الأربعاء، 22 مايو 2024

تيار الوعي في رواية "الدخان" لـ "أبا ذر آدم الطيب"..




    

تفتح الرواية بشكل عام والجديدة بشكل خاص شهوة السرد، ونافذة البوح المهموم بقضايا تتجاوز الذاتية، وانتهاج دروب غير مألوفة تسمح للكاتب أن يرتادها دون خوف، فيكون همه ليس الإطار وإنما المتن الحكائي، تكاد تلمح "أبا ذر الطيب آدم" يخرج إلى الفضاء الرحيب بقلمه ليقدم عالمه الذي سهر في تشكيله مختفيًا، وجاء الوقت ليعلنه في روايته "الدخان" الصادرة عن طفرة للنشر والترجمة والتوزيع القاهرية في طبعتها الأولى عام 2023م.


وقد بدأها بإهداء وتقريظ، راسمًا في إهدائه ملامح أبطال روايته: (إلى من سماحتهم تميزهم، وابتساماتهم تقودك مباشرة نحوهم، أهدي لهم هذه الأسطر لعلها توفيهم القليل. من القلب إلى أسرة الجالية السودانية بمحافظة السويس)، وقد أطلق عليهم "سوايسة أمدرمان"، وغالبًا ما يُنسب "الراحلون" أو "المهاجرون" إلى مكان هجرتهم أو غربتهم وليس العكس، فيقال: "عرب المهجر" أو "عرب النمسا" وغيرها، غير أن المعنى الكامن في رأس الكاتب وصفحات الرواية تفكك الحيلة اللا شعورية الناجمة عن هذا العنوان "المقلوب" عمدًا، وهو أن الانتقال الجسماني من العاصمة التاريخية السودانية "أم درمان" إلى "السويس" المصرية، لم يصاحبه انتقال الروح والرؤيا والرؤية من "درماني السويس" وهو العنوان المفروض والمصاحب للحال، فلم يولوا وجوههم شطر أية مدينة أخرى ولو كانت دار هجرتهم ومقامهم، يدلل على ما أقول العديد من العبارات التي يتضمنها الحوار الذي يدور معظمه حول كثير من القضايا، ووجهات النظر، والتاريخ والجغرافيا، والأحلام والآلام والآمال الساخنة سخونة آثار أقدامهم التي لم تغادر قط رمال أم درمان ودروبها: (ما لكم كيف تحكمون ومعشر المنسيين من سوايسة أمدرمان يشتاقون وأنا أشتاق وأمي تعرف ذلك وعبق البحر والشاطيء يَبينُ ويختفي). [بلد الغريب، ص11].


(أن نجد ضالتنا أن نجد أحلامنا التائهة في صفاء تُحلِّق عاليا ترسو في أمدرمان تتجول فيها تزرع بذور النور بذور الضياء). [الترقب، ص72].


توافقت الخصائص الفنية للرواية الجديدة مع الرؤية الفكرية للكاتب في قراءة الأحداث التي تحيط بأبطال روايته التي تتصل بواقعها المعيش المأزوم من بلد الانطلاق إلى بلد المقام، محملة بمخاوفها وهواجسها وقلقها وخلفيتها الاجتماعية التي لا تطرحها مباشرة، بل تتعامل معها عبر مشاعر متباينة بعيدة عن الذاتية في الرواية التقليدية التي احتفت بالقضايا الكبرى السياسية والاجتماعية، أو قضايا الإنسان مع المرأة والحب، أو قضايا التاريخ.


لقد حدث تحول مركزي في مفهوم الموضوع ذاته، فلم تعد سيرة حياة الإنسان هي الموضوع، وإنما أصبح الوعي بالإنسانية والإنسان وتصوير ضعفه وانهزاماته هو الموضوع، فهذا الواقع هو مع حال إنسان الألفية الثالثة بكل ما يحمله من توترات تهدد وجوده، وصراعات تتحكم في مساراته، وعولمة تطارده أينما حل أو ارتحل، فباتت موضوعات: الاستبطان النفسي، رصد علاقات البشر الداخلية، علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخر، اعتبار الرواية مصدراً وسبيلاً للوعي، القضايا الأكبر لكثير من الروايات. [دكتور محمود الضبع: الرواية الجديدة قراءة في المشهد العربي المعاصر].


لقد حملت عناوين اللوحات أو شئت الفصول أو الموضوعات، دلالات مكانية، وقيمية، وإنسانية، وزمانية، أو زمكانية، لكنها لا تحمل أحداثا فردية، أو أسماء شخصية، فتبدأ من: "بلد الغريب"، "الحرية كما خلقها الله"، "الجمعة المشرقة"، "البحث مستمر"، "وردية ليل"، "قوارب الرحيل"، "الدخان"، "وادى أزوم"، "الاحتواء"، "حرب الأمواج"، "الترقب"، "اجتماع المطر".


يتمحور تعريف تيار الوعي في كونه نمط سردي يتم من خلاله تقديم المحتوى النفسي والذهني للشخصية وفق جملة من التقنيات والأساليب الخاصة، فلا تعتمد روايات هذا التيار على السرد التقليدي، وقد استخدم الكاتب هذه التقنيات ببراعة، مثل: المونولوج الداخلي، والخطاب الحر غير المباشر، والسرد المُجزأ لنقل تيار وعي الشخصية.


كما استخدم الجمل المقتضبة، الموجزة، والموحية، والشعرية سواء في سرد الأحداث، أو في الحوارات، مدعمًا عباراته بتهشيم الزمن عبر انتقاله في نفس السطر من زمن إلى زمن آخر، علاوة على استدعائه تقنيات: الذكريات، الفلاش باك، المونولوج، المناجاة، الأحلام، وأحيانا التداعي.


كما يغلب على "أبا ذر" الانتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم الذي يتوازى مع انسيابية أفكاره، أو ذكرياته حين يحدث نفسه كمن يسير منعزلا عن غيره، ولا سواه معه، ولا يلبث أن ينقلنا إلى الجماعية في عرضه للأحداث فجأة، ثم يلجأ للفانتازيا والغرائبية في قصة "الدخان"، مُقدمًا قصًا ونصًا محكم البناء الفني واللغوي والبلاغي بطول قصص الرواية ككل، عندما أنشأ من كل فصل من فصول الرواية قصة قصيرة تبدو منفصلة النسق غير أنها متصلة السياق مع ما قبلها وبعدها بخيوط تبدو جلية أحيانا وخفية في آن آخر.


تبدأ الرواية من شاطئ البحر الأحمر، عبر الحديث عن الآملين من "سوايسة أمدرمان"، وزمرة المنسيين" سواء السوايسة الذين ينتمون للمدينة ومعهم "الأمدرمانيين" ممن يعيشون بين البحر الأحمر والحياة لنسير في شوارع "بلد الغريب" ثم تنقلنا الأحداث داخل الميكروباص وبعدها إلى صوت القطار، ونسمع تشابك الأصوات بين استنشاق عبق البحر، وبائع الورد بـ "العوايد"، وترانيم القطار، وصوت مؤذن "مسجد الغريب"، ثم الانتقال لحي "الموشي"، وصولا لموقف السيارات العام للمتجه إلى العاصمة القاهرة وغيرها من المدن المصرية، يلازم "الرواي" عبق البحر وريح أمه في جنبات السويس، لينقلنا إلى زحمة الشارع وهو في رحلة الهيام يقوده إحساسه، فينتقل لأم درمان وأغنية الصبا "بلد الخير" معزوفة على أوتار أستاذه أحمد حسن يوسف، لينضم للمنسيين جميعا سوايسة أمدرمان وسوايسة السويس مرة أخرى، والأحداث المتشابكة.


الرواية تخاطب السويسي وتخاطب الأمدرماني، ومن يعيش في السويس سيستغرب هذه الانتقالات المكانية الفجائية الغير متجاورة، والتي لن يفطن لها الأمدرماني، وهو نفس ما سيتواجه به السويسي من جهل بجغرافية الشوارع في أمدرمان، والسودان، كما سيدهش الجميع من هذه التداخلات المكانية والزمانية والسردية، والحوار الداخلي (المونولوج)، والقفز على حواجز أدوات الترقيم، واختلاط الضمائر بين المتكلم، والغائب، والحاضر، والانتقالات الزمنية بين الحاضر والارتداد للوراء والنظرة المستقبلية.


باستخلاص فلسفة تيار الوعي في القص في ارتكازها على: وصف الشخصية من الداخل؛ فالذهن ليس إلا المجرى المستمر للصور والذكريات كما ترى "فرجينيا وولف"، ذلك أن أهم ما يميز رواية تيار الوعي هو تقديم المضمون الجوهري الذي يقدم وعي الشخصية من خلال انسياب الذهن، والاهتمام بالمحتوى أو الموضوع أو المضمون، ويأتي استخدام الوعي كشاشة لعرض ما يدور داخل النفس، تُشكل آلية التذكر فيها أحد المقومات السياقية الرئيسة، التي تعتمد على الاسترجاع واستحضار الماضي الذي يفرض وجوده على الحاضر، حتى صار أن أهم ما يميز كتَّاب تيار الوعي تجاوز المعهود من الكتابة النمطية في الرواية التقليدية.


أصبح التجاور أو التزاوج فيما بين السرد والوصف، والحـوار والضمائر والفعل، والانتقالات المتسارعة بين الأمكنة والأزمـنة تحتويها عبارة واحدة في نفس السطر، وتتم بكل هدوء وانسيابية، فلا يكاد القارئ يلحظ أي انقطاع، مع الحرص الشديد على عدم تشتيت انتباهه، وضياع تركيزه بين هذا السيل من السرد المتراكم، وهو ما نجح فيه الروائي "أبا ذر آدم الطيب":


(أحلامنا الكبيرة والصغيرة التي كادت تشيخ مع هذا التسرع للأيام ونحن جميعًا وكل من عاشرنا وعرف سوايسة أمدرمان، يعلم مدى تمسكنا بها، يعلم قوتها وتشعبها في أعماقنا. أنا لا أقول هذا عبثا، إنما عشناه وعاش فينا. ووادي أزوم الممتد وجبل مرة الباين. سريري يُصدر أصواتا أظنها تَضَجُر، وتخيلتُ عم إبراهيم وسوايسة أمدرمان يسمعون قارئة الفنجان لحليم ويرددون مع الأبنودي شعرًا، ورأيتُ جيوشًا تترامى ترسل أشواقًا في حمامة تزرع نبتًا ترمي لقمًا في قمامة، ورأيتُ فوانيس الأفراح تتسارع فرحًا في الوادي، والنبت يمد أيدي النور حتى أصبحتُ بلا حركة أتنسم عبق اللحظات وسريري يُصْدِرُ أصواتًا). [وادي أزوم، ص56].


تخاطب رواية "الدخان" الداخل والخارج السوداني، في أغلبها، كما تخاطب القارئ العربي، لذا فقد حرص الكاتب على حشد أكثر قضايا الوطن/السودان إثارةً وحوارًا واختلافًا، والنأيَ بنفسه عن أن يعرض أو يفرض وجهة نظره، ومن أجل هذا حشدها بـ "سوايسة أمدرمان"، ومثلما استفاد من المونولوج استفاد أيضا من الديالوج في استدعاء الرواية البوليفونية التي تتميز بتعدد الأصوات تبعًا لتعدد المواقف الفكرية، واختلاف الرؤى الأيديولوجية، والشخصيات، والأساليب، والمواقف، والمنظورات السردية، لتكسر بذلك نمطية الصوت الواحد للراوي المطلق العليم بكل ما يجري من حوله، وهو ما يعني أن "الدخان" رواية ترفض الديكتاتورية وترحب بالتنوع والديمقراطية وحرية التعبير.


تحدد الرواية صفات "سوايسة أمدرمان: (الآملين بكل ما هو أفضل) .. (زمرة المنسيين بين البحر الأحمر والحياة) .. (البحر لنا نغسل فيه وعثاء الأيام، ونبني عليه أملا لمستقبل زاهر).. (الوحيدون هنا كأنكم هناك، أنتم الوحيدون تسبحون مع التيار وعكسه تمرحون والنجوم والقمر ينظرون) ..(وسوايسة أمدرمان يحلمون ويألمون وجماليات لا تنتهي رغم العنت رغم كل شئ)..


برعَ الروائي "أبا ذر" في قنص الشعرية وبثها عبر الكلمات والعبارات، واستدراج القارئ حيث الأسئلة الوجودية الفلسفية، فأفلح أن يسلبه دور "المتلقي" ويمنحه دور "المُشارك"، وأصبحت الرواية بركانًا يتفجر بالتساؤلات، والتعريفات، والتقاطعات، والحوارات الهادئة/الثائرة التي جمعت سوايسة أمدرمان وتستأنس بحكمة "عم إبراهيم السويسي" في بعضها فتُعدِّل مسارات النقاش حول الوطن والوطنية، وجدلية المركز والهامش، والاحتواء، والنهي عن الانشغال بالحروب الذاتية انصرافًا عن بناء الوطن، كما تبين تلك المقاطع مهارة الكاتب في استخدام تقنيات تيار الوعي، وبوليفونية الحوار، والتفاعل مع قضايا الوطن والجدل حولها التي أوردها كرؤوس مواضيع في خطوطها العريضة:


(ثم ارتشفتُ من القهوةِ التي أعدَّها إدريس ففتحتُ النوافذ في رأسي وجدتُ أننا جلوس وأبو بكر خليل يتحدث عن المركز والهامش وقتل الأبرياء ومن هو القاتل؟ ولماذا قتل؟ وعبدالله جروك مقاطعًا، ثم ساد الصمت شربتُ ما تبقى من القهوة دفعة واحدة كأنني أتجرع سمًا زعافًا من منتوجنا المحلي وجروك يصرخ ليست هناك حرية إنه كلام ينطق ولا يفعل، وأبو بكر يشرح وأنا أسرح في كل كلمة قيلت وأبحث عن مرادفها من الكلمات). [بلد الغريب، ص11].


عمد الكاتب إلى مخاطبة الداخل والخارج السوداني بالرموز التي نثرها عبر فصوله، ومنها بل أشهرها: "طائر الحياة ـ أبو الرهيو" وطائر "السمبر" استلهامًا من المثل الشعبي السوداني السائر: (خوة أبو الرهيو مع الكلجو "السمبر")، وما ترمز له من انتهازية "الرهو" وقوة "السمبر"، حين يطلب "خضر" من رفاقه: (تعلموا من طائر السمبر منقاره رمزٌ للقوة رمزٌ للصمود لا ينسى العهود). [اجتماع المطر، ص84).


وقد أتى الراوئي بالمثل في قوله: "خربانة أم بنايا قش"، ويُضرب بأن لا يغتر الإنسان بالدنيا؛ فهي زائلة كالقش، وله عند السودانيين قصة كسائر الأمثال عند غيرهم. وجاء في معرض كلامه:


(شئنا أم أبينا ارتضينا أم لم نرتضِ العالم محيط بنا ونحن على سفينة ربما لا ترسو بين ما يحدث من شد وجذب وتناكف لا يهدأ ولا يهتدي. نعم، يا أوكير نتفق حتى نمضي لنجتمع حتى نرسو لنمد أيدينا بيضاء ليعمنا سلام الأرواح. آه خربانة أم بناين قش). [حرب الأمواج، ص64).


وربما حملت مقدمة فصل "بحر الأمواج" علاقة رمزية بين العنوان وتأرجح السفينة التي ترمز للوطن وبين الأمواج التي ترمز للجدل الذي لا يهدأ، وسُبات سوايسة أمدرمان، "رمزية أخرى"، بينما تتأرجح السفينة وسط تلاطم الأمواج بين كل حدب وصوب. وقد نجح الكاتب في استقدام الحلم/الكابوس كتقنية من تيار الوعي بينت التوتر الداخلي للسارد من خوف على السفينة/ الوطن من الغرق، وتلازم الواقع الذي يعيشه في توتره النفسي الخارجي الذي يحاول أن يتغلب عليه بالإخفاء، فيتسلل كابوسا في حلمه، ويبدو في يقظته حين يحاول إيقاظ سوايسة أمدرمان ومن معه على السفينة غيرهم: (لقد جرفت الأمواج سفينتنا في بحر ضروس لا تهدأ ولا تهتدي. كنت أقاتل وحدي والجميع في سُباتٍ عظيم). [حرب الأمواج، ص65).


لا أريد أن أضفي على "أباذر" صفة الكهانة، وأجعل من روايته مؤشرا للتنبوء بما تفرزه الأحداث الآنية، وكم من رواية سودانية تنبأت! وليس في هذا ما يعيب "الدخان"، غير أن أهم ما اشتملت عليه الرواية، من وجهة نظري، هي تلك الرسالة التي أراد أن يوجهها الراوي ورفاقه من "سوايسة أمدرمان":


(اختلفنا أو اتفقنا يكون الأصل هنا الحب الذي بيننا). [البحث مستمر، ص23).


يؤكد صواب وجهة نظري تلك، ما جاء في ختام صفحات الرواية، بصوت الراوي مخاطبًا البشر عامة، وكل السودانين خاصة: (انبلج الصبح وعدنا نعدو حالمين آملين نملأ الأرض ضجيجًا كقطارٍ نشبه المارد الممتد البحر الأحمر "نَختلف ونتفق نُحِبُ ونُحَب") .

الأربعاء، 1 مايو 2024

الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..

   





منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات المتسارعة والتحديات المعاصرة، إيمانا منه بأن السودان تستحق أن يكون لها مكانا ومكانة في دنيا الإبداع بشكل عام والإبداع الروائي بشكل خاص، وقد أثمر النضال والثبات أن خرجت أجيال من الروائيين أشهرهم الروائي الراحل الطيب صالح، ولعل هذا المقال يسهم في تجميع ـ بقدر الإمكان ـ التحديات أمام القارئ العربي والسوداني أيضا، للالتفات لهذا الإبداع الثري والتواصل معه والوقوف على العقبات التي تحول دون انتشاره بشكل أكبر وأروع، والمساهمة أيضا في وضع الحلول لإزالتها عربيا وسودانيا، وفي نفس الوقت الوقوف على الإنجازات التي حققها الروائي السوداني على الرغم من هذه التحديات.


    إن أول التحديات التي تقابل الروائي السوداني هي لغة الكتابة؛ فاللغة العربية هي اللغة الرسمية في السودان، غير أن هناك أكثر من (114) لغة أصلية في السودان، ومن بين هذه اللغات المتعددة يوجد أكثر من خمسمائة لهجة مميزة. وقد أدى ذلك إلى ولادة العديد من المجموعات الثقافية والعرقيات، وهو ما عبر عنه الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن بأن اللغة تؤدي دور الممتحن الأول للكاتب السوداني، فاللغة التي يفكر بها الكاتب هي لغة المخاطبة اليومية ولغة حياته الشخصية والعامة، أي لغة المكان والزمان وهذه اللغة في السودان هي العاميات السودانية المشتقة من اللغة العربية ولهجاتها وكثير من اللغات المحلية والقبلية وصلة الأديب السوداني باللغة العربية الفصحى في الغالب هي صلة تعلم مدرسي، وأحياناً صلة عمل..


     وعندما يبدع كتابيًا، مطلوب منه أن يفكر بلغة ويكتب بأخرى، بالتالي يعاني ذلك المخاض التحويلي الهدمي البنائي الذي يعمل على مستوى الصورة والفكرة والإحساس بالشيء، وفي كل أعماله تقريباً يجمع بين اللهجة السودانية واللغة العربية الفصحى، لأن هذا الجمع يخلق مصداقية للعمل ولكن في الوقت نفسه اللهجات السودانية تقف عائقا أمام الكثير من القراء ولذلك يحاول الكتابة باللغة العربية الفصحى.


     يشكل تحدي أزمة الهوية أمام الروائي السوداني امتدادا معاصرا من جذور سبقت؛ فقد وجدت الرواية السودانية نفسها في القلب من إشكالات الهوية منذ انبلاج فجرها مع رواية عبد الله الطيب الرائدة "نوار القطن"، وفي رواية تاجوج ـ أولى الروايات السودانية صدورًا ـ لعثمان محمد هاشم حسبما يرى دكتور هاشم ميرغني، وحسبما يلخصه الناقد أحمد عبد المكرم بقوله: (إن مأزق الهوية والانتماء ظل واحدًا من أكثر تجليات الإبداعية وضوحًا في خطاب القص السوداني المعاصر)، بينما يرى ناصر السيد النور أن الرواية السودانية مستقرة ربما ضمن منظومة هويتها السائدة والمهيمنة منذ بدايتها أو ما يعرف بأعمال الرواد ولم تنفصل عن مسار الرواية العربية عمومًا وإن تفاوت تطورها في الدرجة والمضمون.


    كما تمثل مشكلة النشر تحديا كبيرًا أمام انتشار أعمال الروائي السوداني، ويبدو هذا واضحا في الفاصل الزمني بين تاريخ كتابة الرواية، وتاريخ نشرها التي يُرجعها البعض لتعقيدات روتينية حكومية، وقلة دور النشر، مع تكاليف الطبع الباهظة الناتجة عن ارتفاع الرسوم الجمركية على مستلزمات وخامات صناعة الكتب، مع غياب استراتيجيات التسويق، لقلة منافذ التوزيع وعدم القدرة على توزيع الكتب خارج السودان والمشاركة في المعارض العالمية، كما تشكل الرقابة على الأعمال المقدمة للنشر لإجازتها تحديًا آخر، يضاف لما يعانيه الروائي السوداني من مشكلة القرصنة واستلاب جهده في ظل عدم فعالية القوانين التي تحمي حقوق النشر، الأمر الذي يضطره إلى النشر خارج السودان فرارًا بإنتاجه.


   تشكل ترجمة الأعمال الروائية تحديًا يعوق وصول الرواية العربية بعامة والسودانية بخاصة للعالم، وعلى الرغم من أن اللغة العربية لغة عالمية، لكونها إحدى لغات الأمم المتحدة، إلا أن الرواية المكتوبة بنفس اللغة دون ترجمة الجيد منها للعديد من اللغات الحية سيجعلها مهملة، وهو ما يحتاج لتدخل الجهات المعنية ممثلة في وزارة الثقافة السودانية، من خلال خلق أجواء جيدة توفر للكاتب سبيل الإبداع بينما تتولى هي الطباعة والنشر والترجمة، وتحفيز عجلة النقد لها.


    إن أكثر ما يدهشني وأنا أتابع ملف الرواية السودانية أو بالأحرى نضال الروائي السوداني وإصراره على الكتابة على الرغم من التضييق عليه وملاحقة أعماله بالمصادرة وعدم النشر، مما يضطره إلى الخروج من بلاده إيمانًا منه بقيمة ما يبدع، والنجاة بإبداعاته لترجمتها ونشرها، ومنهم المغترب عن السودان في دول الوطن العربي والأوروبي وينشر أعمال تتمحور حول قضايا بلاده، التي يتابعها وإن نأى عنها فهي مسكونة فيه أو روحه مازالت تحلق في شوارعها وحقولها، وتراثها وسحر واقعها الذي يفوق الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية.


    لكن هذا ليس كل ما يدهشني بل أن المبدعة السودانية منذ تعرفها على فن الرواية في الجيل الأول، إلى وقتنا هذا، قد أخرجت أعمالا فيها من التنوع والثراء والالتزام والتجديد، بل الطموح للتحليق فوق ما أبدع الطيب صالح نفسه، وهو ما يعني أن سقف طموحاتهن لا يعرف التوقف، ومنهن من بقيت في السودان، ومنهن من ولدت خارجها، ومن خرجت منهن إلى القارة الأوروبية وتركت فيه بصمتها، مثلها في هذا مثل الروائي السوداني، وحققوا جميعا إنجازات يضيق عن رصدها مساحة المقال.


    ترى القاصة والروائية السودانية سارة حمزة الجاك أن الرواية السودانية تشكلت على غرار الرواية المصرية، وأخذت منها شكلها العام، لكن ذلك لا يمنع أن مصادر الرواية السودانية متعددة ومختلفة المصادر الواضحة والمعلومة للجميع، ومنها الخفي الذي لم يضع النقد يديه عليه مباشرة، كالباراسيكولجي السوداني الذي تعيشه الشعوب السودانية في حياتها اليومية. ومن جانب آخر تمكنت الرواية السودانية من الإضافة إلى الميراث الروائي العظيم للطيب صالح كمًا وكيفًا، فالموضوعات والقضايا المطروحة فيها الآن ذات جدة، لم يتناولها الطيب صالح، كما أن اتساع رؤية الروائيين للعالم والكون جعلهم يطرقون عوالم جديدة وثرية ربما لم يتعرض لها الطيب صالح، حتى أن الذرة والنواة تحولت عن روائيين إلى عوالم حاوروها وأنشأوا معها رواياتهم الخاصة.


   كما ترى الروائية والشاعرة والكاتبة السودانية آن الصافي أن التحديات محركة لأرضية منظومة الكتابة والتلقي، وهناك الكثير من المواضيع التي يجب التطرق لها، والإبداع هو واجهة المجتمعات، لتتاح الفرص للكتابة بحرية والتلقي بموضوعية.


   لقد صعدت أسماء كتاب وأعمال روائية سودانية إلى المشهد العربي والعالمي، وأن الرواية في السودان في صعودها التأسيسي المتقطع بدأت تجني الآن ثمار بذرتها التكوينية، التي ستقود حتمًا خلال السنوات المقبلة إلى نمو شجرة هذه الرواية، وإيراقها وإزهارها فيما يمكن أن أصفه بالموجة الأخيرة، التي سيكون مسماها "الرواية السودانية" بحسب رأي الروائي منصور الصويم، وهي تجربة الأجيال القادمة المزودة بخلاصة تجارب الأولين الحذرة، ومغامرة الأخيرين العنيفة والمتفجرة.


    لقد ظهر في الأونة الأخيرة بعض الروائيين والروائيات في تاريخ الرواية السودانية الحديثة، منهم: أمير تاج السر، ومحمد الحسن البكري، ومحسن خالد، وآن الصافي، وحمور زيادة، والزين بانقا، وسارة الجاك، ومحمد خير عبدالله، وعماد براكة، وعمر الصايم، وعماد البليك، ورانية مأمون، وهشام آدم، وكلتوم فضل الله، وأميمة عبدالله، وياسين سليمان، ومن نفس جيل تاج السر، الروائية ليلى فؤاد أبو العلا، التى وُلدت فى القاهرة عام 1964، وتكتب رواياتها بالإنجليزية لإقامتها فى بريطانيا، وقد حصلت على "جائزة كين العالمية للأدب الأفريقى"، وفازت الروائية ريم جعفر بجائزة "الجزيرة" للرواية الإفريقية" عام 2023 لتكون أول كاتبة سودانية تترشح وتفوز بالجائزة، وفازت أيضا رواية "المنظرون" للكاتب أباذر آدم الطيب في "مسابقة دار ديوان العرب للنشر والتوزيع" بجمهورية مصر العربية.


   تشهد الأرقام المستخرجة من "ببليوغرافيا الرواية السودانية 1948-2015" للناقد والقاص والصحفي نبيل غالي، رحلة تحديات ومثابرة الروائي السوداني على مواجهتها واجتيازها في صبر ودأب من أجل تحقيق مشروعه الإبداعي، وإحداث تراكم كمي وكيفي يضاف لإنجازات الرواية السودانية، حيث صدرت خلال هذه الفترة (476) رواية، كان من نصيب الأديبة السودانية منها (51) رواية، وحظرت الرقابة (10) روايات، وفازت (26) رواية بجوائز محلية وعربية، وتُرجمت (9) روايات للغات عالمية، وتحولت روايتان فقط لفيلمين سينمائيين، وتعرَّض النقاد العرب بالنقد والتحليل لـ (21) رواية ضمن كتبهم النقدية، بينما صدرت (8) كتب نقدية عن الطيب صالح، وكتاب عن أمير تاج السر، وكتاب عن إبراهيم إسحق.