على الرغم من اختلاف تواريخ الاحتفال بعيد الأب بين العديد من الدول، غير أني أعول على أن فكرة تخصيص يوم لتكريم الأب انبثقت من ذهن "سونورا لويس سمارت دود" بولاية ميتشيجان بالولايات المتحدة فى عام 1909م، كما هو شائع، وذلك بعد أن استمعتْ إلى موعظة دينية فى يوم الأم، وهذا التقابل الوارد في ذهن "سونورا" جاء عند استدعاء سيرة الأب في احتفاء خاص بالأم، وهو ما جعلها تستعرض مسيرة أسرتها بعد وفاة "أمها"، وتولي "والدها" بمفرده تربية أطفاله الستة، وهذا الأمر يأتي اتفاقًا واتساقًا مع نصف العنوان الثاني للمقال: "إشكالية الرجل/الأم".
تلك الإشكالية التي طرحتُها في دراسة نشرتَها وقدمتَها، منذ سنوات، إلى المجلس القومى للمرأة بمصر، وكافة الأجهزة والمجالس القومية العربية والإسلامية المعنية بقضايا المرأة، بعد أن قامت بعض الأمهات بالهروب أو الخروج من حياة الأسرة وتنازلها عن كامل دورها للأب للقيام بوظيفة "الرجل/الأم"، الذي سيجد الكثير من المشقة والعنت في القيام بها لأن الله لم يؤهله لها، وقد ساويته فى موقعه الجديد بـ "المرأة المعيلة" التي تخلى عنها زوجها وترك لها القيام بمهمة "الأم/الأب" رغمًا عنها.
إن "سونورا لويس" لم تحركها العاطفة نحو والدها في المطالبة بتخصيص "يوم" للأب، بل دوره ووجوده في حياة الأسرة بعد فقد الأم، واضطلاعه بمهامها في غيابها القدري ليتحمل فوق مسئولياته مسئولية لم يكن مستعدًا لها، ولم يحدِّث نفسهُ بها من قبل، غير أن قراره الفوري في عدم التخلي، وهو الأمر الذي يؤكد ضرورة وجود طرفي العلاقة داخل منظومة الأسرة، ليحل أحدهما محل الآخر عند الفقد أو التخلي، وهو ما يأتي اتفاقًا واتساقًا مع نصف العنوان الأول من المقالة عن مطالبة بعض النسوة نسبة إلى "الحركة النسوية" التي تتفق مع "الجندر" أو "النوع الاجتماعي"، في نفي دور الأب في وجوده، بل الدعوة إلى تفسخ النظام الأسري ونقضه تماما.
أرجو قبل الخوض في موضوع "الجندر" الإشارة لمن أراد التوسع، الرجوع إلى مقالاتي حول: "الجندر والتنوع الثقافي"، و"الجندر/النوع الاجتماعي: أدواره وإدماجه في المجتمعات العربية"، و"الجندر في ضوء حقوق الإنسان"، و"الجندر: يغزو مجتمعاتنا العربية"، و"أثر الجندر على المجتمع الإسلامي"، و"العنف ضد المرأة وتداعياته المجتمعية". وقد قَصدتُ من سَوق هذه المقالات إعلان حيادي التام تجاه دور الأب، وأن موضوع المقال جاء مبحوثًا بدقة عبر تلك المقالات/الدراسات.
لقد حاول من يترجمون مصطلح "الجندر" من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية أن يجعلونه في صورة أقرب للمفهوم الاجتماعي العربي لتمريره وقبوله، ولقد عرَّفته منظمة الصحة العالمية باعتباره مصطلحا يفيد استعماله تناول الصفات التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، ولا علاقة بها بالاختلافات العضوية، وهو ما يعني أن التكوين البيولوجي للذكر أو للأنثى ليس له علاقة باختيار النشاط الجنسي الذي يمارسه كل منهما؛ لأن النوع في ذاته كمصطلح يحمل سمات أساسية يتصف بها، هي التي ستجعل ليس من العسير فهمه فقط بل وتقبله في ضوء هذه السمات.
لقد جاء التضحية بدور "الأب" وفقًا لمفهوم "الجندر/النوع الاجتماعي" من خلال محاولة حركات كثيرة تسوغ فكرة "النوع الاجتماعي" لمد جسر من المساواة التي تتماشى مع مبادئ تلك الهوية. على الرغم من كل هذا التبرير والتمرير لمصطلح الجندر ومفهومه فلم يستطع أحد القيام بتطبيقه في المجتمع العربي، مع كثرة المحاولات التي لا تعرف التوقف، ومنها تلك المحاولات التي دأبت الأمم المتحدة ومنظماتها بالضغط لفرضها دون طائل؛ لاصطدامها بالديانات الكتابية كمنهج، والأعراف السائدة في المجتمع العربي، ومن تلك الأهداف التي تنتظر التطبيق:
ـ التشكيك في مفهوم القوامة للرجل على المرأة في الأسرة المسلمة المكونة للمجتمع الإسلامي، خاصة وأنها تحظر في المادة الرابعة من اتفاقية "سيداو" وضع أي فروق خاصة في القوانين بين الرجل والمرأة على سبيل التمييز متجاهلةً تماما تلك الفروق بينهما، وكأن المرأة في غير حاجة للرجل، ولمن لا يعلم أن "اتفاقية سيداو" هي الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1979م، وقد استمدت اسمها بربط الأحرف الأولى من جملة: (The Convention on the Elimination of All Forms of Discrimination against Women).
ـ الخروج على نظام الأسرة باعتباره نظامًا تقليديًا، "بطريركيًا/أبويًا" تبدو فيه سلطة الأب الذكورية المطلقة وجعلت سلطة الأب مقدسة، كما أدخل باب القوامة نوعا من العنف الأسري الذي يمارس داخل الأسرة وهو مستحق للتجريم.
ـ الطلب من حكومات الدول إلغاء العبارات التي تدل على التمييز بين الرجل والمرأة في الأسرة، ومنها: عبارة "رب الأسرة"، واستبدالها بعبارات أخرى تدل على شمولية المعنى لهما معًا في الوظيفة.
ـ تغيير وضعية المرأة التي تحصر مهمتها فقط في تربية الأولاد ورعايتهم، على اعتبار أن اهتمام المرأة بشؤون المنزل نوع من أنواع التهميش لها، وهو مفهوم خاطيء طبقا للأدوار الجندرية المتبعة، والاستعباد لها، وبسط نفوذ الأبوية عليها.
من البداهة أن أقول أن دور الأب مهم في حياة الأسرة ولعل بعض الأدبيات الجندرية/ النسوية تحرص على وجود الأب حال ولادة الطفل، ومنحه أجازة من العمل يجب عليه أن يقضيها مع المولود فقط، ولا يحولها لعطلة يقضيها مع الأصدقاء، ذلك أن الغياب المتكرر للأب خلال الأسابيع الأولى أثناء استقبال المولود الجديد، يلعب دورا سلبيا يحول دون توطيد العلاقة العاطفية بينهما، ويفوت عليه فرصة قضاء الفترات الأولى من نموه وانفتاحه على العالم، كما جاء في الدليل العملي من أجل تعزيز الرجوليات الإيجابية، الصادر عن مؤسسة هاينرش بول.
غير أن الحركة النسوية المتطرفة دأبت على إشعال الصراع بين الرجل والمرأة، من خلال سعيها لتأسيس عالم أنثوي مستقل لا مكان للرجل فيه، باعتبار أفضلية المرأة وتميزها عنه، وتأسيس النظام "الأمومي" وطرح المكانة "الأبوية" من ذاكرة الأسرة بالمحو أو بالنفي، والأمران متعارضان؛ فالنفي طبقا للفكر الجندري يسمح بوجود الأب جسدًا ماديًا لا معنويا، بعد استلاب دوره، وتقليص مهمته، وتطويق حركته، وهيمنته الذكرية على أفراد الأسرة؛ فلا يَسأل، ولا يُرجع إليه في قرار، ولا يُصدِرُ أمرًا، ولا يعترضْ. أما المحو فيكمن في استبعاده ماديًا ومعنويًا.
تهتم الكاتبة والمؤرخة والأكاديمية "غيردا ليرنر" في كتابها: "نشأة النظام الأبوي"، بالعلاقة بين الأب والنساء والبنات طبقًا للمفهوم الجندري والنسوي، ولا يعنيها تلك العلاقة التي تربط بين الأب وأطفاله الذكور؛ فخضوعهم لهيمنته مؤقتة، تستمر إلى أن يصبحوا هم أنفسهم أرباب أسر، أما خضوع الإناث والزوجات فيستمر طول الحياة، وتستطيع البنات الهرب من الهيمنة إذا وضعنَ أنفسهنَ تحت هيمنة وحماية رجل آخر. وتقول: (أميلُ إلى الاعتقاد أنه أينما وُجِدتْ الأسرة الأبوية فإن النظام الأبوي يولد من جديد باستمرار، حتى حين تُلغى العلاقات الأبوية في أجزاء أخرى من المجتمع)، لكنها تجزم في نهاية كتابها باندثار النظام الأبوي إلا أنها لا تدري كُنْه وكيفية النظام القادم: (إن النظام الأبوي نظام تاريخي؛ له بداية؛ وستكون له نهاية، ويبدو أن زمنه وصل إلى نهاية مجراه، فهو لم يعد يخدم حاجات الرجال أو النساء، ويسبب ارتباطه الذي لا يمكن فكَّه بالنزعة العسكرية والهرمية والعرقية، فإنه يهدد وجود الحياة على الأرض).
لا تستطيع الحركات النسوية وقيادات الجندر وأتباعهم أن يغامروا بالرهان على وجود الأب في حياة البنت، وهو ما يبدو في الاحتفال بعيد الأب من مشاعرٍ فياضة تمتلئ بها الرسائل المتدفقة من قلب كل فتاة تجاه والدها الحاضر، أو تلك التي تقطر محبة وشوق وحنين جارف تجاه الأب الذي غادر قطار الحياة، ومازالت البنت تخاطبه بكونها في أشد الحاجة لوجوده معها على الرغم من كونها متزوجة وأولادها حولها.
تعرض الكاتب يوسف إدريس في كتابه: "الأب الغائب" إلى دور الأب والأم في حياة أولادهم داخل المنظومة الأسرية، وقد دعاه إلى ذلك شيوع الجريمة بين أفراد الأسرة الواحدة والتي أرجعها إلى سفر الوالد سعيا لجلب المال لإسعاد عائلته، بما يعني أن إدريس لم يكن عامدًا لأن يتعرض للنظام الأبوي أو الهيمنة النسوية التي تسعى إليها المرأة التي ستتحول راغمة إلى "المرأة/الأب"؛ لتخلق إشكالية جديدة في المجتمع، وقد يساويها البعض بـ "المرأة المعيلة"، وهو خطأ جسيم لأن "المعيلة" لم تسعَ لهذا بل أُرغِمتْ عليه دون رضاها حين تخلى الزوج وفر، بينما المرأة الجندرية هي التي سعت إلى نفي الأب وحلت محله، ظنًا منها أنها تحررت منه ومن عبوديتها له!
لقد عمد النسويون في معالجتهم لمسألة وضع المرأة في المجتمع والأسرة والتمييز بينها وبين الرجل، إلى التركيز على ما تتعرض له المرأة من قهرٍ جنسي في إطار عملية تقسيم العمل التقليدية، وفي ظل السلطة الأبوية للرجل داخل الأسرة. وعليه، وجهوا كل نقدهم بل عدائهم إلى الرجل متغافلين تمامًا عن دور القهر الاجتماعي والطبقي وعلاقته بالقهر الجنسي في ظل النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد. هذا ما توصلت إليه الدكتورة ليلى عبد الوهاب في كتابها المعنون: "علم اجتماع المرأة: الدراسة الاجتماعية لأوضاع المرأة في المجتمع".
يبين إدريس في كتابه دور الأب ودور الأب وأهميتهما، فيقول: (صحيح أن الأب لا يلعب الدور الأكبر في تربية الأطفال بالذات، وإنما الأم هي التي تقوم بهذا الدور، ولكنَّ للأب دورًا آخر أعمق أهمية بكثير؛ إذ هو ليس مجرَّد ساقٍ ثانية تمشي عليها الأسرة مع الساق الأولى (الأم)، إنه العمود الفقري الذي يَصلب حيل العائلة ويجعل منها كُلَّاً مُتماسكًا، هو الرمز للكيان الواحد.. إن الأب هو "البطل" في نظر أبنائه وبناته وزوجته، اختَرْ أي طفل، فقيرًا كان أو غنيًا، راضيًا عن أبيه أو ساخطًا، واسأله أن يختار من بين كل الناس "بطلًا" يتبعه ويطيعه، وستجده يختار بالفطرة بطله: "أباه"، وفي ظل قيادته تُحلُّ كل المشكلات، وتنسجم كل التناقضات، ويُخرِس بحسمه كل الأصوات.. الأم تطعم وتحنُ وتعطف، ولكن الأب هو الذي يضع المثل الأعلى، ويقلِّده الابن، دون أن يعرف أو يدري، ويرى فيه رمزًا لرجولته المقبلة، وترى فيه البنت نموذجًا لما يجب أن يكون عليه عريسها ومن تحبه، أما الزوجة فحاجتها للأب مُلحَّة... الأب هو السبع، وهو الأسد، وهو القادر، وهو العمود).
لا يمكن إنكار أن بعض الآباء من الذين فرطوا أو يفرطون في القيام بواجباتهم على الوجه الذي يتكافئ ومكانتهم في الهرم الأسري، هم الذين يمنحون الفرصة والمساحة للداعيات والقائمات على "الجندر" و"النسوية" بمحاولاتهن المستميتة في اغتيال دور"الأب" وتحطيم قوامته، ووجوده، وقيادته لسفينة الأسرة وحياة بناته، وهو الأمر الذي يجب إدامة التنبيه له ولغيره في العدول عن سيره المعوج، والاستهتار بمستقبل أفراد عائلته التي استرعاه الله عليهم، وأنهم أمانة سيحَاسب عليها، وأن التخلي عنهم جريمة في حقه، وجناية عليهم يرتكبها بدمٍ بارد غير مسئول.
ولا يمكننا بأي حال أن نحتفل بمثل هذا الأب في عيده، كما تطالب بهذا صاحبات الفكر الجندري اللواتي لا يعترضن على الاحتفاء بعيد الأب، لكن دون بعض النماذج السلبية والسيئة من الآباء طبقًا لأفكارهن ورؤيتهن سواء النسوية أو الجندرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق