الاثنين، 19 مارس 2018

  



 يُشكَّلُ الحوار الركن الركين في المسيرة العلمية والأدبية للمفكر الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل، بحيث أطَّره بآداب وأصول، وهو ما سأتعرض له في دراسة قادمة، إلا أن الحب له أهميته القصوى في بنائه الفكري أيضًا حيث يأتي عنده موازيًا للحوار كقيمة كبرى شملتْ حياتَه كلها لا يسبقه ولا يتأخر عنه؛ فالعلاقة بينهما قائمةٌ على التساوي والتوازي؛ فالحب وقوده الحوار، والحوار قوامه الحب، يتعادلان ويتفاعلان ولا يتضادان.. فهما من حقائق الوجود، والحقائق لا تتصادم.

    لقد اتخذ الحب العديد من صورٍ تجلت في فكر الرجل، غير أن صورته الكبرى تكمن في كتاب الله تعالى الذي عاش له، وعاش معه، وعاش فيه، فلا يكادا ينفصلان عنه؛ إذ يدور الحب في فلك الدين وأقرب ما يكون لقول صاحب فصوص الحكم ابن عربي: "المحبةُ أصل الموجودات".

ليس هناك شاهد أقوى على تلك العلاقة الوجدانية في فكر الدكتور كامل من مقالته التي عنوانها: "هل تذوقتَ يومًا طعم الحب؟"، لقد وقف مفكرنا الكبير على ضفاف الحب ورأى في صفحته الشفيفة الرقيقة الصافية المكنون الذي أذاعه، فقال:

(المحبون يهيمون في دنيا الحب، يتناغمون والكون مع قيثارة الحب الأبدية في لحظات سرمدية لا زمان ولا مكان لها، بل لها قلوب تخفق وتشفق، تتأوه وتعشق، وتضخ دماء في أوردة الإبداع وشرايين الخلود، صمت يلف الكون وهمس وحس، وعَبرة وعِبرة، وتراتيل التوحيد تخرج من قلوب الخلائق، وكأن كل مخلوق آلة موسيقية في محراب الحب).


    يقول شارح الفصوص وكأنه يشرح تلك المقولات: (الحب موجود على الدوام مُتبادَلٌ بين الحق والخلق. والشوق والحنين.. واللقاء موجود على الدوام أيضًا، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه إلى ذلك الحب الكامن فيه نحو ذلك الظهور).

   إن تلك الصورة واحدة من صور الحب المتنوعة في فكر الدكتور محمد حسن كامل، تلك الصورة المغلفة بغلالة شفيفة من التصوف الحميد الحبيب إلى قلب الرجل، الذي تشرَّبه صغيرًا وأصر عليه والتزمه كبيرًا، يتجلى ذلك في نفحة من نفحاته، بينه وبين ربه تعالى في مناجاته له؛ فهو المحبوب الذي لا يفارقه أبدًا مع الناس أو في خلواته، فيقول:

(أحبُّك بكل خلايا وجودي، بكل عنصرٍ.. بكل حدودي، عَرفتُك أنت وأنت معبودي، أترقبُ لقياكَ خارج الحدودِ، لا أطمع في جنة الذود، ولا خائف من نار الشرود، حبي لك تعدى كل الحدود، حَدِي تحت عرشك.. سجودي، والنظر لوجهك غير معدود، لا زمان ولا مكان ولا سدود، نور علي نور لرب الوجود، هناك لن أعود.. هناك حدودي، أبدًا أنعم ُبحب محبوبي).


  لن يغيب عن القارئ المتأمل تأثر الدكتور كامل في مقولته ببعض الأبيات الشهيرة لشهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، كما تتضمن المعرفة الحقة بالله تعالى تلك التي تقوده إلى الشوق للقائه كواحدٍ من الذين عناهم رسول الله صلى الله عليهم من الأَكْياَس، أي الفُطَنَاء ،الذين هم أكثر الناس ذكرًا للموت، وأشدهم استعدادًا له في كل وقت.

   يقول الدكتور محمد حسن كامل: (أختمُ هذه القصة بسؤالٍ عاصف للذهن: هل هناك في عاَلمَنِا ـ نحن ـ حب هكذا..."قصة حب أسرع من الضوء في أبعد مجرة في الكون؟".. نعم أعيشُ أعظم من هذا الحب.. بيني وبين الله).

    ينطلق الدكتور محمد حسن كامل في أجواء الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾[سورة البقرة:165]، في واحدة من أهم وأجمل دراساته العميقة عن الحب، وكلمة الحب التي أسهب في تحليلها وتقليبها على كافة المعاني، ثم ذكر كثرة كاثرة من تعريفاته رائعة وبليغة للحب لو ذكرتها لصار مقالي كُتيبًا، وفيها من جمال التفكير، وروعة التصوير الشيء الكثير.

   يصحُب المفكر المحب قارئه ومحدثه في رحلة علوية مُضمَّخة بأريج القرب، تسمو بالذات على الشهوات والملذات، ثم يطرح عليه سؤاله الثاني: (هل جربتَ الحبَ يومًا؟)، وهذا السؤال يأتي على الترتيب من سؤاله الأول: (هل تذوقتَ الحبَ يومًا؟).

  يؤمن الدكتور كامل بالاشتراكية في الحب؛ إذ دومًا ما يدعو محبيه إلى المداومة على الحب إذا ما أحبوا، وأن يحبوا إن لم يكونوا بعد قد أحبوا، ليبين لهم في تضادٍ مفاجئ.. المقابلة بين الحب واللا حب أو الكره أو التوقف عن الحب، من خلال عدة صور لا يملكون حيالها غير استبشاعها، ثم يقتنعوا بالحب فيداومون عليه، وهذا عيْن ما يريده الرجل بصراحة وبلا مواربة.

   بينما يحلق مفكرنا الكبير محمد حسن كامل في تهويماته العلوية، غارقًا في الحب الإلهي، بين الخالق والمخلوق، يتذكر أن هناك حب بشري، أرضي بين المخلوق والمخلوق، وهي صورة من صور الحب في فكر الرجل لم تغب عنه ولم ينكرها أو يترفع عنها؛ فقد تناولها في مقالتين اجتماعيتين أبحر فيهما بعيدًا عن الأدب والعلم؛ فقد قصرهما على حب الرجل والمرأة بصفة عامة ثم ذَكرَ المرأة النَّكدية بصفة خاصة، وهي المرأة التي يكرها مفكرنا الكبير إلى حدِ المقت.

   يرى الدكتور محمد حسن كامل أن حياة الأسرة لن تستقيم إلا بالحب وفَشوِ التراحم والتلاحم، ومن ثمَ فقد دَعَّم تلك المقالة بأخرى تسبقها أو تلحقها، رصد فيها مائة صفة لو التزمت بها المرأة لأحبها الرجل، وهذه المقالة تأتي غريبة وجديدة بين نسق مقالات المفكر الكبير، ولو قرأها قارئ دون ذكر اسم الدكتور عليها ما نسبها إليه أبدًا؛ لالتزامها بالنهج الأصولي البعيد تماما عن منهجه.

   تأتينا في صورةٍ بديعةٍ قشيبة واحدة من صور الحب الغير تقليدية علينا، والأصيلة في منهج الدكتور محمد حسن كامل.. ذلك حين مَدَّ جسرًا بين الحب والعلم فصنع صورة كونية امتزج فيها السرد القصصي بالنسق الشعري أو القريب منهما، وزاوج بين الأسلوب العلمي والأدبي فيما يُعرَف بالأسلوب العلمي المتأدب، من خلال مقالتين لا نستطيع سردهما لطولهما، أو إيجازهما فسنخل بهما معًا، وهما: قصة "حب أسرع من الضوء في أبعد مجرة في الكون" و "الحب لا يعرف للاستنساخ سبيلاً".

  عزيزي القاري: مهما درت أو رحت مع مقالات ودراسات المفكر الموسوعي العالمي البروفيسور محمد حسن كامل فستجد أنها كلها مكتوبة بيراع الحب، مغموسة ريشتها في دَواَةِ الوَجدِ، ألوانها تشع بالدفء والحنين والحميمية، الحب يحَوُطُ سياجها، والقرب هدفها، بالانعتاق من أَسْرِ الجسد والحدود الجغرافية الأرضية، والاتصال بعلوية ملكوت السماوات حيث "لا زمان ولا مكان" كما يشدو الرجل دومًا وينشُدُه عن قصد بين جوانح روحه.

   إن الدكتورمحمد حسن كامل هو المحبُ أبدًا.. المتأملُ دومًا.. المفارقُ لكل لذائذ الذات، و المترفع عن دنيا البشر، للاتصال بأشْراف الأمور والإعراض عن سفاسفها..

   إنَّه المنقِّب عن كل قديم فينفخ فيه جديده، والآتي بالجديد الذي لم يَلتَفِتْ إليه غيره.. الحب يغلف حركاته وسكناته، ويتوافق معه ظاهرًا وباطنًا، سرًا وعلانيةً.. هادئ النبرات، يَسوُسُ في قوةٍ أجمل العبارات، يجيل النظر، ثم يأتي بالدُّرر، ويسوق العبر، يُسهب فتتابعه في غير ملل، وإن أوجز فذلك غاية ما يريد قوله بلا خلل..

   إنه سفير العلم والثقافة، عاشق الفكر ومحب الأدب، طاقة الحب التي لا تنفد أبدًا، وكيف تنفد والرجل يشرب من نبع الحب الإلهي، ويتضوَع مشتاقًا عبير الجنة التي يرومها، ويسبح مع آيات الحق في كتابه المسطور "القرآن الكريم"، وكتابه المنشور "الكون الكبير"، العالمُ الذي يعلم أن فوق كل عالمٍ عليم، فما فتئ يهيم ذرة حب ومحب في نهر العلم، وفلك المعرفة عالمًا ومتعلمًا لم يزل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق