لم يكد اللواء سميح السعيد يستقر على كرسي محافظ السويس حتى طالع مقالاً لي نشرته جريدة "أحرار السويس" في بداية تسعينيات القرن العشرين بعنوان: "مولانا القادم على عرش ست الحزن"، أخبرني بهذا سيادته ونحن نتناول العشاء على ظهر باخرة إيطالية، كان أهم ماجاء فيه فقرة قلت فيها: (السويس يا مولانا كالقدس أختها في الحسن وتوأمها في الأحزان، لاتكاد تفرح حتى يفاجئها الزمن بماردٍ عبقري يخرج من طيات الأرض يهيل على كعكتها الرماد والتراب، ولاتلبث أن يلفها الحزن بسواده الثقيل حتى يرحمها الله بمن يزيح بعض الهم الجاثم عن صدرها، ويضيف عدة شمعات في دجى لياليها، فتأنس إليه وتألفه ويتواصل أبناؤها معه ويعشقونه ويصير رمزًا لهم، تبرق السماء وتزمجر وتصدر قرارها بحرمان أهل المدينة من بطلهم عقابًا لهم على حبه، فيغور به زبانية الأرض، أو تخطفه ألسنة اللهب السماوية لتُقصيه في الغياهب الكونية بعيدًا عن تلك المدينة التي أصابتها اللعنة الأبدية).
إن الذي استدعى ورود هذه الفقرة على الخاطر إنها للأسف مازالت تنطبق على "سويس" اليوم مثلما انطبقت عليها في فتراتها التاريخية من عهد ناصر حتى الآن؛ فما كادت تستقر الحياة بها وتحلو بعد ثورة يوليه، وبعد زيارة ناصر وافتتاحه عدة مشروعات بها في عيدها القومي في عام 1966، حتى أطلت النكسة أو الهزيمة الثقيلة أو "العلقة السخنة" كما يحلو للمخلوع أن يسميها، لتبدأ سنوات الشتات العجاف فيما أسموها بـ "تهجير مدن القناة" التي تقطعت فيها أوصال العائلات بين محافظات مصر.
وعندما أظلنا عهد السادات وحصدنا فيه جهد وجهاد نصر أكتوبر المجيد ببناء عدة مدن على أطراف المدينة دون أن يصيب التغيير قلب المدينة القديم فظلت على حالها، ولم يصبها نوع من التغيير إلا في عهد مبارك بشق الأنفس حين أزالوا خط السكة الحديد، وما كاد هذا المطلب الشعبي أن يتم رغم الإلحاح إلا بعد أن كادت تحدث كوارث بسبب حوادث قطار المواد البترولية الذي كان يقسم المدينة إلى نصفين، ثم لامس التغيير بشكلٍ حقيقي قلب المدينة في أخريات عهد محافظ السويس الأخير قبل قيام ثورة 25 يناير اللواء سيف الدين جلال وبدأت عدد من الأبنية تبشر ببداية واعدة كالمتحف ومركز العلوم والمكتبة التي لم تتم، وما فعل الرجل هذا إلا بعد أن تسربت أنباء عن نية القيادة في تغييره، ثم قامت الثورة.
قدمت السويس في ثورة يناير الولد والمدد المعنوي، ولم تجن شيئًا يذكر، سوى سيادة البلطجية على الشوارع والأسواق والعباد، بينما استكانت الشرطة في أعشاشها، ووقف الجيش حارسًا للمباني الهامة دون الناس، وحتى لا أظلم أحدًا كانت عربات الشرطة تمر في الأسواق لتزيح الباعة مترين إلى الوراء فيما يعني هذا بموافقة ضمنية على ما يفعلون، لأنهم يعلمون أنهم بعد دقيقة أو تزيد سيعود الوضع على ما كان عليه.
لا ألوم الشرطة وحدها في هذا التراخي الذي حول ميادين البلد، ومدخل بورتوفيق إلى سويقات ومزابل وعشوائيات، بل ألوم هذا الوعي المتأخر لدى أكثرنا في التعامل اليومي ولا أدل على ذلك من عدم احترام إشارات ومسارات المرور حتى من مالكي السيارات الخاصة، وأشهد الله أني زرت مدينة بورسعيد موفدًا من جامعة الدول العربية ومجموعة من اتحاد المبدعين أثناء انتفاضتها تجاه المعزول، ولم أجد أحدًا توسط الميادين بعربات قبيحة، أو خالف إشارات المرور، أو اعتدى على أرصفة، أو بنى محلات جهارًا نهارًا في كل مكان، على الرغم من عدم تواجد جهاز الشرطة بالمدينة آنذاك!!
ألم أقل أن اللعنة تصاحب هذه المدينة، تطاردها من عهد رئيس إلى غيره، من زمن الثورة الأولى إلى زمن الفلول، ومن الثورة الثانية إلى زمن الإخوان، ومن الثورة الثالثة إلى الفترة الإنتقالية، لم تنعم فيها عروس البحر الأحمر ــ هذا اللقب الذي توجوا به "الغردقة" ــ بالأمان ولا بالجمال ولا النماء، عدنا إلى زمن المحافظين الذين لايعرفون قدرها ولا يعنيهم ما يدور حول مبنى المحافظة نفسها فما بالك بالمدينة نفسها، ولا أدل على ذلك من احتلال باعة السمك لنواصي الشوارع الرئيسية المؤدية إلى المحافظة دون خوف من رقيبٍ أو عتيد، كما أنزاحت السويس من الخريطة الثقافية المصرية؛ فالأنشطة الثقافية اندثرت، والمجلات الأدبية طوت صحائفها، وقناة تليفزيون الأقليم الوحيدة لم ترعَ المواهب الدفينة به، وأندية تصرف بالألوف على أنشطة وهمية، وفرق لاتجد ملعبًا يحتويها، ولو تكلمت عما حاق بمدينتنا البائسة، صاحبة الحظ العاثر التعس لما سكت.
ولم يتبق لنا سوى أن ننتظر أن يدور الزمان دورته بمنحة رحمة على السويس تمتد إلى زمنٍ ما، ثم تتلوها محنة عذاب، فهذا قدر هذه المدينة على مايبدو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق