إن مشكلة ضعف الإقبال على القراءة عند العرب سواء من الكبار أو الصغار، ليس بالأمر الجديد ولهذا فلم تكل جهود الكتَّاب والمثقفين في محاولة كسب وجذب القارئ الذي تَعوَّد القراءة ثم هجرها لأسباب معيشية أو غيرها، أو خلق قارئ جديد، أو خلق مناخ جاذب للقراءة والثقافة، أو محاولة للقضاء على المغالاة في أسعار الكتب، أو طبع طبعات رخيصة الثمن وتفي بالغرض.
لقد كان هناك من قدموا مشاريعًا أو آليات بشكل فردي لمحاولة جذب المواطن العربي نحو عادة القراءة، وبالتالي خدمة للثقافة، وهناك من قاموا بعمل كتب تتسم بالموسوعية من قديم ولكن ليس لهذا الغرض خصيصًا، ولعل من أول المحاولات التي وقعتُ عليها كتابيّ "المخلاه"، و"الكشكول" لبهاء الدين العاملي، يقول الطاهر أحمد الزاوي محقق كتاب "الكشكول" عنه: (جمع العاملي فيه من شتى الفنون، واختار له من أمتع البحوث العلمية، وأغرب المسائل التي لا تنتمي إلى فن بعينه، ولا أسرة علمية واحدة، فكان جديرًا بهذه التسمية لما بينهما من المشابهة على الدلالة على جمع أشياء متفرقة).
وقد جمع العاملي في الكشكول، أي الحقيبة بالفارسية، موضوعات تتعلق بالفقه، والتفسير، والحديث، والهندسة، والجبر، والحساب، والجغرافيا، والفلك، والسحر، والشعر الرقيق، والنثر البليغ، والأمثال، والفلسفة، وعلوم البلاغة، والصرف ، والنحو وغيرها من الفنون التي لم يجمعها غيره من الكتب السابقة عليه، مما يعني أنه نسيج وحده.
فإذا انتقلنا إلى زمن الراحل عباس محمود العقاد في مطالع القرن العشرين، سنجد أنه في مدينته أسوان قد اختط لنفسه مشروعًا آخر لم يكن القصد من وراءه أن يجذب القارئ للقراءة أو غيرها، ذلك أنه عند إقامته في بلدته بعيدًا عن القاهرة كان يقرأ الكتب ثم يثبت ما يكتبه في كتاب طويل عنده ــ آنذاك ــ شمل العديد من الفصول التي تدور حول الشعر، والتاريخ، والدين، والاجتماع، والأخلاق كان قد أصدر منه كراساتٍ خمس، وعندما تولى الصفحة الأدبية عند عودته إلى القاهرة في صحيفة "البلاغ" الأسبوعية بدأ في نشر ذلك الكتاب أو ما يرد إليه من كتب بعد أن يعرضها ثم ينقدها، بحسب الساعة أو الساعات التي عكف فيها على قراءتها.
عندما تصبح الروايات في الجيب:
يعد عام 1936 هو البداية الكبيرة للقارئ المصري والعربي في التعرف على الروايات العالمية وذلك حين أسس المترجم والكاتب المصري الراحل عمر عبد العزيز أمين دار نشر أطلق عليها "روايات الجيب" تولت إصدار العديد من ترجمات للروائيين الكبار من أمثال فيكتور هوجو وألكسندر دوماس وأجاثا كريستي البوليسية. وما يعنينا هنا أن هذه الكتب كان يصدرها عمر أمين موجزة أي على هيئة روايات مختصرات من الأعمال العالمية مترجمة إلى العربية، وقد تتلمذ العديد من كبار الروائيين والأدباء المصريين والعرب على هذه السلسلة التي كانت سهلة الحمل، وخفيفة الثمن أيضًا، جاذبة للقراءة، ولقد قرأها نجيب محفوظ، وصنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف وغيرهم.
ثقافة الوعي العربي حين تستلهم "اقرأ":
في أربعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية سلسلة "اقرأ" والتي قدم لها الدكتور طه حسين بكلمة موجزة أبان فيها السبب الحقيقي وراء إصدارها وهو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، والإيجاز هنا ليس له محل، بل هي ثقافة تستهدف نشر الوعي بين شعوب الأمة العربية قاطبة.
"كتابي" وثقافة الإيجاز:
يبدأ الإنجاز الحقيقي للمشاريع التي تستهدف توسيع رقعة القراء، وتوسيع مداركهم، وثقافتهم المتنوعة المتباينة مع الدكتور حلمي مراد الذي كان قاصًا ومترجمًا وكان له مشروع عظيم، بتقديم ملخصات وافية لأبرز كتب التراث الإنساني في سلسلة "كتابي" التي أصدرها عام 1952 بشكل شهري، وظلت تصدر منتظمة حتي أواخر الستينات، وفي أواخر التسعينات قامت إحدي دور النشر الكبري، وهي المؤسسة العربية الحديثة بإعادة طبعها مرة أخري وتوزيعها، كما يقول الأستاذ محمود قاسم، في مقاله "المجهول في عالم المعرفة الثقافية أكثر من المعلوم".
غير أن الأستاذ محمود قاسم يُسقِط فترة تاريخية أخرى كانت قبل هذا التاريخ الذي ذكره، عندما عاود الدكتور حلمي مراد بنفسه إصدار سلسلة "كتابي" عن طريق دار المعارف في ثمانينات القرن العشرين، وكتب لها المقدمة التي خاطب فيها القارئ الذي كان يناشده بجمع كل نوعية من المواد التي سبق نشرها وإعادة نشرها مجتمعة في كتاب واحد أو عدة كتب، فلبى النداء وأصدر "مختارت كتابي" وأصدر أعدادًا جديدة من "مطبوعات كتابي" و "كتابي" التي كان يصدرها في سلسلة نجحت في إصدار الترجمات الكاملة لأكثر من مائة رواية عالمية، منها: "هل تحبين برامس، لفرانسوا ساجان"و"اعترافات جان جاك روسو" و"مرتفعات ويذرنج"، و"دكتور زيفاجو" و"مدام بوفاري" و"الألياذة" و"الطريق إلي بئر سبع" و"المسبحة" أو قربان الحب"، و"مدموازيل جوفر" غير مجلة للصغار مع بعض الأعداد وغيرها.
الرغيف الثقافي في "كتابك":
مع سبعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية أيضًا سلسلة "كتابك" والذي قدم لها المستشار الثقافي للدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد مع أول كتاب يصدر عنها للأديب توفيق الحكيم، يذكر خورشيد السبب وراء إصدار هذه السلسلة التي لا تعتمد مثل سلسلة اقرأ على النقل والترجمة والإيجاز بل العناية بالثقافة، فيقول: (وقد أحست دار المعارف حاجة القارئ العربي الشديدة إلى الثقافة العامة التي لا غنى عنها لكل إنسان يعيش في القرن العشرين، فاستقر رأيها على أن تمده بهذا الرغيف الثقافي الذي لا يقل وزنًا ولا خطرًا عن رغيف العيش. بل هو أسمى منه وأرفع وأقدر على تنمية الذوق. وإمتاع الفكر. وصقل الوجدان. وإفساح الرؤية).
مكتبة الأسرة وانطلاق قاطرة الثقافة:
مع منتصف تسعينيات القرن العشرين انطلق مشروع "مكتبة الأسرة" باقتراح من اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع برئاسة السيدة سوزان مبارك رئيس اللجنة وحرم الرئيس المصري الأسبق، وتكاتفت جهود الجهات المشتركة في المهرجان لتمويل هذا المشروع، وهم:المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وزارة التربية والتعليم، وزارة التنمية المحلية، جمعية الرعاية المتكاملة، وزارة الإعلام، وزارة الشباب. ليكون هدفه هو نشر روائع الأدب من أعمال إبداعية وفكرية وفلسفية، وتقديم الأعمال التي ساهمت في تشكيل مسيرة الحضارة الإنسانية، علي أن تطرح هذه الكتب للبيع بأسعار رمزية لتشجيع القراءة وحب الاطلاع بين الشباب والمواطنين، وغيرها من الأهداف التي تدور حول بث الروح الوطنية، وتمكين الشباب وغيرهم من قراءة الأعمال الأدبية والإبداعية والدينية والفكرية والثقافية والسياسية، ونشر أحدث مؤلفات العلماء التي تواكب التطور العلمي والتكنولوجي في العالم، والتواصل مع الحضارات الأخرى من خلال الترجمة التي تقدم للشباب، نشر الوعي بالتراثين العربي والإسلامي.
