الأحد، 29 يونيو 2025

"الاستهداف الغربي للتراث العربي الإسلامي"...

 



شكلت نقطة الصدام المبكر بين الغرب والإسلام المنصة التي انطلقت منها المقولات التي تتسم بالتشويه واللامنهجية واللاعلمية واللامعرفية، واللاحيادية، واللاعدالة ـ في أغلب الأحيان ـ ضد الإسلام "الدين والحضارة والتراث" ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، خاصةً بعد أن أصبحت هذه المقولات تمثل الركائز التي بنى عليها "الاستشراق" أهدافه ومناهجه في التعامل مع التراث العربي والإسلامي.


لم يتحمل الغرب المسيحي انتشار الإسلام السريع وتجاوزه الفكري والديني والجغرافي لخارطة العالم، حتى دعت الحاجة الملحة لدراسته لا من أجل فهمه على الوجه الصحيح بل من أجل البحث عن الطرق التي تعرقل زحفه وكبح جماحه، وهو الأمر الذي مازال يشغل عقول الباحثين عن نقطة البداية المفصلية التي تحدد تاريخ الاستشراق أو الاستهداف الغربي في مراحله الأولى باعتباره صراعا تاريخيا بين العالم المسيحي الغربي والشرق والغرب الإسلامي خلال العصور الوسطى على الصعيدين الديني أو الأيديولوجي كما رصده "مكسيم رودنسون" في كتاب "تراث الإسلام"، أو بما لخصه "بطرس ساذرن R. W. Southern" في قوله: (يمثل الإسلام مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة) الذي ذكره في كتابه:"نظرة الغرب إلى الإسلام في القرون الوسطى Western Views of Islam in the Middle Ages"، الذي قرأ بخبرة واقتدار وتجرد ثمانية قرون ونصف القرن من الصراع الغربي مع الإسلام في القرون الوسطى، ورأى ونبه وقرر أن الغرب كان ينظر إلى الإسلام في تلك الفترة من خلال حزمة من الأفكار التي تتسم بالجهل والعداء والاعتقاد بالخرافات، مع استثناءات قليلة، وأن الغربيين في العصور الوسطى كانوا يفتقرون إلى معرفة دقيقة بالإسلام، وكانوا يخلطون بين القرآن والحديث، ويعتمدون على كتابات مسيئة للإسلام مثل كتابات يوحنا الدمشقي، وفي اعتقاده أن الحروب الصليبية عززت من النظرة السلبية تلك للإسلام، حيث تم تصوير المسلمين كأعداء يجب محاربتهم، مع وصفه لهذه الفترة بأنها تمثل عصرًا من الجهالة؛ لكونها تفتقر إلى الموضوعية والمعرفة الحقيقية بالإسلام، مع أن بعض المثقفين في الغرب، مثل الأطباء الإسبان، كانوا أكثر انفتاحًا على الإسلام ودرسوا تعاليمه بعناية كما يذكر "ساذرن".


لقد استكثر علماء الغرب واستنكروا أن يكون للعرب قبل الإسلام حضارةً أو حضورًا في المشهد الإنساني بشكل مؤثر، ورأوا أن بداية انطلاق العرب جاءت مع ظهور الإسلام وهو ما ذهب إليه "رينان" في قوله: (لا مكان لبلاد العرب في تاريخ العالم السيامي، والثقافي، والديني قبل ذلك الانقلاب المفاجئ الخارق للعادة الذي صار به العرب أمة فاتحة مبدعة).


وهذا الرأي من "رينان" وغيره من أجل أن يثبتوا أن أصالة الخلق والتجديد والإبداع في أمة الإغريق "العبقرية" كما وصفها أحدهم، على الرغم من التناقض في مقولة "رينان" الذي يؤكده "جوستاف لوبون" في كتابه: "حضارة العرب"، فيقول: (إن النضج الحضاري الذي وصل إليه العرب بعد ظهور الإسلام، ما كان له أن يكون إلا نتيجة مقدمات سابقة وسمات حضارية كان يتمتع بها العرب قبل الرسالة، وأن لكل حضارة مستحدثة إرثًا وجذورًا حضارية قديمة؛ فالشئ ـ في الغالب ـ لا يُخلَق من عدم).


إن ما يقف وراء استهداف الغرب للتراث العربي الإسلامي هو تمركزه حول ذاته، أي الغرب، وآفة هذه النظرة المركزية الغربية أنها لا ترى سوى ذاتها، بما يعني أنه ليس هناك قيمة مكانية وجودية على خريطة التفكير الغربي، أو كما يقول دكتور عبدالله إبراهيم في كتابه: "الثقافة العربي والمرجعيات المستعارة": (فحيث يكون الغرب فثمة منطق يقود الحياة إلى مصير خالد، وبهذا تترتب شئون الآخر، بمنظور غربي لا يريد أن يرى في موضوعه إلا ما يتقصد أن يراه هو فعلًا ويرغب فيه).


وهذه النظرة الاستعلائية الغربية التي تستند للإرث الإغريقي الذي يعظم تلك الذات ويميزها عن باقي الذوات كما يرى "جارودي" في نقده لتلك الذات، واتخاذ الغرب الفكر الديني المتمثل في المسيحية واليهودية، وتبني النظرية العرقية التي تمثلت في الإيمان بتفوق الجنس الآري على الجنس السامي تأسيسًا على معطيات علمية وفرتها النظرية الداروينية، مما أعطى كثير من مفكري وعلماء الغرب الحق في التفريق بين الذات الغربية وذوات العالم الأخرى ومن هنا كان استهداف العالم وتراثه ومنه دول العالم الإسلامي تحت دواعي التطهير العرقي، واستباحة تراثه وثرواته عن إيمان بحقهم فيه!


ولهذا كرس المستشرقون الأوائل، أمثال "رينان" و"إجناتس جولد تسيهر" جهودهم لضرب الخصوصية الإسلامية، بدءًا بالتشكيك في أسس المرجعية الإسلامية؛ أي مصادر الوحي لأن الغرب منذ القرن الخامس عشر وما تلاه حتى القرن التاسع عشر الذي يقضي بتقديم مشروع سياسي على صعيد العالم، وهو: مشروع تجانس الإنسانية المستقبلي من خلال تعميم النموذج الغربي"، وينبه "مولاي أحمد صابر" في مقاله: "الوجه الآخر للاستشراق: الانفلات من قبضة المركزية الغربية"، أن: (خطورة هذا المشروع تتجلى في تسويغ وتبرير الاحتلال الغربي للعالم، كما تتجلى في تبرير جرائم الحرب والرأسمالية الاستعمارية حالا وفي القرن الماضي وما قبله، إذ من الصعب أن نعثر على دراسات وكتابات لمستشرقين تستنكر فظاعة الغرب الاستعماري في صلته بالشرق، وحتى إن حصل ذلك؛ فقد انفلت أصحابها من قبضة المركزية الغربية).


لقد واصل الغرب الأوروبي ما يسمى بـ "الإجبار الحضاري" كما يرى البروفيسور ميثم الجنابي في رصده للمفارقة التاريخية لوعي الذات الثقافي ـ السياسي بين إسلام الشرق والشرق الإسلامي، في مواقف الغرب تجاه الشرق وتأثيره عليه من خلال الإجبار في مفاهيم وقيم الخضوع والسيطرة، حيث لم تعد السيطرة "المدنية" الجديدة للغرب الأوروبي استعمارًا بالطريقة الإغريقية ولا الرومية. لقد كان غزوها الشرق أقرب إلى البربرية المحصَّنة بوعيها الذاتي الضيق، وذلك لأن حوافزها وأفعالها كانت محددة بآلية الأخذ والاغتصاب والسرقة والنهب؛ فهي لم تعرف العطاء ولا البذل الروحي، ولهذا لم تشرك في فلك إبداعها "الغرباء"، لأنها لم تنوِ ذلك ولم تلهب هواجسها وحدانية الفكر ولا توحيدية القناعة ولا شعور الواحدية الإنسانية.


كما أن أهم ما توصل له "الجنابي" هو أن الاندفاع المتحمس لــ "الاكتشافات" الجغرافية، لم يكن حبًا للمعرفة ولا توسعًا للمدارك أي أنه لم يكن "تقليدًا" لروح الإغريق القدماء، بقدر ما كان استجابة لسطوة الأوروبية الرومية، أو المادية الشرهة، الأمر الذي أدى إلى خلق الأسطورة المثيرة عن الشرق، الذي أيقظ إغراء كوامن السطوة والاغتصاب واستثارة لعاب السرقة وإثارة روح الغزو والاستيلاء، وذلك لأن "اكتشافات" الوعي الأوروبي الجديد للشرق استثارت فيه روح المغامرة، وتثليم معارفه الشخصية القديمة، إلا أنها خلقت في الوقت نفسه الأساس الموضوعي للاحتكاك "السياسي ـ الحضاري" الجديد، الذي دفعه تطور البرجوازيات الأوروبية إلى نهايته المنطقية: التوسع العسكري والنهب الاقتصادي! وهي ظاهرة متميزة وفريدة في التاريخ العالمي سواء من حيث فعلها وغاياتها وآلياتها ونتائجها.


ولهذا كان استهداف الغرب للتراث العربي الإسلامي مبنيًا على السطو والسرقة والانتحال؛ إذ لم يعرف بعض علمائه أساسيات الأمانة العلمية في النقل والاقتباس، فتجاوزوها كرامة للعلوم الإغريقية ولو على حساب الحقيقة، وليس هناك أفضل من شهادة البروفسور التركي الألماني المسلم "فؤاد سزكين" الذي يقول: (كان الغرب يُترجمون الكتب التي نقلوها عن المسلمين على أنها مؤلفات يونانية، ولم يكونوا يفهمون تراث العلوم الإسلامية لعدم درايتهم بماهيّة الحقبة الماضية، وقد كتب بعض المترجمين الأوروبيين الأولين الذين ترجموا عن المسلمين أسماء مؤلفين يونانيِّين على تلك الكتب التي نقلوها عن المسلمين).


لقد مارس المستشرقون ظاهرتين قديمتين عرفهما التراث الإنساني عبر تاريخه الطويل، أشار إليهما شعبان خليفة في كتابه: "الكتب والمكتبات في العصور الوسطى: الشرق المسلم، الشرق الأقصى"، وهما: "الانتحال"، و"النِّحلة"، أما "الانتحال"؛ فهو أن يقوم شخص بالسطو الفكري على كتاب شخص آخر، وينسبه إلى نفسه، وكأنه هو الذي كتبه، وأما "النِّحلة"؛ فهو أن يقوم صاحب الكتاب بتأليفه ثم ينسبه إلى غيره بكامل اختياره، وغالبًا ما يكون زُهاء مبلغ نقدي متفق عليه بينهما.


ولهذا ساد السطو على أعمال المؤلفين المسلمين وسرقة مخطوطاتهم حتى أصبح من: (من الأمور السائدة في الثقافة الغربية اليوم نسبة النهضة العلمية المعاصرة إلى جذور يونانية بعيدة تبعد عنها قرونًا متطاولة، مع إبراز فلاسفة وعلماء ليسوا أحقَّ من يُذكر في النسيج المعرفي المعاصر، مع أن هذه الجذور اليونانية استفادت من غيرها وأخذت منها، بل إن الفضل في التأثير المباشر على النهضة المعاصرة يعود إلى حضارة أخرى)، كما يقول طاهر صيام في مقاله: "جحود الغرب والإمبريالية المعرفية"، بل يؤكد: (جَهِدت أوروبا بكل وسيلة لأجلِ طمسِ أدلتِها الحسيةِ أو تجييرها بشتى التأويلاتِ، كِبْرًا وسَطوًا خِدمةً لأغراض شتى؛ منها: التعالي الحضاري والنفسي على البشرية، وقيادةُ العقول والأفكار، ثم غزو الأمم بزَيْف سبق التنوير والعلم والحداثة).


لن نتتبع السرقات الغربية للمؤلفات العلمية العربية الإسلامية خاصة؛ فهي أكثر من أن تتحملها هذه المساحة، غيره أنه من الأفضل أن نسلط الضوء على استهداف الغرب لسرقة وتشويه المخطوطات الإسلامية من قديم حتى عصرنا الحالي:


لقد هاجم أعداء تراثنا ـ أعداء كياننا العربي ـ هاجموا عملية بعث التراث "أي نقله من ورق أصفر إلى ورق أبيض" كما يصفونها.. وهو وصف غير صادق؛ لأن التراث وقتها لم بكن مطبوعا أو حتى كان مخطوطا على ورق أصفر كما يزعمون، بل كان نهبًا مشاعًا لغير العرب يحتكره المستشرقون، فيخفون في متاحفهم، ومكتباتهم وخزائن القصور والكنائس ما شاءوا، ويحرفون ما حلا لهم، ويطبعون ما عنَّ لهم بتشوبه مقصود تثيره روح التعصب والصليبية المتوارثة، أو بتشويه مبعثه سوء الفهم والعجز عن استشفاف روح حضارة مختلفة .. يومها كان الجانب الأكبر من التراث في أيدي أعداء الإسلام والعرب لأنه نهب. ويرصد محمد جلال كشك ميكانزم تعامل الغرب مع التراث الذي نهبوه، من خلال كتابه "الحق المر" فيقول مستكملا: (فهم أولا استعاروا هذا التراث كطالبي علم، قرأوه بالعربية، ثم ترجموه.. ثم لما استولوا على العالم الإسلامي، وكانت لهم الغلبة المادية منذ القرن السادس عشر، بدأوا عملية نهب مسلح، أو باستغلال حالة التخلف والفقر في الوطن الإسلامي، فنقلوا معظم "المخطوطات" إلى بلادهم).


ولقد تكاتف الغرب في عهوده الاستعمارية، مع الجهد التبشيري المكثف، والحقد الصليبي المتوارث، والتآمر اليهودي ـ الصهيوني الخبيث في إعلان الحرب على التراث العربي الإسلامي، وسرقة مخطوطاته ليس في التاريخ القديم فقط بل والمعاصر، وليس أدل على ذلك من صرخة استغاثة أطلقتها دكتورة ابتسام مرهون الصفار وهي المهمومة بتحقيق التراث العربي تحت عنوان: "أنقذوا ما تبقى من مخطوطات العراق"، تستعرض من خلالها ما تعرضت له ذخائر التراث العربي الإسلامي في العراق من سلب ونهب وتدمير منذ احتلال القوات الأمريكية للعراق، وما قام به النائب العمالي الصهيوني "موردخاي بن بورات" الباحث في "مركز إرث يهود بابل" قرب القدس المحتلة من شراء الكيان الصهيوني لعدد كبير من المخطوطات أثناء غزو 2003م، كما سرقوا نسخ ثمينة من التلمود يعود تاريخها إلى أكثر من 2500 سنة، في تقليد متوارث القائم على "الانتقائية" في سرقة المخطوطات الثمينة النادرة، خاصة العلمية منها، مثلما حدث مع مخطوطات المجمع العلمي العراقي والمجمعات العلمية والثقافية الأخرى.


لم يكن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عشوائيًّا، بل قام وفق مخطط مدروس لسرقة الهوية الفلسطينية، بدءًا من استهداف التاريخ بكل تفاصيله، إلى نهب الثقافة وما تحفظه من كنوز معرفية وتراثية، وصولًا إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية المزيَّفة.


منذ البداية كانت المعركة مع المحتل الإسرائيلي بالأساس حربًا على الهوية، لذا بقي ينسب كل شيء فلسطيني إليه، من مأكولات وأزياء، وحتى الطقوس التراثية سرقها، وحين حطَّ رحاله على أرض فلسطين وجد كنزه الثمين في مكتباتها العامة والمنزلية، فسرق الكتب والمخطوطات التي تحكي تاريخ بلدة قديمة شهدت صولات وجولات مع الغزاة، فحرق جزءًا منها لطمس وتشويه تاريخها، وسرق الآلاف ونسبها إليه ليصنع تاريخًا له.


والواقع يقول إن إسرائيل ـ وهي تمثل رأس جسر غـريب بـنوع جديد من الاستعمار الغريب في المنطقـة عـلى حـد تعبيـر عبـد اللطيـف الطيبـاوي ـ بدأت السرقة عام النكبة عندما قام المستوطنون بسرقة مقتنيات الفلسطينيين بعد تهجيرهم، فمن مدينة "يافا" وحدها حملوا خمسة آلاف شاحنة من الكتب والمخطوطات والصحف العربية، بطريقة منظَّمة وفردية، ويقدَّر عددها بنحو 80 ألفًا، أكثر من ثلثها نُهب من القدس وحدها، ونحو 30 ألفًا من هذه الكتب والمخطوطات نقلت إلى المكتبة العبرية تحت "قانون أملاك الغائبين"، منها مخطوطة لسُوَر من القرآن تعود للقرن العاشر الهجري، وكتاب "تهذيب الأخلاق" عمره أكثر من قرن، وما تبقّى من المقتنيات المسروقة إما بِيع كنفايات ورقية وإما أُعيد بيعه لفلسطينيي الأراضي المحتلة ومدارسهم.


وتذكر مها شهوان في مقالتها بعنوان "ضمن معركة الهوية.. تاريخ إسرائيل في سرقة مخطوطات فلسطينية: (وتعتبر "إسرائيل" هذا النوع من السرقات محاولة لتصويب الخطأ أو دحض التزوير العربي بحقّ اليهود، وهو جهد مكمِّل لما بذله المستشرقون الغربيون الذين جابوا المشرق العربي للبحث عن مكامن الضعف في الموروث الثقافي والحضاري، والاستثمار فيها بما يخدم مآرب الاستعمار، وتبديد الحق العربي ونفيه من الأرض، ومحو أي أثر أو ذكر له من الجغرافيا والتاريخ).


لقد استهدف الغرب تراثنا العربي الإسلامي في الحرب والسلم، وليس أدل على ذلك من سرقة ونهب وحرق المخطوطات العربية.. وستظل الحملة الصليبية الأولى خير شاهد على ذلك؛ فقد دمرت مكتبة بني عمار في طرابلس الشام وحرقت ما يقارب مئة ألف مخطوط، وقد مارس رجال الاحتلالين: الفرنسي والبريطاني مسلسل عمليات النهب المنظمة للمخطوطات والكتب والوثائق الأثرية التي تم نقل العديد منها إلى الدول الأوروبية.


ونصل في نهاية مقالنا للسؤال الجوهري الذي طالما راود عقول من يتعاملون مع الاستغراب ومع الاستشراق على حد سواء: لماذا يتنكر الغربيون لدور الحضارة الإسلامية وفضلها على حضارتهم المعاصرة، ولماذا يستهدفون تراثها بكل هذا الحقد والغل؟


وقد أجاب عن هذا السؤال المفكر الغربي المسلم "ناصر الدين دينيه ـ الفونس دينيه"، فيقول مُعددًا الأسباب: (إن التعصب الموروث لدى المسيحيين ضد الإسلام وأتباعه، فقد عاش فيهم دهورا طويلة، حتى أصبح جزءًا من كيانهم، فإذا أضفنا إلى هذا التعصب الديني تعصبا آخر هو أيضا موروث تزيده الأجيال المتتالية تمكنًا من النفوس بفضل مناهج الدراسات القديمة التي تسير عليها مدارسنا، وهو أن كل العلوم والآداب الماضية يرجع الفضل فيها إلى الإغريق واللاتين وحدهم، أدركنا في يسر كيف ينكر الناس عامة، ذلك الأثر العظيم الذي كان للعرب في تاريخ الحضارة الأوروبية، وسوف يبدو دائمًا لبعض العقول أنه "من المهانة أن تدين أوروبا المسيحية للمسلمين بإخراجها من ظلمات البربرية والتوحش!").


الجمعة، 27 يونيو 2025

الكلاب الضالة بين الأدب والدين والواقع ـ..


 

 عرف التراث والأدب العربي للكلب مكانته فألفوا الكتب التي تحتوي محاسنه وصفاته الحميدة بل جعلوه رمزًا للقوة والإخلاص والأمانة، ومنها: كتاب "الحيوان" للجاحظ، وكتاب "نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" للتنوخي، وكتاب "حياة الحيوان الكبرى" للدميري، ومن الكتب المعاصرة كتاب "الفوائد العذاب فيما جاء في الكلاب" لإحسان بن محمد العتيبي،  كما نظم الحافظ السيوطي أرجوزة "التبريِّ من مَعرَّةِ المعري" ذكر فيها واحد وستين اسمًا للكلب، وقد جاء كتاب: "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" من تأليف الإمام أبو بكر بن المرزُبان المتوفى عام 309 هجريًا على رأس هذه الكتب؛ فقد ذكر فيه ما قيل في الكلب من آيات قرآنية وأحاديث وأقوال الشعراء والحكماء والرواة، وغاية المؤلف من كتابه أن يبين موقفًه من قليلي الوفاء من البشر، مقدرًا قيمة الوفاء عند الكلب الذي يُرافق الناس ليكون حارسهم ورفيقهم.  

 وعندما نتناول أزمة "الكلاب الضالة" والمسعورة أحيانا، في مصر بعامة والسويس خاصة، فإن هذا لا يعني أننا لسنا أقل وفاءً من الكلاب، ولا يمثل هذا خيانة لهم منَّا نحن البشر، إنما نقف أمام مجموعة من الكلاب التي باتت تهدد أطفالنا، وأمننا، وشوارعنا بل حياتنا في الأغلب، وهو أمر لا يمكن السكوت عليه، خاصة أن الأمر استفحل، وأصوات المصريين بعامة وأهل السويس بخاصة تعالت بالاستغاثات والنجدات دون مجيب من مسؤول وإن حدثت الاستجابة فتأتي في إطار حملة هزيلة ثم لا تتبعها حملات حتى ضجت الناس بالشكوى، وقد تناولت الصحافة المحلية بالسويس هذه المشكلة عام 2016م، ثم لم تتوقف الأقلام عن المطالبة بوضع حل يحمي المجتمع الأسري وهو يتصل بالأمن الداخلي وتماسكه ضد من يروعه من بشر أو حيوان، أو عدوان داخلي أو خارجي.

  والواقع يا سادة يقول أننا نقف أمام قضية متشعبة الأطراف، متشعبة المصالح، وكلما تقدمت جهة بالحل تمترست جهة أخرى ضدها تقوض كل حل وتعيد القضية إلى المربع صفر، بينما يتساقط الضحايا صرعي بين ميت ومجروح ومسحول ومريض نفسي، وسوف استعرض الجهات ومقولاتها في القضية؛ فعندما تقدمت نائبة بمقترحٍ إلى وزارتي التنمية المحلية والزراعة، بتصدير "الكلاب الضالة" إلى الدول التي تعتمد عليها في استخدامات عدة.

   صدر قرار حكومي عام 2018م من وزارة الزراعة بتصدير نحو 4100 كلب وقطة إلى عدد من دول العالم التي تسمح بتناول لحومها؛ غير أن القرار قُوبل بهجوم شديد، واعتبره المعنيون بحقوق الحيوان "منافياً للقيم الإنسانية والدينية"، ورفضه خبراء البيئة أيضا لأنه سيحدث اختلالاً بيولوجياً للتوازن البيئي، وخرقاً لحقوق الحيوان، كما رأى اتحاد جمعيات الرفق بالحيوان أن مقترح التصدير غير منطقي، ولا يعكس خطة واضحة.

   تتمسك المسئولات عن جمعيات الرفق بالحيوان بالخطة المصرية لحل أزمة الكلاب الضالة التي تقوم على توجيهات علمية لحل الأزمة، وتشمل برنامج "التعقيم والتطعيم"، وهذا البرنامج يأتي ضمن خطة مصر 2030م؛ حيث تلتزم الدولة بالقضاء على مرض السعار، وفقاً للمعايير المشتركة التي وضعتها منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، والمنظمة العالمية لصحة الحيوان، حيث يتم العمل على إعلان مصر خالية من مرض السعار عام 2030، طبقا لاستراتيجية التنمية المستدامة، وتوصيات مؤتمر التغير المناخي، ومنظمات الصحة الحيوانية العالمية.

   وأشار مدير مديرية الطب البيطرى بالقاهرة عام 2023م إلى أن عمليات تعقيم الكلاب الضالة سهلة ويستطيع إجراءها أي طبيب بيطري حديث التخرج وتكلفتها ما بين 500 إلى 1000 جنيه للكلب الواحد، وبعد صدور القانون 29 لسنة 2023 لتنظيم حيازة وامتلاك الحيوانات الشرسة والتعامل مع كلاب الشوارع، بعد صدور اللائحة التنفيذية للقانون ورصد ميزانية من الدولة للتعامل مع هذا الأمر المهم لحماية المواطنين وانتهاء المشكلة مع الأخذ بوسائل الرفق بالحيوان أيضا.

  يؤكد الطب البيطري الذي يعد الجهة المسئولة عن التعامل مع الشكاوى الخاصة بالكلاب الضالة والمسعورة، أن قلة الامكانيات هى التى تتحكم في طرق التعامل مع الأزمة، وأن المقترحات التى تقدمها بعض الجمعيات الخاصة بالرفق بالحيوان من أن يكون التعامل من خلال توفير علاجات للسعار وتطعيمات للكلاب هو الحل، هى مقترحات تحتاج ميزانيات مادية كبيرة غير متوفرة.

 ويعلن المتحدث باسم وزارة الزراعة: (ما يحكمنا هو القانون رقم 53 لسنة 66، والمنظم  لعلاقة الإنسان والحيوان، ودور الطب البيطرى فى التعامل مع الحيوان، وعادة عند حدوث وقائع لتعدى الكلاب على مواطنين، سرعان ما يتم البحث عن دور وزارة الزراعة، وفى حال اتخاذ إجراءات ضد مجموعة من الكلاب لتقليل أعدادها، يتم مهاجمتها من قبل "المهتمين بحقوق الحيوان"، واتهامها بالتعامل بشكل غير إنسانى مع الكلاب، لكن فى النهاية القانون نص على أن أى كلب غير مقود أو مكمم حتى وإن كان مُرخصا، يجوز مصادرته، والتعامل معه من خلال هيئة الخدمات البيطرية).

وأضاف المتحدث: (لدينا أزمة مجتمعية فى موضوع الكلاب، تتعلق بمجموعة من الأطراف خاصة بالتوعية للأطفال والكلاب، والمواطن ودوره فى عدم إلقاء القمامة فى الشوارع لتقليل أعداد الكلاب، والحفاظ على التنوع البيولوجى بالمعدلات الطبيعية، والقانون واضح فى مشكلة الكلاب بشكل عام، ونص على عقوبات لمن يتعامل مع أى حيوان بشكل قاسى، ونحتاج لعمل حملة توعية بالتعاون مع منظمات المجتمع المدنى، وإعداد برامج توعية للمواطنين، خاصة أن الأمر ليس مؤقتا).

 وفي الوقت الذي يدافع فيه بعضهم وبعضهن عن حقوق الحيوان في مصر، ويرون في ظاهرة الكلاب الضالة أنها مجرد أزمة مفتعلة، وأن الحالات التي تعرض لها بعض المواطنين من عض وموت هي حالات فردية، بل يجب محاكمة المتسبب فيها خاصة مع تنامي عدد مربي الكلاب الأجنبية في مصر، ويلوحون بتهديد الدولة ممثلة في جهاتها الرسمية المنوط بها التدخل، بأن مصر موقعة على اتفاقيات تقضي بحماية الحيوان وهو ما سيضر بسمعة البلد فضلا أن هذه الكلاب تساهم في الحفاظ على التوازن البيئي في البلاد.

أما الحكومة المصرية وعلى لسان وزير الزراعة عز الدين أبو ستيت فقد انتقدت ما وصفته "ضجيج بلا طحن" من جانب جمعيات حقوقية "دون إسهام حقيقي" لحل ظاهرة الكلاب الضالة في مصر.

ووفقا لما أعلنته منظمة الصحة العالمية فإن داء الكلب يتسبب في آلاف الوفيات سنوياً في أكثر من مائة بلد إلا أنّ المنظمة الدولية تسعى إلى تحقيق هدف يتمثل في القضاء على المرض لتجنب الوفيات البشرية الناجمة عنه بحلول عام 2030.

وفي مصر، وبحسب أرقام رسمية، فقد وصل عدد حالات عقر الكلاب خلال عام 2018م إلى قرابة 490 ألف حالة ما يمثل ارتفاعًا عما سُجل في عام 2017 من نحو 432 ألف حالة تعرض فيها مصريون لعقر الكلاب، ويقولون حالات فردية، والأدهي أن حالات العقر في تزايد.

     في الواقع الصراع مازال دائرًا بين الحكومة وجمعيات الرفق بالحيوان، والشواهد على هذا كثيرة، ومنها: عندما أعلنت نقابة البيطريين في أغسطس 2019م عن مقترح للتخلص من الكلاب الضالة، يتضمن تخصيص 740 مليون جنيه للحفاظ على الصحة العامة، ومقترح تنفيذه خلال 5 سنوات، والأدوات التي ستستخدم في المشروع، منها: الأمصال والتعقيم الجراحي أو الخرطوش أو السم في حالة الكلاب الضالة الشرسة، أو بالمادة السامة "سلفات الاستركنين" التي تسبب وفاة الكلاب من 3 إلى 7 دقائق.

   ثار نشطاء حقوق الحيوان في مصر وانتقدوا طريقة تعامل الحكومة مع أزمة الكلاب الضالة، معتبرين الوسائل المستخدمة "مخالفة لمعايير حقوق الحيوانات"، وأشاروا إلى ضرورة الاستفادة من تجارب الدول الغربية فى التعامل مع حيوانات الشوارع، كما تقدمت مبادرة من "مجموعة من محبي الحيوانات" ببلاغ للنائب العام ضد الهيئة العامة للخدمات البيطرية التابعة لوزارة الزراعة، متهمين إياها باستخدام مادة سامة هي "سالفات لستسرين" لتسميم الكلاب الضالة، وهذه المادة محظورة من الاتحاد الأوروبي ومحرمة دوليا، واشتملها حظر استيراد وزير الصحة لسنة 2006م، والحل عندهم يكمن في نشر التوعية بكيفية التعامل مع حيوانات الشوارع، وتمييز الحيوانات التى يتم تعقيمها بحيث لا تكون ضارة للمارة هى الوسيلة الأبرز المتبعة فى معظم دول العالم.

وتتوالى الفتاوى الدينية عن جهات الفتوى في مصر بأنه:

"لا يجوز قتل الحيوانات الضالَّة إلَّا ما تحقق ضرره منها؛ كأن تهدِّد أمن المجتمع وسلامة المواطنين". واشترطت دار الإفتاء في بيان نشر على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" على أن جواز قتل الحيوانات يتحقق فقط بأن تكون "الوسيلة الوحيدة لكفِّ أذاها وضررها مع مراعاة الإحسان في قتلها فلا تُقتَل بطريقة فيها تعذيب لها، ومع الأخذ في الاعتبار أن الأَوّلى هو اللجوء إلى جمعها في أماكن مخصصة استنقاذًا لها مِن عذاب الجوع".

   كما أوضح الأزهر الشريف حكم قتل الكلاب الضالة، منوهًا بأن الشريعة تنظر إلى الحيوان نظرة واقعيَّة؛ ترتكز على أهمِّيَّته في الحياة، ونفعه للإنسان، حيث نصّ القرآنُ الكريم على تكريم الحيوان، وبيان مكانته ونفعه للإنسان، لذلك: "فالأصل هو الإحسان للحيوانات، ومِن ثمَّ فلا يجوز قتل الكلاب أو غيرها من الحيوانات الضالَّة إلَّا إذا تحقَّق ضررها؛ كأن تهدِّد أمن المجتمع وسلامة المواطنين، بشرط أن يكون القتل هو الوسيلة الوحيدة لكفِّ أذاها وضررها، مع مراعاة الإحسان في قتلها؛ فلا تُقتَل بطريقة فيها تعذيب لها، ومع الأخذ في الاعتبار أن الأَولى هو اللجوء إلى جمعها في أماكن مخصصة استنقاذًا لها مِن عذاب الجوع حتى تستريح بالموت أو الاقتناء".

  أما إذا انتقلنا لمحافظة السويس لمتابعة جهود أجهزتها في هذا الشأن: فيطالعنا خبر منشور بجريدة الأهرام في 3 مارس 2015م: "عقد اللواء العربي السروي محافظ السويس، اجتماعا بوفد الاتحاد العربي لحماية الحياة البرية بمجلس الوحدة الاقتصادية العربية بجامعة الدول العربية، للتعاون مع محافظة السويس لمكافحة الكلاب الضالة، والغربان، والقوارض، والزواحف، ومكافحة آفات مخازن الحبوب. كما قدم الاتحاد مقترح لإقامة حديقة حيوان كاملة، وحدائق حيوانات برية أليفة، كذلك سيتم التنسيق مع جمعية الرفق بالحيوان للقضاء على الكلاب الضالة، والتأكيد على التنسيق لعقد لقاءات موسعة بالسويس ومحافظات إقليم القناة وسيناء، لتوعية المواطنين بكيفية مكافحة هذه القوارض والحشرات والحيوانات الضالة من خلال مراكز الإعلام بالمحافظة!".

 في عام 2016م تعلن جريدة الوطن أنه سادت حالة من الذعر مصحوبة بغضب الأهالى فى محافظة السويس، إثر عودة ظاهرة انتشار الكلاب الضالة والغربان، فى شوارع وميادين المحافظة، بصورة ملحوظة، وتعرُّض بعض الأطفال للعقر، مما دفعهم إلى اللجوء للجهات التنفيذية لحل تلك الأزمة، ومنع أولادهم من الخروج للشارع مع حلول الظلام.

    أكد اللواء أحمد الهياتمى، محافظ السويس، أنه وجّه المسئولين فى مديرية الطب البيطرى، بالاستجابة إلى مناشدات الأهالى والقضاء على تلك الظاهرة، بشن حملات موسّعة لاصطياد الكلاب الضالة حية، ونقلها إلى الصحراء، مشيراً إلى أنه يدرس مع المديرية، طرق التخلص من الغربان، وأوضح أن عملية التخلص منها لن تتم بقتلها، "تحسباً لرد فعل جمعيات الرفق بالحيوان"، سواء داخل مصر أو خارجها، فى حال استخدام السلاح لقتل الكلاب، كما كان يحدث من قبل، لذلك قرر نقلها إلى الصحراء، بعيداً عن الكتل السكانية.

   فيما نفى مصدر مسئول بمديرية الطب البيطرى بالسويس أن تكون عملية نقل الكلاب حية إلى الصحراء، حلاً للأزمة، مؤكداً أن المشكلة ستظل معلقة، لأن أعداد الكلاب الضالة بالمحافظة تزايدت بصورة مرعبة خلال الفترة الأخيرة، وهناك صعوبة فى ملاحقتها والسيطرة عليها لنقلها إلى الصحراء، ولفت إلى أن الحل الأمثل هو استخدام "سم الاستركنين"، للتخلص منها بهدوء.

 في عام 2018م نفذت شرطة المرافق والطب البيطري والأحياء بمحافظة السويس، أكبر حملة في تاريخ المحافظة، للقضاء على الكلاب الضالة، ووصل عدد الكلاب الضالة التي تم القضاء عليها 800 كلب، وتم استخدام السموم من أجل قتلها.

  قرر محافظ السويس عبدالمجيد صقر، إجراء استفتاء على صفحة المحافظة الرسمية بموقع "فيسبوك"، لاستطلاع آراء المواطنين حول استكمال حملة القضاء على الكلاب الضالة أم لا، وكشف مصدر مسؤول بمحافظة السويس، عن أن المحافظ لجأ لفكرة الاستفتاء بعد قيام "جمعيات حقوق الحيوان" بمهاجمة المحافظ ومسؤولي السويس بسبب قتل الكلاب الضالة، في الوقت الذي تسلم فيه المحافظ تقريرًا من مديرية الصحة، يؤكد تعرض 65 شخصًا من بينهم أطفال لعقر الكلاب الضالة خلال الـ60 يومًا الماضية في احياء محافظة السويس، وبعد تعدد الشكاوى أمام اللواء عبد المجيد صقر محافظ السويس، وجه في اجتماع المجلس التنفيذي مدير عام مديرية الطب البيطري بتكثيف العمل لمكافحة الكلاب الضالة بنطاق أحياء السويس بالتنسيق مع رؤساء الأحياء.

  كثف الطب البيطري في السويس جهوده التي بدأت قبل سنوات للتخلص من الكلاب، إلا أن بعض الحملات لا تجدي نفعا على المدى الطويل إذ سرعان ما استوعبت الكلاب الأمر وتناقصت الأعداد النافقة تدريجيا، كون الكلاب الكبيرة ذكية ولديها حاسة شم قوية للغاية، وبمرور الوقت ترفض تناول الأطعمة التي مات أصدقائها بعد أكلها، كما أن أن تلك الحملات قضت على الكلاب الصغيرة، واستمرت الكلاب الكبيرة في التكاثر والتناسل في فصل الصيف وإنتاج أعداد أخرى، مما جعل المواطنين لا يشعرون بجهد تلك الحملات، خاصة مع ولادة الإناث لأعداد مضاعفة تصل في المرة الواحدة لـ "11 جرو" صغير.

 ولقد دفع سلوك الكلاب الذكي مدير الطب الوقائي بالسويس لتغيير الطُعم المستخدم، فاستبدل رؤوس الدجاج بأمعائها التي تثير شهية الكلاب، فضلا عن أنها تغطي على رائحة السم، وأتى ذلك بنتائج إيجابية في مدن الإسكان الاجتماعي والضواحي المقامة على أطراف المدينة، خاصة بحي عتاقة وبحي فيصل إذ نفقت أعداد كبيرة من الكلاب.

 ولم تختفِ من جرائد السويس في عام 2025م عناوين: "الكلاب الضالة تهدد حياة المواطنين"، حيث باتت ظاهرة الكلاب الضالة من مصادر القلق الحقيقي للأهالي، بعد أن تحولت شوارع وأحياء المدينة إلى ساحات خطر، خاصة على الأطفال وكبار السن، وفي ظل غياب إجراءات فعالة من الجهات المختصة، أصبحت حياة المواطنين مهددة يوميًا بسبب انتشار هذه الحيوانات التي تتحرك بحرية في الأحياء السكنية.

   وناشد أهالي السويس اللواء طارق الشاذلي، محافظ السويس، بالتدخل العاجل لاتخاذ إجراءات ملموسة للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، التي باتت تهدد السلامة العامة وتشكل عبئًا نفسيًا واجتماعيًا على المواطنين، ويطالب الأهالي بتكثيف جهود الطب البيطري والوحدات المحلية للقيام بحملات منظمة للسيطرة على الكلاب الضالة، سواء من خلال جمعها أو تقديم حلول إنسانية تقلل من انتشارها وتحفظ أمن وسلامة الجميع، كما يناشد المواطنون المجتمع المدني والجمعيات المعنية بحقوق الحيوان بالمساهمة في معالجة الظاهرة، من خلال برامج تطعيم وتعقيم وإيواء الكلاب الضالة في أماكن مخصصة، بما يحقق توازنًا بين حقوق الإنسان والحيوان.

جدير بالذكر أن محافظ السويس اللواء طارق حامد الشاذلي، كان قد وجه مدير مديرية الطب البيطري بالمحافظة بتنفيذ حملات مستمرة لتعقيم الكلاب الضالة لمنع تكاثرها في الشوارع، وشدّد المحافظ، خلال اجتماع سابق، على ضرورة توعية المواطنين على كيفية التعامل مع الكلاب الضالة في الشوارع.

    في الوقت الذي يعلن فيه موقع "القاهرة 24" الإخباري نقلا عن مصدر طبي، أن عيادة أمصال عقر الكلاب الضالة والحيوانات بمستشفى السويس العام استقبلت 59 شخصا، من بينهم أطفال، تعرضوا لإصابات متفرقة نتيجة عقر الكلاب الضالة، بالإضافة إلى 27 مصابا بسبب خدوش وجروح من القطط والفئران.

   وقد أوضح المصدر نفسه أن غرفة عمليات مديرية الصحة بمحافظة السويس تُراجع دوريا توافر المخزون الخاص بالأمصال اللازمة لعلاج المصابين نتيجة هجمات الحيوانات، لافتا إلى أن وكيل وزارة الصحة بالمحافظة، وجه بفتح عيادة الأمصال بمستشفى السويس العام على مدار الساعة لاستقبال أي مصاب وتوفير الأمصال لهم مجانا، مع تقديم الإسعافات الأولية اللازمة.

  أخلص من كل ما استعرضته عن ظاهرة الكلاب الضالة ومحاولات مقاومتها أو مكافحتها في مصر بعامة والسويس خاصة، إلى أن القضية لن تراوح مكانها بل ستظل معلقة، كما ستظل أصوات الاستغاثات والمناشدات  كما هي،  وتظل القرارات الحكومية العاجزة عن الحل كما هي، مثلما ستظل توجيهات السادة المحافظين الباهتة في مصر عامة والسويس خاصة كما هي، وكما ستظل "جمعيات حقوق الرفق بالحيوان" ـ المحتمية بالقرارات الدولية والفتاوى الدينية ـ هي الأعلى والأعنف دوما، مع كونها لا تقدم حلولا بل وهما!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

·        كلمتي التي ألقيتها في المؤتمر الصحي الأول: "الكلاب الضالة بالسويس: المشكلة والحل"، المنعقد بقاعة المؤتمر بنقابة أطباء السويس في يوم الجمعة الموافق 27/60/2025م، بالتعاون والمشاركة بين: "نقابة الأطباء" و"صالون سوايسة، و"الأطباء البيطريون".

    

الجمعة، 23 مايو 2025

إدارة التنوع الثقافي في المنظمات: الآثار والتحديات..

 


    تزداد الرغبة في بناء عالم تسوده احترام الثقافات، والتعدد والتنوع الثقافي سواء أكان داخل المنظمات، أو المؤسسات الدولية، أو الشركات متعددة الجنسيات، أو في الهيئات الأممية والدولية، والمنظمات العالمية أو داخل المجتمعات، من أجل البعد عن الت
مييز المقيت بين الأفراد.


لقد برزت ظاهرة التنوع الثقافي في القوى العاملة وعدم التجانس أو التماثل بشكل واسع النطاق من خلال التباين في الجنس، واللغة، والسن، والثقافات وغيرها، حيث طغى على السطح مصطلح "التنوع الثقافي" خاصة وأنه جاء بسبب ظهور العولمة؛ إذ نادرا ما يكون هناك أي مجتمع أو شركة أو مؤسسة أو أي تجمع بشري إلا ويحوي في تركيبته عناصر مختلفة من الأجناس والأقليات البشرية.


إن إدارة التنوع الثقافي هي بمثابة إجابة تنظيمية عن سؤال يتسم بكيفية إدارة هذه الأخلاط من البشر المتباينة داخل المنظمات لتحقيق هدف "التكيف" مع سوق العمل، وتسيير الموارد البشرية بهدف خلق محيط عمل سليم وصحي، كما يمثل تسيير التنوع عملية انخراط في مقاربة تحسينية مستمرة، من أجل خلق بيئة عمل عادلة في فرصها، ومحفزة للتفوق والتنافس الشريف، ومنتجة كذلك، مع إيجاد الحلول لمختلف المشاكل التي تنبثق عن الاختلاف، واستثمارها في المجتمع.


مما يعني أن التنوع الثقافي صار ضرورة من ضرورات التعايش بين الناس، غير أنه لابد من تفعيل إستراتجية التدريب على التنوع الثقافي واحترام التعدد داخل المنظمات والمجتمعات والشركات، ذلك أن التنوع الثقافي سر من أسرار التقدم لكافة التجمعات البشرية ومن عوامل نهضتها، وأن إقصاء الآخر وتهميشه لمجرد المخالفة في التنوع الثقافي جريمة في حق الإنسانية بل ضد حقوق الإنسان ذاته، وعلى الجميع أن يتدرب على التفاهم الثقافي المشترك، من أجل أن ندير التنوع.


وهذا الأمر يجرنا إلى مقاربة مفاهيمية حول مصطلح "التنوع الثقافي" باعتباره إرث يتشارك فيه الناس، بل أصبح ظاهرة عالمية لا يكاد يخلُ منه مجتمع من المجتمعات، غير أنه يمثل أصل الإنسان في اختلافه الإثني أو العرقي أو الديني أو الجنسي، وهو ما يوجب احترامه، لأنه من خلق الله تعالى، وهو تنوع كوني أيضًا، في كل الكائنات، أي أنه في النهاية سمة من سمات الإنسانية المنتمية إلى الكون، وقد قبلت المفردات الكونية هذا التنوع، وهو ما ينبغي على الانسان قبوله واحترامه لأنه لا يمكن تغييره.  


وفي غير التنوع الثقافي وداخل الثقافة الواحدة هناك تنوع في الفروق الفردية، ومنها بالطبع فروق الذكاء، والقوة والضعف، واختلاف اللون، واختلاف الأقدار والمشيئات الإلهية من حيث الجهل والعلم، والغنى والفقر، والذكر والأنثى، وغيرها من الفروق كاختلاف البصمة، وكل هذا يقره مبدأ الاختلاف والتنوع الإنساني في ذاته، وكأنه مدخلًا كبيرًا لكي يقبل الناس بالتنوع الثقافي الذي هو تنوع حضاري، ولذا فالحضارة تحميه وتعمل على بقائه.


ويندرج تحت مصطلح التنوع الثقافي كل الألفاظ أو المصطلحات التي تشير إلى كافة التعددات على المستوى المجتمعي والحياتي والإنساني، ومن هذه المصطلحات: التعدد، والتنوع العرقي الناتج عن اختلاف البيئات، والتنوع اللغوي والتنوع اللساني والتنوع اللهجي، هناك التنوع الديني، وتعتبر ظاهرة التنوع الثقافي من معالم القرن الواحد والعشرين كنتيجة لعوامل أبرزها العولمة.


وبالتالي يجب تحديد مفهوم إدارة التنوع الثقافي التي تكمن في تمكين كافة القوى العاملة المتعددة في بيئة عملها بطريقة تتسم بالعدالة، وتتجافى عن التميز بين قوى العمل المتنوعة لكونها تتضمن العديد من المواهب والمصالح المختلفة بالإضافة إلى أنها تحقق الأهداف التنظيمية التي تضمن استمرار المنظمة من خلال تجنيد كل الموارد البشرية اللازمة لذلك، وبناء الوعي الثقافي، وإرساء قواعد المعرفة التنظيمية التي تكمن في تشكيل مجموعة من الموظفين متنوعي الثقافات من أصحاب الكفاءات العالية لتحقيق تلك المعرفة.


ومن هنا تسعى الإدارة داخل المنظمات في الإجابة عن سؤال هام عن مدى كيفية التعامل مع التنوع الثقافي ـ الذي تتزايد أهميته ـ التي تقتنع بضرورته في توفير الفرص المتكافئة للجميع، ذلك أنه يساهم في تحقيق سمعة جيدة للمنظمة في محيطها، لكن في المقابل يؤثر هذا التنوع على الأهداف التنظيمية للمنظمة، مما يفرض وجوب إعادة النظر في العمليات التنظيمية التي تتمحور حول: الفعالية التنظيمية، والرضا الوظيفي، والشعور بالاندماج، الأمر الذي يخلق تحديًا في كيفية خلق هوية مشتركة تشمل العاملين جميعهم من خلال إحساسهم بالانتماء للمنظمة، وإظهار ممارسات تطبيقية ومهنية أفضل تدعم الحفاظ على تماسك القوة العاملة المتنوعة.  


لقد نشأ مصطلح إدارة التنوع الثقافي من داخل حركات الحقوق المدنية الأميركية ثم انتشر بالتدريج حتى عمَّ قارة أوروبا، وكان أول تصور لتنفيذ برامج المساواة في الحقوق الإنسانية، ثم ما لبث أن تطور ليصبح أداة إدارية تم تطبيقها بالفعل حتى يمكن الاستفادة من إمكانات الموارد البشرية، ومع الوقت ذاع وانتشر حتى تصدر صفحات الكتابات الأكاديمية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين، خاصة بعد التقرير المقدم من طرف “جونسون باكتار” في عام 1987م بعنوان: "العمل والقوى العاملة في القرن الواحد والعشرين″، وقد نشر التقرير "معهد هادسون / Hudson Institute" وهو مركز أبحاث أمريكي محافظ وغير ربحي، الذي درس التغيرات السكانية داخل القوى العاملة واستهدفت الدراسة التغيرات التي حدثت داخل القوى العاملة من خلال التعرف على الهيكل العمري، ودخول النساء أو ما يسمى بالنوع الاجتماعي أو الجندر، ودخول العرقيات الجديدة، مما ترك أثره الإيجابي على قطاع إدارة الأعمال الدولية.


التنوع الثقافي في المنظمات: تحدياته وآثاره:


أولا: تحديات التنوع الثقافي في المنظمات:


غالبا ما يواجه التنوع الثقافي العديد من التحديات التي تكون قوية وحادة، وأسوأ ما يظهر التنوع الثقافي في نفوس الآخرين، هو رفضهم للتنوع وليت الأمر يقف عند الرفض النفسي، بل يتعداه للإقصاء والتهميش، ومنها تصفية كل ما هو تنوع أو تعدد، إلى حد التطهير من المجتمعات، والاكتفاء بثقافة واحدة بعينها، وهو ما يعني انتفاء العدالة الاجتماعية التي تعني اقتسام الحياة في المجتمع، واقتسام الأرزاق، والعيش في أمان وكرامة وحرية ودون اضطهاد، وما يحدث في المجتمع هو بعينه ما يحدث في المنظمات ومنها الصعوبات الجمة التي يواجهها بعض المسؤولين والمديرين ورؤساء العمل، وذلك عندما يكون تحت إدارتهم أفراد آتون من خلفيات وبيئات ثقافية متباينة، ويحاول المسؤول وضع مقاييس تناسبهم جميعًا.


تشكل اللغة المتعددة حاجزًا يحول دون التواصل بين المجموعات البشرية داخل المنظمات والذي غالبًا ما ينجذب كل أصحاب لغة واحدة لبعضهم دون أصحاب اللغات الأخرى على الأغلب، هذا إلى جانب أن إدارة المنظمات كثيرُا ما توجه اهتمام لا يتسم بالعدالة تجاه مجموعة الأغلبية على حساب الأقليات وهو ما يكون في بعض المجتمعات ومثله تماما داخل المؤسسة الواحدة، وقد تثور النزاعات نتيجة الاختلاف في الآراء أو في وجهات النظر تجاه أمر من أمور العمل أو الحياة، كما يمثل الاختلاف في الدين عاملا من أقوى التحديات داخل المجتمعات أو المؤسسات، وقد تؤثر المذاهب الدينية على قيم العمل، وهو الأمر الذي يوجب إدارة التنوع الثقافي بحكمة بين المختلفين.


ثانيا: عناصر التنوع الثقافي في المنظمات:


أجمل ما في التنوع الثقافي أنه يرسي مبادئ التسامح وقبول الآخر، وتعدد الثقافات، والانفتاح عليها، ويتيح للإنسان أن يتعرف علي قيم وعادات وطبائع جديدة مخالفة لما عليه هو، مما يتيح تبادل ثقافي، وخبراتي مهم، وإرساء مبدأ الاحترام للتنوع، والتغاير، والتمايز، والسعي للتعرف على الجوانب الإيجابية فيها والاستفادة منها، بما يعني قبولها، غير أنه يجب على المدير في إطار العمل الدولي أو المنظمات أن يراعي ما يمكن أن يتضمنه عناصر التنوع الثقافي التالية، وهي:


ـ القيم والاتجاهات في المنظمات الدولية:


يجب على المدير أن يراعي التباين الموجود في القيم التي تسود بعض اﻟﻤﺠتمعات والتي تنعكس بطبيعة الحال على القيم التي يؤمن بها الأفراد العاملين في المنظمة الدولية من هذه الدول، وعليه أن يتولى تشخيص القيم التي تسود تلك الدولة التي تنوي إدارة المنظمة ممارسة النشاط فيها، حتى يتمكن من فتح قنوات الاتصال وتبادل المعلومات مع الجميع.  


ـ اختلاف منظور العاملين لقيم العمل:


غالبا ما تختلف نظرة العاملين في المنظمات إلى العمل من دولة لأخرى، كذلك تختلف نظرتهم إلى العطلات ، وبالتالي تؤثر نظرة العاملين للعمل على الأسلوب الإداري الساري في المنظمة.


ـ آراء التغيير والتجديد: 


 دراسة أحوال الناس في مجتمعاتهم تجاه رفض أو قبول التطوير والتجديد، في حين أن بعض الأفراد في المجتمع يقبلون التغيير وآخرون يعارضونه، وما يسري على الناس يسري على العاملين.


 مراحل إدارة التنوع الثقافي وآثاره: 


أولا: مراحل إدارة التنوع الثقافي: 


جاءت مراحل إدارة التنوع الثقافي من خلال اهتمام منظمات الأعمال العالمية بقضايا إدارة التنوع بحسب قوة العمل وفق مستويات متعددة، تبدأ غالبا في بعض الفترات بإبداء الرفض في قبول التنوع الكبير بل غالبا ما يكون هناك توجه عام كلي نحو سيادة الثقافة الواحدة أو الموحدة داخل المنظمات، بحيث لا تقبل الاختلاف أو انبثاق ثقافات فرعية، لكن هذا الموقف ما لبث أن تغير في عالم الأعمال اليوم بعد أن أصبح التنوع الثقافي حالة إيجابية تستطيع الإدارة من خلالها تعزيز القدرات التنافسية، مما خلق إجماع عالمي هدفه إيجاد الأساليب والطرق المختلفة الهادفة للترحيب بخلق تكامل ثقافات متعددة وليس بثقافة موحدة للمنظمة من خلال مراحل تطور الوعي بالتنوع الثقافي التي تبدأ بالتكامل، باعتباره سلوكًا متعدد الثقافات في ذاته، مما يعين الشركة على أن تجعل من التنوع والاختلافات نموذجا تتكامل فيه الرؤى سلوكيًا أو إدراكيا أو بالتعامل مع الواقع المعيش، ثم تأتي مرحلة القبول للآخر تتبعها مرحلة تقليل الاختلافات بين العاملين.


ـ ضرورة بناء استراتيجية لتطوير التنوع الثقافي بالمنظمة:


لضمان تحقيق النجاح لمراحل إدارة التعاون الثقافي، كان من الضروري بناء عملية لتطوير الوعي بالتنوع والتكيف معه، ومن خلالهما يمكن الانطلاق من الاعتماد على عنصرين هامين، وهما: المنظمة والأفراد، ويبقى من الممكن قبول التنوع والتعدد الثقافي من خلال أربعة سلوكيات تأتي متراتبة، وهي: الفهم، والصبر، والتسامح، والرغبة في تبادل الحوار مع الآخر في إطار التنوع.


ثانيا: آثار التنوع الثقافي: 


من أهم آثار التنوع الثقافي الذي يعمل داخل المنظمات أثر السلبية واللامبالاة وهو غالبا ما يكون ناتجا عن الحواجز والحدود الكامنة بين الأفراد، وتصنع ـ بدورها ـ عددا من الآثار، ومنها:


 ـ التعصب العِرقي:


وهو ما يكون من ميل طبيعي للشخص داخل المنظمة للمجموعة التي ينتمي إليها عِرقيا أو إثنيا، أو ينتسب لكل حزب أو مجموعة من فِرق العمل التي تعمد إلى وصف الفِرق الأخرى بنعوت تضايقها، كما تعمد إلى التقليل من إنجازاتها، باعتبار أنهم الأفضل إنجازًا والأمهر والأذكى، كما توجد اختلافات بارزة في الأعراف والبديهيات والمُسلمَات الاجتماعية، ومنها ما يبدو في تقدير وأهمية الوقت، وما يرتبط به من أهمية سرعة الإنجاز وحسن تقدير الوقت منسوبا للعمل والأداء، وطريقة الحديث، ونبرة الصوت المصاحبة له، والتعصب العرقي يفرض انحيازات سأتناولها في التفرقة العنصرية التي يعاني منها أفراد كثيرة من العاملين.


ـ التفرقة العنصرية:


وهي فرع من فروع التعصب العرقي ويقوم في الأساس على ركائز الجنس والدين واللون واللغة والعقيدة الدينية والمذهب الديني أو السياسي أو الحزبي وكل هذه الاختلافات تترك آثارها على إدارة الموارد البشرية داخل المنظمة من خلال التحيز في التعيين بالعمل في وظائف معينة، أو اختيار الترقيات والوظائف والمناصب الأعلى لأناس بأعينهم، ومنح المزايا التفضيلية العينية من مسكن ونقل وتأمين صحي، بل وهناك تمييزات تحدث في تنوع الأجور بشكل ملحوظ ومبالغ فيه.


 ـ التجني أو التحامل أو التصرف العدائي: يتفرع عن هذا الأثر العديد من الأشكال التي تتمثل في:


أ ـ التحامل المرتكز على الحالة الجسمية: وهو ما يمارسه البعض ضد المعوقين أو المشوهين، وكانت النظرة إليهم غير الجيدة في عدم إلحاقهم بالعمل، غير أن القوانين الصادرة لحماية حقوقهم، جعلت من الشركات تتقبل إلحاقهم بالعمل لتقليل التعصب ضدهم.


ب ـ التحامل المرتكز على العرق والجنس: وهو ما يمارسه البعض من أصحاب الجنس الواحد عندما يقتنعون بأنهم هم مركز الكون والعالم والمنظمة، ويعتبرون بقية الأجناس الأخرى متدنية في الترتيب البشري، وغالبا ما يقوم التفضيل داخل المنظمة على كون الجنس الأبيض مثلا هو الأقدر على تسيير العمل والإنجاز، بينما بقية الأجناس الأخرى مُعوِقة في العمل ولا تنجز مثلهم، وهذا السلوك المتحامل من بعض القوى الواحدة وغالبا الأغلبية والذي يمارسونه ضد بعض الأقليات مما يدفع تلك الأقليات إلى رفع القضايا للتشكي ممن يمارسون معهم مثل هذا السلوك العنصري، الأمر الذي يترك أثرا سيئا وسلبيا على المنظمات والشركات التي يمارس فيها بعض الأفراد هذا السلوك ويفوز الطرف المعتدى عليه بالقضية بينما سيسجن الخاسر زمنا ما، وهو ما يعني حرمان المنظمات من عمالتها المتفوقة والكفاءة، وينعكس أيضا بالسلب على نفس الفئات داخل المجتمع مما يقوض بنيانه.


ج ـ التحامل ضد العنصر النسائي في المنظمات: وهو تحامل صار مصدرًا للشكوى الدائمة خاصةً من العنصر النسائي داخل العديد من منظمات الأعمال على مستوى العالم، ويتمثل في وقوف بعضهم ـ بضراوة ـ في تحجيم مكانة المرأة في العمل، وتقزيم دورها، وحجب ترقياتها أو تثبيتها عند درجة معينة لا تتجاوزها، وغالبا ما تتم مثل هذه الفعاليات بسرية تامة ودون مكاشفة فيما يُعرف بسياسة: "الأسقف الزجاجية" التي لا يستطيع أحد أن يراها بينما تخفي كل أنواع التحامل الذي يُمارس ضد المرأة، وغالبا ما لا يوجد أسباب منطقية تعوق الترقي للمرأة بسبب التمييز والتفرقة والتحيز، لتحول بينها وبين الوصول لمستويات أعلى في الإدارة وهو أمر يترك أثره على المرآة بشكل عام داخل المجتمع حتى التي لا تعمل، لشعورها بالقهر الممارس بانتظام ضد بنات جنسها مما يخلق احتقانا وانشقاقا بين الرجل والمرأة، خاصة عندما تثبت المرأة جدارتها واستحقاقها.


للتنوع الثقافي أهمية قصوى داخل المجتمعات والمنظمات، ولئن جعل الله التعدد والتنوع والاختلاف سنة كونية لعلمه ـ سبحانه ـ بما يريده لتسيير الكون، وحاجة الناس إليه وإن غابت عنهم حكمته، غير أنه في النهاية لصالحهم، وأن المشكلة لا تكمن في التنوع الثقافي وإنما في كيفية إدارته وهو الأمر الذي يجب أن يفهمه من يديرونه، إلى جانب أطقم العمل معهم داخل المنظمات.


ومما يوجب تنبيه أذهان الكافة إليه أن نجاح إدارة التنوع الثقافي في المنظمات المتعددة الثقافات يستوجب إعطاء فرصة للأقليات والنساء، وتوسيع قنوات الاتصال بين العاملين المختلفين ثقافيا، ومحاربة كل أشكال التمييز، واستثمار ظاهرة التنوع الثقافي باعتبارها خبرات إنسانية متراكمة، تترك تأثيرها المختلف في تجانس وتناغم وتقارب الثقافات بديلا عن التباعد بينها، وينعكس نجاح إدارة التنوع الثقافي في المنظمات على كافة الفئات المختلفة ثقافيا في المجتمع مما يزيد تماسكه، ويذوب الفوارق الطبقية، ويقلل من النظرة العنصرية، وبالتالي تنتصر القيم الإنسانية المطلقة في نظرتها للبشر على أساس العمل والعطاء والنماء والفرص المتكافئة في ظل تنافس شريف مشروع مفيد.




مراجع للاستزادة:


1ـ غرياني، عبدالحميد (2016)، إدارة التنوع الثقافي في الشركات متعددة الجنسيات، مج5, ع، 2، مجلة الحوار الثقافي، جامعة عبدالحميد بن باديس - كلية العلوم الإجتماعية - مخبر حوار الحضارات والتنوع الثقافي وفلسفة السلم، الجزائر.


2ـ براهمى، زرزور (2015)، إدارة التنوع الثقافي داخل المنظمات دراسة حالة: مىظمة الصحة العالمية ، أعمال المؤتمر الدولي الثامن: التنوع الثقافي، مركز جيل البحث العلمي، طرابلس، لبنان.


3ـ حليمي، إلهام (2020)، إدارة التنوع الثقافي كإستراتيجية لبناء ميزة تنافسية بالمؤسسة: قراءة في تجربة مؤسسة "International Business Machines IBM"، م مج9, ع2، مجلة أداء المؤسسات الجزائرية، الجزائر.


4ـ الخفاجي، وليد عبد جبر (2016)، إدارة التنوع الثقافي واستدامة التنمية في المجتمعات الانتقالية: العراق أنموذجا: دراسة اجتماعية - تحليلية، ع119، مجلة الآداب، جامعة بغداد - كلية الآداب، العراق.


5ـ حموده، عبدالناصر محمد علي (2006)، إدارة التنوع الثقافي في الموارد البشرية، س 28, ع 107، معهد الإدارة العامة ، سلطنة عمان.


6ـ نجلاء، نعمان (2018)، إدارة التنوع الثقافي بين النظرية والتطبيق، ع9، مجلة الرسالة للدراسات والبحوث الإنسانية، جامعة بغداد - كلية الآداب، الجزائر.



الاثنين، 19 مايو 2025

"السرقات الأدبية: بين الأمانة العلمية ـ الفكرية والإبداع المزعوم"..

 


أدارت الحوار معي الإعلامية والأديبة السورية روعة محسن الدندن: مديرة مكتب سوريا للاتحاد الدولي للصحافة والإعلام الالكتروني، وسفيرة النوايا الحسنة وحقوق الانسان لمنظمة الضمير العالمي ولحقوق الإنسان والعضوة بعدة اتحادات عربية.

ـ  أهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء المميز، الذي نسعى من خلاله إلى مناقشة أحد المواضيع الحيوية في عالم الأدب والنقد، وهو السرقات الأدبية، وتأثيراتها على العمل الأدبي، والمجتمع، والثقافة.

تُعد السرقات الأدبية قضية شائكة ومُلِحة في عصرنا الحالي، حيث أصبح التميز والإبداع في عالم الأدب يواجهان تحديات متعددة، تتراوح بين الأمانة العلمية والفكرية، والحقوق الأدبية، وتأثيرات العصر الرقمي على نقل الأفكار والتأثيرات المتبادلة. كيف نتعامل مع هذه الظاهرة؟ وكيف يمكن أن يؤثر الانتحال على مصداقية الكتَّاب والأدباء؟ وهل توجد معايير ثابتة يمكن أن تميز بين التأثيرات المشروعة والسرقة الأدبية؟

هذه الأسئلة وأكثر سنناقشها اليوم مع ضيفنا الكريم، الذي يسعدنا أن نرحب به، الدكتور السيد إبراهيم، أحد الباحثين البارزين في مجال الأدب والنقد، والذي له العديد من المساهمات الأكاديمية القيمة. الدكتور إبراهيم هو شريك لعدة حوارات أدبية هامة، ويُعد من القامات الفكرية التي تسهم بعمق في إثراء النقاشات الأدبية الأكاديمية.

إنه لمن دواعي سروري أن أرحب بضيفي الكريم، الذي سيقدم لنا رؤى وتحليلات غنية حول هذه القضية المعقدة. ونحن على يقين أن حوارنا اليوم سيكون غنيًا بالأفكار والنقد البناء.

أهلاً وسهلاً بك، دكتور إبراهيم، في هذا الحوار الهام. نبدأ الآن حوارنا، ونحن في انتظار آرائك القيمة وتوجيهاتك الفكرية:

ـ ما هو الخط الفاصل بين الاقتباس المشروع والسرقة الأدبية في الأدب المعاصر؟

   يسعدني أن نبدأ حوارا هاما وجادًا محاورتنا الكبيرة روعة هانم الدندن التي دائما ما تبحث عن القضايا النوعية المؤثرة في الفكر العربي المعاصر، ومنها قضية السرقات الأدبية تلك القضية القديمة الجديدة والمتجددة، وأوقن أنني لا أعلم متى بدأت في أفق التاريخ البشري بشكل عام غير أنني أعلم يقينًا أيضا أنها لن تنتهي إلا بنهاية كوكب الأرض.

  والاقتباس سواء في البحث العلمي أو الأدبي أو المسرح أو السينما مشروع إذا تم استخدامه بشروطه، ولو تم مخالفة شرطِ منه تحول إلى النقيض، أي سيصبح سرقة في المطلق. ومفهوم الاقتباس العلمي والمشروع أن يأخذ الباحث أو ينقل بعض المعلومات نقلا حرفيا نصيا من أحد المصادر البحثية والمعرفية، لخوفه من أن يخل بمعناها أو مبناها فيما لو أعاد صياغتها بأسلوبه، على أن يدرجها في بحثه أو كتابه، مع  ضرورة أن يقوم بتوثيق المراجع أو المصادر التي نقل أو أخذ منها، وهو ما يعني أنه بهذا الصنيع يحفظ حقوق الكاتب الأصلي، ولو صنع غير هذا كان مخالفًا لأخلاقيات البحث والإبداع، والأمانة العلمية.

ـ إذًا يا دكتور الاقتباس ليس في البحث العلمي أو الأدبي وحده ولكن في السينما والمسرح.. أليس هذا ما تقصده؟

 نعم يا فندم، بل الاقتباس أيضا في الموسيقى، غير أن لكل فن من هذه الفنون شروطه في الاقتباس ولو خالفها المبدع كان سارقا كما أسلفنا، والذي يحدد هذه الشروط أهل كل فن منهم؛ فالاقتباس في المسرح تعني إعادة صياغة المسرحية العالمية من حالة معينة كانت عليها إلى صياغة أخرى، وهو ما تجدينه مكتوبًا "إعداد" لكن لو أخذ أحدهم الفكرة وأدخل عليها بعض التعديلات صار هذا الصنيع "اقتباسًا"، وذلك لأن النص في أصله العالمي يناسب بيئته وثقافتها، وقضاياها، وعند نقله لمجتمع آخر لابد أن يناسب ثقافتها وقضاياها مع ضرورة الإشارة إلى أن العمل مقتبس من مسرحية كذا.

   والاقتباس السينمائي يكمن في تحويل رواية إلى فيلم، على ما فيه من اختلاف بينهما، فيرى البعض أن الاقتباس يعد تناولا فنا وإبداعًا جديدًا للرواية التي ستتعرض بعض أحداثها وشخوصها لعمليتيّ الحذف والتغيير، ولا يعد هذا الفعل خيانة من المُقتبِس، لكنها ضرورة تفرضها متطلبات الفيلم، ولا تدخل في باب السرقات.

   وللتفرقة بين الاقتباس الموسيقي والسرقة وضعتْ جمعية الموسيقيين معيارها الذي تُقَّدِر به حالات السرقة التي تثبت بعد نقل أحد الموسيقيين أربعة موازير كاملة، والمازورة تعني الجملة الموسيقية، غير أن الاقتباس يكمن في التنويع على جملة موسيقية واحدة فى لحن من اقتبس، والاقتباس في السينما والموسيقى يحتاج لتفصيل ليس هنا موضعه.

ـ هل تختلف المعايير بين الأنواع الأدبية (الشعر، السرد، المقالات الأكاديمية) من حيث ما يُعتبر سرقة أدبية؟

       الاتفاق العام على أن السرقة الأدبية أو العلمية أو الفنية ينصب على فعل الفاعل الذي ينسب لنفسه عملا  ليس من  إبداعه أو ابتكاره، وبالنسبة للبحث العلمي الأكاديمي هناك الكثير من المؤلفات والمطبوعات التي تعلم الباحث ضوابط وقواعد الاقتباس وتجنب السرقة، وفي الجامعة يلجأ الأساتذة للبرمجيات التي تكشف السرقات. وأنبه أن السرقة الأدبية فضيحة قبيحة مرذولة قد تُنهي مستقبل مرتكبها، كما أن السرقات الأكاديمية في البحث العلمي تغطي الوطن العربي على اختلاف دوله، وليس هذا ببعيد عن الدول الغربية، وبالنسبة للشعر فقد وضع النقاد القدامى وبعض المعاصرين العديد من القواعد، ومنها التساهل مع سرقة الشعر فيما يسمى بـ "حسن الآخذ"، وذلك في حالة  لو أن القائل بالمعنى الجديد للبيت القديم أعمق ممن أخذه منه. ومما يذكر أن النقاد العرب القدامى قد تعرضوا لهذه القضية التي صنفوها إلى: الانتحال، والإنحال، والإغارة، والمواردة، والمرادفة، والاجتلاب والاستلحاق، والاصطراف، والاهتدام وغيرها.

  وقد طالت السرقة السرد القصصي والروائي كبار أدباء الغرب والشرق على السواء الذين يحتلون مكانة سامقة في الإبداع، ومنهم من دافع عن نفسه واعترف بجريرته في الشباب، ومنهم من لم يدافع واستمر في إنتاجه الأدبي ضاربًا بكل الاتهامات عرض الحائط مع كونها صحيحة، ومنهم من طاله السجن والغرامة.

 . هل يمكن اعتبار التأثيرات الأدبية والاقتباسات المتكررة جزءًا من الإبداع الأدبي، أم أنها تساهم في خلق حالة من "الاستنساخ الأدبي"؟ وهل يتحمل الكاتب مسؤولية الحفاظ على أصالة عمله؟

   التأثيرات الأدبية لها مكانتها في كل فن من فنون الإبداع بل والبحث العلمي كذلك، والفنان والأديب وغيرهما يتأثران بمن سبقهما، ويقلدانه في أول أمرهما ثم مع النضوج الفني والعلمي يتخذ كل مبدع أسلوبه الذي ينفرد به ويتميز فيه عن غيره، وإلا صار تابعًا ومقلدًا ولا وزن له في دنيا الفكر غير الترديد والتقليد.

   والاقتباس من الضرورات التي يستند لها العالم والأديب سواء في البحث العلمي أو الأدبي؛ فالاقتباس ضرورة فكرية وعلمية يتم عن طريقه ـ أي الاقتباس ـ  تحقيق التفاعل بين أفكار السابق واللاحق من الأجيال، ومن خلال التفاعل يتم تقديم أفكار جديدة، ورؤى عميقة قد تبني على ما سبق ولكنها تساهم في تطوير الأفكار، أو تصويبها، أو تفسيرها، ولهذا لا يمكن اعتبار الاقتباس سرقة ما دام من اقتبس ذكر ذلك في متن كلامه أو في الهامش وفي صفحة المراجع، مما لا يُعد الاقتباس استنساخا بل مرجعية يستند عليها الكاتب أو الباحث ليؤيد قوله الجديد في طرحه، مما يجعل الاقتباس جزءًا أصيلًا من الإبداع الذي استند عليه.

   تنتهي مسئولية الكاتب عندما يقدم عمله إلى دور النشر ليخرج للقراء، بعد أن تأخذ هذه الدور الموافقة من الجهات المعنية بالتوثيق وحق الملكية الفكرية والإذن بالنشر، وقبل كل هذه الإجراءات هو الذي يقع في مسئوليته من الصبر والدأب في تقديم إبداع غير منقول عن غيره نقلا تاما، أو من غير الإشارة إلى النقل في هوامشه ومراجعه ومتن نصه، وأن يكون قد أتى بما يرضي عنه من إبداع يراه غير مسبوق في كله أو معظمه، والأصالة هنا محل خلاف بين السابقين واللاحقين من النقاد والبلغاء، بل بين الغربيين أنفسهم، ومنهم "لانسون" الذي يقول: (إنَّ أمعن الكُتَّاب أصالةً إنما هو راسب من الأجيال السابقة. وبؤرة للتيارات المعاصرة، وثلاثة أرباعه مُكوْن من غير ذاته، فلكي نجده ـ نجده هو في نفسه ـ لابد أن نفصل عنه كمية كبيرة من العناصر الغريبة، يجب أن نعرف ذلك الماضي الممتد فيه، وذلك الحاضر الذي تسرب إليه، فعندئذٍ نستطيع أن نستخلص أصالته الحقيقية، وأن نقدرها ونحددها).

 . كيف تؤثر السرقات الأدبية على علاقة الكاتب مع جمهوره؟

  بعض جمهور الكاتب يتأثر، وبعضهم يستمر في شراء إبداعاته وقراءتها، وهناك من الأسماء الكبيرة في سماء الإبداع العربي من الشعراء والروائيين والكتاب، ممن قامت الدنيا حولهم ولم تقعد عن تتبع ورصد سرقات في ثنايا أعمالهم، أو سرقة العمل ونشره دون تغيير فيه لظن الكاتب أن قِدَم النص لن يجعل أحدهم يلتفت إلى أنه ليس له، ولشهرتهم يستضافون في البرامج التلفازية بل لبعضهم برنامج كل عام، وتستضيفه الدول العربية في منتدياتها ومعارضها، ولم يناقشه أحد في سرقاته.

. هل يجب أن نعيد تعريف مفهوم "الملكية الفكرية" في عصر الإنترنت والمصادر المفتوحة؟

     أولا يجب أن نبين ما هو مفهوم الملكية الفكري، وهو يعني ملكية الإبداعات الفكرية مثل: الاختراعات والأعمال الأدبية والفنية ومصدرها، من تصميمات ورموز وأسماء، وكذلك الصور والعلامات التجاريّة الخاصة بالمشاريع والشركات المستخدمة في التجارة. وهو مفهوم يدخل عليه التطور مع ظهور ما يهدد تلك الملكية، خاصة وأن القوانين التقليدية مثل اتفاقية برن واتفاقية باريس، قد تبدو غير كافية لمواجهة تحديات العصر الرقمي، خاصة في وجود العديد من التحديات القانونية في حماية الملكية الفكرية في العصر الرقمي، ومنها: القرصنة الرقمية التي يمارسها البعض في نسخ المحتوى الرقمي مثل: الأفلام والموسيقى والبرمجيات دون إذن قانوني، وخطورتها تكمن فيما تحمله من خسائر مالية كبيرة للمبدعين والشركات، غير أن تأثيرها الأخطر يكمن في فتور الحوافز الإبداعية والابتكارية عند أصحاب الإبداع الأصليين الجادين، وهو ما يؤثر بالسلب على كافة المجتمعات البشرية.

 كما أن من التحديات القانونية أن التكنولوجيا الحديثة يسرت نشر المحتوى المحمي بحقوق الملكية الفكرية على نطاق واسع وبسرعة خارقة، مما يجعل مسألة تتبع الانتهاكات القانونية واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الحقوق الملكية أمر صعب جدا، يساهم في هذا أيضا ظهور تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي وتقنيات البلوك تشين لتسجيل الملكية بطرق أكثر موثوقية وأمان، واعتماد الذكاء الاصطناعي لرصد الانتهاكات، غير أن الأمر يتطلب تعاونًا دوليًا أكبر لتوحيد قوانين حماية الملكية الفكرية.

ـ مع انتشار الأبحاث المتاحة على الإنترنت ومنصات النشر المفتوح. هل يظل التمييز بين الأصالة والسرقة الأدبية بنفس الأهمية التي كان عليها سابقًا؟

  مازال وسيظل ولن ينتهي؛ فأصالة البحث العلمي، والإبداع، والبحث الأدبي من أهم الدلائل على وجود العقول المفكرة، والقلوب النابضة بضرورة تطور المجتمع من خلال آلياته العلمية والإبداعية، ولا يمكن أن ينتصر الباطل على الحق تحت أي دواعي أو دوافع،  وهناك من الضوابط الكثيرة التي تتحرز لها الجامعات والمعاهد العليا والأكاديميات للتعرف على الأصيل من المزيف، خاصة وأن هناك بند الدراسات السابقة في خطة البحث للماجستير والدكتوراه وضرورة الإتيان بالجديد خاصة في الدكتوراه، وتبادل تلك الرسائل مع الجامعات مما يجعل أمر اكتشافها بعد ذلك ليس ببعيد، ويجعل من سحب الدرجة العلمية إجراء تلجأ إليه الجامعة لتنقية وحماية هيئة تدريسها وبالتالي حماية الطالب ثم المجتمع كذلك.

. هل يمكن اعتبار بعض السرقات الأدبية "ابتكارًا" أو "تحويرًا" لأفكار سابقة بشكل لا يتسبب في استغلال غير أخلاقي؟

  قد يكون كذلك فيما لو أشار الباحث أو المبدع إلى أنه سيقوم بذلك؛ لظهور نظريات معرفية جديدة، أو اكتشافات أثرية، أو خروج بعض المخطوطات إلى النور، أو ظهر بعض مذكرات أحد المعاصرين وتؤثر في بعض الحقائق التي يجب تعديلها أو تصويبها، المهم الالتزام بالأمانة العلمية والحيدة والنزاهة.

.  ما هو الدور الذي تلعبه التقنيات الحديثة مثل برامج كشف الانتحال في توجيه مسار السرقات الأدبية؟

 إن برامج فحص السرقات الأدبية كثيرة والأفضل منها ما كان مدفوعا له المال، حيث أن الأخطاء تكون مصاحبة للبرامج المجانية، وسأذكر أهمها دون اسمها بل عملها:

ـ برنامج يمكنه فحص أي نص يتألف من ألف وخمسمائة كلمة، وهو من البرامج المجانية التي تقوم على مقارنة النص المطلوب مع آلاف النصوص الموجودة عبر الانترنت للتأكد من نسب الاقتباس أو السرقات الأدبية فيها، وهناك برنامج من أهم البرامج على مستوى العالم، وتستخدمه الكثير من الجامعات ومدرسيها وطلابها لما تميز به من موثوقية ومصداقية نتائجه، حيث يقوم بتلوين أماكن الاقتباس بعدة ألوان تشير لنسبة الاقتباس وهو ما يعني أن هناك صراع بين الجامعة وبين الطلاب في كشف سرقاتهم العلمية لن ينتهي.  

ـ هل تجعل هذه البرامج العمل الأدبي أكثر أمانًا أم أنها تشكل تهديدًا للإبداع بسبب الضغوط التي تفرضها على الكتاب؟

 في الواقع العلمي والأكاديمي لا تشكل هذه البرامج ضغوطا إلا على السارق ومن يقوم بمراجعة كتابه أو بحثه الأدبي أو العلمي، لأن الغاية أن ينشأ طالب العلم على البحث بأمانة، وأن يكتسب ثقة في نفسه وقدراته، مما يلزمه بإعمال العقل والتفكير والتأمل، ولا يلجأ إلى أهون أنواع النجاح بالحصول على التقديرات المناسبة له بزعمه ولا يستحقها للجوئه إلى القص واللصق دون الفهم والعلم.   

ـ هل هو التوازن بين التقليد والإبداع هو ما يشكل معيار العمل الأدبي الأصلي؟

غالبا ما نبدأ أو بدأنا جميعا بالتقليد والمحاكاة لمن أعجبنا إبداعهم، فصرنا نقلدهم، والتقليد ليس بالأخذ من الفن بل من الفنان، ثم مع العلم والفهم وتطور السلوك المعرفي قد ننسلخ لنبحث لنا عن بصمة فكرية أو إبداعية تشبه ذواتنا، وليس هذا معناه أننا لم ولن نتأثر، أو قد نقع في منطقة توارد الخواطر وغيرها. ومعيار العمل الأدبي الأصلي يكمن في أصالة الفكرة والأسلوب الذي ينتهجهما المبدع، ويصبر على نفسه ولا يتعجل الشهرة والثروة، والمبدع المقلد، مع ما بين الكلمتين من تنافر، ليس إلا نسخة تضاف لصاحب الإبداع الأصلي، ولن يجد هذا المقلد من يقلده في وجود الأصل.

. هل يمكن اعتبار السرقات الأدبية حالة من "الفقر الإبداعي" أم أنها مجرد نتيجة لظروف اقتصادية أو اجتماعية معينة؟

   السرقات الأدبية عمل إجرامي بامتياز، وسطو أفظع وأكبر من السطو المسلح،  ولا يبرره تدني الظرفية الاجتماعية أو الاقتصادية، بل يبرره فقط المنحى الأخلاقي للسارق، والإبداع الحق المبتكر خرج من رحم الظروف الاقتصادية الطاحنة لكثير من المبدعين، ولم يكن عائقًا لهم بل دافع، ووجدوا في الإبداع بغيتهم وسلوتهم وتفردهم وتميزهم عن غيرهم من البشر قاطبة.

   إن الذين يسرقون الفكر الإبداعي لغيرهم يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم؛ لأنهم يسرقون ثمرات السنين من التحصيل والتعلم والدرس وإعمال العقل، وحبس النفس عن الملهيات والمسليات، والانقطاع في محاريب العلم والتفكر ليخرجوا بهذه الثمرات التي تميزهم إلى النور، فإذا بخسيس أو خسيسة ينقض فيسرق كل هذا وينسبه لنفسه بجرة قلم دون أن ترتعد فرائصه خوفا من الله، والفضيحة فيما لو تم اكتشاف أمره، وتقدم صاحب الإبداع للقضاء وقضى له، وعلى السارق أو السارقة بالغرامة والسجن.

ـ ما العوامل التي قد تدفع كاتبًا إلى ارتكاب السرقة الأدبية، وهل يمكن تصنيف هذه الأسباب من منظور اجتماعي أو ثقافي؟

   السرقة الأدبية خلل في الأخلاق والتنشئة الاجتماعية والنظام التربوي للسارق، وليس هناك سبب واحد يدفع للسرقة الأدبية من أي منظور على الأرض، وأقابل وأكلم ناس أعلم ويعلم غيري أنهم من السراق ومع هذا لا يخجل بل يستمرأ السرقات وينفيها عن نفسه ويتهم غيره بها، بل يسرق ويعيد الصياغة ويحصل على التقديرات المزعومة في شهادات دكتوراه صادرة عن بعض المجلات الفيسبوكية التي تتسم بالجهل المدقع، ومنهم من صار من أصحاب المنتديات الأدبية والصالونات، وأقول مع الفاروق عمر رضي الله عنه: "اللهم إني أعوذ بك من جَلد الفاجر وعجز الثقة"، وممن يرجوننا ألا نعلن عنهم سواء في بيئاتنا المحلية أو العربية.

 . هل السرقات الأدبية تعكس أزمة في النظام التعليمي والتدريسي للمؤلفين الشباب؟

 ليس هناك علاقة مباشرة بين النظام التعليمي والمؤلفين الشباب بصفة عامة، بل العلاقة تكمن في لجوء الطلاب خلال المراحل التعليمية المختلفة بكافة بلداننا العربية إلى استسهال النقل، وتعطيل العقل، وذلك نابع من إصرار بعض المدرسين وبعض أساتذة الجامعة على تكليفهم بعمل بحوث مع كونهم لم يستوعبوا أو يفهموا المقرر الدراسي تماما، وبالتالي ليس هناك من طريق أمامهم سوى سرقة البحوث من النت، أو الدفع لمن يعدها لهم.

ـ هل تعكس السرقات الأدبية غياب الإرشاد المناسب أو ضعف التربية الأدبية في المدارس والجامعات؟

    معظم من عاصرتهم من الأجيال المبدعة من هواة الترند والظهور في الندوات وعلى المنصات، وطبع ما يبدعون مع ما فيه من عوار وسرقة ونقل، ودور النشر لا تدقق ولا تحقق ولا يعنيها سوى الاسترزاق من هؤلاء الشباب من الجنسين، وعمل الدعاية لهم، كما أن المبدعين الشباب ـ غالبا ـ ما يكرهون النقد، ولا يسعون لأصحاب الخبرات في المنتديات الأدبية التي ينتمون أو يذهبون لها، كما أن انضمام الناشئة من المبدعين للشللية التي تشكل حائط صد وحماية لهم ضد كل من ينقدون إبداعاتهم، فيقومون بترويع النقاد بالادعاء عليهم بالجهل أو التحامل أو المادية أو الانحياز.

 . كيف تؤثر السرقات الأدبية على مجالات النشر، خصوصًا فيما يتعلق بالتنافسية في سوق الكتب؟

مجالات النشر لا يعنيها "السرقات الأدبية" بل يعنيها الطبعات الأدبية، ولا يعنيها أيضا التنافسية؛ فهي ليست طرفًا فاعلًا في سوق الكتب إلا بكثرة النشر، على أن الأمر لا يشمل كل دور النشر في إطلاق تعميم جاهل، بل هناك بعض هذه الدور من يملكون لجان علمية لتقييم العمل، وقد يفرضون على المبدع زيادة في الرسوم فيما لو قاموا هم بتصويب عمله أو بتعديله، ولن يجد الشاب غضاضة في الدفع؛ فالمهم عنده النشر وأن يدرك ديوانه أو روايته المعرض الدولي للكتاب، وعمل البروباجندا الوقتية الزائفة للعمل ثم ينتهي المولد.

 . كيف تتعامل المؤسسات الأدبية والجوائز الأدبية مع حالات السرقات الأدبية؟

  لو تقدم أحدهم بكتابه أو ديوانه أو مجموعته القصصية أو روايته ونال عنها جائزة، وثبت بعد ذلك أنه سرقها من أحدهم، سيتم سحب الجائزة ومقاضاته فيما لو تقاضى مبالغ مالية من المؤسسة الأدبية بغير وجه حق، وفي القانون المصري أعطى لمبدع العمل، أي مؤلفه، الحق في التقدم بشكوى، ثم لورثته من بعده، باعتبار الإبداع إرثًا لهم من حقهم الانتفاع منه وبه، ثم ينتقل حق الشكوى لكل من تؤول له حقوق مثل: المنتج أو الموزع أو الناشر. ويكفي لهذا السارق الفاجر أن يعلم الناس بسحب الجائزة منه وفقدانه للمصداقية.

ـ وسؤالي الأخير لكم دكنور إبراهيم:هل سيساهم ظهور الذكاء الاصطناعي في الحد من السرقات الأدبية؟

    بحسب ما تابعت من قضايا حول الذكاء الاصطناعي الذي يؤيد البعض أنه سيحد من السرقات العلمية والأدبية، بينما يرى البعض الآخر أنه ـ ربما ـ ساعد أكثر في ازدياد حالات السرقة، ومنها تلك القضية التي رفعها "جورج ر. ر. مارتن" الروائي الأمريكي في أدب الفانتازيا والرعب والخيال العلمي، ومبتكر السلسلة الروائية الخيالية "أغنية الجليد والنار" ضد OpenAI مالكة «تشات جي بي تي»، ومعه ثمانية صحف أمريكية و(17) كاتب استخدمت أعمالهم من دون إذن منهم، وهي أزمة جديدة تُضاف إلى احتجاجات كتّاب السيناريو في هوليوود ضد استخدام شركات الإنتاج لأنظمة الذكاء الاصطناعي.

  وبهذا نرى أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تسرق بطريقة منهجية ذكية مستترة أعمال ومنتجات أدبية وفنية سابقة، ثم ضخها من جديد في قنوات بحثية تضيف إليها وتعدلها، ويدخل من يدفع وتبيع له، وقال المحامون الذين يترافعون بالنيابة عن مارتن: (أن هذه الخوارزميات تنطوي على سرقة منهجية على نطاق واسع).

  وغاية ما أنهي به حوارنا أن الضمير المهني، والأخلاقيات العلمية التي تربينا عليها ونربي عليها الباحثين من الأبناء، أن يكون بحئه أو قصيدته أو روايته من تأليفه؛ فسعادة المبدع تكمن في تعبه ودأبه من أجل المساهمة في الفكر والإبداع البشري بأعمال تنسب إليه، ويعلم أنه لم يسرقها من غيره.

  وبدوري أقول كما قلتُ في أحد الندوات، كان من بين الحضور بعض سُرَّاق الأدب: (أقول لمن لا يملك موهبة أو إبداعًا .. ويحك، وتبًا لك من لص، إذا لم تستطع أن تبدع فلا تسرق ولا تنتحل، بل توقف) وليت كل السراق في كل الأرض يسمعون هذا النداء، فيمتنعون ويتوبون ويتوقفوا من فورهم عن هذا الذنب الكبير.

ـ  وأضم صوتي لندائكم معالي الدكتور .. وغاية ما أختم به حوارنا هو تقديم الشكر والامتنان للأديب الموسوعي دكتور السيد إبراهيم أحمد،.. وعلى أمل اللقاء بكم في حوار جديد أترككم في أمان الله وأمنه حتى نلتقي.


 

"الاستهداف الغربي للتراث العربي الإسلامي"...

  شكلت نقطة الصدام المبكر بين الغرب والإسلام المنصة التي انطلقت منها المقولات التي تتسم بالتشويه واللامنهجية واللاعلمية واللامعرفية، واللاحي...