الثلاثاء، 24 أبريل 2018

مفهوم الحوار في فكر الدكتور محمد حسن كامل



   



      يُشكِل الحوار مكانة متميزة وملحوظة في فكر المفكر الموسوعي العالمي الدكتور محمد حسن كامل، تبدو جلية منذ أول حواراته التي أدارها بينه وبين ذاته المتأملة في بواكير صباه، والتي أصبحت فيما بعد تشكل العمود الفقري لمنهجه الفكري القائم في التواصل مع الآخر أيًا كان انتماؤه وهويته ودينه وجنسه، وذلك من خلال أسئلة العصف الذهني التي يطلقها، ولا يحتكر فيها الإجابات لنفسه ولكن يستحث فيها عقل قارئه، تلك الآلية التي بدأها منذ أن تم تدشين الموقع القديم لاتحاد الكتَّاب والمثقفين العرب، وحاليًا من خلال صفحات المفكر الكبير المتعددة على مواقع التواصل الإجتماعي.

لا يتبنى الدكتور محمد حسن كامل أية مرجعيات غربية ــ رغم وجوده في قلب القارة الأوروبية ــ نحو مفهومه عن الحوار وإنما يستند إلى مفهوم الحوار في الإسلام الذي يرى أنه بناء يقوم على مثلث، ضلعه الأول: مع الله بالتأمل والتدبر وإعمال العقل والوصول إلى الحكمة طوعًا بالفكر لا قهرًا بالقوة، والله سبحانه وتعالى جعل الكون كله كتابًا مفتوحًا للتدبر في آياته وقدرته وعظمته.. الحوار ينشط العقل ويعلو بالهمة ويذكي النفس، تجتمع فيه الأفئدة وتتعانق فيه القلوب وتحيا به النفوس، والحوار دعوة للخروج من الذاتية الضيقة إلى الأفق الواسع الرحب الفسيح.

والضلع الثاني من أضلاع الحوار في الإسلام هو المجتمع والحوار مع الآخر دون النظر إلى عرق أو هيئة أو لون أو غير ذلك، هذا الحوار الثري يحقق النسبة الذهبية لمجتمع فاضل. 

والضلع الثالث والأخير من أضلاع مثلث الحوار في الإسلام هو الحوار مع النفس بالحُجة والفكر والعلم والحقيقة، هو تطويع تلك النفس أن تَرفُل بآيات من الحب وأن تختال في ثقة في دنيا الجمال، وينضوي تحت هذا المثلث روافد أخرى للحوار.


يري الدكتور محمد حسن كامل أن الحوار منهج قرآني؛ فها هو الله تعالى يحاور ملائكته، وليس الملائكة فقط بل أقام سبحانه حوارًا مع البشر وذلك حين حاور رسله الكرام، عليهم وعلى نبينا السلام، بل حتى حاور جل جلاله إبليس، كما أن القرآن نفسه مليء بمحاورات الرسل مع أقوامهم، وحوار موسى مع فرعون ُمدَّعي الألوهية والربوبية، وكذلك بقية الرسل عليهم صلوات الله وسلامه حين حاوروا أقوامهم بالحكمة لدعوتهم إلى الله وبيان الحق لهم والرد على شبهاتهم.

كما أن القرآن الكريم يحكي حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع امرأة، وهي التي جاء ذكرها في سورة المجادلة. ولهذا يصل المفكر الكبير إلى نتيجة مؤداها أن الحضارة الإسلامية على مدى التاريخ هي "حضارة الحوار".

يضع المفكر الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل يده على الفارق الرئيس بين الحوار الذي تتبناه الحضارة الإسلامية، وذلك الحوار الذي يتبناه الغرب، ألا وهو "غياب التكافؤ" بين المتحاورين والذي يرى وجوده مهمًا جدًّا لكي يحقق الحوار أهدافه، وهذا التكافؤ لا يراه يغيب في الإسلام؛ لأن الإسلام ينطلق في الحوار من التكافؤ بين البشر لا لتفاضل عرق على كافة الأعراق مثلما فعل ويفعل اليهود، أو بتمايز بسبب اللون كما يدَّعي العنصريون البيض في أوروبا، أو انحيازًا طبقيًا كما هيّ عند الهندوس، وإنما بصلاحهم..وذلك مرده إلى أن الإسلام يقر الاختلاف كحقيقة إنسانية طبيعية ويتعامل معها على هذا الأساس وله حكمة إلهية ويجب التعايش معه.

يطلق الدكتور محمد حسن كامل زفرته بل صرخته التي تحمل الإدانة التامة لافتقاد الغرب في عصره الراهن لمبدأ التكافؤ في الحوار، فيقول:
(ولكن عندما ننظر إلى الواقع ودعوات الحوار الصادرة من الغرب لنا أن نتساءل: كيف يؤتي الحوار ثماره في العالم اليوم بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب وهو يصاحب الهيمنة والاستعلاء، والظلم والجور، والاحتلال ولغة السلاح، إن ذلك يفقد ثقتنا بهذا الحوار). 

ثم يشير إلى أهمية التكافؤ في الحوار، فيقول: (إن التكافؤ بين المتحاورين مهم جدًّا ليحقق الحوار أهدافه. أن الحوار لا يحقق أهدافه مع الاحتلال في العراق والقصف في أفغانستان والمجازر المستمرة في فلسطين. أي حوار ينادي به الغرب مع هذا العدوان والظلم ولغة الاستعلاء، وفرض المصطلحات واستغلال التفوق الإعلامي لتشويه الآخرين! كيف نثق بهذا الحوار الذي يهدف إلى نمط جديد من الدبلوماسية لتكريس الظلم ومصالح تتعلق بالاقتصاد والسياسة ومواصلة الحرب والصراع والاحتلال؟!).


إن عدم التكافؤ هذا قد أورث أتباع الحضارة الإسلامية مرارة مازالت تسكن حلوقهم وعقولهم، ليس هذا فقط على مستوى المسلم الذي يعيش بعيدًا عن تخوم الغرب، ولكن ناله أيضًا المسلم الغربي؛ إذ يقول الدكتور خير الدين خوجة في بحثه: "الحوار و عوامل فشله في العصر الحديث – العقبات والحلول" : (إنني على يقين تام بأن أزمة المسلمين في الجزيرة البلقانية [البوسنة و كوسوفا وبلغاريا واليونان وأوربا الشرقية والغربية وفي أميركا] لن تُحلَ أبدًا ولن يرى العالم النور والسلام والتعايش السلمي بين الطوائف الدينية المختلفة، بنفس تلك المواقف المخزية التي كانوا عليها أجدادهم من الإنكليز والألمان والنمسا والروس وقُل الآن الأميركان...لا بد من الموضوعية، ولا بد من الجدية، ولا بد من النزاهة، ولا بد من إعطاء كل ذي حق حقه، أيًا كان بغض النظر عن دينه، أو عرقه أو جنسه.. بمعنى آخر لا بد من العدل والتسوية المعتدلة بين الطرفين المتنازعين).

ونفس مطلب الدكتور خوجة هو نفسه مطلب الدكتور محمد حسن كامل، بل ومطلب الدكتور قطب الريسوني في بحثه: "مثبّطات الحوار مع الآخر ــ قراءة نقدية في العقل الغربي" الذي يقول: (ومن التناقض الصارخ أن العقل الغربي يُلحّ في الدعوة إلى الإقرار بالطابع العالمي الكوني، وصيانة قيم التعدّد والتسامح والمساواة، ثم يعوزه الفعل ويبرّح به التطبيق، ناقضًا غزله، ومعلنًا ردّته، إذ يمعن في نبذ الآخر وزَبن حضارته في الهامش، وكأنه يزعم لنفسه احتكار الحقيقة المطلقة، وامتلاك حق الحَجرِ على المنطق المخالف وإن كان موفور الحظ من السداد والرجحان، وفي هذا كله تضييق لواسع لا ترضاه الحداثة نفسها، ولا تقرّه أدبيات الفكر الحر).

فالشرط عند الدكتور قطب الريسوني، إذًا، فيما يرام من التعايش الحضاري أن لا يرى الغرب في الآخر/ المسلم عدوًا لدودًا، وشيطانًا رجيمًا، وإنما مختلفًا يصغى إليه، وندّاً تفسح له فرص الاستقلال الذاتي كاملة غير منقوصة، ومن هنا ينداح الحوار طريقًا لاحبًا تحفّه رياحين التسامح، ومنهجًا مستقيمًا يحوطه النجاح من قرنه إلى قدمه.

ربما كان غياب هذا التكافؤ وبواعث أخرى هو الذي جعل الفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني "يورغين هابرماس" أن يطالب من خلال كتابه: "نظرية الفعل التواصلي" إلى المساواة أو إذا شئنا اعترافًا متبادلاً بين طرفيّ النزاع في أي نزاع ثقافي أو سياسي أو حضاري، وأن يقوم التفاعل أو التواصل بينهما عبر حوار لا تغيب عنه قوة البرهان والاحتكام للحجة الأقوى، مع التحرر التام لطرفي المحاورة من أي ضغط تمارس عليهما، بحيث يصبحا ندَّين متساويين فكريًا، في المنزلة الفكرية؛ إذ المساواة في المنزلة الإجتماعية والسياسية ليست شرطًا هنا، بينما التكافؤ هو الشرط الأهم عند هابرماس.

يطرح الدكتور محمد حسن كامل العلاج الناجع من وجهة نظره أمام الغرب: (إن الغرب مطلوب منه قبل الحديث عن الحوار ونشر الديموقراطية "والشرق الأوسط الجديد" إن كان يريد خيرًا بالآخرين يجب تخفيف الهوة السحيقة بين البلدان الغنية والفقيرة، وعليه مساعدة البلدان على التنمية لا توريطها في الديون والفقر. وفرض الإملاءات عليها، ومساعدة البلدان التي خربتها الحروب كالصومال وأفغانستان وغيرها على إنهاء ذلك الوضع, بل أن تكف يدها عن اشتعال الفتن في تلك البلدان).

ولهذا يرفض المفكر الموسوعي العالمي محمد حسن كامل تلك الدعاوى الظالمة بإننا الذين نرفض الحوار والتسامح، فيقول مندهشًا ومتسائلا: (ومن يتهمنا بذلك؟ إنه المستعلي الظالم المحتل لأرضنا والمشوه لديننا وثقافتنا، ومع ذلك فلا نزال نقول إننا مع دفاعنا عن ديننا وثقافتنا وأرضنا وأنفسنا فإننا نرى أن الحوار هو خيار مهم لتحقيق أهدافنا العليا القائمة لمصلحة البشرية. ولايكون الحوار سليما إلا بالعودة إلى الفطرة والإتفاق على نقاط للقياس والإستدلال .فاذا ضاعت نقاط الإستدلال في الحوار تحول إلى شجار).

كان لمفهوم الحوار عند المفكر الكبير الدكتور محمد حسن كامل بُعدًا دينيًا يتوافق فلسفيًا مع مفهوم ما بعد الحداثة، كما أنه يتوافق مع الواقع؛ إذ انتفت عنه كل عوامل المغالاة في الشروط الواجب توافرها في طرفي الحوار، بل جاءت شروطه متفقة مع التيار الفلسفي العالمي الذي يقوده "هابرماس" ومن تابعه، غير أن ما يحسب للدكتور كامل أنه وضع يده على موطن الداء الذي باعتباره هو العلة الحقيقية التي يكتوي بها ومنها أبناء الحضارة الإسلامية بل إن شئنا بشكل أوسع قلنا أبناء الحضارة الإنسانية برمتها.

أيَّامٌ في دَنْدَرَة..



     





     لن أحدثك عن دندرة الضاربة في التاريخ شهرة ووجودًا وعالمية طاغية في السياحة والآثار، لكنني سأحدثك عن "دندرة" التي تكتسي بالبياض الذي يسري كالضياء بين شوارعها وحاراتها وأزقتها ليل نهار ولمدة ثلاثة أيام في موعد يتكرر مرتين في كل عام، أما الأول فهو الذي تأتي انطلاقته مع ليلة الإسراء والمعراج في الأواخر من شهر رجب ويطلق عليه "المؤتمر القُطْري"، أما الموعد الثاني فهو ما اصطلح على تسميته بــ "المؤتمر العام" وتنطلق فعالياته مع ذكري المولد النبوي الشريف على صاحبه الصلاة والسلام.

    ستعقد لسانك الدهشة حين ترى هذا الإيثار من أهل دندرة الذين يتركون بيوتهم ـ الأغلب منهم ـ ليسكنها القادمون من جنبات مصر في الاجتماع القُطْري وبعض الشخصيات العربية، وكل هؤلاء مضاف إليهم بعض الشخصيات التي تمثل مراكز دندرة الثقافية العالمية، ومازلت منبهرًا حين حللتُ ضيفًا ومعي رائد من رواد العروض الرقمي العالمي الأستاذ فوزي محمود على شقة حديثة الإعداد لعروسين لم يمضِ على زواجهما أكثر من تسعة أشهر!

   ستصيب الدهشة عين وعقل من سيحضر لأول مرة أول ليلة في الساحة المُعدة للقاء الأمير هاشم بن الفضل بن العباس الدندراوى أمير قبائل وعائلات الأسر الدندراوية وعدد من أعضاء تلك الأسرة وقد كان عددهم ـ وقت أن حضرت ـ يربو على الأربعة الآف رجل وامرأة وشاب وطفل وفتاة من مجموع يصل إلى الأكثر من ثلاثة ملايين دندراوي داخل مصر تقريبًا، ويصلون إلى أكثر من ذلك إذا أضفنا لهذا الرقم الدندراوية في الدول العربية والإسلامية. تقام المحاسبة والمراجعة في هذه الليلة بين الأمير والأسرة كلها فيما أسموه "الوقفة مع النفس".. وتبدأ بالوقفة من قِبل الأسرة تجاه أميرها قبل أن يرتقي المنصة، ثم منه إليهم بعد أن يرتقي المنصة، وهي محاسبة حقيقية بعيدة عن الشكلانية والتصنع؛ فإن لم يجد الأمير من يسأله أو يحاسبه سأل هو نفسه وأجاب عنها فيما يُظن أنه تقصير منه فيوضح الحقائق.

  يُبدي من يحضرون مؤتمرات أو ملتقيات الأسرة الدندراوية إعجابهم بالدقة البالغة في التنظيم والإعداد الجيدين، والواقع أن هذا دأب هذه الأسرة من ساحاتها إلى مؤتمراتها وهو ما كان في حياة الأمير الفضل ـ رحمة الله عليه ـ وعهد الأمير هاشم ـ حفظه الله ـ وقد يحدث الكثير من التطوير هنا أو هناك غير أن المرتكزات الأساسية واحدة ليس في النظام وحده بل في فكر هذه الأسرة التي لها من الثوابت الاستراتيجية التي لا تخضع للتغيير أبدًا لا في المفاهيم ولا في المتن، وتقف "الوثيقة البيضاء" خير شاهد على هذا حيث كانت لفظة "الوثيقة" مُختاَرَة بعناية وقصد؛ إذ كل كلمة فيها وردت بنص لا يجوز تبديله بعبارة تبدل مضمونها، كما ذكر ذلك الأمير الفضل الدندراوي.  

     فِكر الأسرة الدندراوية لا يتعامل مع المرأة بجفاء أو إقصاء أو قهر لوجودها؛ فهي تحتل مكانة متميزة بالمشاركة في التنظيم والاستقبال بأزياء موحدة راقية، وتشارك في الاجتماعات وفي تقديم الفقرات وتقديم الشخصيات، وإدارة الحوارات التي يخصصها المؤتمر بل تشارك كضيفٍ عليها، كما تشارك بالحضور كذلك بعدد وفير وتعرض ما تم إنجازه إذا كانت مسئولة في إحدى الساحات الدندراوية التي وصل عددها إلى (62) ساحة ومركز ثقافي، ولقد أولاهنَّ الأمير هاشم عناية فائقة في الاستماع إليهن وتشجيعهن، وتصويبهن بأدبٍ جم، وتوجيههن إلى الأفضل بدعمٍ منه، غير أن الأسرة الدندراوية تراعي الأدب الإسلامي والأعراف والتقاليد في وجوب فصل النساء عن الرجال في أماكن مخصصة ومعدة بعناية وتأمين لهن وخدمة مقدمة لهن تماما كالرجال.

   إن ما يثير الخيال في عقل المستمع حين تصطف كلمة "أسرة" مع كلمة "أمير" فيحيلها إلى أمير جماعة إسلامية من تلك التي شوهها تصرفات بعض الجماعات مع مُشهيَات الحبكة السينمائية والتليفزيونية ومحاولة إسقاطها على الأسرة الدندراوية وأميرها، والفارق جلي، والبون شاسع بين تلك الجماعات وبين تلك الأسرة،  وهو ما سأوضح بعضًا منه في هذا المقال على أن أوضح أكثر في مقالات قادمة إن شاء الله.

   الأمر الذي يجب الانتباه إليه أن "الأسرة الدندراوية" لا تدعو إلى "مذهب معاصر" ينضوي تحت لوائه المسلمين، كما أنها ليست "طريقة صوفية"، ولا تعمل بالسياسة رغم علمها بالسياسة ولذا فهي ليست جماعة قومية أو حزبًا، وليست جمعية خيرية إقليمية؛ فالهدف الذي قام من أجله الفكر الدندراوي لا يقوم على الإقصاء أو الذوبان وإنما التفرد في كيان الأسرة، والاتساع في ضم وجمع إنسان محمد صلى الله عليه وسلم، أي أن الأسرة الدندراوية كيان يجمع المذاهب الإسلامية وأصحابها، ومن ينتمي للطرق الصوفية، ومن يعمل بالجمعيات الاجتماعية والقومية مع الاستفادة من مميزات هذه الكيانات وخصائصها، غير أن "الأسرة الدندراوية" نفسها ليست كيانًا من هذه الكيانات الطائفية أو الطبقية أو القومية أو الإقليمية، وإنما هي كيان اجتماعي يجمع الأفراد المشتتة والتجمعات المتفرقة في وعاء الأسرة الواحدة، فجمع "إنسان محمد" صيحة نداء لجميع المسلمين أيًّا كان مذهبهم السلفي أو طريقتهم الصوفية أو تنظيمهم السياسي أو جمعيتهم الخيرية بأن يتجاوزوا حواجز الفرقة، وأن يتألفوا تحت ظل الزعامة المحمدية الجامعة.

   على الرغم من أن الفكر الدندراوي نشأ على يد مؤسس الأسرة "محمد الدندراوي" الملقب بـ "السلطان" وهو أحد أفراد قبيلة "الأمارة" المشهورة والمنتشرة في صعيد مصر حيث نزح من المغرب العربي في القرن السابع عشر الميلادي ويمتد نسبه إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنه، إلا أن تسمية "الأمير" التي تسبق اسم عميد الأسرة الدندراوية ليس لها علاقة بهذا النسب، حيث أن القيادة في الكيان الدندراوي "إمارة" لأن الإمارة بيعة؛ فإن صَلُح الأمير استمر وبقي وإن فسد أو حاد تم خلعه، ذلك أن القيادة في الأسرة شورى لكن القرار واحد بيد الأمير باعتباره حامل المسؤولية القيادية لقبائل وعائلات الأسرة الدندراوية.

   إن الأسرة الدندراوية ليست كأوروبا قارة عجوز يقل فيها الشباب عددًا بل أن العناصر الشابة من الجنسين التي تتولى كافة أوجه الأنشطة والانتشار في الساحات وفي أيام المؤتمر القُطْري وهو ما يعطي مؤشرًا قويًا على البقاء والتقدم والتواصل والانتشار، كما أن أهم ما يلفت الانتباه هو أن الأمير الرابع في تاريخ الأسرة الدندراوية كان بمثابة الأخ الأكبر لهم وهذه مكانته في الأساس بالنسبة للأسرة ككل، غير أن هذا الأمير ليس "سلطويًا" يعطي القرارات أو يمارس دوره بفوقية بل هو أميرًا "مشاركًا" ـ إن صح التعبير ـ ومتواضعًا لا تجده يأمر أحد بفعل شيء يريده بل يتقدم هو بفعله على مرأى ومسمع دون تصنع أو افتعال أو لفت للأنظار.

  إن الأمير هاشم الدندراوي صُنع على عين أبيه؛ فأعده لمثل هذا اليوم إعدادًا يبدو في كل لفتة من لفتاته، وفي كل تعامل صغير أو كبير، وفي خطاباته التي تصل إلى الجميع؛ فلم يكن "نخبويا" في انحيازه لجماعة أو طبقة الصفوة وأهمل العامة، والواقع فيه من الدلالات والسياقات التي تفند كل هذا، كما أن كلماته الغير طويلة تتسم بالمودة والحكمة، والصراحة المسئولة، والتنبيهات الحازمة يغلف هذا كله لمسات حانية، وبسمات من روحه التي يشع من جنباتها خفة الظل النابعة من لطف الأخلاق، ولين الجانب، والبعد عن ترويع من حوله بهدوئه الذي يضفيه على المكان، وحسن استقباله لعلماء الدين من المسلمين والمسيحيين، وأساتذة الجامعات  والأدباء والشعراء، وكل الطوائف دون تمييز أو فرز، ذلك أن سمو الأمير يعرف للناس أقدارهم مثلما يعرفون له قدره تماما بتمام.

الاثنين، 19 مارس 2018

  



 يُشكَّلُ الحوار الركن الركين في المسيرة العلمية والأدبية للمفكر الموسوعي العالمي بروفيسور محمد حسن كامل، بحيث أطَّره بآداب وأصول، وهو ما سأتعرض له في دراسة قادمة، إلا أن الحب له أهميته القصوى في بنائه الفكري أيضًا حيث يأتي عنده موازيًا للحوار كقيمة كبرى شملتْ حياتَه كلها لا يسبقه ولا يتأخر عنه؛ فالعلاقة بينهما قائمةٌ على التساوي والتوازي؛ فالحب وقوده الحوار، والحوار قوامه الحب، يتعادلان ويتفاعلان ولا يتضادان.. فهما من حقائق الوجود، والحقائق لا تتصادم.

    لقد اتخذ الحب العديد من صورٍ تجلت في فكر الرجل، غير أن صورته الكبرى تكمن في كتاب الله تعالى الذي عاش له، وعاش معه، وعاش فيه، فلا يكادا ينفصلان عنه؛ إذ يدور الحب في فلك الدين وأقرب ما يكون لقول صاحب فصوص الحكم ابن عربي: "المحبةُ أصل الموجودات".

ليس هناك شاهد أقوى على تلك العلاقة الوجدانية في فكر الدكتور كامل من مقالته التي عنوانها: "هل تذوقتَ يومًا طعم الحب؟"، لقد وقف مفكرنا الكبير على ضفاف الحب ورأى في صفحته الشفيفة الرقيقة الصافية المكنون الذي أذاعه، فقال:

(المحبون يهيمون في دنيا الحب، يتناغمون والكون مع قيثارة الحب الأبدية في لحظات سرمدية لا زمان ولا مكان لها، بل لها قلوب تخفق وتشفق، تتأوه وتعشق، وتضخ دماء في أوردة الإبداع وشرايين الخلود، صمت يلف الكون وهمس وحس، وعَبرة وعِبرة، وتراتيل التوحيد تخرج من قلوب الخلائق، وكأن كل مخلوق آلة موسيقية في محراب الحب).


    يقول شارح الفصوص وكأنه يشرح تلك المقولات: (الحب موجود على الدوام مُتبادَلٌ بين الحق والخلق. والشوق والحنين.. واللقاء موجود على الدوام أيضًا، لأن الحق دائم الظهور في صور الخلق، يدفعه إلى ذلك الحب الكامن فيه نحو ذلك الظهور).

   إن تلك الصورة واحدة من صور الحب المتنوعة في فكر الدكتور محمد حسن كامل، تلك الصورة المغلفة بغلالة شفيفة من التصوف الحميد الحبيب إلى قلب الرجل، الذي تشرَّبه صغيرًا وأصر عليه والتزمه كبيرًا، يتجلى ذلك في نفحة من نفحاته، بينه وبين ربه تعالى في مناجاته له؛ فهو المحبوب الذي لا يفارقه أبدًا مع الناس أو في خلواته، فيقول:

(أحبُّك بكل خلايا وجودي، بكل عنصرٍ.. بكل حدودي، عَرفتُك أنت وأنت معبودي، أترقبُ لقياكَ خارج الحدودِ، لا أطمع في جنة الذود، ولا خائف من نار الشرود، حبي لك تعدى كل الحدود، حَدِي تحت عرشك.. سجودي، والنظر لوجهك غير معدود، لا زمان ولا مكان ولا سدود، نور علي نور لرب الوجود، هناك لن أعود.. هناك حدودي، أبدًا أنعم ُبحب محبوبي).


  لن يغيب عن القارئ المتأمل تأثر الدكتور كامل في مقولته ببعض الأبيات الشهيرة لشهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، كما تتضمن المعرفة الحقة بالله تعالى تلك التي تقوده إلى الشوق للقائه كواحدٍ من الذين عناهم رسول الله صلى الله عليهم من الأَكْياَس، أي الفُطَنَاء ،الذين هم أكثر الناس ذكرًا للموت، وأشدهم استعدادًا له في كل وقت.

   يقول الدكتور محمد حسن كامل: (أختمُ هذه القصة بسؤالٍ عاصف للذهن: هل هناك في عاَلمَنِا ـ نحن ـ حب هكذا..."قصة حب أسرع من الضوء في أبعد مجرة في الكون؟".. نعم أعيشُ أعظم من هذا الحب.. بيني وبين الله).

    ينطلق الدكتور محمد حسن كامل في أجواء الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾[سورة البقرة:165]، في واحدة من أهم وأجمل دراساته العميقة عن الحب، وكلمة الحب التي أسهب في تحليلها وتقليبها على كافة المعاني، ثم ذكر كثرة كاثرة من تعريفاته رائعة وبليغة للحب لو ذكرتها لصار مقالي كُتيبًا، وفيها من جمال التفكير، وروعة التصوير الشيء الكثير.

   يصحُب المفكر المحب قارئه ومحدثه في رحلة علوية مُضمَّخة بأريج القرب، تسمو بالذات على الشهوات والملذات، ثم يطرح عليه سؤاله الثاني: (هل جربتَ الحبَ يومًا؟)، وهذا السؤال يأتي على الترتيب من سؤاله الأول: (هل تذوقتَ الحبَ يومًا؟).

  يؤمن الدكتور كامل بالاشتراكية في الحب؛ إذ دومًا ما يدعو محبيه إلى المداومة على الحب إذا ما أحبوا، وأن يحبوا إن لم يكونوا بعد قد أحبوا، ليبين لهم في تضادٍ مفاجئ.. المقابلة بين الحب واللا حب أو الكره أو التوقف عن الحب، من خلال عدة صور لا يملكون حيالها غير استبشاعها، ثم يقتنعوا بالحب فيداومون عليه، وهذا عيْن ما يريده الرجل بصراحة وبلا مواربة.

   بينما يحلق مفكرنا الكبير محمد حسن كامل في تهويماته العلوية، غارقًا في الحب الإلهي، بين الخالق والمخلوق، يتذكر أن هناك حب بشري، أرضي بين المخلوق والمخلوق، وهي صورة من صور الحب في فكر الرجل لم تغب عنه ولم ينكرها أو يترفع عنها؛ فقد تناولها في مقالتين اجتماعيتين أبحر فيهما بعيدًا عن الأدب والعلم؛ فقد قصرهما على حب الرجل والمرأة بصفة عامة ثم ذَكرَ المرأة النَّكدية بصفة خاصة، وهي المرأة التي يكرها مفكرنا الكبير إلى حدِ المقت.

   يرى الدكتور محمد حسن كامل أن حياة الأسرة لن تستقيم إلا بالحب وفَشوِ التراحم والتلاحم، ومن ثمَ فقد دَعَّم تلك المقالة بأخرى تسبقها أو تلحقها، رصد فيها مائة صفة لو التزمت بها المرأة لأحبها الرجل، وهذه المقالة تأتي غريبة وجديدة بين نسق مقالات المفكر الكبير، ولو قرأها قارئ دون ذكر اسم الدكتور عليها ما نسبها إليه أبدًا؛ لالتزامها بالنهج الأصولي البعيد تماما عن منهجه.

   تأتينا في صورةٍ بديعةٍ قشيبة واحدة من صور الحب الغير تقليدية علينا، والأصيلة في منهج الدكتور محمد حسن كامل.. ذلك حين مَدَّ جسرًا بين الحب والعلم فصنع صورة كونية امتزج فيها السرد القصصي بالنسق الشعري أو القريب منهما، وزاوج بين الأسلوب العلمي والأدبي فيما يُعرَف بالأسلوب العلمي المتأدب، من خلال مقالتين لا نستطيع سردهما لطولهما، أو إيجازهما فسنخل بهما معًا، وهما: قصة "حب أسرع من الضوء في أبعد مجرة في الكون" و "الحب لا يعرف للاستنساخ سبيلاً".

  عزيزي القاري: مهما درت أو رحت مع مقالات ودراسات المفكر الموسوعي العالمي البروفيسور محمد حسن كامل فستجد أنها كلها مكتوبة بيراع الحب، مغموسة ريشتها في دَواَةِ الوَجدِ، ألوانها تشع بالدفء والحنين والحميمية، الحب يحَوُطُ سياجها، والقرب هدفها، بالانعتاق من أَسْرِ الجسد والحدود الجغرافية الأرضية، والاتصال بعلوية ملكوت السماوات حيث "لا زمان ولا مكان" كما يشدو الرجل دومًا وينشُدُه عن قصد بين جوانح روحه.

   إن الدكتورمحمد حسن كامل هو المحبُ أبدًا.. المتأملُ دومًا.. المفارقُ لكل لذائذ الذات، و المترفع عن دنيا البشر، للاتصال بأشْراف الأمور والإعراض عن سفاسفها..

   إنَّه المنقِّب عن كل قديم فينفخ فيه جديده، والآتي بالجديد الذي لم يَلتَفِتْ إليه غيره.. الحب يغلف حركاته وسكناته، ويتوافق معه ظاهرًا وباطنًا، سرًا وعلانيةً.. هادئ النبرات، يَسوُسُ في قوةٍ أجمل العبارات، يجيل النظر، ثم يأتي بالدُّرر، ويسوق العبر، يُسهب فتتابعه في غير ملل، وإن أوجز فذلك غاية ما يريد قوله بلا خلل..

   إنه سفير العلم والثقافة، عاشق الفكر ومحب الأدب، طاقة الحب التي لا تنفد أبدًا، وكيف تنفد والرجل يشرب من نبع الحب الإلهي، ويتضوَع مشتاقًا عبير الجنة التي يرومها، ويسبح مع آيات الحق في كتابه المسطور "القرآن الكريم"، وكتابه المنشور "الكون الكبير"، العالمُ الذي يعلم أن فوق كل عالمٍ عليم، فما فتئ يهيم ذرة حب ومحب في نهر العلم، وفلك المعرفة عالمًا ومتعلمًا لم يزل.

الشهيد عبد المنعم رياض: دلالات النشأة والوطنية..






     إن النشأة الاجتماعية لها دورها الهام في تكوين شخصية البطل الشهيد محمد عبد المنعم محمد رياض عبد الله الذي ولد في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1919م بمدينة طنطا بمحافظة الغربية من محافظات جمهورية مصر العربية، حيث كان والده القائمقام/عقيد محمد رياض الذي كان يشغل وظيفة قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية وقد اشتهر عنه الجدية والانضباط، ومن هنا جاء ارتباطه بالحياة العسكرية وما كان يسمعه من والده عن أبطالها وقصصهم، غير أن البداية يجب أن تكون من كُتَّاب القرية وحفظ القرآن الكريم كشأن أبناء جيله.

     كان والد رياض يتنقل بحسب ظروف عمله كرجل ينتمي للمؤسسة العسكرية ولذا فقد حصل رياض على شهادة إتمام الدراسة الابتدائية من مدرسة الرمل بالإسكندرية، كما حصل بتفوق على شهادة البكالوريا أو التوجيهية أو الثانوية من المدرسة الثانوية الخديوية بالقاهرة، وقد فقد والده وهو في الثانية عشرة من عمره لتكمل والدته المسيرة معه.

     يستطيع القارئ لمسيرة الشهيد عبد المنعم رياض أن يرى ملامح الاهتمام بالتعليم والعلم بادية في جنبات هذه الأسرة بما تشعه من نور شهادات ومناصب باقي أفراد عائلته من أشقائه وشقيقاته، على النحو التالي: شغل شقيقه الدكتور محمود رياض وزيرًا للمواصلات ثم تولى بعدها عمادة كلية الهندسة بدولة الكويت، ومن الواجب أن نصحح خطأ استقر في أذهان البعض وهو أن السيد/ محمود رياض الأمين العام الثالث لجامعة الدول العربية ليس شقيقًا للشهيد عبد المنعم رياض مع كونه رجل عسكري أيضًا، كما كانت شقيقة الشهيد رياض الدكتورة زكية رياض تشغل وظيفة أستاذ علم الحيوانات في كلية البنات جامعة عين شمس، كما عمل شقيقه الدكتور أحمد رياض أستاذًا للطب في أمراض النساء بجامعة عين شمس، وعملت شقيقته الدكتورة وداد رياض أستاذ علم الأمراض باثولوجي في كلية الطب بجامعة الإسكندرية.

    ينتقل حب التعليم والحرص على العلم بيقين في جينات الشهيد رياض الذي لم يكتفِ بوظيفته العسكرية حيث حرص بعد تخرجه من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان عام 1938م على إكمال مسيرته العلمية حيث حصل على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية وكان ترتيبه الأول على الدفعة السابعة كلية أركان حرب في عام 1944م وكان وقتها برتبة اليوزباشي/ نقيب، ثم أتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات بامتياز في إنجلترا عامي 1945 و1946م، ولم يتوقف حيث أوفد في بعثة تعليمية للالتحاق بدورة تكتيكية في الأكاديمية العسكرية العليا بالاتحاد السوفيتي في التاسع من أبريل عام 1958م وحصل بعدها بعام على تقدير امتياز ولقبوه في روسيا بلقب "الجنرال الذهبي"، ولم يتوقف عن التعليم حيث أتم في عام 1966م دراسته بكلية الحرب العليا.

  تُبرِز التقارير الواردة عن الطالب عبد المنعم رياض مكانة العلم والجدية في شخصيته بشكل واضح خاصة أنها صادرة عن جهات لا تعرف المجاملة أو المحاباة، فيذكر ملف تخرجه من الكلية الحربية مذيلا بتلك العبارة: (طالب جيد جدًا من كل الوجوه، يمكن الاعتماد عليه، ويبذل كل جهوده).

  أما التقرير الصادر عن كلية أركان الحرب بعد حصوله على الماجستير، فيقول: (يوصى به كضابط حرب.. ضابط مجد جدًا ذو غيرة.. شخصية قوية بارزة.. على مقدرة، وعنده روح الابتكار في عمله.. يواجه أي عمل بنشاط كبير.. يدرس كثيرًا ويبحث عن الحقيقة المجرَّدة والعلم.. له أفكار خاصة.. وعنده الشجاعة لإبداء رأيه.. يفكر تفكيرًا سليما.. ذو كياسة وكفاءة). 

    وقد جاء تقرير كلية الحرب العليا عن الفريق عبد المنعم رياض، وهي الرتبة التي نالها أثناء دراسته بتلك الكلية ولم يكتفِ من العلم، يصف التقرير السمات العسكرية القيادية التي يتحلى بها رياض وإجادته وابتكاره في الفنين: التعبوي، والاستراتيجي ومقدرته على تطبيق الناحية النظرية تطبيقًا عمليًا في حل المشاكل العملية وعلى التحليل الشامل والصحيح للمبادئ النظرية الاستراتيجية العسكرية وتطبيقها على مسرح العمليات تبعًا للقدرات الاقتصادية والعسكرية.

  تبدو آثار المعرفة وحب العلم في شخصية الشهيد رياض وذلك حين أجاد العديد من اللغات، ومنها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية التي يسرت له فيما بعد أن يقرأ ويتابع ويطالع أحدث النظريات والأخبار العسكرية التي كان شغوفا للتعرف على الجديد والأحدث في الأسلحة والخطط وغيرها مما شكل عنده منظومة فكرية عسكرية متكاملة تبدو واضحة في عام 1956م حين أوصى في تقريره الذي يقيم فيه نتائج العدوان الثلاثي على مصر وقناعته الشديدة بوجود قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي وذلك لوضع تنظيم للدفاع الجوي في العسكرية المصرية.

    لقد بدا واضحًا أن العلم هو أساس الحرب الحديثة ما نقلته محاضراته في جنوده عند الإعداد للحرب بعد هزيمة 1967م من ضرورة معرفة العدو ودراسته دراسة علمية من حيث نقاط الضعف والقوة، والمتغيرات، وتكتيكاته، وتسليحه، ومواقفه، وخططه وهو ما يستلزم دوما الوقوف على سيل المعلومات المتصل وتحليله تحليلا ذكيا، وهو الأمر الذي جعله يعد المقاتل المصري إعدادًا علميًا لرفع كفاءته القتالية المبنية على العلم وتطوير التدريبات. 

    تبدو دلالات النشأة العلمية في نظرته للقائد ورفضه لتلك النظريات التي تؤكد أن القادة العظام يولدون قادة، وعنده أن هذه فلتات لا يجود الزمان بمثلها دومًا، ولكن العسكريين يُصنَعون بحسب قوله: (يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.. إن ما نحتاج إليه هو بناء القادة وصنعهم، والقائد الذي يقود هو الذي يملك القدرة على إصدار القرار في الوقت المناسب، وليس مجرد القائد الذي يملك سلطة إصدار القرار). 

   تبدو دلالات الوطنية في شخصية طالب الثانوية عبد المنعم رياض حيث كان مندوبًا عن مدرسة الخديوي إسماعيل في اللجنة التنفيذية لطلاب المدارس الثانوية والتي كانت تضم كذلك الطالب جمال عبد الناصر مندوبا عن مدرسة النهضة الثانوية، وكانت مهمة هذه اللجنة هو تنظيم وقيادة المظاهرات الطلابية ضد الاستعمار البريطاني ومعاهدة 1936م.

  تتلاحم دلالات النشأة والوطنية معًا في موقف مؤثر تتناقله الأجيال في عائلة رياض الذي كان يدين بالوفاء لوالده وإصراره على أن يكون مثله وبين امتثاله لقرار والدته التي تولت تربيته بعد وفاة الوالد فالتحق بكلية الطب إرضاءً لوالدته لكن حُلم الالتحاق بالعسكرية المصرية لم يفارقه يومًا واحدًا، وفي ليلة دلفت والدته إلى غرفته وكان رياض يقرأ في المصحف ويبكي لدرجة أن دموعه كانت تبلل صفحات المصحف، وعندما سألته عن سبب هذا البكاء قال لها: (أنا أبويا ضابط وأنا عاوز أطلع ضابط مثله وأنا قدمت في كلية الطب، واليوم آخر فرصة للتقديم بالكلية الحربية).

   تأثرت والدته بهذا الموقف واقترحت عليه أن يذهب على الفور لحضور كشف الامتحان في الكلية الحربية وأوصته أن يخبرهم بأنه ابن القائمقام محمد رياض وفعلا ذهب وأجرى الاختبارات وتم قبوله بالكلية الحربية. 

    تتجلى دلالات الوطنية حين تنازل عن حقه في الزواج وتكوين أسرة شأنه شأن غيره لأنه لم يكن مهتما سوى بقضايا وطنه الصغير والكبير مصر والعرب وعدوهم الأكبر "إسرائيل"، كما تتجلى في رحلاته بين البلاد العربية من أجل خلق موقف عربي ليس عسكريًا فحسب وإنما داخل إطار استراتيجي اقتصادي أيضًا، وذلك حين كان رئيسا لأركان القيادة العربية الموحدة في عام 1964م، ولم يكن كلامه عن الاقتصاد مجرد نقل لرأي عن غيره ولكن عن قناعة ودراسة فقد التحق بكلية التجارة منتسبًا وهو برتبة الفريق. 

   كما تتجلى دلالات الوطنية في مقولته: (أنا لست أقل من أي جندي يدافع عن الجبهة ولا بد أن أكون بينهم في كل لحظة من لحظات البطولة)، وهو الذي كان يزور الجبهة ببدلة عسكرية متخليا فيها عن رتبه العسكرية، وهو الذي استطاع أن يكبد العسكرية الإسرائيلية خسائر فادحة في حرب الاستنزاف وآخرها قبل استشهاده بيوم واحد ثم سفره إلى الجبهة ليعاين بنفسه ما تم ويتلقى شرف الشهادة التي كان يتمناها.

  إن دلالات النشأة تعمل في كلٍّ منا كأصابع تنحت في خفاء لتشكل ملامحنا وشخصياتنا القادمة في الأيام، ولا نصنع التاريخ إلا ونحن نتكئ على هذا التراث الكبير الذي صبه فينا من رَبونا وتولوا أمورنا ومن تعلمنا منهم أيضا مثلما نحتت في رياض الابن.

    وهذا ما كان من أمر الجنرال الذهبي، وفارس الشهداء الشهيد الباقي في عقولنا وقلوبنا الذي عشقته وأبناء جيلي منذ صغرنا وكانت سيرته في ذاتها أصابع خفية جلية تنحت في تكويننا العلمي والوطني والشخصي، غير أننا لن نكونه فمثله لا يتكررون كثيرًا.. رحم الله عبد المنعم رياض.

الأحد، 11 فبراير 2018

يحيا العسكر






مصري إزاي وتسب العسكر
ع الفيس وتويتر تتمسخر
وهمه اخواتك مش راح أكتر
مش من روسيا ولا مدغشقر
جندي مجند... ظابط أكبر
ف برد ف حر ليلاتي بيسهر
إيده ف صحرا بيبني يعمر
عارف دوره مش متأخر
شايف شغله مش بيهزر
وانت بكام تعليق تتمنظر
ليه ف ثوابته ليه بتأثر
ليه ما تقوله عفارم تشكر
همك بس تهده تكسر
تفرح.. لما بلدك تخسر
يا تهدم جهد يا إما تعفر
دي بلدنا عايزه اللي يقصر
مشوارها من غير ما يعسر
لا يضيع وقت ولا يأخر
عسكري مدني صعيدي مبحر
مصر الشعب فاق واتغير
وانت مكانك لسه صغير
اكبر بقى واهتف واتنور

تحيا مصر.. يحيا العسكر


شرطة وجيش أسود




حيوا معايا اللي بيحموا
وطننا عشان ما نعيش
الشرطة أسود الداخل
وحدودنا أسودها الجيش
ظابط أو جندي مجند
قائد عريف وشاويش
أسوان مطروح وحلايب
وسويس شرقية عريش
سهرانة عيون الصقر
واللي يقرب ما يعيش
حيوا معايا ولاد مصر

أسودها شرطة وجيش


التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...