قد يتعجب البعض من الاسترشاد وليس الاقتداء مع أن الشوكاني في نيل الأوطار وغيره يكتبونهما معًا بالترادف، وذلك لأني أرى الاسترشاد كمعنى إجرائي في مقالتي وقعه أخف على عموم المرأة العصرية مسلمة وغير مسلمة، مؤمنة وغير مؤمنة، حيث أن مرام الموضوع يقع في الشق الاجتماعي لا في الشق الديني، ويقع في الثقافة الإنسانية أكثر من الثقافة الإسلامية وإن كانت نفس الثقافة إنسانية الطابع حتى في حضارتها، والشواهد على ذلك كثيرة.
والثابت أنه لا غضاضة في نقل الخبرات الإنسانية والتي دائما ما نسمعها ونكتبها عن بلاد وأناس لا يرتبطون بنا بجغرافية ولا تاريخ سوى الجنس البشري فقط، وهو ما يجعل المهمة أيسر على المرأة العربية العصرية حين تسترشد بالمواقف الإنسانية التي عاشتها المرأة في كنف بيت النبوة وقبل النبوة مع السيدة خديجة رضي الله عنها، وتَعلمتْ من تجربتها ـ وهي لا شك مفيدة ـ في نجاح الحياة الزوجية.
وكيف لا تسترشد بهذه التجربة امرأة ثرية إذا وجدت شابًا يصغرها في السن ولكنه من ذوي الأخلاق الحسنة أن ترسل له من يعرض عليه أمر زواجها منه، خاصة إذا علمت أن ما يحول بينه وبين الزواج منها أو من غيرها هو الحاجز المادي فقط؟!
ألا يكون هذا علاج لكل من فاتها قطار الزواج أو كانت متزوجة ثم ترملت أن تعيش حياتها مع من يصغرها سنًا، إن أرادت، وهذا الأمر ينطبق على المرأة العصرية من كل دين كما ذكرت، ولقد كانت السيدة خديجة ذات نسب طاهر، وجمال باهر، ومال وافر، سيدة قرشية لبيبة، جليلة، حازمة رشيدة، ولدت ونبتت في بيت مجد وسؤدد من نسل طيب الأعراق.
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم مع السيدة خديجة رضي الله عنها قصة رائعة من الحب والوفاء والسعادة والامتنان، فسار بهما قارب الحياة في سعادة غامرة، وحزن عميق موجع؛ فليس هناك حزن في الدنيا يضارع حزن فقد الأولاد في حياة والديهم، غير أنه صلى الله عليه وسلم لم يقترن بغيرها فى حياتها.
ألا تستطيع المرأة العصرية أن تسترشد بالسيدة خديجة حين كانت تستقبل زوجها عند عودته من غار حراء بمودة وحنان وعطف الأم الرءوم، وإيمان بما يفعله، فتستقبل الزوجة في عصرنا زوجها بعد حضور ندوة علمية أو دينية أو أدبية أو بعد ممارسة هوايته المفضلة ـ مع الفارق في القياس ـ بنفس المودة وإيمان بما يفعل دون أن تحيل وقته الطيب الذي قضاه إلى نكدٍ دائم، وشكوى للقريب والبعيد؟!
يجب أن تتعلم المرأة العصرية من موقف دخول السيدة خديجة في حصار قريش على بني هاشم وبني المطلب في شِعب أبي طالب، فالتحقت بزوجها وعانت ما عاناه من جوع ومرض لمدة ثلاث سنوات، مع كون الحصار لم يكن مفروضًا عليها معهم ولكنها لم تترك زوجها وحده يواجه محنته ونفضت يدها منه وآثرت السلامة، كما تفعل بعض النساء في عصرنا، وهو موقف يلزم كل امرأة أن تسترشد به حين يواجه زوجها محنة العزل من وظيفته، أو الإفلاس، أو كساد تجارته، أو الدخول في سجن المرض، أو السجن بتهمة حقيقية أو ملفقة ضده وتستطيع أن تسانده فلتفعل ولا تتخلى عنه.
لماذا لا تتعلم المرأة العصرية الشابة عندما تتزوج من رجل هو أسن منها وكان يحب زوجته السابقة التي رحلت بالوفاة، هذا الموقف الذي قد تقع فيه بعضهن عندما تُظهِر غيرتها فتتفوه ببعض العبارات التي قد تجرح ذكراها في نفسه، وتوغر قلب زوجها عليها، وكيف تمت معالجته من قبل الزوجة الصغيرة لتسير سفينة الحياة الزوجية بينهما من جديد، وتستلب بواعث الغضب وجذوره من قلب وصدر زوجها التي أحدثتها بألفاظها؟
إن هذا الموقف قد ضم الزوجة الثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم وهي السيدة عائشة رضيَّ الله عنها التى عانت كثيرًا، وصبرت كثيرًا من ذكره صلى الله عليه وسلم لزوجه الراحلة السيدة خديجة رضيَّ الله عنها، بل وأفعاله أيضًا التى تؤكد عن مدى حبه وتعلقه بأيام ذلك الزواج الأول حتى غارت، وغيرتها مشروعة فقد كانت البكر الوحيد التي تزوجهــاـ، وهي الصبيحة المليحة، الصغيرة، تحيا مع زوج تحبه ويكبرها، ويذكر زوجة راحلة كانت أكبر منه وبالتبعية تكبرها بكثير فضاق صدرها حتى قالت: "مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، وفي رواية قالت: "أَبْدَلَك اللَّه بِكَبِيرَةِ السِّنّ حَدِيثَة السِّنّ".
فغضب صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وقال :’’مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ’’.
لم تكن تعلم عائشة أنه وفاء نادر معجز من رجل نادر معجز لم تسمع بمثله فى عالم مكة ولا دنيا المدينة، ولا رأت مثيلاً له فيما حكته أشعار العرب وأقاصيصهم، لكنها حين خبرته وعرفته من هول غضبه صلى الله عليه وسلم أقسمت في نفسها : "اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء".. بل وصرحت بهذا تائبةً نادمة بين يديه: "وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لا أَذْكُرهَا بَعْد هَذَا إِلا بِخَيْرٍ"، ولم تعد تستغرب أي مواقف تصدر عنه إزاء خديجة أبدًا، إنه الوفاء.. تلك الفضيلة الهامة والراسخة والبارزة فى سيرته صلى الله عليه وسلم.
وهذا موقف أحكيه لا بنصه ولكن بمعناه لكن فيه الكياسة، وحسن السياسة من الزوج والزوجة عندما يتعاليانِ على الصغائر، ويترفعانِ عن السفاسف، ويتجاوزانِ الأمور المكدرة لصفو العلاقة، وذلك لتسير بهم سفينة الحياة الزوجية دون أن تتخبط ثم تتحطم على صخرة العناد والندية والغضب، والكرامة الزائفة من قبل المرأة، والخشونة المبالغ فيها مع الكبر من قبل الزوج.
أما الموقف فتحكيه السيدة عائشة عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مبيته عندها ولما هم أن ينام بعدما علم بأنها نامت فقام فلبس الرداء والنعل دون أن يحدث صوتًا وخرج، فلبست لتوها خمارها وإزارها وتبعته حتى بلغ مقابر الصحابة رضوان الله عليهم بالبقيع وأطال القيام عندهم، ولما عاد عادت أمامه وهي تسرع حتى دخلت سريرها وصوتها يعلو حتى سألها أن كان بها مرض مما يعرفونه في وقتهم والذي يسبب ارتفاع صوت النفس مع تسارعه، فأخبرته، ولم يغفر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر غيرتها فدفعها بجميع كفه في صدرها، لأنها ظنت أن يظلمها الله ورسوله في ليلتها.
لم يرد الرسول (الزوج) أن يتحول الأمر إلى قطيعة فحكى لها عن السبب الذي من أجله خرج دون أن يحدث جلبة، من أن جبريل ناداه فأخفاه عنها ثم أجابه فأخفاها عنه، ولم يكن ليدخل البيت ـ أي جبريل ـ وقد وضعت عائشة ثيابها، وخاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون قد نامت فيوقظها، أو يوقظها بعد نومها فتستوحش غيابه، ذلك أن جبريل أخبره: "إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُم". هنا التقطت عائشة (الزوجة) طرف الحديث ققَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم (الزوج) قَالَ: ’’قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ’’.
لقد كانت السيدة عائشة (الزوجة) ذكية، واعية بأحوال زوجها، لم تُرد أن ينتهي الموقف بينها وبينه بغضب، فغيرت الموقف من المعاتبة بين زوجين إلى استفسار من طالبة علم إلى أستاذها، إذ كان الثابت من فعلها أنها لم تكن تترك رسول الله يغضب منها مدة من الزمن حتى تتحين الوقت الذي تصفو فيه نفسه صلى الله عليه وسلم وتطيب فتطلب منه علمًا أو دعاء. فسألته كيف تدعو لأهل البقيع؟، فكان من أدبه ورحمته صلى الله عليه وسلم أن أجابها ولم ينهرها كما يفعل بعض الرجال الغُشُوم في عصرنا بدعوى الكرامة وذلك إيثارًا منه لتتواصل المودة بينهما.
لماذا لا تتعلم المرأة العصرية الأكبر سنًا من زوجها والمتزوج من زوجتين أصغر منهما سنًا، إنني أحكي عن الصحابية الجليلة، والسيدة النبيلة سودة بنت زمعة، ذات المكانة المرموقة في مجتمع نساء قريش، العاقلة الحصيفة اللبيبة، يبدو هذا في موقفها المتوازن بين شرف الاصطفاء لها بأن تكون زوجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كونها ذات عيال، وتخشى أن يتسبب هذا في تفويت فرص الراحة والمودة والسكن الذي يجب أن يسود البيت النبوي، فأعانها هو على ذلك.
لقد كانت سودة بنت زمعة الأم الحانية، الراعية لبنات النبي وخديجة، ولم تكن أمًا لبنتيه وحسب بل أيضًا أمًا لزوجتيه الصغيرتين عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق، لحرصها الشديد على إسعاده صلى الله عليه وسلم لم تفتعل المشاكل من غيرة بعد اقترانه بعائشة قبل حفصة، بل عاش بينهما فى مودةٍ خلقاها حوله كزوجتين صالحتين على الرغم من فرق العمر الكبير بينهما وتكاد أن تكون أمًا له أيضًا؛ فلم تكدر للرسول صلى الله عليه وسلم صفو عيشه، إذ كانت حريصة أن ترضيه كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً، فقد كانت تحبه حبًا جمًا، وكانت إحدى أحب زوجاته إلى قلبه، لصلاحها وتقواها، ومسيرة إيمانها، ولعلمه بسعيها لإدخال السرور على قلبه بما تختاره من كلمات تشيع في أرجاء نفسه البهجة.
لقد جاء الموقف الذي يجب أن تتعلم منه المرأة العصرية إذا تقدم بها السن وعجزت عن القيام بواجب الزوجية وخشيت أن يطلقها زوجها لفارق السن بينهما؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصغرها بخمسة أعوام، لقد ظلت السيدة سودة تحمد الله كثيرًا على أن الرسول تلطَّفَ بها وبحالها حين اختارها زوجًا له وهي أسن منه وصاحبة عيال، ولهذا لما تقدم بها السن لم تكن الخروج من معيته وصحبته كزوجة، كما كانت تعلم أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عادلاً، ويحب أن يقيم شرع الله في بيته وبين أزواجه، فخشيت أن يطلقها صلى الله عليه وسلم فصارحتُه بما في نفسها لكي تحمل من فوق كاهله مخافة ومظنة التقصير في حقها: "يارسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة"، وذلك لغرض نبيل أخروي، من حقها أن تتمسك به: "أود أن أحشر في زمرة أزواجك".
لقد قلت استرشادًا واستئناسًا ونقلًا لهذه التجارب واستلهامها، يجب أن تستفيد المرأة العربية العصرية منها؛ فحالات الطلاق شاعت بين أفراد المجتمع المسلم، كما شاعت المشاكل والانشقاقات والتصدعات في بيوت غير المسلمين داخل المجتمع العربي، ومن هنا كنا ننبه بإلحاق الفتيات قبل الزواج بدورات تأهيلية تعلمهن أصول التعامل الزوجي، وكيف تكون زوجة ماهرة ناصحة مؤهلة لكل ما تجلبه الحياة من مفاجآت، وهذه سيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن فيها من التجارب التي تثري عقل وقلب وخبرة الزوجة العربية العصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق