الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

ذكريات سويسية .. ما أحلاها!







  يحكي هذه الذكريات الكاتب فاروق متولي، الملقب بـ "جبرتي السويس المعاصر"، في كتابه الذي يحمل نفس العنوان في طبعته الثانية التي واكبت احتفالات أهل السويس بعيدهم القومي في ذكرى انتصارهم على جيش العدو الصهيوني المتسلل لمدينتهم فتصدوا له وردوه مهزوما.

   جاء الكتاب فريدًا في إخراجه إذ تأخر الإهداء إلى الصفحة العاشرة منه التي أعقبها صفحة وثيقة تعارف بسيرة الكاتب وهو الأمر الذي يأتي متسقا مع نسق الحكي للذكريات التي حاول فيها الكاتب كسر الحاجز الوهمي بينه وبين قارئه، وهو ما نجح فيه فعلا حيث جاء أسلوبه غير متكلفا، وبعيدا عن التصنع أو التأنق، وكأنه ومن يحادثه في جلسة هادئة في إحدى النوادي.

    كما جاء الكتاب فريدًا في كونه لم يكتب في صدر طبعته الثانية عبارة "طبعة مزيدة ومنقحة"، كما لم يضم مقدمة الطبعة الثانية أو الإشارة إلى تاريخ الطبعة الأولى، وهذا لأن مقدمة بنت السويس الأستاذة أمل محمود جاءت وافية كافية لكل طبعة تالية للكتاب، فتقول: (والكاتب لا يحاول أن يكتب تاريخا كاملا للسويس، ولكنه يحاول أن يرسم خطوطًا عريضة لمدينة السويس وأحداثها وأماكنها وشخصياتها في حقبة ماضية من تاريخ السويس، يأخذكم فيها المؤلف بين دهاليز المدينة وشوارعها وحاراتها وأزقتها، يحكي لكم عنها وعن هويتها وشهرتها وثقافتها والعلامات البارزة في تاريخها).

   إذن فمنهج الكتاب لا يدعي الشمولية والإحاطة تجاه من سيتهمونه بإسقاط هذا الرمز أو نسيان ذكر هذا المكان، بل حدد الكاتب الفترة التاريخية التي يتناولها، وهو منهج علمي أكاديمي في تحديد الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب، وهذه الفترة تبدأ من نهاية حكم الملك فاروق وحتى تاريخنا المعاصر بل حتى إلى الأيام الجارية من طبعة الكتاب الأولى والثانية بالطبع.

   لقد نجح جبرتي السويس في انتقاء بعض الأماكن والرموز وسلط الأضواء عليها، غير أن الرجل بحق أضفى الحيوية في كل صفحات الكتاب؛ إذ لم يأتِ مملًا مَتحفيًا أو كأنه مرشدًا سياحيًا حافظًا للمعلومات التاريخية يصبها فوق رأس مستمعيه ويمضي، بل تميز بثقافة موسوعية تسمح له بسرد تاريخ الأثر تاريخيا ومعماريا ومن بناه ومن سكنه ومن استأجره ومن باعه ومن اشتراه ومن هدمه ومن بناه أبراجًا شاهقة تطمس معالم، وتمحو ذكريات.

   كما أضفى الكاتب الحيوية على موضوعاته في مقدماتها بما يحسب له ببراعة الاستهلال التي تجذب القارئ طواعية في التهام الكلمات دون ملل، ولم تفارق الحيوية ثنايا السطور داخل كل موضوع من السخرية الضاحكة أو المريرة، ومن الكلمات اللاذعات دون تسخيف أو تحقير أو ادعاء أو حشو  أو تكلف، بل يأتي كل هذا منسابا في نفس السياق، وكأنه ضم إلى كونه مؤرخا صفة الإصلاح الاجتماعي، كصوتٍ صارخ في قومه منذرًا من وبال محو الذكريات التاريخية الأثرية بهدمها، وعار نسيانهم للشخصيات السويسية المحترمة التي دفعت من مالها ومن دمها ولم تحظَ حتى بإطلاق شارع باسمها!

   لقد أهدى الكاتب للشباب قيمة من أهم القيم التي يحث عليها الدين والفكر السليم ألا وهي قيمة الوقت والحفاظ عليه حين حكى لهم عن وقته الذي أمضاه في جمع هذه المعلومات التاريخية والسهر عليها والسعي إليها من خلال المراجع التاريخية والتراكمات الذهنية في الوقت الذي يستمتع بمن هم في مثل سنه بالجلوس على المقاهي لكنه فعل الأجدى والأبقى، على أن الكتاب يحتوي العديد من القيم المتنوعة والهامة، والقضايا المتضمنة التي تصلح للنقاش والحوار.

إن هذا الكتاب لا يهم المواطن السويسي المعاصر فقط بل والأجيال القادمة من أبناء السويس وأبناء مصر أيضا، ذلك أن السويس مدينة كوزموبوليتانية "كونية" منذ نشأتها تضم كل أبناء مصر من الذين عملوا ويعملون فيها، ومن الذين يؤدون خدمتهم الوطنية في الجيش الثالث الميداني، ومن المهتمين بتاريخها الطويل والعريض ودراسته على مستويات عدة ولم لا وهي صانعة التاريخ وأرضها مسرحه في حقب تاريخية عديدة، وهنا تبرز أهمية الكتاب في معلوماته، وأسلوبه، وهو ما أطالب به الأستاذ فاروق متولي في نهاية مقالي أن لا تخرج الطبعة الثالثة إلا وقد زادها، أو يصدر كتبا على نفس المنوال، فالسويس تستحق.
    
   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق