لم تهدأ أقلام أكثر المستشرقين عند تناولهم أحداث السيرة النبوية عن التجديف والجور والبعد عن آليات البحث العلمي ومقتضياته؛ فالثابت أنهم لا يهمهم صحة الدليل بقدر اهتمامهم بتعزيز مطاعنهم الاستشراقية في موضوعاتها، ومنها معجزة الإسراء والمعراج التي يسايرون فيها مزاعم الكفار عند وقوعها، وينفون عنها الإعجاز، ويسوقون الأدلة تلو الأدلة التي تفارق الموضوعية والمعقولية من أجل هدمها أو تأويلاتها تأويلات غربية غريبة تتسق وعقليتهم لا ظرفيتها التاريخية، وديدنهم في هذا افتراءاتهم على المعجزات النبوية.
لقد أسس المستشرقون دعواهم في إنكار هذه المعجزة بأنها لم ترد في القرآن الكريم، ولهذا فهم يروجون لاستعارة المسلمين لها من الأمم السابقة، لوجود تشابه بين ما هو مذكور في معجزة الإسراء مع ما عند بعض الديانات الفارسية كالزرادشت.
استبعد بعضهم إمكان وقوع هذه المعجزة لكونها تخالف مقتضيات وأدوات وقواعد العلم الحديث، والغريب أنهم يثبتونها لمن ادعوا أنهم سبقوا من الأمم السابقة وصعدوا إلى السماء، ولا يجدون في ذلك غضاضة ولا تصادم مع العقل والعلم الحديث، ولا تصبح كذلك إلا حين يتعلق الأمر بمعجزة قرآنية ثابتة وواردة في السنة المطهرة.
يقول كارل بروكلمان في وصف معجزة الإسراء والمعراج، كما جاء بكتابه "تاريخ الشعوب الإسلامية": (في هذه الأثناء كان مسلمو مكة، على ما تقول الروايات، يعانون أزمة جديدة. ذلك أن حديث محمد عن إسرائه العجيب، برفقة جبريل إلى بيت المقدس، ومن ثم إلى السماء، كان قد أوقع موجة من الشك في نفوس بعض المؤمنين، ولكن أبا بكر ضرب بإيمانه الراسخ مثلا طيبا لهؤلاء المتشككين فزايلتهم الريب والظنون. ومن الجائز أن تكون هذه الرحلة السماوية التي كثيرا ما أشير إليها بعد في الأساطير الغريبة التي خلفتها لنا الكتب الإسلامية جميعها، أقدم من ذلك عهدا، ولعلها ترجع إلى الأيام الأولى للبعثة النبوية. وأمثال هذه الرؤى في أثناء "تهجّد العرّاف" معروفة ثابتة لدى بعض الشعوب البدائية).
إن بروكلمان مستشرق يُخالف كل الروايات الإسلامية الصحيحة؛ فهو يرى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد اقتبس إطاره الفكري من اليهودية والنصرانية، وأنه صلى الله عليه وسلم كيفه تكييفا بارعا ليلائم الحاجات الدينية لشعب مكة، وأنه اقتبس مقولاته الدينية من الآرامية والفارسية والبابلية، ومما يعطي قول بروكلمان وجاهة وتصديقا لقارئيه وسامعيه كونه دارسا للغات القديمة، ومنها الآرامية، والفارسية، والبابلية، والحبشية، والسريانية، مما يجعل لقوله تأثيرا في سوقه لشبهاته تلك وغيرها.
تقول الكاتبة والباحثة البريطانية "كارين أرمسترونج" في كتابها "سيرة النبي محمد": (يُنظر لمرحلة الإسراء على أنها المثال الكامل للفَناء في الله الذي يتحدث عنه المتصوفون، ومثل المسيحيين الذين طوروا ممارسة محاكاة المسيح، يَسْعَى المسلمون إلى محاكاةِ الرسول في حياتِهم اليوميةِ لكي يقتربوا مِن هذا الكمالِ بقَدْرِ الإمكانِ، وهذا يقربهم قدر الاستطاعة من الله).
وعلى الرغم من إنصاف أرمسترونج غير المطلق إلا أنها تتأرجح في تناول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عبر خلفيتها الغربية والتي تشهد انحيازا في بعض المواقف التاريخية للسيرة النبوية، وتبني وجهتها الفكرية، وقراءتها للمصادر والروايات التاريخية الموثوقة من خلال قراءة لا تنقصها المقارنة؛ بغية بلوغ ما تراه من حقيقة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته.
لذا فقد لجأت للخروج بمظهرها المنصف، وانحيازها لفكرها الغربي المتجذر فيها إلى الالتفاف حول معجزة "المعراج"؛ فترى أنها تتشابه مع تجربة "تصوف العرش" الواردة في التقاليد اليهودية والتي شاعت من القرن الثاني حتى القرن العاشر للميلاد، حيث يقوم الموهوبون بإعداد أنفسهم للتحليق الصوفي والرحلة إلى عرش الله من خلال تدريبات خاصة كالصوم وقراءة أوراد معينة، والقيام ببعض الأساليب البدنية الخاصة، وبعد تأدية تلك التدريبات يشعرون أنهم صعدوا إلى عرش الله.
كما تذكر في كتابها بعض التجارب الروحية التي تشبه المعراج نفسه مثل تجربة الدخول في سلك كهنوت "الشامانيين"، والتي ما زالت تحدث في أرجاء شمالي آسيا وأمريكا. وحتى العقائد الوثنية لا تخلو من تجارب مماثلة، فبلوغ سدرة المنتهى يرمز في الإسلام، كما في التقاليد الهندوسية إلى الحد الأقصى للمعرفة الإنسانية. أما المشاهدات النبوية في هذه الرحلة فليست سوى تصوير رمزي ناشئ، كما في البوذية، عن الإحساس بالمطلق والامتداد الشاسع للوحي.
تأتي كلمة "شامان" من لغة "التونجوس السيبيرية" وتترجم "الذي يعرف". ومن المرادفات لها: الوسيط، المشعوذ، الدجال، الساحر، طارد الأرواح، المنجم، مستحضر الأرواح، العراف، الشامانية هي نظرية مزيفة معادية للمسيحية يسمى فيها الوسيط بين ما هو طبيعي وما هو فائق للطبيعة "شامان". وتوجد صلة بين الشامانية والأرواحية، أي الاعتقاد بأن الأرواح تسكن العالم المادي بالإضافة إلى النطاق الروحي. ونسأل أرمسترونج: أين "الشامانية" وفيهم رجال الطب والكهنة من "الإسلام" دين التوحيد؟ هناك فارق بين الدين الشعبي/الأرضي والدين السماوي!
لقد مارس الطبيب والمؤرخ الفرنسي "جوستاف لوبون" التشكيك في معجزة الاسراء والمعراج، فقال في كتابه "حضارة العرب": (ويعتقد المسلمون أنه أسري بمحمد ليلاً على ظهر حيوان خيالي يُسمى "البراق"، والبراق دابة مجنحة لها وجه المرأة وجسم الفرس وذنب الطاووس، ويعتقد المسلمون أن محمداً اخترق السماوات السبع في معراجه حتى بلغ عرش الله).
يمضي "كولين تيرنر" في كتابه "الإسلام: الأسس"، في نزع الطابع الإعجازي عن رحلتي الإسراء والمعراج، مؤكدا أن الأمر لا يعدو سوى تجربة روحية ونفسية حدثت أثناء نوم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه التقى في منامه بجميع الأنبياء والرسل مما كان له الأثر الكبير في تعزيز ثقته بنبوته، وتأهيله لتحمل الآتي من الصعاب.
كما أوردت "دائرة المعارف الإسلامية"، وهي أضخم عمل موسوعي قام به المستشرقون وجمعوا فيه كل ما هو خاص بالتراث الإسلامي وعلومه الدينية والدنيوية.الروايات التفسيرية للإسراء والمعراج وقد تناول أولئك المستشرقين رحلة "الإسراء" بشكل رئيس دون ذكر رحلة "المعراج"، باعتبار البعد المكاني للإسراء إلى البيت المقدس ورمزية المسجد الأقصى، واعتبار البعد الإعجازي لقطع تلك المسافة الكبيرة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في وقت قصير جدا مسستحيل الوقوع وذلك بحسب القياسات البشرية المحدودة إلا أن يكون ـ حسب قولهم ـ منامًا قد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤسف أنهم سلكوا منهجا غير علمي، ولو شئتُ لقلتُ: منهجا غير أخلاقي، في تفسير الإسراء والمعراج حين انتقوا بعض الروايات الواردة دون غيرها بغية تدعيم أفكارهم المشككة في صِحة ما ورد حول الإسراء والمعراج، وصولا لنتائج معلومة في أذهانهم مسبقا، وهذا ما أعنيه بـاللا "أخلاقية"، لكونه مبني على التزوير والتلفيق والخداع!
لقد بات من المعروف سلفا في دوائر الفكر الإسلامي أن الفكر الاستشراقي يمثل صفحة من صفحات العداء الذي تبناه بعض مؤرخي ومفكري ومستشرقين الغرب؛ للحط من شأن دين الإسلام على الرغم من صعوبة اكتشاف دور الاستشراق، إلا أنه ظهر بوضوح في بعض الدول الإسلامية، وذلك بتشکيك المسلمين في دينهم عن طريق بعض الوسائل والتي من بينها وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا التي أصبح لها أثرها الكبير في تغير المجتمعات خاصة فئات الشباب التي يستهدفونها، وهو ما يعني أن للاستشراق مدارس ووسائل وأهداف ووسائل وتاريخ مع الإسلام.
يأتي مفهوم الاستشراق من اسمه ويعني اهتمام بعض دارسي الغرب بالشرق جغرافيا، حيث يحاولون الوقوف على معالم الفكر الإسلامي وحضارته وثقافة الشرق وعلومه، وذلك عبر دراسات أكاديمية موجهة نحو الإسلام والمسلمين من شتى الجوانب عقيدة وشريعة وثقافة وحضارة وتاريخاً ونظماً وثروات وإمكانيات؛ بهدف تشويه الإسلام، ومحاولة تشكيك المسلمين فيه وتضليلهم عنه، ومحاولة تسويغ التبعية الغربية بدراسات ونظريات تدَّعي العلمية والموضوعية وباطنها الكذب.
ونجد أنه من الصعب تحديد بداية واحدة للاستشراق، غير أن نشأته جاءت نتيجة للعديد من الأسباب أهمها دراسة الدين الإسلامي والشريعة انعكاسا لانتشاره السريع، ويزعم البعض أن نشأة الاستشراق كانت بدوافع الدراسات العلمية النزيهة فقط، ويرفض هذا الزعم عدد غير قليل من المهتمين بالاستشراق من المسلمين وغير المسلمين العرب؛ فأغلب نوايا المستشرقين لم تكن حسنة، ويكمن السر في انتشار الإسلام بصورة كبيرة وبدأ بدخول البلاد الغربية، مما أخاف الغربيون من معرفة شعوبهم الصورة النقية له، وعكفوا على دراسته دون تأثير عليهم لاعتنقوه دون تردد، وهو ما يحدث بالفعل الآن.
لقد اختلف الباحثون فى نشأة الاستشراق بتحديد سنة معينة أو فترة معينة لنشأته، فيرى البعض أنه ظهر مع ظهور الإسلام فى أول لقاء جمع بين الرسول صلى االله عليه وسلم ونصارى نجران، أو قبل ذلك عندما بعث الرسول صلى االله عليه وسلم رسله إلى الملوك والأمراء خارج الجزيرة العربية، ويرى البعض أن النشأة أتت عند اللقاء الذى تم بين المسلمين والنجاشى فى الحبشة، بينما هناك من يرى بأن النشأة جاءت بسبب "غزوة مؤتة"؛ فقد كانت أول احتكاك عسكرى بين المسلمين وجيش الروم، ويرى آخرون أن النشأة بدأت مع يوحنا الدمشقى، ويرى غيرهم أن الحروب الصليبية هى بداية الاحتكاك الفعلى بين المسلمين والنصارى ممن تعرفوا على الإسلام.
غالبا ما يخفي المستشرقون تحت هدفهم السياسي المعلن هدفان غير معلنان وعلى قدر كبير من الخطورة وهما: البعد الديني والبعد الاستعماري، وذلك باستخدام آليات همها إضعاف ثقة المسلمين في تراثهم، وبث الشك في الإسلام عن طريق تهوين القيم والعقيدة وكافة المثل العليا، وبذلك يصل المستشرقون لهدفهم الأسمى في إنكار المسلمين لقيمة تراثهم الحضاري، حين يشيع الاستشراق أن تلك الحضارة زائفة ومنقولة عن الحضارة الرومانية، وهو ما يعني أن الإسلام دين لم يأتِ بجديد، واستخدام السياسة في محاولة إحياء القوميات لكل دولة إسلامية، ثم إثارة الخلافات بين الشعوب المسلمة، حين يحل الانتماء للقومية محل الانتماء للإسلام وبذلك تنتهي روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في بلدانهم، غير أن أهم دوافع الاستشراق هو الدافع الديني، ولذا جاءت نشأته ورواده من الرهبان الذين دأبوا على تشويه الإسلام في جوانب الحضارة والأدب والعلم والتراث تحركهم في ذلك رغبة انتقامية حثيثة لوقف المد الإسلامي من ناحية، وما لاقوه من المسلمين ـ تاريخيا ـ في الحقبتين: الصليبية والعثمانية من جهة أخرى.
والغالب أن غاية الاستشراق هو الجانب الاستعماري؛ فالعلاقة بينهما عميقة وتاريخية ذات مصالح وأهداف مشتركة تبينت في الهدف الاقتصادي من خلال الترويج لبضائعهم، والهيمنة على الموارد الطبيعية الخام للمسلمين، وأن تكون بلاد المسلمين سوقا كبيرا لهم. إلى جانب تحقيق عدد من الأهداف:
أولاً: الهدف الديني: تشويه حقائق الإسلام، ترويج الافتراءات عنه بأنه دين لا يستحق الانتشار، وأن المسلمين قوم همج وسفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية. ويظنون بهذا أنهم يحمون الشعوب المسيحية من الدخول فيه، بل يحاولون بكل الوسائل المادية تنصير المسلمين.
ثانياً: الهدف الاستعماري: اتجه المستشرقون إلى دراسة البلدان العربية والإسلامية في كل شئونها وسخروا علمهم لخدمة الاستعمار؛ فكان هؤلاء المستشرقون عملاء لحكوماتهم، وشركاء لهم في صنع القرار السياسي، وبدأوا بالتشكيك في التراث، والعقيدة والشريعة، وروجوا أن أملهم في التقدم هو الإيمان بعلوم الغرب ودينهم، وأحيوا القوميات في كل دولة إسلامية ليتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الواحدة، وخلق الفتن الطائفية.
ثالثاً: الهدف السياسي: عمدوا إلى بث الاستعمار الفكري في الدول الإسلامية التي تحررت من الاستعمار العسكري، عن طريق الخبراء في الدراسات الاستشراقية من الغرب ويحسنون اللغة العربية.
رابعا: الهدف العلمي: هناك قلة من المستشرقين أقبلوا على الاستشراق بدافع العلم، وكانوا أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه، ومنهم من اهتدى إلى الإسلام.
غير أنه يجب التأكيد أن كثير من المفكرين المسلميين وقفوا للدفاع عن الإسلام عقيدة وشريعة، في مواجهة الطعون التي جاء بها مفكرو الاستشراق، أصحاب الفكر الاستشرافي المغرض. وقد أثبتوا أن الإسراء هو: السير ليلًا بسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى بيت المقدس بالشام. والمِعْراجُ هو: عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيت المقدس الذي هو المسجد الأقصى إلى السماوات، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام.
فالإسراء والمعراج رحلتان قدسيتان من المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي من الحجج الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يجب الاعتقاد بوقوعها، فهي رحلة إلهية ومعجزة نبوية لا تقاس بمقاييس البشر المخلوقين وقوانينهم المحدودة بالزمان والمكان، بل تقاس على قدرة من أراد لها أن تكون وهو الخالق جل جلاله، فإذا اعتقدنا أن الله قادر مختار لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؛ سهل علينا الإيمان بأنه لا يمتنع عليه أن يخلق ما شاء على أي كيفية.
والإسراء والمعراج قد ثبتا بالقرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد حدَّث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وأربعون صحابيًا، فاستفاض استفاضة لا مطمع بعدها لمنكر أو متأول، وقد تواتر ذلك تواترًا عظيمًا؛ حتى لم يعد لمنكر مطمع ولا لمتأول مغمز.
وقد ذهب جمهور العلماء سلفًا وخلفًا على أن الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة وأن الإسراء حدث بالروح والجسد معًا. كما أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة متعددة، وقد جاوزت الألف، كما صرح بذلك العلامة ابن القيم رحمه الله في "إغاثة اللهفان"، وهذه المعجزات منها ما حصل وانتهى، ومنها ما هو باق إلى أن يشاء الله تعالى، وهو المعجزة العظمى، والآية الكبرى على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن العظيم، الآية الباقية الدائمة التي لا يطرأ عليها التغيير والتبديل، على الرغم من طعن الطاعنين المغرضين من أهل الفكر الاستشراقي المغرض الحاقد الذي لا يهدأ ولا يلين، ولا ينام ولا يستكين، وهو ما يوجب على المسلمين كافة اليقظة الدائمة، والحرص التام على عقيدتهم وشريعتهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق