لعل من تابع أو يتابع سيرة ومسيرة الرجل يعلم أنه يحمل على كتفه أفكارًا يستخدمها من أجل تدعيم وتعزيز فكرة واحدة عاش ويعيش وعمل ويعمل من أجلها، ألا وهي مدينته بل معشوقته: "مدينة السويس"، إنه البرلماني والإعلامي والسياسي الدكتور كمال عبد الحميد الذي أخرج العديد من المؤلفات والدراسات والمقالات التي تدور في أغلبها عن "السويس" وفي أقلها عن "مصر"، وأحدث حبات ذلك العقد الفريد من مؤلفاته، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وعنوانه: "حتى لا ننسى" الصادر في 2024م، وحقوق طبعه محفوظة للمؤلف.
تضم صفحات الكتاب البالغة (156) صفحة من القطع المتوسط: إهداء ومقدمة وقسم يضم (12) مقالًا متنوعًا، وقسم ثانٍ يؤرخ ويوثق لتاريخ وحوادث المدينة بالصور والوثائق، هذا بالإضافة إلى أن كافة المقالات الواردة بالكتاب موثقة في نهايتها بالصور والوثائق أيضا. وجاءت عناوينها متتالية على النحو التالي:
"أسئلة محرجة"، "طمس البطولات.. هل مقصود؟!"، "مقالات الذاكرة ضد عدونا"، "100 يوم حرب السويس/غزة"، "السويسي الذي خدع إسرائيل"، "ميلاد الجيش الثالث الميداني"، "إشاعة تسليم السويس"، "قائد الجيش الثالث الميداني يزور الكابتن غزالي"، "عادل إمام .. أحمد الهوان"، "نشيد السويس الوطني الفنان محمد حمام"، "رد الاعتبار لمحافظ السويس في أكتوبر 1973م"، "المحدال العبري ـ اعترافات الإسرائيليين وبطولة المقاومة".
أما قسم الملاحق [الصور والوثائق] فيقع تحت العناوين التالية: صور تدمير المنازل في أحياء المدينة عام 1967، حرائق ومصانع البترول، تدمير دور العبادة "مساجد وكنائس"، تدمير السويس أثناء حرب الاستنزاف، صور الناس في السويس: التدمير والتهجير، محاولة احتلال السويس، دبابات العدو، أكاذيب العدو، قرارات رئيس الجمهورية، وسام نجمة السويس، ثم يختتم الدكتور كتابه بسيرته الذاتية.
يذكر الكاتب دافعه نحو تأليف هذا الكتاب بهذا العنوان ضمن مقاله الهام الذي يوجه فيه أسئلة محرجة ليست بالنسبة له ولكن لمن يوجهها لهم، وهي أسئلة تتميز بموضوعيتها، وتكثيفها، وأن من يعلمها بالضرورة مهتم بما تحويه من قضايا من أهل الاختصاص وهم رجال السياسة ونواب مجلس الشعب، وخاصة النائب كمال عبد الحميد الذي جاءت أسئلته نابعة من دراسات وكتب، ومقالات، وطلبات إحاطة واستجوابات، سيتم ذكرها عند الحاجة إليها.
أما الدافع فجاء في سؤاله: (لماذا تم ترميم عمارة المثلث التي دمرها العدو على ناصيتي طريق العوايد ـ تقاطع شارع ناصر وناصية المثلث ـ والتي وُضِعَ أمامها لافتة كبيرة تحمل عبارة: "حتى لا ننسى" إحياءً للانتماء والذاكرة الوطنية؛ وقد أُزيلَت اللافتة ليصبح الواقع "ننسى" وتأثيره الخطير على وعي الأجيال القادمة؟).
يتصل بهذا السؤال أسئلة تتصل بمحو الذاكرة، وترسيخ نسيان تاريخ وذكريات المدينة أمام الأجيال القادمة التي حتمًا ستنسى بفعل تباعد السنوات: (لماذا تم تجاهل المخطط العمراني لإعمار السويس الذي قام به بيت الخبرة الإنجليزي بقيمة 5 مليون جنيه إسترليني والمفترض فيه أن تترك مباني وعمارات سكنية وبعض أجزاء المصانع التي تم تدميرها إحياءً للذاكرة الوطنية وفهم الأجيال القادمة لخسائر الحرب وفظاعة الإجرام الصهيوني؟).
وأيضًا: (لماذا تم طمس جدارية أشعار المقاومة الشعبية للكابتن غزالي وفرقة أولاد الأرض من على سور ورشة قطارات السكة الحديد بطول 1200 متر والتي صممها دكتور علي السويسي ونفذها الخطاط محمود خطاب بالألوان، والتي كانت تحي الذاكرة الوطنية؟).
هذا فيما يتصل بالحجر أما فيما يتصل بالبشر والرموز، فتأتي الأسئلة التي تدور حول أسباب تجاهل قرار الرئيس السادات باعتبار 24 أكتوبر عيد مدينة السويس والمقاومة الشعبية، بل تم إلغاؤه من قائمة الأعياد المصرية الرسمية، وكذلك أسباب تعطيل قرار الرئيس السادات بإنشاء ومنح وسام نجمة السويس لأبناء السويس الذين قدموا تضحيات من القيادات المدنية والعاملين الذين قدموا للوطن الغالي والنفيس، وسبب تحويل حديقة الخالدين الرمزية لشهداء السويس أمام مبنى الديوان العام للمحافظة لموقف للسيارات الخاصة وإزالة أشجار الحديقة.
وأخيرًا ما الأسباب التي تقف وراء تجاهل المسئولين لقرار إنشاء متحف السويس للتاريخ الوطني للمحافظة. ولهذا أتبع الكاتب الأسئلة بعنوان يحمل أيضًا سؤالا موجها ومحرجًا: "طمس البطولات.. هل هو مقصود؟!"، وقد اكتفى بالصور التي تؤكد محو وإزالة وتعدي "الدولة" على الأماكن التي ذكرها في مقاله السابق.
جمع الكاتب بقية المقالات تحت عنوان كبير: "مقالات الذاكرة ضد عدونا"، استمدادًا من مفهوم ومضمون عنوان الكتاب: "حتى لا ننسى"، فيقدم من خلال التأمل في الحرب الإسرائيلية على غزة مقاربة من الذاكرة الوطنية بين ما يحدث فيها من جرائم حرب وما حدث في السويس، والمقاربة بينهما تشمل التاريخ ومنهج دوافع جيش الاحتلال وأساليب وأدوات الحرب والطرق الإجرامية فى التدمير مع الحرب النفسية والحصار، وقد توصل إلى نتيجة مؤداها:
(وبعد إذا كانت المقاومة فى السويس قد حققت انتصارًا مُهمًا وهزمت إسرائيل ضد محاولة احتلال السويس والالتفاف على انتصار الجيش المصري فى 6 أكتوبر 1973 وفى النهاية أدى إلى انسحاب إسرائيل ومطالبتها الجثث وتركها دباباتها مدمرة فى شوارع السويس وأصبحت مزارًا لتصوير الذكريات، كما أن المقاومة الفلسطينية فى غزة قد هزمت الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أمام العالم دفاعًا عن قضية عادلة وسوف يتم قطف ثمارها بالإرادة والمقاومة).
يجد القارئ المهتم بكتابات الدكتور عبد الحميد كمال أن المقالات الواردة بالكتاب منشورة في العديد من الجرائد، وبعض كتبه، وبعض لقاءاته التلفازية، وهو ما يؤكد أن الرجل مهموم بوطنه وقضاياه، وتكراره لها والإصرار عليها تشبه المقاومة منه لوضعها موضع الحل، ولا يساهم هو الآخر في إهمالها توطئة لنسيانها، ولعل من الأمور اللافتة تناول الكاتب لعدد من القضايا التي تتصل اتصالا مباشرًا بالفن، ولا يجد في نفسه غضاضة من ذلك الفعل، وقد تناوله في مقدمة كتابه "عادل إمام .. صاحب السعادة"، وقدم عرضًا رائعًا وعميقًا يزاوج فيه بين دور الفنان ودور البرلماني، بل أظهر مدى وعيه بدوره النيابي ومتطلباته، فيقول: (فإذا كان النائب يقوم بدوره الرقابي والتشريعي كواجب دستوري باعتباره ممثلًا للشعب والدفاع عن همومه وقضاياه وطموحاته من أجل حياة أفضل؛ فإن الممثل يقوم بنفس الأدوار تقريبًا من خلال ما يطرحه من أفكار وآراء في شكل فني حين يتناول موضوعًا يهم المجتمع ويمس الناس وحياتهم، فلكل من النائب والفنان أدواته الخاصة).
غير أن السبب الجوهري في تناول الكاتب لأعمال الفنان محمد حمام والفنان عادل إمام وغيرهما يكمن في اتصال بعض أعمالهم بمدينة السويس، أو لتقاربه معهم الإيديولوجي والحزبي أو تناوله كمؤرخ حين تناول سيرة الفنان عادل إمام في كتاب عنه بعنوان: "عادل إمام .. صاحب السعادة" استعرض من خلاله بعض سيرة البطل أحمد الهوان، وكتابه الأروع والأهم: "الأبنودي .. السويس: تجربة وطن"، وتناول من خلاله سيرة الفنان محمد حمام.
ومع هذا الانجذاب نحو التأريخ الفني إلا أن النائب والباحث عبد الحميد كمال ساهم في إمداد المكتبة البرلمانية والسياسية المصرية بالعديد من الكتب والدراسات الهامة وبعضها غير مسبوق، ومنها: "المحافظون في مصر واللا مركزية (1960 ـ 2020) ـ السويس أنموذجًا"، و"المحافظون في السويس والتنمية المحلية"، "الفساد في مصر: دراسة حالة محافظة السويس"، "المسكوت عنه في المحليات"، "مشروع قانون الإدارة المحلية الجديد"، "قطار السويس يدهس قلب المدينة"، "مطار السويس الدولي"، "أطفال السويس الحاضر والمستقبل"، "البطالة بين شباب السويس: المشكلة والحل"، "هموم المعلمين بالسويس"، "مشاكل الأوضاع الثقافية بالسويس"، "تلوث الشواطئ في السويس".
على الرغم من وجود الجيش الثالث الميداني في السويس إلا أن الغالبية من أبناء المحافظة والمصريين لا يعلمون قرار انشاء الجيش الثالث الميداني أو ميلاده كما جاء في الكتاب، وهي خطوة هامة من الكاتب في بناء الذاكرة، وما يقوم به هذا الجيش من مشروعات تنموية وخدمية وطبية وترفيهية في السويس خلق علاقة بين شعب السويس والجيش الثالث الميدانى تعتبر النموذج في العلاقات المتينة أثناء فترات الحرب والسلام والتوجه للبناء والتنمية حتى أصبحت نموذجًا راقيًا لكافة الجيوش الميدانية وعلاقتها بالمحافظات، وكذلك المناطق المركزية والجيش المصرى العظيم بكامل أرض الوطن.
كما يشيد الكاتب بتكريم الجيش للمدنيين من المقاومين ممثلاً في زيارة قائد الجيش الثالث الميداني للكابتن غزالي أحد أبطال المقاومة الشعبية لمنزله بالسويس، بعد مروره بوعكة صحية، لذا فهو يطالب من الدولة والمدنيين بالسويس أن يردوا الاعتبار لمحافظ السويس الأسبق اللواء محمد بدوي الخولي الذي أشاع البعض عنه أنه حاول تسليم المدينة المحاصرة بالقوات الإسرائيلية فى 24 أكتوبر 1973م.
ولقد ألح الدكتور عبد الحميد كمال على هذا المطلب الذي تم نشره عبر فترات زمنية متعددة ومتباعدة في العديد من الصحف، وكتاب سواسية الجماعي: "انتصارات السويس: صفحات مجهولة"، والذي يمكنننا القول أنه وكتاب "حتى لا ننسى" يشكلان معًا كتابًا واحدًا مهمًا لإحياء وتخليد تاريخ وانتصارات السويس لدى الأجيال المعاصرة والقادمة، كما يمكنني القول أن ما نشره الكاتب حول رد الاعتبار وتكريم اللواء الخولي هو في ذاته رد اعتبار للرجل، وتبييضًا لصفحته، وترسيخًا لدوره الحقيقي في مسيرة السويس التاريخية.
لقد جاء كتاب "حتى لا ننسى" صرخة من نائب وبرلماني سابق، وابن من أبناء السويس المهمومين بتاريخها في الماضي والحاضر والمستقبل، ولهذا لم تنقطع مسيرته عن العمل السياسي والحزبي حتى تاريخه؛ فقد تم اختياره ضمن أعضاء الهيئة التأسيسية لحزب الجبهة الوطنية، وهو ما يعني أننا أمام رجل وكاتب متنوع في كتاباته واهتماماته وثقافته ودراسته وأسلوبه في العرض والسرد، وهو ما يوجب قراءة هذا الكتاب الأحدث في مسيرته الفكرية الزاخرة والهامة في تاريخ العمل المحلي والبرلماني والحزبي والسياسي على المستويين السويسي والمصري.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق