السبت، 27 ديسمبر 2025

قراءة في رواية "حكم عزيز" للروائية إيمان الوكيل..

 




 تراهن الروائية إيمان الوكيل منذ اللحظة الافتتاحية لروايتها "حكم عزيز" على عزمها الأكيد في أنها سَتُحِكم سيطرتها على القارئ؛ فلن تدعه يفلت منها، وأنها ستتسيد شكلا ومضمونا، لا من حيث كونها المؤلف، ولكن من حيث امتلاكها لأدواتها مع ضربة البداية في تجسيد الأحداث برأسها وتخيلها من ناحية، وعند صبها على الورق من حيث السبك والبناء واستخدام التكنيك السردي بمهارة من ناحية أخرى، غير أن الأحداث في سكبها وسبكها لا تشير إلى خيالٍ محض بل إلى واقع وراهن نفسي رأته الكاتبة ورصدته ووعته، وتفاعلت به ومعه حتى انصهرت فيه وبه، واحتواها واحتوته، واكتوت به معايشةً وتفكيرًا، ثم أهدته إلى قارئها ليكون شاهدًا معها عليه، ويقيما الحجة على الإنسان في سؤال وجودي: أهو بطل خرج من رحم المثالية.. أم ضحية عذبتها سياط المعاناة؟ أم ضحية تتصنع البطولة؟ أو كما بلورت الكاتبة مأساة شخصيات الرواية في سؤال همس المحوري في تعجب: (لا أعرف لماذا يكره المجتمع المتحابين؟!) ص68.


عتبات النص:


من نافلة القول أن أشير إلى أهمية وجود عتبات النص تلك التي أولاها "جيرارد جينيت" اهتمامًا كبيرًا لما لها من فضل في إزاحة عتمات النص وفهمه، وكونها تعكس مقصود الكاتب وتُعين في توجيه القارئ نحو الأحداث، ومحاولة جذبه لاستكشاف الجوانب الفنية والجمالية للنص، مما يعني أن هذه العتبات تضيف منظورًا جماليًا له تأثيره الذي يجعله عنصرًا من عناصر القيمة الإبداعية للنص الأدبي.


ولهذا جاء عنوان الرواية "حكم عزيز" محملًا بالعديد من المعاني والدلالات، وربما أولها الدلالة الدينية في "حكم" التي تشير إلى الحكم الشرعي الذي يصدر من الله تعالى، وهو حكم يدل على القوة والسيطرة، والحكم الإلهي الذي يدل على أن الله تعالى هو الحاكم الوحيد على الكون.


أما الدلالة الدينية في "عزيز" فتكمن في كونه اسم من أسماء الله تعالى، وهو يدل على القوة والسيطرة، وهو ما يأتي متسقًا مع المعنى اللغوي، والدلالة القرآنية؛ فهو يدل على الله تعالى الذي هو عزيز لا يُغلَب.


وتشير الدلالة النفسية في العنوان إلى الشخصية الرئيسة في الرواية، وهي شخصية "عزيز" التي تتميز بالقوة والسيطرة، وهو ما نجحت فيه الكاتبة حين جعلت من دلالة العنوان كعتبة نص خارجية تشير بقوة وثقة إلى اتجاه الرواية، وهو اتجاه لا يركز فقط على الشخصية الرئيسة بل على المجتمع الذي تعيش وتتحرك فيه، بالإضافة إلى ما يثيره من جلب عنصر التشويق والإثارة لدى المتلقي، وتأويله وتفسيره ـ تخمينًا ـ لما تحويه الرواية من قبل أن يقرأها.


أما عناوين عتبات النص الداخلية التي بدأتها الكاتبة بالإهداء لمن علَّم وأضاف بصبرٍ وخبرة الكاتب والمحرر الأدبي للعمل "خالد الجزار" تحية إعزاز وتقدير منها إليه، وهي دلالة على حرص الكاتبة أن تنسج عملها في أبهى صورة محاطة بإطارات التدقيق اللغوي والتحرير الأدبي والغلاف المعبر عن مضمون العمل، والدار التي أحسنت طباعته، وهو ما يُحسب لها لا عليها، خاصةً وأنني أحد الذين قرأوا العمل وهو لم يزل مخطوطًا، ونشرتُه في كتابي: "نظرات نقدية في إبداعات عربية" التي اختارته ونشرته دار "شمس ببليشينج" بدسلدورف في ألمانيا الغربية حين كان عنوانه "حب بلا دوبامين" ووقع في ثمانية فصول، ولم يتدخل المحرر الأدبي في أحداثه أو خطوطه العريضة ومنمنماته.


وقد جاءت عناوين الفصول بعيدة كل البعد عن الغموض بينة الدلالة، متحققة في المتن، وكانت بحق بابًا كبيرًا لولوج القارئ للنص من القراءة الأولى، وإن لم يكسر حاجز التشويق، بل دافعًا لامتطاء صهوة الأحداث في شغف، وربط ما يتلوه مع فهمه في السابق أو لانتظار اللاحق.


استخدامات الكاتبة لتقنيات الرواية:


يُحسب للكاتبة إيمان الوكيل أنها لعبت على كثير من الأوتار التي عزفتها والخيوط التي ضفَّرتها جيدًا في عملها بحيث لم تتغلب واحدة على الأخرى؛ فالتناول الاجتماعي الواقعي في الرواية قائم من حيث رصدها لكافة العلاقات القائمة في المجتمع وخاصة الأسرة وامتدادية تأثير الآباء في الأبناء مهما كانت ثقافتهم، وذلك بتوريثهم نظرتهم الدونية إلى المرأة والتي أفلحت الكاتبة أن تلعب على جيلين من النساء: الراضخة والمستسلمة للإهانة من الجيل القديم، والرافضة له ولو كلفها الأمر الاضطهاد والتعنيف مما يمكن أن يكون إشارة من الكاتبة للحركات التحررية النسوية، كما تشير إلى الرضوخ المستسلم في الطاعة المبالغ فيها من الابن للأب ولو كان خاطئًا في اتجاهاته ومواقفه وهي تستصحب معها النصوص الانتقائية من الدين التي تؤطر لهذه الهيمنة.


تضع الكاتبة القارئ في قلب الأحداث دفعة واحدة في تصاعد درامي لا يسمح له أن يرفع نظره، مع محاصرته بأسئلة استفهامية يفرضها النص من خلال دخول اسماء الشخصيات دون تمهيد منها، عن عمد، حتى تترك له مساحة من البحث عن العلاقات الناشئة بين الشخصيات الأساسية والثانوية، بل قد تطرح اسماء على لسان الشخصيات لم تظهر بعد، وذلك مبعثه أن ينمو الحدث مع الشخصية استثارة لدهشة القارئ ودفع الملل عنه بالمعرفة المسبقة، مع الاحتفاظ بوجود القارئ في العمل من حيث اكتشافه بنفسه مسار الشخصيات وإيجابياتها وسلبياتها.


لجأت الروائية إيمان الوكيل إلى عرض الرواية عرضًا سينمائيا استخدمت فيه كافة أساليب التشويق، ومنها: الأسلوب البوليسي بطريقة هتشكوك وما شابه، وذلك من خلال عرض الحوارات المجتزأة، والعلاقات المبتورة في وقت الحديث وستنجلي حقيقتها فيما بعد، والعبارات الملغزة، كما زاوجت بين زمنين أظهرت الأول وهو نتيجة وأخفت الزمن الثاني وهو المقدمة للأحداث والمنشئ لها وإن كان في ذاته يبدو نتيجة لعلاقات سابقة عليه، وهو ما يعني أن المتن الحكائي لا يطابق البناء الحكائي، وقد امتلكت في التلاعب بالزمن السردي آلية تحريك الأحداث بنعومة دون إحداث قفزات مفاجئة دون أن تفتقد التتابع المنطقي، أو عقلنة تطور أو تحول الشخصيات، وهي بهذا تراهن على فهم المتلقي للنص المفتوح، المتعدد الدلالات والتأويلات.


وهو ما يعني أن الكاتبة استخدمت تقنية الاستباق التي عرفها جيرار جينيت بأنها "حركة سردية تقوم على أن يروى حدث لاحق أو يُذكر مقدما" فالاستباق وهو من تقنيات المفارقة الزمنية وهو استعادة تقديم الأحداث اللاحقة والمتحققة في امتداد بنية السرد الروائي على العكس من التوقع الذي قد يتحقق وقد لا يتحقق، من أجل أن تحافظ الوكيل على بنية التشويق والمفاجأة، والشواهد في الرواية مما سيلحظها القارئ بداهةً حتى دون الإشارة مني، تضامنًا مع الكاتبة التي تراهن على قارئها الذي سينشغل حتمًا بتتبع آثار الشخصيات والأحداث بشغفٍ وشوق.


   كذلك لجأت إيمان الوكيل لاستخدام تقنيات: الفلاش باك "الاسترجاع" وخاصة من وسط المشهد وأيضا الاسترجاع العكسي، وهو أجود استخدام لها، مع التداخل بالمونولوج الداخلي والخارجي والذي يأتي كحديث في النفس يدور بينما الشخصية تتحرك صامتة، والثاني حين تصرح الشخصية بأفكارها لنفسها بصوتٍ مسموع يند عنها، مع المزاوجة بين الحلم والكابوس في إطار تبادلي، وذلك خروجًا من سيادة الملل على المشهد وتأثير انعكاسه على القارئ فيفر من صفحات الرواية.


   كما استطاعت الكاتبة أن تربط بين حدثين يفجران الصراع الدرامي داخل بطلة الأحداث والتي تركت آثارها على بعض الشخصيات الأخرى في العمل، وذلك بالربط بين انفجار الشعب بثورته ضد الحاكم وانتقال صوت الغضب الثوري إلى داخلها فأطلق الشرارة التي كانت تنتظرها جموع أحاسيسها الجياشة في صدرها ونفسها لتتمازج وتتوحد مع الثوار في صب الغضب على الجميع.


   لقد أفلتت الكاتبة من الحكم أو التعليق المباشر على أحداث الراوية، تاركة للشخصيات التفاعل فيما بينها من جدل تم استدعائه من خلال الاسترجاع، أو من خلال المونولوج، وقد ظهر ذلك جليًا في أن تتولى "همس" مهمة التحليل النفسي لزوجها "كامل" ولو جمعنا ما قالته لاستطاع القارئ تكوين صورة نفسية مبدئية عنه تكشف مدى ضعفه أمام والده "عزيز" أو ابنه "فارس" أو حتى أفراد الأسرة، وخاصة أمام "همس" تلك التي لم تسلمه مقود شخصيتها ليوجهه حيث يريد هو ووالده وأسرته، بل واجهته بحقيقته حتى عرت ذاته تماما، ولم يستطع أن يدافع عنها ولو مرة:


ـ أنت ظل عزيز، ولا أصدق أنك تخاف منه حبًا له، أنت تظهر حبه خوفًا منه.


ـ أنت مسخ يا كامل .. مسخ .. مسخ..


ـ عزيز يسترجع فيكَ ما فعلته أمه به، وكلكم تسترجعون فيَّ ما فعله عزيز بكم.. كلكم مرضى، أنتم نِتاج نطفة مشوهة احترقت بنار غلٍ وكراهية فأنتجت زبانية .. لم لا تحولون طاقة آلامكم إلى حبٍ وحنان، لما تفعلون بي ما تشكون وتكرهون منه؟


ـ أنتم خاضعون خانعون لأحكام الحاكم بأمره السلطان عزيز.


ـ أنت عروسة "ماريونت" يمسك عزيز بخيوطها أو ببغاء تردد كلام أبيك وأمك، وكأنك تسعى لخسارتي يا كامل بك، أقصد يا حاج عزيز..


ـ تضحك عليَّ أم على نفسك؟ كان من الأمانة أن أعرف الحقيقة، ثم أقرر إن كنت أقبل بأحكام عزيز أم لا.


إن هذه الرواية بفصولها الاثنى عشر لتشهد أننا أمام روائية رفيعة المستوى أنضجت عملها على نار هادئة، ولم تفصل بين ثقافتها وتخصصها المهني في التعامل معه منذ عتبة النص "حكم عزيز" والتي تركت مفهومه ملغزًا يستحث ميول وغريزة القارئ في فهمه والتعرف عليه، كما يبدو من حيث التعامل مع المرض النفسي الذي تعاني منه بطلة الرواية والأدوية التي تستخدم في كل مرحلة منه، وهو ما ينعكس على جمل الحوار القصيرة وتكرارها، وتذكر الأحداث المؤثرة في شخصيتها ونفسيتها عن طريق التراكم والتكتم.

وهو ما يعني سيادة تيار الوعي في الرواية منذ بداية السرد متزامنًا ومصاحبًا للرواية الواقعية النفسية، من حيث التركيز على الداخل النفسي للشخصيات، وتناول الموضوعات النفسية بطريقة دقيقة، واهتمام كلا الروايتين بتحليل الشخصيات ودراسة نفسيتها ودوافعها من خلال تناولهما للموضوعات النفسية والاجتماعية بطريقة واقعية، باستخدام تقنيات السرد الداخلي مثل: التداعي والتدفق الذهني لتقديم الداخل النفسي للشخصيات، وتأثيرهما على القارئ حيث تجعلانه يتفاعل مع الشخصيات والأحداث بطريقة أكثر عمقاً.


كما نجحت الكاتبة في تنويع أنماط الشخصيات وتحريكها ببراعة في التجسيد، ومهارة في الطرح باستخدام لغة سلسة، بليغة، مكثفة، زاخرة بالمعاني الظاهرة والباطنة، كما لم يكن هناك فجوات في النص المتماسك بنيانه، والمحتفظ برشاقة عرضه دون ترهل أو إسهابٍ غير مبرر وممل أو إيجاز مخل، ودون تدخل من الوكيل في فرض وجهة نظرها، أو استصدار أحكام الإدانة أو إظهار التعاطف مع شخصيات روايتها، بل كان الحياد سمتها، ولم تؤثر على سير الأحداث استمساكًا برؤية أخلاقية، أو ميل عاطفي، أو توجه ديني، أو مجتمعي، وليس أدل على ذلك من نهاية الرواية التي جاءت، على الرغم من سينمائية العرض، مفتوحة، تاركةً للقارئ قلم الروائي ليخط به مشهد النهاية بحسب تصوره وثقافته وذوقه الدرامي في حرية تامة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

قراءة في رواية "حكم عزيز" للروائية إيمان الوكيل..

   تراهن الروائية إيمان الوكيل منذ اللحظة الافتتاحية لروايتها "حكم عزيز" على عزمها الأكيد في أنها سَتُحِكم سيطرتها على القارئ؛ ف...