تراث الإنسانية من الوأد إلى البعث، من الستينيات إلى التسعينيات:
لم يقم مشروع مكتبة الأسرة على الإيجاز مثل سابقيه "اقرأ" و"كتابك"، ولكنه اتصل بالإيجاز حين أصدر أعداد مجلة "تراث الإنسانية" في عام 1994م، تلك المجلة الشهيرة التي أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، وكانت تصدر شهرية منذ عام 1962م، وحتى عام 1971م، وهي تضم عددًا من خيرة الكتاب والعلماء، مثل: عباس محمود العقاد، والدكتور عبدالحليم منتصر، والدكتور زكي نجيب محمود، وعلي أدهم، والدكتور فؤاد زكريا، والدكتور أحمد أبو زيد، وإبراهيم زكي خورشيد، وإبراهيم الأبياري.
أصدرت مكتبة الأسرة بعض المواد العلمية من مجلة تراث الإنسانية على هيئة كتيبات تحمل نفس عنوانها، في موضوعات مختلفة حول الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة والفنون والعلوم وغيرها، وقد صدر منه في عام 1994م:
تحديد نهايات الأقاليم للبيروني بقلم الدكتور إمام إبراهيم أحمد، عيون الأخبار لابن قتيبة بقلم إبراهيم الأبياري، الانيادة لفرجيل بقلم الدكتور إبراهيم سكر، نكت الهميان في نكت العميان للصفدي بقلم الدكتور النعمان القاضي، روبنسون كروزو لدانيال ديفو بقلم الدكتورة انجيل بطرس سمعان، الكامل في التاريخ لابن الأثير بقلم الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، سقط الزند لأبي العلاء المعري بقلم أحمد إبراهيم الشريف، الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو بقلم فوزي شاهين، العالم إرادة وتمثلًا لشوبنهور بقلم الدكتور فؤاد زكريا، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري أحمد بن عبد الوهاب بقلم إبراهيم الإبياري.
أما ما صدر منها في عام 1995م، بحسب ما وصلني:
الضفادع لأرستوفانيس بقلم دكتور محمد صقر خفاجة، الفرس لإيسخيلوس بقلم دكتور محمد سليم سالم، الإدارة العلمية لفردريك تايلور بقلم دكتور أحمد الرشيد، البحث عن اليقين لجون ديوي بقلم دكتور أحمد فؤاد الأهواني، عجائب المخلوقات للقزويني بقلم دكتور عبد الحليم منتصر، القانون المسعودي للبيروني بقلم دكتور إمام إبراهيم أحمد، الأساطير الإغريقية بقلم الدكتور إبراهيم سكر، الكتب الخمسة لكنفوشيوس بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، القلق لسيجموند فرويد بقلم الدكتور محمد عثمان نجاتي، الحكايات للافونتين بقلم الدكتور علي درويش، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري لكوندرسيه بقلم الدكتور السيد محمد بدوي،العقد الاجتماعي لجان جاك روسو بقلم الدكتور حسن سعفان، روح القوانين لمونتسكيو بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، رحلات جليفر لسويفت بقلم صوفي عبدالله، سيرة بني هلال بقلم الدكتور عبد الحميد يونس، الاستاتيقا لكروتشة بقم أحمد حمدي محمود، تاريخ الأمم والملوك للطبري بقلم محمد خليفة التونسي، الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الوسيلة الأدبية، للحسين المرصفي بقلم محمد عبد الغني حسن، نقد العقل الخالص لكانط بقلم الدكتور عثمان أمين.
ثم صدر المجلد الأول في التسعينيات، وهو يضم الموضوعات التالية: أبو الطيب المتنبى بقلم عباس محمود العقاد، الأبطال لتوماس كارلايل بقلم على أدهم، النظرية النسبية بقلم الدكتور محمود أحمد الشربينى، ثروة الأمم لآدم سميث بقلم الدكتور عبد المنعم الطناملى، تشريح القانون لابن النفيس بقلم الدكتور بول غليونجى، التأملات لديكارت بقلم الدكتور عثمان أمين، الموسيقى الكبير للفارابي بقلم الدكتور محمود أحمد الحفني.
تتفق المجلة في منهجها حول الإيجاز وحول ترتيب الموضوعات على غير اتفاق مع منهج العاملي في الكشكول والعقاد في ساعات بين الكتب، وهو ما أثبته الدكتور عبد القادر حاتم في مقدمته للمجلد الأول الصادر في الستينات حين قال: (تظهر في الغرب من حين إلى حين مجموعات وسلاسل كثيرة مختلفة المنهج تدرس روائع الكتب العالمية التي أثرت في الحضارة وتلخصها، كما تُترجم لكتابها في إيجاز، وتعرض من هذه الكتب نماذج مختارة تساعد على فهمهما وتبين خصائصها. ولم نخضع هذه المجموعات لترتيب تاريخي، أو منهج تصنيفي، ذلك أن أذواق القراء وميولهم تختلف، فما يثير خيال قارئٍ قد لا يثير خيال آخر، ومن ثمَّ لم يُراعَ فيها إلا أن يصدر كل عدد منها حاويًا لألوانٍ مختلفةٍ من المعرفة الإنسانية).
ــ أنور الجندي ومحاولة اقتحام العلاقة بين الشباب والقراءة:
فطن المفكر الإسلامي الراحل الأستاذ أنور الجندي إلى الحالة التي كان عليها الشباب من عدم الإقبال على القراءة، والقراءة الجادة بشكل خاص، فآثر أن يصدر بعض الكتيبات التي تحمل قضايا هامة معاصرة تخص الإسلام والمسلمين، وتلفت انتباههم إلى ما يحيط بهم من مؤمرات تحاك ضدهم فكان أن أصدر هذه الكتيبات التي تتفاوت في أوراقها التي لا تكاد تصل للثلاثين ورقة تحت عنوان واحد في مجموعة واحدة من مثل "في دائرة الضوء" وكان لكل كتيب عنوان وموضوع مختلف، وكذلك مجموعة أخرى له أسماها "على طريق الأصالة الإسلامية" وكل كتيب يحمل عنوانًا وموضوعًا جديدًا يستمده من العنوان الأكبر للمجموعة، كما يحمل رقمًا متسلسلًا يساعد القارئ على تتبع ما يقوله الجندي، ومنها كتيبات "أحاديث إلى الشباب المسلم" وتتميز بعدد صفحاتها الذي قد يزيد إلى ضعف الكتيبات الأخرى، ويتغلب الجندي على ملل القارئ بتقسيم الموضوعات وتباينها وقصرها وانفصالها عن بعضها غير أنها مشمولة بالموضوع العام الذي يختاره لكتابه من مثل "شبهات في الفكر الإسلامي".
محمد عبد الغني حسن وتقديم الرواد:
حاول الأستاذ محمد عبد الغني حسن محاولة رائعة حين أوجز خمسة كتب لمؤلفين رواد من المؤلفين العرب، وهو يرى أن الرواد من العلماء العرب من الكثرة بمكان، وأن الرائد في تعريفه ما كان الأول في ميدانه الذي اشتهر به وفيه، ثم جاء بعده من استكمل العلم وعمقه وزاد عليه، غير أن الريادة تبقى محفوظة مصونة، لا يحجب فضله من جاءوا بعده، وساروا على دربه.
لا يدَّعي الرجل إحصاء الرواد ومؤلفاتهم فهذا عمل ينوء بحمله الرجال، وأن كل ما استطاع أن يقوم به هو اختياره لخمسة من الرواد يمثلون عصورًا مختلفة من تاريخ العرب والإسلام، ويمثلون ألوانًا مختلفة من الثقافة والفكر في مجالات الأمثال، واللغة، والأدب، وتاريخ الأدب العربي، وهؤلاء الخمسة هم:
الميداني صاحب كتاب "مجمع الأمثال"، والفيروز آبادي صاحب كتاب "القاموس المحيط"، والشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب "الوسيلة الأدبية"، وجرجي زيدان صاحب كتاب "تاريخ أداب اللغة العربية"، وعبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد".
حاول المخلصون من الذين يريدون لهذه الأمة الخير أن تتوثق عرى الصداقة والألفة بينهم وبين القراءة، والمعرفة، وحب الكتاب، فلم يقفوا عند حدود بحث الأسباب، وتشخيص الدواء، بل سارعوا كلٌ بحسب ما استطاع أن يمد يد العون للأخذ بأيديهم، فأوجزوا الكتب المسهبة، وقربوا المسائل البعيدة، وأضافوا، وَيسروا، فبارك الله ما قدموا وجعله في ميزانهم، وأعان من سيأتي بعدهم في استكمال مسيرتهم والبناء عليها، والتجديد فيها خدمة للقارئ العربي وللثقافة.