منذ أن خرجت الرواية السودانية إلى نور الإبداع العربي في أواخر أربعينيات القرن العشرين، ولم يزل صانعها مناضلا يقاوم العديد من التحولات المتسارعة والتحديات المعاصرة، إيمانا منه بأن السودان تستحق أن يكون لها مكانا ومكانة في دنيا الإبداع بشكل عام والإبداع الروائي بشكل خاص، وقد أثمر النضال والثبات أن خرجت أجيال من الروائيين أشهرهم الروائي الراحل الطيب صالح، ولعل هذا المقال يسهم في تجميع ـ بقدر الإمكان ـ التحديات أمام القارئ العربي والسوداني أيضا، للالتفات لهذا الإبداع الثري والتواصل معه والوقوف على العقبات التي تحول دون انتشاره بشكل أكبر وأروع، والمساهمة أيضا في وضع الحلول لإزالتها عربيا وسودانيا، وفي نفس الوقت الوقوف على الإنجازات التي حققها الروائي السوداني على الرغم من هذه التحديات.
إن أول التحديات التي تقابل الروائي السوداني هي لغة الكتابة؛ فاللغة العربية هي اللغة الرسمية في السودان، غير أن هناك أكثر من (114) لغة أصلية في السودان، ومن بين هذه اللغات المتعددة يوجد أكثر من خمسمائة لهجة مميزة. وقد أدى ذلك إلى ولادة العديد من المجموعات الثقافية والعرقيات، وهو ما عبر عنه الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن بأن اللغة تؤدي دور الممتحن الأول للكاتب السوداني، فاللغة التي يفكر بها الكاتب هي لغة المخاطبة اليومية ولغة حياته الشخصية والعامة، أي لغة المكان والزمان وهذه اللغة في السودان هي العاميات السودانية المشتقة من اللغة العربية ولهجاتها وكثير من اللغات المحلية والقبلية وصلة الأديب السوداني باللغة العربية الفصحى في الغالب هي صلة تعلم مدرسي، وأحياناً صلة عمل..
وعندما يبدع كتابيًا، مطلوب منه أن يفكر بلغة ويكتب بأخرى، بالتالي يعاني ذلك المخاض التحويلي الهدمي البنائي الذي يعمل على مستوى الصورة والفكرة والإحساس بالشيء، وفي كل أعماله تقريباً يجمع بين اللهجة السودانية واللغة العربية الفصحى، لأن هذا الجمع يخلق مصداقية للعمل ولكن في الوقت نفسه اللهجات السودانية تقف عائقا أمام الكثير من القراء ولذلك يحاول الكتابة باللغة العربية الفصحى.
يشكل تحدي أزمة الهوية أمام الروائي السوداني امتدادا معاصرا من جذور سبقت؛ فقد وجدت الرواية السودانية نفسها في القلب من إشكالات الهوية منذ انبلاج فجرها مع رواية عبد الله الطيب الرائدة "نوار القطن"، وفي رواية تاجوج ـ أولى الروايات السودانية صدورًا ـ لعثمان محمد هاشم حسبما يرى دكتور هاشم ميرغني، وحسبما يلخصه الناقد أحمد عبد المكرم بقوله: (إن مأزق الهوية والانتماء ظل واحدًا من أكثر تجليات الإبداعية وضوحًا في خطاب القص السوداني المعاصر)، بينما يرى ناصر السيد النور أن الرواية السودانية مستقرة ربما ضمن منظومة هويتها السائدة والمهيمنة منذ بدايتها أو ما يعرف بأعمال الرواد ولم تنفصل عن مسار الرواية العربية عمومًا وإن تفاوت تطورها في الدرجة والمضمون.
كما تمثل مشكلة النشر تحديا كبيرًا أمام انتشار أعمال الروائي السوداني، ويبدو هذا واضحا في الفاصل الزمني بين تاريخ كتابة الرواية، وتاريخ نشرها التي يُرجعها البعض لتعقيدات روتينية حكومية، وقلة دور النشر، مع تكاليف الطبع الباهظة الناتجة عن ارتفاع الرسوم الجمركية على مستلزمات وخامات صناعة الكتب، مع غياب استراتيجيات التسويق، لقلة منافذ التوزيع وعدم القدرة على توزيع الكتب خارج السودان والمشاركة في المعارض العالمية، كما تشكل الرقابة على الأعمال المقدمة للنشر لإجازتها تحديًا آخر، يضاف لما يعانيه الروائي السوداني من مشكلة القرصنة واستلاب جهده في ظل عدم فعالية القوانين التي تحمي حقوق النشر، الأمر الذي يضطره إلى النشر خارج السودان فرارًا بإنتاجه.
تشكل ترجمة الأعمال الروائية تحديًا يعوق وصول الرواية العربية بعامة والسودانية بخاصة للعالم، وعلى الرغم من أن اللغة العربية لغة عالمية، لكونها إحدى لغات الأمم المتحدة، إلا أن الرواية المكتوبة بنفس اللغة دون ترجمة الجيد منها للعديد من اللغات الحية سيجعلها مهملة، وهو ما يحتاج لتدخل الجهات المعنية ممثلة في وزارة الثقافة السودانية، من خلال خلق أجواء جيدة توفر للكاتب سبيل الإبداع بينما تتولى هي الطباعة والنشر والترجمة، وتحفيز عجلة النقد لها.
إن أكثر ما يدهشني وأنا أتابع ملف الرواية السودانية أو بالأحرى نضال الروائي السوداني وإصراره على الكتابة على الرغم من التضييق عليه وملاحقة أعماله بالمصادرة وعدم النشر، مما يضطره إلى الخروج من بلاده إيمانًا منه بقيمة ما يبدع، والنجاة بإبداعاته لترجمتها ونشرها، ومنهم المغترب عن السودان في دول الوطن العربي والأوروبي وينشر أعمال تتمحور حول قضايا بلاده، التي يتابعها وإن نأى عنها فهي مسكونة فيه أو روحه مازالت تحلق في شوارعها وحقولها، وتراثها وسحر واقعها الذي يفوق الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية.
لكن هذا ليس كل ما يدهشني بل أن المبدعة السودانية منذ تعرفها على فن الرواية في الجيل الأول، إلى وقتنا هذا، قد أخرجت أعمالا فيها من التنوع والثراء والالتزام والتجديد، بل الطموح للتحليق فوق ما أبدع الطيب صالح نفسه، وهو ما يعني أن سقف طموحاتهن لا يعرف التوقف، ومنهن من بقيت في السودان، ومنهن من ولدت خارجها، ومن خرجت منهن إلى القارة الأوروبية وتركت فيه بصمتها، مثلها في هذا مثل الروائي السوداني، وحققوا جميعا إنجازات يضيق عن رصدها مساحة المقال.
ترى القاصة والروائية السودانية سارة حمزة الجاك أن الرواية السودانية تشكلت على غرار الرواية المصرية، وأخذت منها شكلها العام، لكن ذلك لا يمنع أن مصادر الرواية السودانية متعددة ومختلفة المصادر الواضحة والمعلومة للجميع، ومنها الخفي الذي لم يضع النقد يديه عليه مباشرة، كالباراسيكولجي السوداني الذي تعيشه الشعوب السودانية في حياتها اليومية. ومن جانب آخر تمكنت الرواية السودانية من الإضافة إلى الميراث الروائي العظيم للطيب صالح كمًا وكيفًا، فالموضوعات والقضايا المطروحة فيها الآن ذات جدة، لم يتناولها الطيب صالح، كما أن اتساع رؤية الروائيين للعالم والكون جعلهم يطرقون عوالم جديدة وثرية ربما لم يتعرض لها الطيب صالح، حتى أن الذرة والنواة تحولت عن روائيين إلى عوالم حاوروها وأنشأوا معها رواياتهم الخاصة.
كما ترى الروائية والشاعرة والكاتبة السودانية آن الصافي أن التحديات محركة لأرضية منظومة الكتابة والتلقي، وهناك الكثير من المواضيع التي يجب التطرق لها، والإبداع هو واجهة المجتمعات، لتتاح الفرص للكتابة بحرية والتلقي بموضوعية.
لقد صعدت أسماء كتاب وأعمال روائية سودانية إلى المشهد العربي والعالمي، وأن الرواية في السودان في صعودها التأسيسي المتقطع بدأت تجني الآن ثمار بذرتها التكوينية، التي ستقود حتمًا خلال السنوات المقبلة إلى نمو شجرة هذه الرواية، وإيراقها وإزهارها فيما يمكن أن أصفه بالموجة الأخيرة، التي سيكون مسماها "الرواية السودانية" بحسب رأي الروائي منصور الصويم، وهي تجربة الأجيال القادمة المزودة بخلاصة تجارب الأولين الحذرة، ومغامرة الأخيرين العنيفة والمتفجرة.
لقد ظهر في الأونة الأخيرة بعض الروائيين والروائيات في تاريخ الرواية السودانية الحديثة، منهم: أمير تاج السر، ومحمد الحسن البكري، ومحسن خالد، وآن الصافي، وحمور زيادة، والزين بانقا، وسارة الجاك، ومحمد خير عبدالله، وعماد براكة، وعمر الصايم، وعماد البليك، ورانية مأمون، وهشام آدم، وكلتوم فضل الله، وأميمة عبدالله، وياسين سليمان، ومن نفس جيل تاج السر، الروائية ليلى فؤاد أبو العلا، التى وُلدت فى القاهرة عام 1964، وتكتب رواياتها بالإنجليزية لإقامتها فى بريطانيا، وقد حصلت على "جائزة كين العالمية للأدب الأفريقى"، وفازت الروائية ريم جعفر بجائزة "الجزيرة" للرواية الإفريقية" عام 2023 لتكون أول كاتبة سودانية تترشح وتفوز بالجائزة، وفازت أيضا رواية "المنظرون" للكاتب أباذر آدم الطيب في "مسابقة دار ديوان العرب للنشر والتوزيع" بجمهورية مصر العربية.
تشهد الأرقام المستخرجة من "ببليوغرافيا الرواية السودانية 1948-2015" للناقد والقاص والصحفي نبيل غالي، رحلة تحديات ومثابرة الروائي السوداني على مواجهتها واجتيازها في صبر ودأب من أجل تحقيق مشروعه الإبداعي، وإحداث تراكم كمي وكيفي يضاف لإنجازات الرواية السودانية، حيث صدرت خلال هذه الفترة (476) رواية، كان من نصيب الأديبة السودانية منها (51) رواية، وحظرت الرقابة (10) روايات، وفازت (26) رواية بجوائز محلية وعربية، وتُرجمت (9) روايات للغات عالمية، وتحولت روايتان فقط لفيلمين سينمائيين، وتعرَّض النقاد العرب بالنقد والتحليل لـ (21) رواية ضمن كتبهم النقدية، بينما صدرت (8) كتب نقدية عن الطيب صالح، وكتاب عن أمير تاج السر، وكتاب عن إبراهيم إسحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق