حوارنا أن الضمير المهني،
والأخلاقيات العلمية التي تربينا عليها ونربي عليها الباحثين من الأبناء، أن يكون
بحئه أو قصيدته أو روايته من تأليفه؛ فسعادة المبدع تكمن في تعبه ودأبه من أجل
المساهمة في الفكر والإبداع البشري بأعمال تنسب إليه، ويعلم أنه لم يسرقها من
غيره.
وبدوري أقول كما قلتُ في أحد الندوات، كان من
بين الحضور بعض سُرَّاق الأدب: (أقول لمن لا يملك موهبة أو إبداعًا .. ويحك، وتبًا
لك من لص، إذا لم تستطع أن تبدع فلا تسرق ولا تنتحل، بل توقف) وليت كل السراق في
كل الأرض يسمعون هذا النداء، فيمتنعون ويتوبون ويتوقفوا من فورهم عن هذا الذنب
الكبير.
ـ وأضم صوتي لندائكم معالي الدكتور .. وغاية ما
أختم به حوارنا هو تقديم الشكر والامتنان للأديب الموسوعي دكتور السيد إبراهيم
أحمد،.. وعلى أمل اللقاء بكم في حوار جديد أترككم في أمان الله وأمنه حتى نلتقي.
الأربعاء، 14 مايو 2025
قراءة في كتاب: "بين الأبنودي والسويس: تجربة وطن"..
لقد سد كتاب: "الأبنودي ـ السويس: تجربة وطن" للدكتور عبد الحميد كمال ثغرة كبيرة في المكتبة التاريخية المصرية عامة والسويسية بشكل خاص، ذلك أنه رصد أيام إقامة الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي بمدينة السويس، في الوقت الذي يوجز من يتناول تاريخ الرجل عن هذه المرحلة في سطر أو بعض سطور، وهو ما يُحسب للكاتب في حفظ كل ما يتصل بتلك المدينة من أحداث وضمها في كتاب لتبقى إرثًا خالصًا لأجيال سويسية قادمة تعتز بهويتها وتاريخها.
صدر هذا الكتاب عن سلسلة كتاب سواسية رقم (5) الصادر عن دار مؤسسة سواسية، في 2016م، وحقوق طبعه محفوظة للمؤلف.
تضم صفحات الكتاب البالغة (224) صفحة من القطع المتوسط: إهداء ومقدمة وعدد من الفصول تضم موضوعات رئيسة وأخرى فرعية. وجاءت عناوينها متتالية على النحو التالي:
"الأبنودي .. السويس.. لماذا؟!"، "بورتريه المفتون"، "السجن قبل السويس"، "عشق السويس"، ويأتي تحت هذا العنوان موضوعات فرعية: [الشعر، الأوبريت المسرحي، الأغاني العاطفية، سيدات السويس، الإنسانية بين فاطمة وحراجي، الأغاني الوطنية، جغرافيا السويس، المثقفون]، "ذاكرة الكاتب"، "الخلاصة".
يمكن اعتبار الفصل الذي بدأ به الكاتب، وعنوانه: "الأبنودي .. السويس.. لماذا؟!"، مقدمة للكتاب، والتي أعلن من خلالها عن تساؤلاته الحيرى حول دوافع الأبنودي لحب مدينة السويس وعشقه لأبنائها وتاريخها، وقد أتت هذه الأسئلة على التوالي:
ـ هل هناك "مقاربة" وليس مقارنة بين أبنود والسويس في مواقفهما الوطنية؟
ـ هل الطيبة والتدين وعتبات الحج من ميناء السويس إلى أراضي الحجاز كانت تشكل دافعًا له؟
ـ هل هناك مقاربة بين مسجد ومقام عبدالله الغريب بالسويس ومسجد ومقام عبد الرحيم القنائي بمحافظة قنا؟
ـ هل انحياز الأبنودي لليسار ولهموم الوطن والطبقات الشعبية وتجرية سجنه التي صقلته، هي التي جعلته يعيش الواقع بين أبناء السويس من العمال والفلاحين والفقراء وأبطال وفدائي المقاومة من خلال المعارك الوطنية التي آمن بها دفاعًا عن قضايا بلاده، مبتعدًا عن طنطة المثقفين؟
ـ هل كان الدافع لعشق الأبنودي للسويس يقف وراءه علاقته بأبناء بلده أبنود من المقيمين بتلك المدينة سعيًا وراء الرزق؟
يجيب الدكتور عبد الحميد كمال بأن: (كل هذه الأسباب مجتمعة يمكن أن تكون سبيكة قوية وراء أسرار حب الأبنودي للسويس، وأن تكون السويس بالنسبة له "تجربة وطن"). ولهذا كان هذا الكتاب الذي يسعى كاتبه للكشف عن الظروف الموضوعية لتلك التجربة التي نشأت بين الشاعر عبد الرحمن الأبنودي وبين السويس.
حرص الكاتب على أن تكون مراجعه متنوعة بين الكتب، ودواوين الأبنودي، وشهادات صادرة عن معاصرين للشاعر وممن زاروا السويس، ومَحَاضر نقاش أجراها الكاتب مع الكابتن غزالي، والريس كابوريا، والشاعر محمود الخطيب وكلهم من أعضاء فرقة "ولاد الأرض" وممن عاصروا الشاعر الراحل وعايشوه، كما رجع الكاتب إلى الأفلام والبرامج التي تناولت سيرة حياة الأبنودي أو لبعض الحوارات التي أجريت معه، وبعض أعداد من الجرائد والمجلات، وكذلك بعض المناسبات الحية التي حضرها الأبنودي وعاصرها الكاتب، مما أعطت للكتاب موثوقية خاصة قد لا تتاح لكتَّابٍ غيره إلا أولئك الذين أجروا مع الأبنودي حوارات أو مقابلات ثم صدرت في كتب.
حرص الكاتب على أن يأتي القسم الأول من الكتاب بانوراميًا تمهيديًا يتناول عبد الرحمن الأبنودي الشاعر الكبير ومكانته وموقعه على خريطة شعر العامية المصرية، من أجل أن يعرف القارئ حجم وقيمة وقامة المبدع الذي سيتلقى إبداعاته في الفصول القادمة، وأيضا يقدم جانبا حياتيا من سيرته، وقد أحسن دكتور عبد الحميد كمال حين ضم "بورتريه المفتون" للكاتب والروائي الكبير خيري شلبي الذي قال فيه:
(الأبنودي خارج المنافسة بين جميع أبناء جيله سواء من كتبوا بالعامية أو من كتبوا بالفصحى، لأن أكبرهم جميعًا لا يصمد أمام المقارنة لا من حيث غزارة الإنتاج، ولا من حيث النوعية والخامة والقماشة والصنعة والتفصيل ... المنجز الشعري للأبنودي كثير كبير متنوع، لقد نقل لغة التخاطب اليومي إلى الشعر، ونقل الشعر إلى لغة التخاطب اليومي؛ فكتب الرسالة من "بعد التحية والسلام" إلى "جوابات حراجي القط"، وكتب الرواية الشعرية "أحمد سماعين" وكتب الأمسية الدرامية، ناهيك عن دواويته الكثيرة التي تعتبر علامات في تطور القصيد المصري: "الأرض والعيال"، "الزحمة"، "الفصول"، "صمت الجرس"، "المشروع والممنوع"، "ناجي العلي"، ناهيك عن فن البورتريه الشعري في "وجوه على الشط").
أما في فصل "السجن قبل السويس" الذي يضمه نفس القسم، حرص الكاتب على ضم العديد من شهادات الشعراء والأدباء والسياسيين والكتَّاب، منهم: الكاتب الصحفي السويسي محمد بغدادي، والدكتور رفعت السعيد، والكاتب أسامة عرابي.
يمكن القول أن فصل "عشق السويس" ومايليه هو القسم الثاني من الكتاب، غير أن هذا الفصل هو التمهيد الموجز لموضوعات الكتاب التي سيتناولها الكاتب بالتفصيل عبر الفصول التالية، والتي تتمحور حول أشكال متعددة من إنتاج الأبنودى حبًا في السويس والوطن سواء في الشعر أو كتابة الأغانى أو كتابة الأوبريت المسرحى وحتى في كتابة النثر من خلال مذكراته الشخصية، على النحو التالي:
ـ الشعر:
ـ السويس في دواوين الأبنودي:
ـ ديوان: "جوابات حراجي القط إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار" (1969 ـ1977 ـ 1985):
وجبلاية الفار قرية صغيرة فى السويس، يقول الأبنودى في مقدمة هذا الديوان: (عشتُ النكسة وحرب الاستنزاف فى السويس بين فلاحين وصعايدة لا يختلفون عن "فاطنة وحراجى"، وفى ضحى يوم شتائى مشمس هتف لى "حراجى" اصطحبت أوراقا وأقلاما وفرشت لى "سيدة ابنة عم إبراهيم أبو العيون" حصيرًا تحت شجرة مشمش خلف بيتهم على شاطئ قناة السويس لتندلع الرسائل متتابعة.. وفى الليل كانوا يشعلون لي لمبة الجاز لأنكفئ على الطبلية حتى اكتمل كتابة الديوان فى أسبوع ودفعته للمطبعة دون مراجعة).
يجمع الدكتور عبد الحميد كمال تعليقات بعض النقاد والأدباء الذين قرأوا الديوان المشار إليه، وهم: الصحفي علي السيد، الروائي والكاتب الصحفي دكتور ناصر عراق، دكتور أحمد درويش، الناقد إبراهيم فتحي، والشاعر والكاتب شعبان يوسف، والناقد وجيه القاضي. وهذا صنيع جيد من الكاتب في حرصه على جمع بعض الأقوال لغيره من المتخصصين في تناولهم أو نقدهم لأعمال الأبنودي، وسنجد تكرار لهذا الصنيع في الأعمال القادمة التي تناولها.
ـ وجوه على الشط: (1975 - 1978) قصيدة طويلة:
يقول دكتور عبد الحميد كمال: (كانت السويس ملهمة للأبنودى الذى أحبها حين كتب ديوانه "وجوه على الشط"، ويكتب الخال عن مواطنين بسطاء ومن أبناء السويس لا يُعرَف عنهم الشهرة أو النجومية، فنجد قصائد تحمل أسماء أبناء الجناين فى السويس تتصدر قصائد الديوان عناوين للشعر الجميل عميق المعنى فنجد شخوصا عادية تحمل أسماء قصائده الشعرية فى ديوان وجوه على الشط منها: إبراهيم أبو العيون، سيد طلب، إبراهيم أبو زعزوع، أب سلمى، أم على، فتحية أب زعزوع، سيدة، البت جمالات، محمد عبد المولى، الحاج على وسيد طه، وجوه وشخوص من دم ولحم).
ـ ديوان "بعد التحية والسلام" وديوان "أنا والناس":
يقول الكاتب: (فى ديوان "بعد التحية والسلام" نجد خطابين من الرسائل الشعرية، الأول "من الراجل اللى مات في فحت الكنال"، وبالعكس نجد الرسالة الثانية ردًا "من الكنال إلى الراجل اللى مات في فحت الكنال"... وهكذا نجد حب السويس عبر دواوين وأشعار الأبنودي، ويستمر الحب نجد أنفسنا أمام ديوان "أنا والناس" لنقرأ قصيدة "كابوريا" عن ابن السويس الذي يحمل نفس الاسم عضو فرقة "ولاد الأرض" التي كانت تغنى للمقاومة وتشير للنصر وترفض الهزيمة، وفى ذات الديوان الحديث عن محمد حسن عضو فرقة "أولاد الأرض" والمعروف باسم "النمس" والكابتن غزالى وباقى أعضاء الفرقة وما بينهم من علاقات إنسانية ومشاغبات أثناء كواليس عمل الفرقة، أما القصيدة الثانية في الديوان فكتبها الأبنودى عن مبارك طايع ابن القطاع الريفى بالمدينة).
ـ "جغرافيا السويس":
تتبع الكاتب الأماكن التي ارتادها الأبنودي أو عاش فيها طويلا أو قليلا، وكتب عنها أو فيها خلال دواوينه، وبذل جهده في جمعها في كتابه تحت عنوان: "جغرافيا السويس"، وقد بدأها بمنزل الأبنودي بمنطقة شندورة بالجناين، وعلاقة زوجته الأولى بالسويس عملا وإبداعا، وزوجته الثانية التي عاشت بعض سنوات من طفولتها فيها، ومسحد سيدي عبدالله الغريب، وبورتوفيق، وحي زرب، والزيتية، والسماد، وجبلاية الفار، وجبلاية أبو عارف، وجبلاية السيد هاشم، وكبريت، ومحطة المياه.
أحسن الكاتب حين سار مع المهجرين من أهل السويس خارج جغرافية مدينتهم بأماكن إعاشتهم في بلاد التهجير، وتحت هذا العنوان يأتي بأبيات الأبنودي التي امتدت مع جغرافية عشقه حيث يسكن السوايسة في بلاد الغربة، وتبقى مفردات ومعاني هذه القصيدة خير وثيقة، والأبنودي خير شاهد، وكمال خير راصد حين ضمنَّها كتابه لتبقى ماثلة أمام الأجيال القادمة؛ فلم أقرأ قصيدة مثلها استبطن الشاعر فيها نفسيات المهجرين ومعاناتهم، وكسرة قلوبهم حين غادروا بيوتهم واستوحشتهم وبكوها وبكوا عليها وعلى أيامهم الجديدة، وحين عادوا في بعض الأوقات إلى أراضيهم وبيوتهم، وفي عيون المقيمين نظرات عتاب لهم، وفي عيون العائدين مؤقتا كسرةً وحسرة. لقد وثَّق الأبنودي جزء من تجربة السويس الوطنية في تدميرها وتهجيرها.
ـ "الأوبريت المسرحي":
لم يكتفِ الأبنودي بقصائد دوواوينه وأغانيه في عشق السويس وتخليد ما عاشه من بطولات أهلها فكتب أوبريت "يوم من عمر الوطن" الذي يشيد فيه بأبطال المقاومة الشعبية والفدائيين الذين شاركوا وكونوا "منظمة سيناء" بالتعاون مع المخابرات المصرية للقيام بأعمال فدائية ضد العدو.
ـ "النثر والمذكرات الخاصة: أيامي الحلوة":
رصد الكاتب مذكرات الأبنودى الخاصة التي أطلق عليها في كتابه النثرى الوحيد "أيامى الحلوة"، وكيف تأثر بالكابتن غزالى، قائد فرقة ولاد الأرض بالسويس، وكتب عن طه غزالى البسطاوى، العم الحقيقى للكابتن غزالى في أبنود، وصديق الطفولة "عطيتو" الذي هاجر من أبنود، وأصبح تاجرًا للفاكهة والخضار بالسويس، ويرى كمال أن أجمل ما كتبه الأبنودي من مذكرات ساخرة فكان عن طفولته في السويس بين الأهل والأقارب من خلال حلقة من تلك المذكرات النثرية كان بعنوان "عيال قرود"، وكلها تتحدث بشكل عميق وبسيط عن حب السويس.
ـ "الأغاني الوطنية والعاطفية":
يذكر الكاتب أن الأبنودي قد خلَّد اسم السويس وكتب أفضل أغانيه "يا بيوت السويس" التى أحبها ... كما غنى لحب الوطن الفنان العزيز الجميل "عربى بوف" قصيدة "الخال":
"والله لبكرة يطلع النهار يا خال.. وتبقى الدنيا عال.. والشمس تيجى من ورا الجبال يا خال.. بحلم يا خال بيوم معدول يفرش ضياه على الفلاحين يملأ صوامعهم غلال ويبيض العجين.
كما ذكر دكتور عبد الحميد كمال بعض الأغانى العاطفية التي كتبها الأبنودى متأثرا بالأجواء الجميلة لمنطقة جناين السويس أو بساتينها والحدائق المميزة وتحت أشجارها المزهرة الجميلة والمثمرة أيضا بالبرتقال والعنب والمشمش السويسى.
ـ "سيدات السويس":
لقد ذكر الأبنودي بعض سيدات السويس في قصائده: فاطمة أحمد عبدالغفار، البت جمالات، فتحية أبو زعزوع، أم علي، وسعاد بلير.
رصد الدكتور عبد الحميد كمال في القسم الثالث من الكتاب تجربة الأبنودي الوطنية على أرض وبين أهل السويس والفدائيين وأولاد الأرض، فأورد تحت عنوان "الخلاصة" شهادة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي نفسه عنها، وبدوري سأختار منها بعض قبسات:
يقول الأبنودي: (بعد النكسة، لم يعد في القاهرة غير الحزن وجلد الذات. لذا حملتُ متاعي القليل ـ ملابسي يعني والكتابين ـ ورحلت إلى السويس لأعيش على شاطئ القناة مع الفلاحين من الأقارب والأصدقاء، هناك في جناين السويس عشت مع أسرة عمي إبراهيم أبو العيون، مع أم علي وعلي وجمالات وسواهم من أبطال ديواني "وجوه على الشط". قضيت السنوات الأولى من حرب الاستنزاف هناك في مواجهة مع علم العدو الذي كان يرفرف أمامنا على الضفة الأخرى ومع جنود العدو أراهم وأسمع شتائمهم التي يوجهونها إلينا).
يضيف الأبنودي: (نسج فلاحو السويس ـ ببساطة ومن دون دعاية ولا افتعال ـ واحدة من أعظم ملاحم الصمود حين أصروا على البقاء متمسكين بأرضهم على شاطئ القناة ولم يرحلوا عنها. لم يقبلوا أن يتحولوا إلى «مهاجرين» بل تمسكوا بـ«وطنهم» المحاط بالموت والفزع، المستهدف بالصواريخ والغارات. من هؤلاء الفلاحين استمعت إلى قصص الجنود الذين عادوا من سيناء بثياب مهلهلة وأقدام متورمة من المشي الطويل وكيف كانوا يستقبلونهم بالطعام ـ الذي لم يكن يتجاوز أحيانا كسر خبز هي كل المتاح ـ والشراب كما يستقبلونهم بالماء المالح والبصل المدقوق لتخفيف أورام القدمين والعلاجات البسيطة لتسكين الجروح. كان على هؤلاء الفلاحين ـ وكأنهم أدركوا مهمتهم ـ أن يكونوا أول من "يمتص مرارة" الجنود المصريين الذين اضطروا إلى الانسحاب من سيناء و"امتصاص المرارة" هو التعبير الذي أطلق على مهمة معسكرات استقبال هؤلاء الجنود التي أقيمت في القاهرة والمدن المصرية. كان فلاحو السويس يبثون الطمأنينة في نفوس هؤلاء الجنود الذين كانت تداهمهم نوبات عصبية، تدفعهم إلى الجري عبر الحقول بينما القنابل والصواريخ ما زالت تتساقط من الضفة الأخرى!).
يعبر الأبنودي عن دهشته من فلاحين الجناين بالسويس، فيقول: (مع بداية حرب الاستنزاف طلبت الحكومة من هؤلاء الفلاحين أن يهاجروا. وفرت لهم أرضًا بديلة يزرعونها في مناطق أخرى مثل أبيس وسمالوط. منحتهم المواشي والإعانات والقروض لبدء حياة جديدة. كان سكان مدن القناة هجروها، والحرب التي بدأت "حرب الاستنزاف" تضاعف خطر البقاء فيها لكن الفلاحين على الشط رفضوا التهجير بكل مغرياته وتمسكوا بأرضهم بكل ما فيها من مخاوف ومتاعب. أصروا على البقاء وواصلوا حياتهم كما هي ومعهم رأيت عودة الجنود مرة جديدة وإعادة بناء الجيش وحفر الخنادق في التلال الرملية لمواجهة العدو. رأيت جنود منظمة سيناء الثورية التي تكونت من شباب السويس الذين كانوا يعبرون القناة ليقوموا بعملياتهم الفدائية).
يقرر الأبنودي بعد كل هذا الإقامة الاختيارية بين أهل السويس، فيقول: (كان لا يمكن أن أتخلى عن هذا الكنز العظيم، عن روح الشعب التي رأيتها تصنع الحياة من قلب الدمار وتواصلها في مواجهة الحرب. هناك كانت المعاني بسيطة وحقيقية وتساقط من ذاكرتي كل الزيف).
يعلن الأبنودي ثورته على المثقفين، فيقول: (عرفتُ أن المثقفين في واد والحقيقة في واد آخر. عرفت أنهم يكتبون عن حرب لم يروْها ولا يعرفون عنها شيئا. يتحدثون عن الشهيد الذي يحتضن الوطن ويموت مبتسما، وهو كلام أبله لأن وجه الشهيد يكون مليئا بالألم والفزع لكن البطولة الحقيقية هي في إصراره على خوض المواجهة، في تمسكه بالدفاع عن وطنه وسيره في الطريق الذي يعرف أن الموت يتربص به على طوله وعرضه.
كان المثقفون يأتون لزيارة السويس لا لمعايشتها، للفرجة على الحرب لا للمشاركة فيها. يكتفون ـ حين يأتون إلينا ـ برؤية البيوت التي هدمتها الحرب وترديد الأغاني الحماسية مع فرقة «ولاد الأرض» وهي فرقة كونها الكابتن غزالي لأداء أغانٍ وطنية ذات طابع شعبي بألحان بسيطة على آلة السمسمية وهي آلة وترية شعبية. بعد الفرجة على البيوت المهدومة وترديد الأغاني يعودون إلى بيوتهم شاعرين بأنهم أدوا المهمة).
يختتم الأبنودي شهادته التاريخية عن السويس، فيقول: (أعتبر أن تجربة السويس هي أفضل ما عشتُ في حياتي بعد تجربة أبنود والسد العالي والاعتقال والحرب).
لا يجد كاتب المقال غضاضة في أن يضم إليه مقولات لم يوردها دكتور كمال عبد الحميد في كتابه الذي نحن بصدده، لكنها تؤكد صدق ما جاء فيه، وما جمعه الكاتب من أقوال، وما توصل إليه من تقييم لتجربة الأبنودي في السويس، ويضيف فائدة للقارئ تصل به إلى عين اليقين في أن تجربة السويس كانت إضافة ثرية لإبداع شعر العامية المصرية، وشعر المقاومة، واستنهاض الأمل في النفوس، ورفض اليأس والانهزام، ولقد كنا نظن ونحن في بلاد التهجير أن فرقة "ولاد الأرض" هي التي أمدتنا بالأمل، ومعها أغاني الأبنودي الوطنية، لنكتشف من توثيق الأبنودي لتجربته: وطنية شعب السويس من الفلاحين والبسطاء والنساء والمثقفين ممن رفضوا التهجير، وأنهم هم من أمدوا فرقة ولاد الأرض والأبنودي نفسه ليس بـ "زخات الأمل" بل بالوابل الصيب منها، ومعًا لمزيد من قبسات الأبنودي الصادقة، الكاشفة، المؤكدة لما جاء في الكتاب:
(كان الشاب "عريان البدن.. وبدراعاته المكشوفين" القادم من أبنود محملا بموهبة عارمة تتدفق منه إلى شرايين العاصمة قصائد وغناء فرديا وجماعيا، حتى جاءت تجربة "الاعتقال" لتضع حاجزا قسريا أمام هذا الفيض ثم جاءت النكسة التي جعلت الأبنودي يتخذ قرارا مصيريا، قرارا اتخذه الحفيد عبد الرحمن كأنه يستعيد به ذاكرة الجد "قنديل" الذي راح إلى السويس يعمل فيها حتى وافاه الأجل).
(كان جدي يعيش في مدينة "السويس" على شاطئ القناة، مع الكثير من أبناء الصعيد، الذين يحتفظون، إلى اليوم، بأصولهم وما زالت السويس تنسبهم قائلة إنهم "قنائية"، من محافظة قنا، أو"سوهاجية"، من محافظة سوهاج وتنسبهم أيضًا إلى قراهم التي جاءوا منها، ثم إلى أصولهم القبلية والعائلية. من هؤلاء كان "الحاج قنديل" الذي لم يكن يعود إلى "أبنود" إلا بعد انقضاء موسم الفاكهة. في المشهد التالي مباشرة، أذكر جدتي "ست أبوها" قادمة من السويس في ملابسها السوداء وهي تنوح بعدما دفنت "الحاج قنديل" الذي رحل عن الدنيا وهو في بلاد الغربة!).
يقارن الأبنودي ساخرًا بين مناضلين المظاهرات ومناضلين شعب السويس، فيقول: (قبل أن أخرج من مصر، كانت المظاهرات تملأ ميدان التحرير مُطالِبةً بالحرب، وكنت مع الفلاحين على شاطئ قناة السويس أتابع تجربة معايشة ورصد ملحمة صمودهم وملحمة حرب الاستنزاف التي لم يقترب منها واحد ممن اعتبروا أنفسهم مناضلين لمجرد المشاركة في مظاهرة! كنت أضحك بيني وبين نفسي من المقارنة بين ما يسطره الجنود والفلاحون على شاطئ القناة وما يفعله هؤلاء الذين اكتسبوا ثوريتهم من الدوران الهاتف في الميدان نفسه يوميا!
وكانوا كلما أمعنوا في إظهار عدائهم أمعنت في ممارسة تجاهلهم والاهتمام بالتجربة التي أشارك فيها فلم يكن ممكناً أن أضيِّع فرصة الشهادة على تلك اللحظة التاريخية النادرة على شاطئ القناة، نظير "الزعيق" الذي حفظنا ما كان يردده رغم أننا لم نشارك فيه. زعيق كان بالنسبة إلي معروف البداية والنهاية، بائساً يخلع صفة الزعامة على كل من هتف معلقا فوق الأكتاف، يشارك فيه المشاركون كأنه "وظيفة" يفرغون منها ثم يعودون إلى بيوتهم! بينما تظل تجربتي عن قناة السويس وما جرى فيها وحولها وذلك الديوان الذي كتبته "وجوه على الشط" شهادة فريدة معاشة دفعت ثمنها بالوقوف على حافة الموت، والحياة على قطرة ماء وكسرة خبز، وعرفت عن الحرب ما لا يعرفه إلا المجربون).
يقول الأبنودي في حواره مع الكاتب سمير أبو الحمد: (أثناء وجودي على الجبهة بحرب الاستنزاف لمدة ثلاث سنوات ونصف، استطعت أن أكتب أهم أغنياتي: "موال النهار" و"المسيح" و"بيوت السويس" وملحمتي "وجوه على الشط". فمصر لا تستشعر روحها في المدن المزدحمة، ولا في القرى الساكنة وإنما في بعض البؤر الخاصة. هذه الروح كانت موجودة أيام عبد الناصر، لكن نفتقدها الآن. فمثلاً أثناء بناء السد العالي ذهبت إلى هناك وسط العمال والفلاحين، وكتبت أهم دواويني: "جوابات حراجي القطن". حين أذهب لأي مكان، لا أدون مذكرات كما يفعل البعض، إنما أعيش التجربة وأنساها، وعندما تنضج الفكرة بداخلي يخرج هؤلاء الناس في صورة قصائد).
يجيب الأبنودي على سؤال دكتور إبراهيم أبو طالب في حواره معه عام 2003م عن أخصب مرحله شعرية في تجربته، وهل كتب أجمل ما لديه؟ فقال: (طبعًا مرحلة الستينيات كانت مرحلة ثراء وطني، ونضال عربي، وضَجيج ثقافي، وأنا أعتبر نفسي ابن تلك المرحلة، مرحلة الستينيات بكل ما فيها من إنجازات وإحباطات، ولقد عبَّرت عن ذلك سواء في الشعر أو في الأغنيات، لقد كتبتُ ديوانا كاملا اسمه "جوابات حراجي القط إلى زوجته فاطنه أحمد عبد الغفار"، وهي رسائل شعرية متبادلة عبرَ ديوان كامل لعامل بسيط من عمال السَّدِّ العالي، وهو أهم إنجاز وطني للفترة الناصرية، كذلك ذلك الديوان المسمَّى "وجوه على الشَّط".
وهو عن الفترة التي قضيتها تحت وابل النيران، وأمام جنود الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف، وعايشت فيها الفلاحين والجنود، وتعرضت فيها للموت أكثر من مرة، لا شكَّ أن تلك الفترة كانت مُلهمة بصورة فريدة، ولقد كتبت أغنيات سكنت الضمير الوطني حتى الآن مثل: "موال النهار"، و"احلف بسماها وبترابها" لعبد الحليم حافظ، و"بيوت السويس" لمحمد حمام وغيرها عشرات).
(بعد خروجي من السجن، اتجهت إلى المدينة التي عشقتها وعشقت روحها وتغزّلت بشجرها العالي، مدينة السويس، وظللت بها فترة، لأجد شِعري مرةً أخرى لا يكف عن السكوت في عقلي، وترد المدينة الباسلة على حبي بحبٍ أكبر اتضح في سيل من الأشعار التي تحولت كالبساتين في مخيلتي، أنتقي منها ما أشاء من زهور ورياحين).
إن ما يؤكد أن تجربة السويس وجغرافيتها أنها عاشت ومازالت تعيش في قلب وعقل ووعي وذاكرة الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي تلك الأبيات التي ضمها كتاب: "مربعات الأبنودي" عام 2014م:
ومن (الزيتية) لـ (زرب) لـ (الهويس)
دماكو سالت تاني زيَ زمان
ولو انه من أيام (بيوت السويس)
الدم لسه بيصبغ الجدران
يخاطب الأبنودي محاورته اعتماد عبد العزيز الصحفية بمجلة أدب ونقد عام 1985، فيقول: (في عام 1967 حبن حدثت النكسة وأصيب المثقفون باليأس والإحباط، خرجت من القاهرة وذهبتُ للحياة في السويس مع الجنود والفلاحين الذين رفضوا الهجرة .. وأظن أن ما كتبته في ذلك الوقت يُعد من أفضل الأشعار التي كتبتها على الإطلاق سواء على مستوى الشعر أو الأغنية، أو على مستوى تجربة الشعب حبث نقلتُ التجربة النبيلة جدًا للشعب المصري في هذه الظروف).
لقد عاش الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي تجربة السويس النبيلة، وكان شاهدًا عليها، بل أمينا عليها حين نقلها توثيقا شعريا ونثريا، ورصدها الدكتور كمال عبد الحميد الذي أحب الأبنودي الشاعر والإنسان، غير أن حبه لمدينته السويس كان هو الحب الأكبر الذي من أجله تتبع شعر الأبنودي وأغنياته ونثره ومذكراته من أجل أن يلملم شتات أبياته وكلماته التي قالها في أرض السويس، وشوارع السويس، ومباني السويس، وأبطال السويس، وسيدات ورجال السويس، ويضمها كأيقونة عشق خالدة في ذاكرة السويس كتاب، تتناقله الأجيال، وخبيئة نبيلة مصنوعة بالدم والكرامة والعزة، تشهد ببسالة المدينة التي قهرت عدوها، وما زال الأحفاد كالأجداد تجري في شرايينهم دماء المقاومة الساخنة النقية.
-
مازالت قضية التراث ومحوه أو أو تقديره أو تقديسه أو تبخيسه مستمرة معنا منذ أجيال مضت وأجيال قادمة، أي أنها ستستمر معنا في عامنا القادم....
-
هناك مسافة فاصلة تجاه التراث العربي الإسلامي بعامة والتراث العلمي العربي الإسلامي بخاصة وبين الاستشراق بكافة مدارسه؛ فكان نصيب هذا التراث ...
-
صار المكان من العناصر الفعالة في تشكيل الرواية، وله أهميته في بنائها، وإن كان لا يشبه المكان الواقعي تمامًا؛ إذ أن المكان الواقعي يمثل حيز...