فهل هجرة الشباب العربي من أوطانهم تشبه هجرة الطيور من أجل البقاء وخاصة في الأزمات
الاقتصادية أو في ظل الحروب؟
الهجرة السرية، والهجرة لطلب العلم، والهجرة من أجل العمل، والهجرة القسرية
التي تُفرض على الشعوب في حالة الاحتلال، والهجرة الداخلية والخارجية..
فهل الهجرة لتحقيق التوازن أم أنها تصيب المجتمعات بالخلل؟
أم هي حلاً وحلمًا يراود الجميع لحياة أفضل؟
أسئلة كثيرة نحاول أن نجيب عليها من خلال حواري مع ضيفي
الدكتور السيد إبراهيم أحمد، رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتَّاب والمثقفين
العرب..
الدكتور السيد إبراهيم أحمد، رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتَّاب والمثقفين
العرب..
أرحب بكم مجددًا الأستاذ الدكتور السيد إبراهيم في "حوارات روعة" وأبدأ معكم بطرح الأسئلة:
·
ماذا ستفكر عندما تسمع هذه الكلمة الهجرة وماذا تعني لك دكتور؟
سأفكر في الهجرة من مكة المكرمة إلى
المدينة المنورة تمهيدًا لتأسيس دولة الإسلام الأولى، وأفكر في الهجرة كعمل بشري
قديم قدم البشرية ذاتها وذلك لأسباب عدة أهمها التغيرات المناخية، وأفكر في الهجرة
بشكل ذاتي وذلك حين تم تهجيرنا وكل أبناء مدن القناة "السويس ـ الإسماعيلية ـ
بورسعيد" إلى المحافظات المصرية في زمن عبد الناصر بعد هزيمتنا من إسرائيل في
حزيران/يونيه 1967م، وهو السبب الذي يجعلني أفكر في الهجرة القسرية التي تعاني
منها الشعوب في سوريا واليمن وليبيا والعراق وما تتركه من تداعيات قاسية يعانون
منها كما عانيت منها وأسرتي، ثم التفكير في هجرة العقول العربية إلى الغرب،
والهجرة الاختيارية من الشباب إلى دول الاتحاد الأوروبي والخارج عموما، وأخيرا في
ضحايا الهجرة غير الشرعية وجثثهم التي يحملها البحر قبل وصولها لمبتغاها والحزن
يفتت قلبي كمدًا عليهم وعلى أسر راحوا بأطفالهم؛ فالهجرة مثيرة للشجون القديمة
والمعاصرة.
·
هل الهجرة للخارج الحل الأمثل للشباب العربي ليبدع؟
عندما سألوا الدكتور الراحل أحمد زويل لماذا لم
تبقَ في مصر وتحقق أحلامك؟! أجابهم بأنه ينفق كل أسبوع في معمله حوالي ثمانية
مليون دولار في تجارب تنجح أو تفشل فهل هناك من سيتولى تحمل دفع نفس المبلغ؟!
نعم وبالتأكيد الخارج هو الحل الأمثل والأكيد لتحقيق أحلامهم، ودعينا من
العاطفة الوطنية الجياشة والزائفة أحيانا؛ فالوطن العربي لا يساعد على تفتح
المواهب ومساعدتها، وكم قُتلت مواهب، ولا يقدم الدعم المادي والمعنوي لأي صاحب
فكرة أو موهبة، يتفننون في تنفيذ اللوائح العقيمة، وتعطيل الأفكار بل وأدها، وذلك
على كافة الأصعدة وفي أكثر دول وطننا العربي الذي يصفق بحرارة للموهوبين من الغرب
ولا يساند الشباب العربي المبدع.
والسؤال: هل أكثر الناجحين العرب
من الشباب الذين سمعنا عن شهرتهم وتفوقهم كانوا يعيشون بيننا؟ أم هم أولئك الذين
عاشوا في الغرب؟
نحن
ننجح في إفشال الشباب.. وبعثرة مشروعاتهم.. ومنهم من يموت يأسًا.. أو يلجأ للتطرف
أو الإدمان.. ثم نبكي عليهم وعلى مصيرهم الذي أعددناه لهم بأيدينا.
·
متى تكون الهجرة حلا وحالة صحية .. وما أسبابها؟
يأتي هذا السؤال اتساقًا مع السؤال الذي سبق.. وبالتالي ستكون الإجابة
استكمالا لما سبق وتبني عليها: حالة الهجرة كحل أمثل تفرض نفسها على صاحب الموهبة
أو المشروع ـ ولا أقصد المشروع بمعناه التجاري ـ الحياتي المستهدف تحقيقه بحسب
مجال كل من ينوي الهجرة، والأسباب من وراء ذلك كثيرة كتلك التي ذكرتها، ومنها:
البيروقراطية الروتينية العقيمة والعمياء عن اكتشاف أصحاب المواهب الجادة
والمبشرة.. فتضع البيض كله في سلة واحدة .. فتحبط أصحاب الهمم.. وتحول كل الكفاءات
إلى مجموعة من الموظفين الذين لا يعطون إلا بقدر ما يأخذون، ومن أسباب الهجرة: قتل
المواهب العلمية الجادة بتقديم الأقل منهم في الكفاءة والموهبة إعمالا للمحسوبية
والوساطة، واسألي من تفوقوا في الجامعات العربية ومصيرهم.
·
الهجرة تفقد التوازن أم تحقق التوازن، سواء إن كانت هجرة
داخلية كما يحدث من الريف إلى المدينة، أو هجرة خارجية من دولة إلى أخرى؟
الهجرة في ذاتها قائمة على اختلال في التوازن سواء
أكان اجتماعيا أو اقتصاديا يمس مجموعة من البشر أو السكان في منطقة ما يدفعها دفعا
إلى الخروج من دائرتها الفقيرة في إمكاناتها، على أن الخروج الآمن يقوم على حسابات
دقيقة لا تقبل المجازفة وفي نفس الوقت غايتها إعادة التوازن المفقود لأفرادها،
وغالبا ما تكون بضمانة من سبق لهم الهجرة إلى الأماكن المختارة، وغالبا ما تكون
أيضا تلك الأماكن أو الدول لها سمعتها المسبوقة وذلك على نوعي الهجرتين: الداخلية
والخارجية.
غير أن الهجرة الخارجية قد تحدث بسبب ضغوط
سياسية خانقة ومنها: افتقاد حرية التعبير، الاضطهاد الديني بين أصحاب الديانات
المختلفة أو بسبب الاضطهاد المذهبي داخل أبناء الدين الواحد، أو بسبب الاختلافات
الحزبية، ومنها ما يكون بسبب الأسباب الاجتماعية التي أشرتُ إليها من قبل..
أما افتقاد التوازن أو تحقيقه بالنسبة
للمهاجر فالأسباب تعود إليه مباشرة، وذلك من خلال ذوبان هويته في هوية البلد
المهاجر إليه أو تمسكه بها، وعلى مستوى الهجرة الداخلية يعود إلى تمسك المهاجر
بقيمه وأخلاقياته أو الذوبان في مجتمع المدينة بأنساقه القيمية المادية المتفاوتة.
·
هل هجرة الشباب العربي للغرب تساعد على تبادل الثقافات بيننا وبين الغرب
ويمكن أن تحدث ثورة علمية وتطور من خلال هجرة شبابنا لطلب العلم؟
استفادت الدول العربية من خلال وجود أبنائها الذين اختاروا الهجرة وذاعت
شهرتهم وطبقت الآفاق في المجالات التي اختاروها، وليس أدل على هذا من الابتعاث
للخارج وما نقله إلينا على سبيل المثال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في "تخليص
الإبريز في تلخيص باريز، وهو الحادث بين الحضارات الإنسانية خلال مسيرتها والتأثير
والتأثر بينها، غير أن التبادل الثقافي الآن ليس من شرطه الانتقال الجسدي في ظل
العوالم المفتوحة، وثورة التواصل الاجتماعي التي غيرت ووحدت بوسائلها وجهات نظر
بين شعوب العالم المختلفة، بيد أن إحداث الثورة العلمية لا يقوم به مهاجر واحد أو
مجموعة مبتعثين بل هو حالة ناجمة عن توافر العديد من العوامل المجتمعية في الأساس،
مع توافر نية لدى الأنظمة الحاكمة في المساهمة في هذه الثورة ومن خلال تغيير
المفاهيم، والدعم المادي وإلا بالله عليكِ كيف لم نستفد من زويل؟! وهو الذي
استفادت منه مجتمعات غير عربية!
·
وهل سيسمح للشباب المتفوق والمبدع بالعودة لأوطانهم وللاستفادة منهم أم
شبابنا سيرفض العودة لما تقدمه له تلك الدول من دعم لهم؟
ولو رفض الشباب العودة فمعه الحق، المهم في الأساس توافر الاختيار لديهم في
الموازنة العادلة بين حق مجتمعهم العربي عليهم وبين حق مجتمعهم الذي وفر لهم
البيئة الحاضنة لأفكارهم وحققها لهم، وهو ما يمكن أن يصنعوه من خلال العديد من
الزيارات وعمل محاضرات لنقل التجربة، والتعاون مع أجهزة الدولة التي ينبغي أن يكون
عندها ـ في الأساس ـ الدافع نحو الاستفادة من التجربة ولا تشكل عامل طرد لهم.
غير أن هناك من أصحاب العقول
العربية الشابة التي هاجرت لفترة ما ثم عادت في فترة الشيخوخة لتقدم وترد الجميل
وخدماتها لبلدها ومنهم الدكتور مجدي يعقوب كواحد من هؤلاء.
·
هل تدرك الدول العربية حجم الكارثة في حال تم هجرة الشباب منها بأعداد كبيرة؟
دولنا العربية لا تأبه بذلك على الإطلاق، ولو
هاجرت نصف الشعوب، لأنها ترى أن أعدادنا الوفيرة كفيلة بأن يغادر واحد ليحل محله
واحد، ولهذا فما يهمها هو الفراغ الكمي ولا يعذبها أبدا الفراغ النوعي، ولن أضرب
مثلا بمصر أو بسوريا ولكن بالجزائر التي تأتي كحالة فريدة ومميزة بين شقيقاتها من
الدول العربية الأخرى؛ فقد هاجر منه 70% من أساتذة معهد الرياضيات، وحوالي 40 ألفا
غادروا خلال فترة التسعينيات من القرن العشرين منهم فقط عشرة آلاف طبيب استقروا في
فرنسا وثلاثة آلاف باحث استقروا في أمريكا، ولعلمك مصر الآن تعاني من قلة الأطباء
الذين فضلوا العمل في الخارج والهجرة دون البقاء في مصر لتدني الأجور والمزايا
العينية التي يحصلون عليها حين يعملون في المناطق النائية، ولم يسمع أحد أن هناك
مسئول أذاع الأمر سوى نقيب الأطباء نفسه، وهذا لأن كل الأنظمة العربية مع تفاوت
بينها بسبب قلة عدد السكان، ومستويات الدخول يسمحون بالسفر لكافة الخريجين ولو فور
تخرجهم ما عدا شباب الكليات العسكرية والشرطة!
·
ما هو الحل برأيك للحد من هجرة الشباب العربي؟
هناك مشكلات عديدة تتصل بالمرأة وبالفتاة
العربية ومنها العنوسة والزواج المبكر والطلاق المبكر، والعنف ضد المرأة، والتحرش
بأنواعه، والتنمر، والتكفير، والتطرف، ولا نجد لها حلا مهما حاولنا ولو بالتقليل
منها دون الحد، الشباب العربي كل آماله وطموحاته تتعلق بالسفر للخارج سواء بالعمل
أو الابتعاث أو الهجرة إلى حد التجنس بجنسية البلد المسافر إليه مع احتفاظه
بجنسيته أو بالتنازل عن جنسيته للأبد وبإرادته.
على أن الحل يكمن في الوصول إلى عكس الأسباب التي تؤدي إلى هجرة الشباب
العربي، وأولها: الاهتمام بأصحاب المواهب
والمبدعين والفائقين في كافة المجالات النظرية والتطبيقية والإبداعية، الاهتمام
بعنصر الكفاءة لدى الشباب بعيدًا عن الوساطة والرشوة والمحسوبية، إحياء المواهب
والبحث عنها بين الشباب والدفع بها إلى بؤرة العناية والاهتمام.
وفي النهاية:
لستُ متفائلا بأن هذا سيحدث؛ فمازال هناك شباب يبحث عن فرصة عمل لا يجدها في بلده
فيلتمسها في هجرة غير شرعية تكون سبيله لأن يلقى حتفه بعيدًا غريبًا عن أرض الوطن.
وفي نهاية حواري معكم دكتور السيد إبراهيم الذي اتسم بصدق وعمق إجاباتكم، الأمر الذي جعلني أشعر بغصة كبيرة من حقيقة أوضاعنا العربية.. وكأن الهجرة أصبحت قسرية بكل حالاتها..
شكرًا لك على قبول دعوتي للحوار وعلى إجاباتك الوافية والكافية التي تسعدني دائمًا وتسعد الجميع وكل من يقرأ لك.. تحياتي لك وللجميع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق