الأربعاء، 22 مايو 2024

تيار الوعي في رواية "الدخان" لـ "أبا ذر آدم الطيب"..




    

تفتح الرواية بشكل عام والجديدة بشكل خاص شهوة السرد، ونافذة البوح المهموم بقضايا تتجاوز الذاتية، وانتهاج دروب غير مألوفة تسمح للكاتب أن يرتادها دون خوف، فيكون همه ليس الإطار وإنما المتن الحكائي، تكاد تلمح "أبا ذر الطيب آدم" يخرج إلى الفضاء الرحيب بقلمه ليقدم عالمه الذي سهر في تشكيله مختفيًا، وجاء الوقت ليعلنه في روايته "الدخان" الصادرة عن طفرة للنشر والترجمة والتوزيع القاهرية في طبعتها الأولى عام 2023م.


وقد بدأها بإهداء وتقريظ، راسمًا في إهدائه ملامح أبطال روايته: (إلى من سماحتهم تميزهم، وابتساماتهم تقودك مباشرة نحوهم، أهدي لهم هذه الأسطر لعلها توفيهم القليل. من القلب إلى أسرة الجالية السودانية بمحافظة السويس)، وقد أطلق عليهم "سوايسة أمدرمان"، وغالبًا ما يُنسب "الراحلون" أو "المهاجرون" إلى مكان هجرتهم أو غربتهم وليس العكس، فيقال: "عرب المهجر" أو "عرب النمسا" وغيرها، غير أن المعنى الكامن في رأس الكاتب وصفحات الرواية تفكك الحيلة اللا شعورية الناجمة عن هذا العنوان "المقلوب" عمدًا، وهو أن الانتقال الجسماني من العاصمة التاريخية السودانية "أم درمان" إلى "السويس" المصرية، لم يصاحبه انتقال الروح والرؤيا والرؤية من "درماني السويس" وهو العنوان المفروض والمصاحب للحال، فلم يولوا وجوههم شطر أية مدينة أخرى ولو كانت دار هجرتهم ومقامهم، يدلل على ما أقول العديد من العبارات التي يتضمنها الحوار الذي يدور معظمه حول كثير من القضايا، ووجهات النظر، والتاريخ والجغرافيا، والأحلام والآلام والآمال الساخنة سخونة آثار أقدامهم التي لم تغادر قط رمال أم درمان ودروبها: (ما لكم كيف تحكمون ومعشر المنسيين من سوايسة أمدرمان يشتاقون وأنا أشتاق وأمي تعرف ذلك وعبق البحر والشاطيء يَبينُ ويختفي). [بلد الغريب، ص11].


(أن نجد ضالتنا أن نجد أحلامنا التائهة في صفاء تُحلِّق عاليا ترسو في أمدرمان تتجول فيها تزرع بذور النور بذور الضياء). [الترقب، ص72].


توافقت الخصائص الفنية للرواية الجديدة مع الرؤية الفكرية للكاتب في قراءة الأحداث التي تحيط بأبطال روايته التي تتصل بواقعها المعيش المأزوم من بلد الانطلاق إلى بلد المقام، محملة بمخاوفها وهواجسها وقلقها وخلفيتها الاجتماعية التي لا تطرحها مباشرة، بل تتعامل معها عبر مشاعر متباينة بعيدة عن الذاتية في الرواية التقليدية التي احتفت بالقضايا الكبرى السياسية والاجتماعية، أو قضايا الإنسان مع المرأة والحب، أو قضايا التاريخ.


لقد حدث تحول مركزي في مفهوم الموضوع ذاته، فلم تعد سيرة حياة الإنسان هي الموضوع، وإنما أصبح الوعي بالإنسانية والإنسان وتصوير ضعفه وانهزاماته هو الموضوع، فهذا الواقع هو مع حال إنسان الألفية الثالثة بكل ما يحمله من توترات تهدد وجوده، وصراعات تتحكم في مساراته، وعولمة تطارده أينما حل أو ارتحل، فباتت موضوعات: الاستبطان النفسي، رصد علاقات البشر الداخلية، علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بالآخر، اعتبار الرواية مصدراً وسبيلاً للوعي، القضايا الأكبر لكثير من الروايات. [دكتور محمود الضبع: الرواية الجديدة قراءة في المشهد العربي المعاصر].


لقد حملت عناوين اللوحات أو شئت الفصول أو الموضوعات، دلالات مكانية، وقيمية، وإنسانية، وزمانية، أو زمكانية، لكنها لا تحمل أحداثا فردية، أو أسماء شخصية، فتبدأ من: "بلد الغريب"، "الحرية كما خلقها الله"، "الجمعة المشرقة"، "البحث مستمر"، "وردية ليل"، "قوارب الرحيل"، "الدخان"، "وادى أزوم"، "الاحتواء"، "حرب الأمواج"، "الترقب"، "اجتماع المطر".


يتمحور تعريف تيار الوعي في كونه نمط سردي يتم من خلاله تقديم المحتوى النفسي والذهني للشخصية وفق جملة من التقنيات والأساليب الخاصة، فلا تعتمد روايات هذا التيار على السرد التقليدي، وقد استخدم الكاتب هذه التقنيات ببراعة، مثل: المونولوج الداخلي، والخطاب الحر غير المباشر، والسرد المُجزأ لنقل تيار وعي الشخصية.


كما استخدم الجمل المقتضبة، الموجزة، والموحية، والشعرية سواء في سرد الأحداث، أو في الحوارات، مدعمًا عباراته بتهشيم الزمن عبر انتقاله في نفس السطر من زمن إلى زمن آخر، علاوة على استدعائه تقنيات: الذكريات، الفلاش باك، المونولوج، المناجاة، الأحلام، وأحيانا التداعي.


كما يغلب على "أبا ذر" الانتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم الذي يتوازى مع انسيابية أفكاره، أو ذكرياته حين يحدث نفسه كمن يسير منعزلا عن غيره، ولا سواه معه، ولا يلبث أن ينقلنا إلى الجماعية في عرضه للأحداث فجأة، ثم يلجأ للفانتازيا والغرائبية في قصة "الدخان"، مُقدمًا قصًا ونصًا محكم البناء الفني واللغوي والبلاغي بطول قصص الرواية ككل، عندما أنشأ من كل فصل من فصول الرواية قصة قصيرة تبدو منفصلة النسق غير أنها متصلة السياق مع ما قبلها وبعدها بخيوط تبدو جلية أحيانا وخفية في آن آخر.


تبدأ الرواية من شاطئ البحر الأحمر، عبر الحديث عن الآملين من "سوايسة أمدرمان"، وزمرة المنسيين" سواء السوايسة الذين ينتمون للمدينة ومعهم "الأمدرمانيين" ممن يعيشون بين البحر الأحمر والحياة لنسير في شوارع "بلد الغريب" ثم تنقلنا الأحداث داخل الميكروباص وبعدها إلى صوت القطار، ونسمع تشابك الأصوات بين استنشاق عبق البحر، وبائع الورد بـ "العوايد"، وترانيم القطار، وصوت مؤذن "مسجد الغريب"، ثم الانتقال لحي "الموشي"، وصولا لموقف السيارات العام للمتجه إلى العاصمة القاهرة وغيرها من المدن المصرية، يلازم "الرواي" عبق البحر وريح أمه في جنبات السويس، لينقلنا إلى زحمة الشارع وهو في رحلة الهيام يقوده إحساسه، فينتقل لأم درمان وأغنية الصبا "بلد الخير" معزوفة على أوتار أستاذه أحمد حسن يوسف، لينضم للمنسيين جميعا سوايسة أمدرمان وسوايسة السويس مرة أخرى، والأحداث المتشابكة.


الرواية تخاطب السويسي وتخاطب الأمدرماني، ومن يعيش في السويس سيستغرب هذه الانتقالات المكانية الفجائية الغير متجاورة، والتي لن يفطن لها الأمدرماني، وهو نفس ما سيتواجه به السويسي من جهل بجغرافية الشوارع في أمدرمان، والسودان، كما سيدهش الجميع من هذه التداخلات المكانية والزمانية والسردية، والحوار الداخلي (المونولوج)، والقفز على حواجز أدوات الترقيم، واختلاط الضمائر بين المتكلم، والغائب، والحاضر، والانتقالات الزمنية بين الحاضر والارتداد للوراء والنظرة المستقبلية.


باستخلاص فلسفة تيار الوعي في القص في ارتكازها على: وصف الشخصية من الداخل؛ فالذهن ليس إلا المجرى المستمر للصور والذكريات كما ترى "فرجينيا وولف"، ذلك أن أهم ما يميز رواية تيار الوعي هو تقديم المضمون الجوهري الذي يقدم وعي الشخصية من خلال انسياب الذهن، والاهتمام بالمحتوى أو الموضوع أو المضمون، ويأتي استخدام الوعي كشاشة لعرض ما يدور داخل النفس، تُشكل آلية التذكر فيها أحد المقومات السياقية الرئيسة، التي تعتمد على الاسترجاع واستحضار الماضي الذي يفرض وجوده على الحاضر، حتى صار أن أهم ما يميز كتَّاب تيار الوعي تجاوز المعهود من الكتابة النمطية في الرواية التقليدية.


أصبح التجاور أو التزاوج فيما بين السرد والوصف، والحـوار والضمائر والفعل، والانتقالات المتسارعة بين الأمكنة والأزمـنة تحتويها عبارة واحدة في نفس السطر، وتتم بكل هدوء وانسيابية، فلا يكاد القارئ يلحظ أي انقطاع، مع الحرص الشديد على عدم تشتيت انتباهه، وضياع تركيزه بين هذا السيل من السرد المتراكم، وهو ما نجح فيه الروائي "أبا ذر آدم الطيب":


(أحلامنا الكبيرة والصغيرة التي كادت تشيخ مع هذا التسرع للأيام ونحن جميعًا وكل من عاشرنا وعرف سوايسة أمدرمان، يعلم مدى تمسكنا بها، يعلم قوتها وتشعبها في أعماقنا. أنا لا أقول هذا عبثا، إنما عشناه وعاش فينا. ووادي أزوم الممتد وجبل مرة الباين. سريري يُصدر أصواتا أظنها تَضَجُر، وتخيلتُ عم إبراهيم وسوايسة أمدرمان يسمعون قارئة الفنجان لحليم ويرددون مع الأبنودي شعرًا، ورأيتُ جيوشًا تترامى ترسل أشواقًا في حمامة تزرع نبتًا ترمي لقمًا في قمامة، ورأيتُ فوانيس الأفراح تتسارع فرحًا في الوادي، والنبت يمد أيدي النور حتى أصبحتُ بلا حركة أتنسم عبق اللحظات وسريري يُصْدِرُ أصواتًا). [وادي أزوم، ص56].


تخاطب رواية "الدخان" الداخل والخارج السوداني، في أغلبها، كما تخاطب القارئ العربي، لذا فقد حرص الكاتب على حشد أكثر قضايا الوطن/السودان إثارةً وحوارًا واختلافًا، والنأيَ بنفسه عن أن يعرض أو يفرض وجهة نظره، ومن أجل هذا حشدها بـ "سوايسة أمدرمان"، ومثلما استفاد من المونولوج استفاد أيضا من الديالوج في استدعاء الرواية البوليفونية التي تتميز بتعدد الأصوات تبعًا لتعدد المواقف الفكرية، واختلاف الرؤى الأيديولوجية، والشخصيات، والأساليب، والمواقف، والمنظورات السردية، لتكسر بذلك نمطية الصوت الواحد للراوي المطلق العليم بكل ما يجري من حوله، وهو ما يعني أن "الدخان" رواية ترفض الديكتاتورية وترحب بالتنوع والديمقراطية وحرية التعبير.


تحدد الرواية صفات "سوايسة أمدرمان: (الآملين بكل ما هو أفضل) .. (زمرة المنسيين بين البحر الأحمر والحياة) .. (البحر لنا نغسل فيه وعثاء الأيام، ونبني عليه أملا لمستقبل زاهر).. (الوحيدون هنا كأنكم هناك، أنتم الوحيدون تسبحون مع التيار وعكسه تمرحون والنجوم والقمر ينظرون) ..(وسوايسة أمدرمان يحلمون ويألمون وجماليات لا تنتهي رغم العنت رغم كل شئ)..


برعَ الروائي "أبا ذر" في قنص الشعرية وبثها عبر الكلمات والعبارات، واستدراج القارئ حيث الأسئلة الوجودية الفلسفية، فأفلح أن يسلبه دور "المتلقي" ويمنحه دور "المُشارك"، وأصبحت الرواية بركانًا يتفجر بالتساؤلات، والتعريفات، والتقاطعات، والحوارات الهادئة/الثائرة التي جمعت سوايسة أمدرمان وتستأنس بحكمة "عم إبراهيم السويسي" في بعضها فتُعدِّل مسارات النقاش حول الوطن والوطنية، وجدلية المركز والهامش، والاحتواء، والنهي عن الانشغال بالحروب الذاتية انصرافًا عن بناء الوطن، كما تبين تلك المقاطع مهارة الكاتب في استخدام تقنيات تيار الوعي، وبوليفونية الحوار، والتفاعل مع قضايا الوطن والجدل حولها التي أوردها كرؤوس مواضيع في خطوطها العريضة:


(ثم ارتشفتُ من القهوةِ التي أعدَّها إدريس ففتحتُ النوافذ في رأسي وجدتُ أننا جلوس وأبو بكر خليل يتحدث عن المركز والهامش وقتل الأبرياء ومن هو القاتل؟ ولماذا قتل؟ وعبدالله جروك مقاطعًا، ثم ساد الصمت شربتُ ما تبقى من القهوة دفعة واحدة كأنني أتجرع سمًا زعافًا من منتوجنا المحلي وجروك يصرخ ليست هناك حرية إنه كلام ينطق ولا يفعل، وأبو بكر يشرح وأنا أسرح في كل كلمة قيلت وأبحث عن مرادفها من الكلمات). [بلد الغريب، ص11].


عمد الكاتب إلى مخاطبة الداخل والخارج السوداني بالرموز التي نثرها عبر فصوله، ومنها بل أشهرها: "طائر الحياة ـ أبو الرهيو" وطائر "السمبر" استلهامًا من المثل الشعبي السوداني السائر: (خوة أبو الرهيو مع الكلجو "السمبر")، وما ترمز له من انتهازية "الرهو" وقوة "السمبر"، حين يطلب "خضر" من رفاقه: (تعلموا من طائر السمبر منقاره رمزٌ للقوة رمزٌ للصمود لا ينسى العهود). [اجتماع المطر، ص84).


وقد أتى الراوئي بالمثل في قوله: "خربانة أم بنايا قش"، ويُضرب بأن لا يغتر الإنسان بالدنيا؛ فهي زائلة كالقش، وله عند السودانيين قصة كسائر الأمثال عند غيرهم. وجاء في معرض كلامه:


(شئنا أم أبينا ارتضينا أم لم نرتضِ العالم محيط بنا ونحن على سفينة ربما لا ترسو بين ما يحدث من شد وجذب وتناكف لا يهدأ ولا يهتدي. نعم، يا أوكير نتفق حتى نمضي لنجتمع حتى نرسو لنمد أيدينا بيضاء ليعمنا سلام الأرواح. آه خربانة أم بناين قش). [حرب الأمواج، ص64).


وربما حملت مقدمة فصل "بحر الأمواج" علاقة رمزية بين العنوان وتأرجح السفينة التي ترمز للوطن وبين الأمواج التي ترمز للجدل الذي لا يهدأ، وسُبات سوايسة أمدرمان، "رمزية أخرى"، بينما تتأرجح السفينة وسط تلاطم الأمواج بين كل حدب وصوب. وقد نجح الكاتب في استقدام الحلم/الكابوس كتقنية من تيار الوعي بينت التوتر الداخلي للسارد من خوف على السفينة/ الوطن من الغرق، وتلازم الواقع الذي يعيشه في توتره النفسي الخارجي الذي يحاول أن يتغلب عليه بالإخفاء، فيتسلل كابوسا في حلمه، ويبدو في يقظته حين يحاول إيقاظ سوايسة أمدرمان ومن معه على السفينة غيرهم: (لقد جرفت الأمواج سفينتنا في بحر ضروس لا تهدأ ولا تهتدي. كنت أقاتل وحدي والجميع في سُباتٍ عظيم). [حرب الأمواج، ص65).


لا أريد أن أضفي على "أباذر" صفة الكهانة، وأجعل من روايته مؤشرا للتنبوء بما تفرزه الأحداث الآنية، وكم من رواية سودانية تنبأت! وليس في هذا ما يعيب "الدخان"، غير أن أهم ما اشتملت عليه الرواية، من وجهة نظري، هي تلك الرسالة التي أراد أن يوجهها الراوي ورفاقه من "سوايسة أمدرمان":


(اختلفنا أو اتفقنا يكون الأصل هنا الحب الذي بيننا). [البحث مستمر، ص23).


يؤكد صواب وجهة نظري تلك، ما جاء في ختام صفحات الرواية، بصوت الراوي مخاطبًا البشر عامة، وكل السودانين خاصة: (انبلج الصبح وعدنا نعدو حالمين آملين نملأ الأرض ضجيجًا كقطارٍ نشبه المارد الممتد البحر الأحمر "نَختلف ونتفق نُحِبُ ونُحَب") .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق