الأحد، 23 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (16):







مع الحلقة السادسة عشر نمضي مع دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ونستكمل أحداث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وأحداث حجة الوداع:

لم تكن مكة بمنأى عمَّا يحدث بالمدينة الحزينة من وقع الهول العظيم؛ فقد أفقد وقع الصدمة عليهم وعي بعضهم ففعل ما فعله عمر وظنوها فرية منافق، أو قول حاقد غير أن “سهيل بن عمرو” كان لها كأبي بكر الصديق فوأد الفتنة في وقتها، فقام على باب الكعبة وصاح بالناس فاجتمعوا إليه فكان مما قال: (كنتُ أعلم أن هذا الدين سيمتد من طلوع الشمس إلى غروبها).

فقالوا له: ومن أين علمت؟!

قال: (إني رأيتُ رجلًا وحيدًا لا مال له ولا عز ــ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم ــ قام في ظل هذا البيت فقال: “إني رسول الله، وإني سأظهر”، فكنا بين ضاحكٍ وهازل وراجمٍ ومستجهل، فما زال أمره يَنمىَ ويصعد حتى دِنّا له طوعًا وكرهًا، والله لو كان من عند غير الله لكان كالكسرة في أيدي أي فتى من فتيان قريش).

نعم كان وقع المفاجأة على نفوس المؤمنين قويًا عظيمًا، فلا تزال ذاكرتهم تعي وتحفظ خطبته صلى الله عليه وسلم التي رددت سماء مكة صداها في الأفق حتى وعتها جبالها ورمالها وكل الصحابة المائة والأربعة وأربعون ألف الذين وطئوا تلك الرمال وحجوا معه صلى الله عليه وسلم حجته الأخيرة في السنة العاشرة من الهجرة، وكان من رحمة رسول الله بهم أن ذكر نبأ رحيله تلميحًا في خطبته كي لا ينزعجوا عند وقوعه، وكان هذا من معجزاته فأنه لم يلقهم بعد عامهم هذا حيث قال صلى الله عليه وسلم:

’’أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، وَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلَّغْتُ. فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ؛ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ، قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ لا رِبًا وَإِنَّ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ بَنُو هُذَيْلٍ، فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ سورة التوبة آية 37 وَيُحَرِّمُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ سورة التوبة آية 36 ثَلاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، وَعَلَيْهِنَّ أَلا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنِ انْتَهَيْنَ؛ فَلَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ لا يَمْلِكْنَ لأَنْفُسِهِنَّ شَيْئًا، وَإِنَّكُمْ إِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ.

فَاعْقِلُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاسْمَعُوا قَوْلِي؛ فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ ، وَتَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ بَلَّغْتُ وَاعْقِلُوهُ؛ تَعْلَمُنَّ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ إِخْوَةٌ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إِلا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَلا تَظْلِمُوا أَنْفُسَكُمُ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟’’، قَالَ: فَذُكِرَ أَنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:’’اللَّهُمَّ اشْهَدْ’’.

لم يزل المسلمون يتذكرون بكاء عمر عندما أنزل الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم في يوم عرفة الموافق يوم الجمعة قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [سورة الأنعام: (115)]. فقيل له: ما يبكيك؟ قال: “أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذا أُكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص”، وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي صلّى الله عليه وسلّم قريبا.

كما روى ابن أبي شيبة عن هارون بن أبي وكيع عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾، قال: يوم الحج الأكبر، قال: فبكى عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’ما يبكيك؟’”، قال: يا رسول الله! أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فإما إذا كمُّل فإنه لم يكملْ قط شيءٍ إلا نقص، قال: ’’صدقت’’.

قال جابر رضي الله عنه: رأيتُ النبي صلّى الله عليه وسلّم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ”لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه“[مسلم برقم: 1297].

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر بين الجمرات… وقال: ”هذا يوم الحج الأكبر“ وطَفِق النبي يقول: ”اللهم اشهد“ وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع [البخاري برقم: 1742].

وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب في حجة الوداع ثلاث خطب: خطبة يوم عرفة، والخطبة الثانية يوم النحر في منى, والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة، لم تزل تضمخ آذانهم.

ولئن سرى في بعضهم الإحساس بدنو رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إنهم لم يكونوا يتوقعون حدوث هذا سريعًا، فبين حجة الوداع ووفاته صلى الله عليه وسلم ليس إلَا ثلاثة أشهر، لا تعطى إحساسًا صادقًا لمتوقع بقرب النهاية، ولهذا حتى عمر الذي سمع الآية ذاتها، بل وسمع سورة النصر كذلك وعلم تفسيرها الصحيح هو وبعض من الصحابة المقربين من عمر رضي الله عنه من ابن عباس رضي الله عنهما، إلَّا أنهمً كانوا في خبيئة نفوسهم يستبعدون سرعة تحقيقه، لأنهم فهموا من التفسير أن هذا وإن كان لابد حادث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم فلم يفترضوا له زمنًا، ولم يتمنون حدوثه أبدا لحبهم لرسول الله.

كما أن الصحابة أخذوا يفسرون آيات السورة تفسيرًا ظاهريًا؛ فقد كان الفرح والبشر والثقة تشيع في الزمان والمكان تملأ النفوس حيوية وانبهارًا. فقد كان الصحابة كما يقول خالد محمد خالد في كتابه “عشرة أيام فى حياة الرسول”: (لم يكونوا يعلمون أن الرسول نُعي إلى نفسه .. فحتى الذين تليت عليهم سورة النصر، لم يفهموا منها ما فهمه أبو بكر، وعمر، والعباس رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين، لم يكونوا يدرون إلا أنهم في مهرجان عظيم، يحتفلون فيه بانتهاء مناسك الحج كما ينعمون بنصر الله وفضله).

فقد روى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي، عن ابن عمر أنه قال:”نزلتْ هذه السورة ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع فأمر براحلته القصواء فرحلت ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم [أخرجه البزار، والبيهقي في السنن الكبرى وفي دلائل النبوة ، وعبد بن حميد في مسنده].

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سألهم عن قول الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، قالوا: فتح المدائن والقصور، قال: فأنت يا بن عباس ما تقول: قلت: مَثَلٌ ضُرِّبَ لمحمد صلى الله عليه وسلم نُعِيتْ إليه نفسه.

حدثنا ابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جُبيرعن ابن عباس،أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُدنيه، فقال له عبد الرحمن: إنَّ لنا أبناءً مثلَه، فقال عمر: إنه من حيث تعلم، قال: فسأله عمر عن قول الله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ السورة، فقال ابن عباس: أَجَلَهُ، أعْلَمَهُ الله َإياه. فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم.

حدثنا ابن حُميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس، قال: قال عمر رضي الله عنه : ما هي؟ يعني﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، قال ابن عباس: إذَا جاءَ نَصُرُ اللّهِ حتى بلغ: وَاسْتغْفِرْهُ إنك ميت إنّهُ كانَ تَوّابا، فقال عمر: ما نعلم منها إلا ما قلت.

قال: حدثنا مهران عن سفيان عن عاصم, عن أبي رزين عن ابن عباس قال: لما نزلت ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾، علم النبيّ أنه نُعِيتْ إليه نفسه، فقيل له: إذا جاء نصر الله والفتح إلى آخر السورة.

حدثنا أبو كرَيب وابن وكيع قالا: حدثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جُبير،عن ابن عباس, قال: لما نزلت ﴿إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:’’نُعِيَتْ إليّ نَفْسِي، كأنّي مَقْبُوضٌ فِي تِلكَ السّنَة’’.

حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، في قوله : ﴿إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ﴾، قال: ذاك حين نَعَى له نفسه، يقول: إذا رأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلونَ فِي دِينِ اللّهِ أفْوَاجا يعني إسلام الناس، يقول: فذاك حين حضر أجلُك فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كانَ تَوّابا.

نعم بكى عمر وهو يسمع آية الإكمال والإتمام وأحس بفراسته دنو أجل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا لمَّا تحقق نسىًّ؟

يقول الشيخ ناصر الدين الدمشقى في كتابه “سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم”: (نظر عمر إلى سُنة الله تعالى من نقص الشيء بعد كمال ازدياده، وعلم أن نقصان الدين هو موت خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فبكى لذلك وازداد نحيبًا، ووقع ما علمه عمر قريبًا، لكنه خفى عليه لما وقع بعد أيام، لينفرد الصديق بالتصديق قائمًا ذلك المقام).

بعون الله نلتقي مع الحلقة التالية من دراسات يسيرة في رحاب السيرة، على خير أودعكم وعلى الخير ألقاكم.. دمتم في أمان الله.

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (15):





مع الحلقة الخامسة عشر نعيش في أجواء من الحزن المتتالي على فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم عبر العديد من المواقف التي سيتم تناولها بأسلوب جديد على مدى الحلقات المتتالية، نبدأها مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم واختياره للرفيق الأعلى بجوار ربه تعالى: 


اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى، والمسلمون قد هالهم وقع الخبر فتلقوه بين مصدق له ومكذب، فالجزيرة وإن خلت من الشرك إلا أن الدولة الإسلامية مازالت فى أول عهدها، والإسلام لم يخرج من حدودها ليملأ آفاق الأرض، وهم قد تعودوا مقامه بينهم صلى الله عليه وسلم، ولم تحدِّثهم أنفسهم آنفًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيغادرهم يومًا، برغم أن خطبته فيهم بعد ظهر الأربعاء السابق على وفاته بخمسة أيام قد أعلن فيها نبأ رحيله عن الدنيا، فقال صلى الله عليه وسلم: ’’إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده’’. 

لم يستقبل رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صديقه الصدِّيق أبا بكر رضي الله عنه، فقد كان أفقه الصحابة رضوان الله عليهم وأعلمهم بمرامي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وفحواه، فلم يفهموها إلا بظاهرها بأنها بشرى لرسولهم بزهرة الدنيا حتى أنهم تعجبوا من بكاء الصديق الذي أحسن تأويلها فبكى، فقد قال أبو سعيد الخدري: “فبكى أبو بكر، وقال: (فديناك بآبائنا وأمهاتنا)، فعجبنا له، فقال الناس: 
(انظروا إلى هذا الشيخ، يخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا). فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخبر وكان أبو بكر أعلمنا” [ صحيح البخارى 1/516]. 

ولهذا استهول عمر بن الخطاب وقع الصدمة بفراق الحبيب فهب مزمجرًا متوعدًا كل من تُسوِّل له نفسه ترديد مثل هذه الأراجيف، قائلاً :”إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات”. 

أما علي بن أبى طالب فقد أقعدته الصدمة فلم يعرف ماذا يفعل أو يقول، ولم يكن حال عثمان بن عفان أحسن حالاً من علي فقد ترك نفسه كالطفل الذي يؤخذ بيمينه حيثما وجهته توجه فلا تعرف من ملامحهما أصدَّقا النبأ أم كذباه. 

ولم يكن الصديق رابط الجأش إلا أمام الناس، أمَّا أمام وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فيبكي البكاء الثخين، فقد أقبل رضى الله عنه على فرسه من مسكنه حين علم بالخبر فنزل ودخل إلى المسجد دون أن يكلم أحدًا، ثم دخل على عائشة ابنته فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مغشي بثوب حَبِرَة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، فقبله وبكى، ثم قال: “بأبي أنت وأمي، لايجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التى كتبت عليك فقد مِتَّهَا”. 

ولم يلبث أن خرج ولا زال عمر على حاله يكلم الناس دَهِشًا مذهولاً، فخاطبه أبو بكر: “اجلس يا عمر”، فأبى عمر أن يجلس، فتشهد أبو بكر، فأقبل الناس إليه، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: 
(أما بعد، من كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، قال الله : ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [سورة آل عمران: (144،145)]. إن الله عَمَّرَ محمدًا صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلَّغ رسالة الله وجاهد في سبيل الله ثم توفاه الله على ذلك، وقد ترككم على الطريقة فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشفاء؛ فمن كان الله ربه فإن الله حَيٌ لا يموت، ومن كان يعبد محمدًا ويُنزله إلهًا فقد هلك إلهه؛ فاتقوا الله أيها الناس، واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فان دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومُعزٍ دينه، وأن كتاب الله بين أظهرنا، وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفيه حلال الله وحرامه، والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغينَّ أحد إلا على نفسه)، ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

قال ابن إسحاق: قال الزهري: وحدثني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: “فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ، وأخذها الناس عن أبي بكر، فإنما هي في أفواههم”. 

وقال عمر: “والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرتُ ــ أي: تحيرتُ ودهشتُ ــ حتى وقعتُ إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات”. 

وقال ابن عباس: “والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها”. 

وواقع الأمر أن ما يُحْسَب لأبي بكرٍ الصديق هو حسن استهلاله واستشهاده بالآيات البينات القاطعات بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس إلا بشرًا من البشر وإنْ اصطفاه الله نبيًا تجري عليه مشيئته كما جرت على من سبقوه من الأنبياء ومن البشر الذين ماتوا قبله والبشر الذين سيموتون بعده، وأن رسول الله الأحبُ لله منكم كتب عليه الموت حبًا وحكمًا، ليرُدَ المسلمين إلى إيمانهم الصادق الخالص بالله ورسالته التي بلَّغها لهم نبيهم، ليكون إيمانهم المطلق بالله الباقي الحى الذي لا يموت سبحانه، ومن ثم ينفي الخلود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت آيات القرآن وهو كلام الله بذلك، لتعود لنبينا محمدٍ بشريته التي أكد عليها القرآن الكريم وأكد عليها مرارًا وأبدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لينفي حتى بموته أي محاولة ترفعه عن هذا، وهنا تتجلَّى روعة الإسلام الَّذي رَقىَ أتباعه من التعلُّق بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التعلُّق بالمُرسِل عز وجل ومصدر الرسالة، فكانت صلتهم بالله تعالى صلة وثيقة يتطلَّعون إليها، وعروة وثقى عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم وبين خالقهم فتمسَّكوا بها. هكذا استطاع الصديق أن يهدأ النفوس المروَّعة الملتاعة وأولهم عمر، ولو لم يفعل غير الذي فعل لربما كانت تلك اللحظة لحظة فارقة في تاريخ الإسلام والمسلمين. 

ولهذا قال القرطبي: (هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجراءة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم, فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم عمر، وَخَرَسَ عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح) [تفسير القرطبي (4/222)]. 

ناقش العقاد في كتابه “عبقرية الصديق” أثر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في تباين ردود أفعال الفاروق والصديق رضي الله عنهما، فقال: 
(في حياة الصاحبيْن موقف من المواقف النادرة التي يظهر فيها الرجل كله، ولا يتفق في التجارب النفسية أن يواجهها الإنسان مرتين في حياته، وهو الموقف الذي فاجأهما بموت النبى عليه السلام. ليس للصاحبيْن غير صديق واحد بمنزلة محمد عندهما من المحبة والتّجلَة، وهما لايروَّعان كل يوم بنبأ فاجع يسوءهما كما يسوءهما نبأ موته وانقضاء عشرته والأنس بقربه. فالموقف نادر، والبلية به خليقة أن تبتلي الرجل في كل ما ينطوي عليه من بديهة وروية .. وابتلى به عمر فغضب غضبته المرهوبة وصار بالنعاة يتوعدهم ليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن محمدًا قد مات. غضب غضبة الرجل المملوء بقوته وحميته، الذى لم ينبهه منبه قط إلى ترويض غضبه والمبالاة بعواقب ثورته، وكأنما قام فى دخيلة نفسه أنه يستكثر حتى على الموت أن يجتريء على الصديق الذي يحبه ذلك الحب، وَيُجلَّه تلك التجلة، ويعتقد فيه تلك العقيدة، وينتظر حتى من الموت أن يتحامى جانب ذلك الصديق، ويرعى له حرمة لايرعاها لسائر الأحياء). 

يكمل العقاد، فيقول: 
(وأبو بكر يحب محمدًا كما يحبه عمر، ويأسى لفراقه كما يأسى ، ويرفعه مثله درجات فوق مقام الأحياء من قبله ومن بعده، ولكنه رجل رَاضَ نفسه وقمع حدة طبعه ، وعرف الصبر على ليس مايدفعه دافع ولاتغنى فيه حيلة، فإن كان تسليم فهذا أحق المواقف بالتسليم وأولاها بطول ما ارتاض عليه من صبر، وما تأهب له من أسوة. بذلك أدى كل من الرجلين ضريبة طبعه ومزاجه الذي لا معدى له عن مطاوعته والاستجابة لدواعيه. ثم زالت الغاشية الأولى. فظهر الرجلان في حالة القرار كما ظهرا في حالة المفاجأة: ظهر أن عمر لم يكن كله ثورة، بل كان فيه إلى جانب الثورة روية تفرغ للأمر في أحرج أوقاته، وظهر أن أبا بكر لم يكن روية كله، بل كانت فيه إلى جانب الروية مطاوعة لسليقة الحب والألفة قد تشغله عن العواقب إلى حين). 

يعلق الراحل أحمد ديدات في كتابه “الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم” على ردود أفعال الصحابة رضوان الله عليهم وعدم استجابتهم لحدث وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إن أعظم موقف يدل على عظمة الرجال الذين صنعهم صلى الله عليه وسلم في حياته هو موقفهم عند موته. لم يصدق أحد من الصحابة أن رسول الله قد مات. كيف ذلك؟ وهل ينقطع النور الواصل من السماء والأرض عن طريقه؟ وماذا سيفعل المسلمون من بعده؟). 

في الحلقة القادمة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نستكمل آثار هذا الحدث الجلل في وقعه على قلوب المسلمين في مكة.. فأودعكم وألقاكم على خير .. 

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (14):




مع الحلقة الرابعة عشر نمضي في دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ونستكمل نصيحتنا لمن أساءوا لشخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “اعرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تسيئوا له):

ياليت من أساءوا سمعوا وتأملوا ماقاله الكاردينال “ترانكون” مطران مدريد ورئيس أساقفة أسبانيا فى افتتاح الملتقى الثانى لجمعية الصداقة الإسلامية المسيحية:

(كيف يستطيع المسيحي أن يقدِّرَ الإسلام والمسلمين، دون تقدير نبيهم والقيم التى بثها ولا يزال يبثها في حياة أتباعه؟ إن ذلك سيكون دليلًا على عدم المحبة، وعلى عدم احترام هؤلاء المسلمين الذين يجب أن ننظر إليهم بعين التقدير. أليس الإصغاء إلى ما تقوله العقيدة الإسلامية عن محمد هو أحسن سبيل إلى الاقتراب بكل احترام ومودة من إخواننا المسلمين، لن أحاول هنا تعداد قيم نبي الإسلام الرئيسية الدينية منها والإنسانية، فليست هذه مهمتي، غير أني أريد أن أبرز جانبين إيجابيين ـ ضمن جوانب أخرى عديدة ـ وهما: إيمانه بوحدة الله، وانشغاله بالعدالة: أما إيمانه بالله الأحد فهو سمة رسالته وحياته، أنها أهم عقيدة تركها لأمته؛ فالشهادة بوحدة الله وجلاله هي إحدى القيم الإنسانية التى لا تزال حية في عالمنا) [فاروق شوشة، العلاج بالشعر وأوراق أخرى، دار المعارف، القاهرة،1982م، ص 72ـ73].

وأضاف الدكتور “نوجا ليس” الرئيس المسيحي للجمعية وعميد كلية الآداب:

(أن محمداً ليس إنساناً أي إنسان، بل هو إنسان أثرىَ بالقيم الإنسانية والدينية التى تركت أعمق الأثر فى التاريخ . إنه واحد من هؤلاء الرجال الذين خصصهم الله لدعم القيم الدينية والروحية للإنسانية . إن محمدًا له من الأبعاد الإنسانية والتاريخية ما يستحق معه احترامنا وتقديرنا . خاصة إذا أخذنا في الاعتبار تاريخه بكل أبعاده وسعته على أنه تاريخ الخلاص، ولكى نقيَّم نبي الإسلام يجب علينا أن ننطلق من عامل أساسي وهو أنه بالنسبة للمسلمين ليست هناك قيم إسلامية لا تتعلق بمحمد. وطبقًا للدين الإسلامى فإن محمدًا هو الرجل الذي اختاره الله لكي ينقل قيم الإسلام. كما أن الاستجابة التي ينتظرها الله من المؤمنين هى الاستجابة الإسلامية، والتي ليست في جوهرها أكثر من الاستسلام الكامل لله. لذلك لا يمكن احترام وتقييم الإسلام والمسلمين تاركين محمدًا جانبًا فهو مفتاح كل القيم الدينية والإنسانية، لقد حانت اللحظة لتغيير العقلية تجاه محمد وما يمثله بالنسبة للمسلمين. إن محمدًا ـ كما يعتبره المسلمون ـ هو المثل والمثال لكل الفضائل الإسلامية وهو الذى يلهم القيم السامية. وهم يكادون لا يقبلون فضيلة غير موجودة به ومحمد مثال المسلم الكامل والمؤمن الكامل الذي يسلم لله، ويجب على المسيحي أن يعترف بقيمة محمد هذه بالنسبة للمسلمين. اليوم لا يجوز الإساءة إلى نبي الإسلام كما حدث في الماضي لأن ذلك ضد محبة القريب، وضد احترام العقائد والحياة الروحية للآخرين، وضد التعايش الجماعي بين الطوائف المختلفة في المجتمع الحديث) [المصدر السابق ص 74ـ 75].

وضع المستشرق فرنسي دي سلان ماك غوين، (1810ـ 1879) فهرس المخطوطات الشرقية، وترجم لمقدمة ابن خلدون، والتي تكلم فيها عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في إطاره التاريخي، والشريعة الإسلامية السمحاء، فوجده متقدمًا على أقرانه من الرسل ، ووجد الإسلام متميزاً عن باقي الشرائع، فيقول : (إن العرب أمة تمتاز بكثير من الصفات، ولها دين جامع شامل، لا يعيبه إلا من يجهله، وصاحب دينهم محمد الفقير، وقبل أن نعرف الدين يجب أن نعرف من أتى به، وحقًا أقول ليس كمحمد في سلسلة الأنبياء، ولا كشريعته في سلسلة الشرائع، لا نبالغ إذا قلنا إن محمدًا خير من أتى بشريعة، ولقد وقف في وجه الطغاة من قريش، حتى أتم ما أراد، وبلغ منتهى الطريق الذي سلكه وعمل له، وإذا به وبشريعته يتمتعان بذكر عاطر وحديث حسن، وليس باستطاعتنا أن نثير عليمها غبار الانتقاص).

اهتم المستشرق السويسري “ماكس فان برشم” ( 1863ـ 1921) بدراسة الإسلام منذ كان يعد موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه، وعنوانها: “ضرائب الأراضي في الإسلام” فى لا يبزج بألمانيا، وهو دارس للغتين الأكادية والعربية، وله اهتمام بالنقوش والدراسات العربية، كما كان له أكثر من خمسة آلاف صورة عن الآثار الإسلامية التي يحتويها اليوم أرشيف متحف مؤسسة ماكس فان برشم في مدينة جنيف موطنه. يذكر ماكس برشم فى معرض حديثه عن دور النبي محمد صلى الله عليه وسلم التاريخي العظيم في حياة العرب والشعوب التي دخلت في الإسلام، فارتقت من وهاد الضلالة إلى معارج النور والحضارة، يقول في كتابه: “العرب في آسيا”: (أن محمدًا نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية، وأن ظهور محمد للعالم أجمع إنما هو أثر عقل عال، وإن افتخرت آسيا بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم، إن من الظلم الفادح، أن نغمط حق محمد الذي جاء من بلاد العرب وإليهم، وهم على ما علمناه من الحقد البغيض قبل بعثه، ثم كيف تبدلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة، وبالجملة مهما ازداد المرء إطلاعًا على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مستوى الإنسان، إنه لا يجوز أن ينسب إلى محمد ما ينقصه، ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل ويعلم سبب محبتهم إياه و تعظيمهم له).

يقول الباحث الإنجليزي لايتنر في كتابه: “دين الإسلام”: (إني لأجهر برجائي بمجيء اليوم الذي به يحترم النصارى المسيح احترامًا عظيمًا وذلك باحترامهم محمدًا، ولا ريب في أن المسيحي المعترف برسالة محمد وبالحق الذي جاء به هو المسيحي الصادق).

هل قرأ من أساء قول الدكتور الفرنسي فارنند برودال: (إن التهجمات ضد محمد أو ضد القرآن, هي ولا شك أقل حجة وإقناعًا من إلحاح المسلمين وتركيزهم على إنسانية المسيح. وهي طريقة لإنكار إلوهيته ورفض التثليت والتي بمفردها تعد نفيًا لوحدانية الله) [مقدمة كتاب “المورسكيون الأندلسيون والمسيحيون: المجابهة الجدلية للدكتور الفرنسي لويس كاردياك، ص16].

ليتهم سمعوا كلام عقلائهم لأراحوا واستراحوا، فهل من حرية التعبير أن يعتدوا على ما يعتقده الغير وخاصة الإسلام وعلى وجه الخصوص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم العف الحليم الودود؟!

لقد صدق العقاد عندما يقول: (إن تصوير إنسان مقدس بالصورة التي تنزع عنه القداسة أيسر جدًا من عناء الدراسة في نقض العقائد وإدحاض الأفكار، إنها مهارة رخيصة تنجح بقليل من الجهد، إذ تعتمد على سهولة الإصغاء إليها في طبائع الجهلاء والأغرار، ولكن خبرًا صادقًا عن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ينكشف للإنسان الغربي فيهدم مئات الأخبار الكاذبة التي لفقها المبشرون) [ما يقال عن الإسلام، ص 207].

ومن الآن فليكن شعارنا ـ كمسلمين في كل مكان ـ إننا نعبد الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يعنى هذا أننا نشتري العداوات أو نفرض على غيرنا ديننا بالإكراه، وكما يقول الشيخ محمد الغزالي في كتابه: “هموم داعية”: (فليعبد من شاء ماشاء! وليتركنا تحت شعار التوحيد نحيا وإلى نهجه ندعو. ليست الإنسانية المزعومة أن تجمع الواحد الذي أؤمن به مع الثلاثة التي تؤمن بها فيكون الحاصل أربعة، يؤمن كل منا بأثنين على التساوي، وبذلك تتحقق العدالة! هذا أيضًا جنون، الإنسانية المحترمة أن أظل على وحدانيتي، وتظل إن شئت على شركك وتظلنا مشاعر البر والعدالة والتعاون الكريم، لن أجعل حقي باطلًا لترضى، ولن يعنيني سخطك آخر الدهر إذا حنقت بي، وأنا أؤمن بأن النبي العربي أشرف من مشى على الثرى وأن أمجاد البشرية كلها التقت في شخصه، وأن تراث النبوات من بدء الخلق إلى الآن موجودٌ فى كتابه وسنته، وأن تعاليمه نسيجٌ محكم من الوحي الأعلى تزدان الأجيال به وترشد، أن محمدًا بشرٌ له منهاجه المرسوم من وحي الله. فنحنُ نتبعه لِنُرْضِي ربنا ولنقف في محراب عبادته راغبين راهبين، وستبؤ بالفشل جميع المحاولات لإبعلدنا عن محمد وصرفنا عن رسالته).

نعم ونحن نؤمن بأن سيدنا ومولانا وربيع قلوبنا سيد الأولين والآخرين، وأغلى على كل مسلمٍ مؤمن موحد من نفسه ووالديه وبنيه وبكل غالي نفتديه، وأغلى أمانينا أن يجمعنا الله به كما جمع بين الروح والجسد في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يسقينا بيده الشريفة شربة ماءٍ هنيئةٍ مريئةٍ لانظمأُ بعدها أبدًا من حوضه المورود، وأن يرزقنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، وليكن شعار كل مسلم ضد كل من يحاول النيل منه أو إقصائنا عنه صلى الله عليه وسلم، بإذن الله ستبؤ بالفشل جميع محاولاتكم الدنيئة والرخيصة بإبعادنا عن نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصَرّفنا عن رسالته.

ويا ليت من أساءوا أو ينوونها قرأوا ماكتبه المنصفون من أبناء جلدتهم أو تجشموا قليلاً من العنت فامتدت أيديهم إلى أحد الكتب أو المواقع التى تتناول سيرته صلى الله عليه وسلم وهى كثيرة بحمد الله وبكافة اللغات ، فلا عذر لمسيء لأنه لا يعذر الجاهل بجهله وقنوات العلم أمامه مترعة يستطيع أن يرتوي بيسرٍ منها ، فإن لم يهتد للإسلام فلا ضير ولكن سيكون أمامه الحكم الصحيح من واقع الرؤية الصحيحة.

عند مقولة باريت سنتوقف ونستأنف نصيحتنا لمن أساءوا أن يعرفوه صلى الله عليه وسلم.. في أمان الله وسلامه أترككم على أمل اللقاء بكم في دراسات يسيرة في رحاب السيرة.

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (13):



مع الحلقة الثالثة عشر نمضي في دراسات يسيرة في رحاب السيرة، وكنت قد طرحت رأي من قال بأن من أساءوا لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لا يعرفون من هو، ويجهلون قدره، وسأمضي مع صحة طرحهم، وأوجه لهم نصيحة: “اعرفوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن تسيئوا له)، وذلك على الرغم من معارضتي لكونهم لا يعرفونه، كما ذكرت سابقًا وسأذكر لاحقًا بأنه لا عذر للغرب في جهله بالإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم خاصةً وقد شهد القرنان الأخيران جملة من التطورات كان يفترض بهما تصحيح هذه الصورة وجعلها أكثر موضوعية ونزاهة وقرباً من واقع الحال، مثل:

ــ الاطلاع المتنامي للغرب على المصادر الإسلامية للسيرة النبوية، وذلك بعد تحقيق الكثير من المؤلفات العربية والإسلامية على يد المستشرقين الغربيين في البداية، والباحثين المسلمين لاحقاً، وفي مختلف اللغات الشرقية، ونشرها.

‌ــ الاحتكاك الشامل مع الشعوب الإسلامية في فسح أكثر إنسانية ولا سيما في ظل تطور وسائل النقل والاتصال الحديثة التي يسّرت تواصلاً يوميًا ومباشرًا بين الغرب والشرق لم تعرفه القرون الخالية. وأكثر من هذا فقد باتت معظم المجتمعات الغربية تحتضن جاليات مسلمة وطنية ووافدة، وغدت أكثر معرفة وألفة للإسلام دينًا وثقافة وتاريخاً وطريقة حياة.

‌ـ اطلاع الباحثين الغربيين على كتابات المسلمين الحديثة عن السيرة النبوية، سواء أكان ذلك باللغات الشرقية، أم باللغات الغربية التي ترجمت إليها أو كتبت فيها؛ فضلاً عن إلمامهم بما أنتجه المسلمون من نقد وما أخذوه عليها من عيوب ونواقص لكتابات المستشرقين والغربيين عامة عن النبي صلى الله عليه وسلم وثغرات منهجية ومعلوماتية.

‌ــ التطورات المهمة التي حققتها تقاليد كتابة السيرة (biography) وطرائقها بشكل خاص، ومختلف العلوم الإنسانية المساعدة بشكل عام، أو عن التأثير فيها والتي يبدو أنها ظلت بعيدة عن ملامسة كتابة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم على النحو المرجو، ولا سيما بعد تبيّن بعض المتنوّرين الغربيين ما تنطوي عليه شخصية النبى صلى الله عليه وسلم من عبقرية وتفوّق وعظمة وقيم سامية.

‌ــ التطورات الهائلة التي حققتها الحقول المعرفية المتصلة بدراسة ثقافة “الآخر” وتاريخه ومجتمعه، ولا سيما بعد التأثير الواسع الذي ولّدته منظورات متقدمة معرفيًا ومنهجيًا وفكريًا، مثل منظور إدوارد سعيد وكتاباته عن صلات الشرق بالغرب والثقافات المولّدة وغيرها، مما انعكس إيجابيًا في دراسات الغرب عن الآخر، ولكنه لم يمسّ بعمق دراسات هذا الغرب عن النبي صلى الله عليه وسلم [عبد النبي اصطيف، صورة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتابات الأنكلوــ أمريكية: مقدمة منهجية ونماذج مجلة التسامح العدد الثانى].

وأضيف إلى ما سبق الفيلم الوثائقي: “محمد: ميراث نبي” الذي يتحدث عن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام بشكل تفصيلي يستغرق ساعتين، وقد عرضته قناة PBS وهي قناة رسمية واسعة الانتشار على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، وأعده “مايكل وولف وأليكساندر كرونيمير”، ألم يشاهده أحد ممن طمس الله على قلوبهم فرسموا، وصوروا فيلمًا مسيئًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

ألم يقرأوا ـ وهم المشهورون بالقراءة ـ قول المفكر الإيرلندى الشهير برنارد شو عن الإسلام، ورسوله صلى الله عليه وسلم: (‏إذا كان لديانة معينة أن تنتشر في انجلترا‏،‏ بل في أوروبا‏,‏ في خلال مئات السنوات المقبلة‏,‏ فهي الاسلام‏.. لقد نظرتُ دائمًا إلي ديانة محمد بأعلي درجات السمو بسبب حيويتها الجميلة‏،‏ إنها الديانة الوحيدة في نظري التي تملك قدرة الاندماج في هذه المرحلة من مراحل البشرية بما يجعلها جاذبة لكل عصر‏، لقد درست تاريخ حياة محمد‏,‏ ذلك “الرجل العظيم”، وفي رأيي يجب أن يطلق عليه لقب “منقذ البشرية”، إنني أعتقد أنه إذا قدِّر له أن يتولى مسئولية قيادة العالم‏,‏ فلاشك أنه سيستطيع حل مشكلاته وإقرار السلام والسعادة، لقد تنبأتُ بأن عقيدة محمد ستكون مقبولة لأوروبا غدا‏,‏ كما هي مقبولة لأوروبا اليوم) [برنارد شو، مقال الإسلام الحقيقي عام‏1936]‏.

وبرنارد شو لم يمنعه إلحاده من الاعجاب بشخص وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم الجهادية المناضلة، التي طمح أن يتمثلها، كما هم بكتابة مسرحية عنه صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان ينبذ التعصب، ويكره افتئات رجال الدين في حقبة العصور الوسطى على شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعتُ على أمر هذا الرجل، فوجدته “أعجوبةً خارقةً”، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى “منقذ البشرية”، وفي رأيي أنّه لو تولى أمر العالم اليوم، لوفّق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها).

ليت من أساء تمثل ماقاله الكونت هنري دي بولانفلييه عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : أنه أداة الله التي قضي بها علي العبادة الباطلة وأحل محلها العبادة الحقة [هنري دي بولانفلييه (1658 – 1722): مؤرخ فرنسي، كتاب “حياة محمد” عام 1730].

كما تأثر فولتير بما كتبه الفرنسي هنري دي بولانفلييه بعد أن قرأ كتابه ، الأمر الذي حدا به أن يؤلف كتابه: (بحث في العادات) سنة 1765م، دفاعًا عن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن أقل ما يقال عن محمد أنه قد جاء بكتاب وجاهد، أما عيسى فلم يترك شيئًا مكتوبًا ولم يدافع عن نفسه، لقد امتلك محمد شجاعة الإسكندر الأكبر وحكمة نوما، أما عيسى فقد نزف دمًا بمجرد أن أدانه قضاته. والإسلام لم يتغير قط، أما أنتم ورجال دينكم فقد غيرتم دينكم عشرين مرة) [فولتير الأعمال الكاملة جـ16 ص 385].

أما تولستوى الذي دفع ثمن مجاهرته بالحق فحرمته الكنيسة بسبب آرائه التي انتشرت في وقته، يصف إعجابه الشديد بالرسول صلى اله عليه وسلم وسيرته العطرة: (أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضًا آخر الأنبياء، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وفتح لها طريق الرقي والتمدين).

يقول رودي باريتRudi Paret: (لقد كان النبي محمد هادفًا ومتَّسِق التصُّرف منذ تجربة الوحي الأولى في الغاية التي لم يَحِد عنها طوال حياته، وهي هداية بني قومه من العرب إلى الإيمان الصحيح) [أحد أهم المستشرقين الألمان المعاصرين«محمد والقرآن، دعوة النبي العربي ورسالته»، والذي صدرت ترجمته مؤخرًا ضمن مشروع «ترجم» التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم (ترجم النص عن الألمانية وراجعه على مصادره دكتور رضوان السيّد].

عند مقولة “باريت” سنتوقف ونستأنف نصيحتنا لمن أساءوا أن يعرفوه صلى الله عليه وسلم.. في أمان الله وسلامه أترككم على أمل اللقاء بكم في دراسات يسيرة في رحاب السيرة.


دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (12):



في حلقتنا الثانية عشر من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نعود لنستكمل ما كنا قد بدأناه من الرسالة التي أرسلتها للرسام الدنيماركي المسيء لنفسه أولًا قبل أن يسيء لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فأقول:
أيها الرسام النابه دعني أسألك:
كيف غابت حرية التعبير تلك التي تتشدقون بها وتشهرونها في وجوهنا في عدم منح جائزة أوسكار لفيلم فلسطيني وعنوانه “الجنة الآن” والذي لم تعرضه ولا دار عرض أمريكية؟!
لماذا صفقتم لسلمان رشدي الذي كتب رواية تقدح في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وحاربتـم رجاء جارودي لأنه انتقد الهولوكست، مع كون منطلقهما واحدًا وهو حرية الفكر كما تزعمون، ويستظلان بمظلة حرية التعبير؟!
لماذا طردتـم الصحفية التي هاجمت رامسيفلد ـ وزير الدفاع الأمريكي آنذاك ـ من القاعة التي كان يخطب فيها حينما أعلن الحرب على الإرهاب لمدة أربعين عامًا قادمة، وبحسب قوله: (على من يدينون بعقيدة الانتحار) ـ ويعنينا نحن المسلمين؟!
لماذا ولماذا وألف لماذا تؤكد كلها إنما هى حرب على الإسلام، وحرية تعبير فقط على ما ندين به نحن، ولو تأملت لوجدت أن نظام القاعدة وطالبان وغيرهما إنما هما رد فعل للظلم الأمريكى والغربي، فحرية التعبير تلك الواهية المزعومة والتي حرمتني مـن نشر قصائد نقدية في السيد بوش في صحف بلادي خوفًا مـن الغضب الأمريكي.

أرأيتَ إلى أى مدى الوجه الآخر لعدم حرية التعبير الذي ألقى بظلاله الثقيلة للحَجرِ على حرية الآخرين في بلادهم، وللأسف تم نشر هذه القصائد في جريدة عربية بدولة فلسطين المحتلة التي تنعم بالديمقراطية والمنح الأمريكية.

لم تكن بلادكم وخاصة الدنمارك بالدولة الكريهة لنا، بل من أكثر الدول التي نعجب بنموذجها الاقتصادي، ومستوى رفاهية الفرد فيها، وكنا نعجب كذلك بفريقكم في الدوري الأوربـي وكأس العالم ونشجعه، خاصة ومن لعب أقدام جنودكم برأس القائد الانجليزي المقطوع وهم يتقاذفونها حينما احتلت بلدكم إنجلترا، أخذ العالم عنكم لعبة كرة القدم، وتحول إعجابنا إلى احترام مما لمسناه من مواقفكم الشجاعة تجاه قضايانا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ومصاحبتكم للسيد ياسر عرفات فى رحلة علاجه الأخيرة حتى وفاته رحمة الله عليه، ومقاطعتكم للبضائع الإسرائيلية تضامنًا مع عدالة القضية الفلسطينية، ولتلك الـ 75% من المعونة التي ترسلونها لبلدي مصر عن طريق هيئة المعونة الدانماركية “الدانيرا” والتي تصل إلى مائتي مليون دولار سنويًا، كل هذا وغيره نقدره لكم، لكن اللعب على وتر العقيدة بالتحقيـر والازدراء دون داعٍ هو ما أسكب الزيت المغلي فوق الجروح، وأعاد لذاكرتنا محاكـم التفتيش الأسبانية البغيضة، وكل قصص الاحتلال لبلادنا، والمدافن الجماعية لشهدائنا، والحروب الصليبية من فلسطين حتى حرب البوسنة والهرسك مرورًا بالعراق وأفغانستان، وما يجرى على أرضكم من التعرض للمحجبات، وازدراء وتدنيـس مقابر المسلمين، وغيره مما لايجدر ذكره.
لعله روعك أن نرد منتجاتكم، ونقاطعها، ونحرق سفاراتكم ونرد سفرائكم، ونضرب بعرض الحائط معوناتكم، ولا نأبه لمواقفكم تجاه قضايانا الوطنية، ذلك أنك لم تدرك أيها اليمينى المتطرف على من صوَّبت رصاصاتك الطائشة، فلقد صـور لك جهلك وأعماك حقدك أن فعلك لن يقابله رد فعل بمثل هذا الحجم، ولأنك لم تدرك أن من صورته فى هذه الصور المهينة بحسب خيالك المريض، يعيش في قلب ألف مليون وخمسمائة مليون مسلم، تدق نبضاتهم فــي كل صلاة بالصلاة والسلام عليه، ومنتهى أمانيهم أن يقابلوه في الجنة، وأقصى أمانيهم في الحياة أن يروه صلى الله عليه وسلم ولو مناما، والذين يقرأون سيرته، ويحفظون أقواله، ويخافون من الكذب عليه، ويخشون من أفعالهم السيئة في الدنيا حين يلقاهم في الآخرة، ويعلمون كم تعذَّب وأوذي في حياته لينشر دين الله تعالى في العالمين، والذي لم يكن سبابًا ولا فظًا ولا عيــــابًا ولا فحاشًا ولا صخابًا في الأسواق، وكان متوحدًا فـي أخلاقه قبل البعثة وبعد البعثة، سواء بسواء.
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لـو قرأته بعين الإنصاف من مصادر صحيحة لأحببته إن لم تؤمن به، ولأنصفته من نفسك وبَشَّرت به بين قومك، ولصوبت خطأك الجسيم في حقه وحق تابعيه بأن تنشر فـي صحيفتك الصـدق عن رجل صادق مقالًا عنوانه: “كيف عرفتُ رسول المسلمين”، بنفس المساحـة فـى نفس الصفحة والصحيفة التي رسمت فيها رسوماتك الشائنة، ولو فعلت ذلك، وأظنك لن تفعل، فستعيد فينا الصدق بكل ما هو جميل ومثالى في حضارة الغرب، وأن تنصح من يريدون أن يعلنوا الحرب على الإرهاب أن يكفوا هم أولاَ عن إرهاب الشعوب، وأن يشيعوا روح العدالة والتسامح بين الناس، ويعجبنـى قـول من قال: (إن لم يعلم أهل الأديان الحب للناس فمن يعلمهم، وإن لم يجمعنا دين الله فما الذى يجمعنا؟!)، وليس علينا نحن المسلمين إلا حسن الظن كما علمنا ديننا، وهاأنذا سأصبر وسأنتظر، وأحسن الظن بـك، لعل وعـسى.

السبت، 22 يوليو 2017

لطفي الياسيني: مقاتل في خندق الشعر




عرف المواطن الفلسطيني التسعيني الشاعر المجاهد الدكتور لطفي الياسيني القتال دفاعًا عن أرضه، والقتال زودًا عن نفسه، والقتال في الصد عن شعره، والقتال دفاعًا عن لغته، وعن عروبته، وعن مواقفه الوطنية، وعن محاولات إقصائه، وتهميشه، ودفنه حيًا.. يقف كصخرة صلدة لا تعرف الملل والكلل في وجه الموجات العاتيات المتتاليات التي لم ترحم سنه، ولا علته، ولا تاريخه الذي قدم منه سبع سنوات عجاف في السجون الإسرائيلية بتهمٍ أمنية، وعاش تحت الإقامة الجبرية لا يغادر وطنه، كما أصيب في معركة أيلول الأسود إصابة بالغة كان نتاجها أن بترت ساقه اليسرى بالإضافة إلى شلل في الذراع الأيسر فصار أسير كرسي الإعاقة. وعلى الرغم من أنه من مواليد الشوف بلبنان، ثم هاجر مع من هاجر إلى فلسطين حيث سكن دير ياسين إلا أن أصل شاعرنا من الجزيرة العربية؛ فيعود نسبه إلى آل عقيل، من المملكة العربية السعودية.

حيثما يكون الياسيني تجده منتجًا، مبدعًا، متحركًا؛ فقد كان أستاذًا جامعيًا حاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي، شاعرًا مخضرمًا أصدر أكثر من ستين ديوانًا بالعربية الفصحى وهذا لا يعني عدم صدارته وتمكنه من العامية في ذات الوقت؛ فقد تحدى الزجال الشاعر اللبناني الكبير زغلول الدامور في ملحمة شعرية زجلية أكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر المحكي وتفوق عليه، ولهذا فلم يكن غريبًا أن يحصل على لقب شاعر فلسطين الأول منذ العام 1942م، ويتحدث  ــ غير تمكنه للغته الأصلية ــ العديد من اللغات العالمية غير السريانية.

 وقد أسس شاعرنا الكبير فرقة المسرح الفلسطيني، كما كان رئيسًا للمجلس الأعلى للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ثم قدم استقالته بعد أن أمضى نصف قرن في عالم الصحافة والأدب، وفي دنيا الصحافة امتلك وأصدر العديد من الصحف، منها: الصريح الفلسطينية، المنتدى، والأدباء، وجريدة الشعر، والخلافة، والبيرق، والطلائع، والمصارعة الحرة، والأقصى، والانتفاضة الفلسطينية، كما أصدر الكثير من الكتب الثقافية والأدبية والتاريخية إلى جانب براعته في فن الرسم، وفي عام 1970م أسس المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني. 

من بين الجرائد التي أصدرها شاعرنا الكبير جريدة "المصارعة الحرة"، وهو ما يدعو للدهشة، غير أن الدهشة ستزول عندما نعلم أن الياسيني الصبي والشاب أحب  ومارس رياضتي المصارعة وكرة القدم وغيرها من الألعاب الأخرى، غير أنه برع في لعبة المصارعة إلى الدرجة التي حصد فيها بعض الجوائز والشهادات التقديرية، ثم صار رئيسًا لاتحاد المصارعة الحرة في فلسطين.

ويبدو أن المصارعة وهي من ألعاب الفنون القتالية هي ما أكسبت شاعرنا الياسيني الكبير، الصلابة البدنية، والصلابة في المواقف، وفنون المقاتلة ضد من ينازلونه بالاتهامات، ومحاولة تأليب الرأي العام عليه، ومهاجمته، ونلمس صدى هذا في الحدة الصارخة التي تلامس بعض أبيات قصائده التي يفخر فيها بنفسه على خصمه، وحين تجد السخرية اللاذعة، والنقد الذي يشبه العراك، وربما اجتمعت كلها لتشكل بنيته الشعرية المقاوِمة، وقلعته الثقافية التي أبى أن يتنازل أو يتخلى عنها أو ينكسر دونها، وكأن عباس العقاد العملاق بُعث في إهاب الياسيني من جديد، فقد كان هذا سمت العقاد مع من يناوشونه من حين إلى آخر وكان كأنه كالملاكم الذي يصرع خصومه كما وصفه أحد الصحفيين.

 ولعل من يطالع قصيدة الياسيني: "قصيدة من قاع الدست إلى الشعارير" سيرى فيها كما سيرى في غيرها مما هو على شاكلتها من بداية العنوان الذي يحمل الهجاء لخصوم الدكتور لطفي الياسيني مثلما يحمل الفخر لنفسه بنعته نفسه خاصةً في هذه القصيدة بكونه " شاعر الثقلين".

كما لم يكن غريبًا أن يتبوأ الياسيني سدة الشعر كل هذه الأعوام حتى نجده من خلال إجادته له لا يخشى أن يكتب كلمة "مرتجل" في عناوين قصائده خاصة تلك التي يرد بها تحية من حياه بقصيدة، ذلك أن البناء المؤسِس للياسيني "الشاعر" متين وقديم في مسيرته الشعرية الحافلة؛ فهو ينحدر من أسرة تنشد الشعر وتقرضه من قديم؛ فقد كان جده لأبيه شاعًرا، كما كان والده ووالدته من الشعراء، أي أن الشعر في عائلتهم ينتقل إليهم بالوراثة، ولهذا فقد تغنى شاعرنا بالشعر في طفولته وصباه، وكان يعرض أبياته على أبيه  الذي جمع بين إتقانه للشعر كذلك إتقانه العزف على آلة الرباب وهي آلة وترية، ولهذا تجد موسيقى الشعر تنثال من قصائده فطرية، غير مصطنعة ولا متكلفة، كما يحصل هو عليها بيسر وتناغم دون تعسف.

 تناولت الدراسات الأكاديمية شعر الشاعر الكبير لطفي الياسيني ومنها موسوعة شعراء  العربية، التي يحررها الدكتور فالح نصيف الحجية الكيلاني، وهي دراسة موسوعية  لشعراء  الأمة  العربية  جاء في  المجلد العاشــر الخاص بشـعراء المعاصرة، تحت عنوان "لطفي الياسيني .. شاعر المقاومة الفلسطينية": (فالشاعر الياسيني من رواد الشعر العربي المعروفين، وهو أحد أعمدة الشعر العربي وخاصة  شعر المقاومة فتاريخه المضيء يشهد بتأثيره بشعراء المقاومة والرفض، وهذا لا يستطيع أحد  نكرانه على الإطلاق. كما  تميز شعره بالصور الشعرية  الرائعة والبداعة الجميلة. ويتميز بثقافة الحوار الثقافي، ويتميز شعره أيضًا بالقوة  والجزالة  وعمق المعاني،  مع غزارة الإنتاج،  وجمال الجرس الموسيقي  في البحور العربية الشعرية التي استخدمها ونظم فيها شعره. وقد نظم الشعر في أغلب الفنون الشعرية  بما فيها الغزل والحكمة والوصف إلا أن أغلبها وأكثرها شعر المقاومة).

كما تناولت الدراسة الأكاديمية "دور الشعر في معركة الدفاع عن القدس" التي أعدها كلًا من الدكتور يحيى جبر، والأستاذة عبير حمد، التي قدمت في مؤتمر القدس الذي نظمته جامعة القدس المفتوحة 2009م قصيدة "انقذوا بيوت القدس" للشاعر لطفي الياسيني، وقد كان تعليقهما على القصيدة: (وبعد هذه المطولة التي ضمت أسماء أماكن شعبية في القدس ونابلس وأسماء مدن وقرى فلسطينية، ندرك أن الشاعر يغذي فينا إحساسًا لا يضاهى بالفجيعة وفقدان الحرية، وهذا الإحساس الفجائعي في جوهره أكثر حقائق وجودنا ضراوة ومعنى ... لذلك فإن فلسطين بالنسبة للشاعر العربي، لم تكن موضوعا خارجيًا فاترًا، بل كانت جزءًا من موضوعة الحرية والصراع الدامي من أجلها في الوطن العربي، لم يكن اغتصاب هذه الأرض انتهاكًا مجردًا للجغرافية، أو عدوانًا عابرًا عليها، بل هي بالنسبة للشاعر العربي عدوان على حريته وتماسكه وبهجته الإنسانية، ولذا كان الشاعر يتماهى مع عناصر الموضوع الفلسطيني).

 كما كان للشاعر الكبير لطفي الياسيني نصيبه في دنيا الحوار، وذلك حين أقام معه المحاور الجزائري القدير الأستاذ ياسين عرعار حوارًا جادًا غطى الكثير من المناطق الإبداعية في حياة الياسيني، والتي لم تُلقَ عليها الأضواء من قبل، كما تطرقت إلى انطباعات الرجل ورأيه في كثير من الأمور المتنوعة، وقد نشرت الحوار جريدة "الحوار" الجزائرية في عام 2013م، وكنت أرجو أن يطول الحوار أكثر، أو أن يعيد عرعار كَرة الحوار بشكل مطول مرة أخرى مع الياسيني، فقد تشعبت الأمور أكثر، ورأيه الآن هام  في المستجدات، والأحوال التي طرأت علينا، وعلى الشعب الفلسطيني بصفة خاصة.

 لا يتناسب حجم ما كُتِبَ عن الرجل وحجم ما كَتَب، كما لا يتناسب مع طول عمره الإبداعي الذي يوازي تقريبًا عمره السني مضروبًا في درب كل فن أجاده، وفي كل مؤسسة أسسها أو ترأسها أو كان عضوًا فيها، أو عمره الجهادي الحافل، كما أن الدراسات الأكاديمية والنقدية تتوارى خجلًا لقلتها أمام إبداعه الكبير والقيم، وهو ما يجب الإلفات إليه بالنسبة للقائمين على مؤسسات الثقافة في فلسطين، وكذلك خارجها؛ فالرجل لم يكن مبدعًا فلسطينيًا فقط بل كان عروبيًا ثوريًا شارك في الكثير من الأحداث والاحتفاليات العربية خارج بلاده، إن لم يحظَ بالحضور فقد قامت قصائده بدوره نيابة عنه.

 سأتناول بعض أبيات من بعض قصائده التي تظهر معاناة الرجل الذي قدم سيرته مكتوبة في كثير من الصفحات لعل من يقرأها من الذين لا هم لهم سوى منابذته، وشتمه، والهجوم عليه أن يرعووا ويستحوا وينتهوا، ومن تلك القصائد قصيدته: "قصيدة من قاع الدست إلى الشعارير"، والتي يدافع فيها عن الفصحى، والشعر العمودي، وعن ريادته الشعرية أمام الجميع، وسأختار منها بعض الأبيات لضيق المقام: 

لأني أنظم الشعر المقفى........ وأعشق شعر شوقي والمقفع

جميع الناس لاموني وقالوا......كفى يا شاعر الأوطان ارجع

فقلت بلى سأمضي في قريضي.. ومن غيري على شمس تربع

مضى تسعون عاما من حياتي......لقد نلت الثريا كنت أبدع

وغيري لم يزل يحبو كطفل.....على أعتاب أشعاري ليرضع

أنا لطفي الياسيني من زماني....هزمت الشعر ميلادي مروع

ويقول منها أيضًا:

أنا ملك القوافي من زماني ........ ماء التبر شعري قد ترصع

تربى الشاعرون على ذراعي....... وهذا اليوم منهم من تخنع

سلوا طوقان عن فعلي وشعري.. إذا بارزت خصمًا صار أصبع

يقول في قصيدة أخرى:

يهاجمني زغاب الشعر........ في الوطن الفلسطيني

لأني شاعر الثوار ............... مذ أعوام حطين

لأني خادم الأخيار .............. أصحاب النبيين

رفضت سلام محتل ............ سلبني دير ياسين

فدائيًا أنا ما زلت .............. تشهد لي نياشيني

ولئن كان هناك من يناصبون الشاعر الكبير العداء، والخصومة بالحق والباطل، فهناك كتب من يحبونه ويجلونه، ويعرفون مكانته من الأصدقاء والزملاء والأحبة والتلاميذ. وكلهم على اختلاف مشاربهم، وتجاربهم، وذائقتهم كتبوا بالشعر والنثر فيه ما يستحق أن يُجمع في كتاب تذكاري عن الرجل، والذي لا يسعني إلا أن أنقل من كل قصيدة أو مقالة غير أبياتٍ وكلمات لضيق المقام:

تم تكريم اتحاد الكتاب والمثقفين العرب للشاعر لطفي الياسيني عام 2012م، وقد كتب عنه الدكتور محمد حسن كامل رئيس الاتحاد في تقدمته: (جندي صنديد، ومحارب عنيد، سلاحه الحرف في كل تصريف وصرف، يطوع الحروف في غير معلوم المعلوم والمعروف، شيخ المجاهدين، وإمام المكافحين، حامل لواء الحرية، يذكرني بشيخ المجاهدين عمر المختار، كتب على جدار فلسطين معلقات الحرية، علَّم الأجيال الوطنية والنفس الأبية، أطلقتُ عليه "عميد الشعر العربي"، متعدد المواهب, يتحدى بحرفه كل المصاعب، الصبر عنوانه, والحلم كلامه, والأخلاق ألوانه, والحرية مرامه, والإبداع إلهامه, والسلم سلامه, والصمت حكمته , والحكمة من خلفه ومن أمامه، سيرته الذاتية حافلة بالمسرات, والفكر والرسالات, والروعة والبطولات ...... اليوم نزيد فيها حرفاً من حروف المكرمات).

وإذا انتقلنا من النثر أو السرد إلى الشعر، وكثير من الشعراء كتبوا في الياسيني القصائد القصار والمطولة، ويأتي في مقدمتهم الشاعر الجزائري ياسين عرعار الذي يقول في قصيدته: "رسالة إلى الشاعر لطفي الياسيني":  

لُطْفِي .. أبِي .. يَا أيُّهَا المِصْبَارُ .....أنْتَ الشَّجَاعَةُ، فِي الوَغَى مِغْوَارُ

لُطْفِي أبِي سَتَظلُّ فِي صَفَحَاتِنَا..............حَرْفًا، بِهِ التّارِيخُ وَ الأفْكَارُ

سَتَظلُّ شَاعرَ ثوْرَةٍ عِمْلاقَةٍ ...............جَبّارَةٍ .. قَدْ صَاغَها الأحْرَارُ

لُطْفِي البُطولَة والعُرُوبَة شَاعِرٌ ..............عُنْوانُهُ الزَّيتُونُ .. وَالأشْعَارُ

لُطْفِي الشّهَامَة والرّجولَة صَامِدٌ...........واللهُ يَا.." أقْصَى " لَكُمْ نَصَّارُ

         يَا شَاعرَ الأقْصَى، شَفَاكَ اللهُ منْ ........مَرَضٍ .. ودَامَ قَصِيدُكَ البَتّارُ

سَكَبَ الإلَهُ بِرُوحِكمْ كَلِمَاتِهِ ........... فَاقْصِفْ يَهُودًا أيّهَا الإعْصَارُ

يَا شَاعرًا شَهدَ الزّمانُ لِشعْرهِ .............. فاهْنَأْ بِشعْرٍ صَاغَهُ عَرْعَارُ

كما قدم الشاعر المصري عاطف الجندي قصيدة عنوانها " إلى شيخ الشعراء لطفي الياسيني"، بدأها بهذه الكلمة: (هو والدي الذي لم أره سوى من خلال نبضه قبل صوره)، ونختار منها بتصرف: 

من كل قافيةٍ أزفُّ بياني ..............يا سيد الشعراء باستحسان  

يا شيخنا الموشوم بالشعر الأبي .......وقائدي في صولة الميدانِ

 ليس القعيدُ قعيد عجزٍ، إنما  ........من جاء يغزو حرمة الأوطانِ

كرسيِك لو يدري بأنك شاعرٌ ............وهبَ الحياة قلادة الأوزانِ

وقد كتب فيه ثله من الشعراء والشاعرات، مثل: زاهية بنت البحر مريم محمد يمق وقصيدتها "بوركت لطفي"، كما كتب الشاعر الدكتور عيسى حداد قصيدته "باكورة القرن والعقود ـــ رحلة العمر"، وكتب  الروائي القاص سليم عيشان قصيدته "يا سيد الكلمات.. وأمير عصري"، وكتب ا
لدكتور عصام أحمد ذيب عدي قصيدته "بطاقة شكر وعرفان إلى معالى الدكتور لطفي الياسيني"،  وكتب عميد شعراء سوريا الدكتور الشاعر خليل فؤاد يوسف قصيدته مخاطبًا الياسيني "يا شاعر التسعين"، وكتب الشاعر الفلسطيني قصيدة أيضًا، كما كتب الشاعر الدكتور أحمد الحسن أبو الأثير قصيدة للياسيني، وكذلك كتب الشاعر سيد سليم قصيدة في الشاعر الياسيني، كما كتبت عنه الدكتورة منى ضيا رئيس مجلس إدارة مجلة مملكة الياسمين الأدبية قصيدتها بعنوان: "أنا القلم الذي ما كان طوعا للسلاطين"، وبدأتها بكلمة للحاج ياسين الياسيني تقول له فيها: (تَاجٌ تَزينَ بسلاسة بحبٍ وزيَن جبينك بذهب كلماتٍ تعودناها مِنكَ يا شاعرنا الكاتب الأسير الشهيد الحي المناضل).

لقد قاتل الشاعر والمجاهد الكبير لطفي الياسيني في خنادق كثيرة دفاعًا عمَّا يؤمن به من قيم ومبادئ تربى عليها، وعاش عمره من أجلها، وما فقده من أعضاء جسده، وما أصابه في نفسه من جرائها، وصبر واحتسب؛ فقد وقف في خندق الوطن والأرض والدار، كما وقف في خندق الدفاع عن لغته العربية الفصحى، مثلما وقف في خندق الشعر الخليلي المقفى منافحًا عنه، مثلما وقف في خندق الكرامة والإباء حين دافع عن نفسه ضد خصومه، ولم يبقَ له مع تقدم السن، واعتلال الصحة غير خندق الشعر الذي أخذه بديلًا عن كل الخنادق الأخرى ليقاتل من داخله ومن خلاله كل أعداء الخنادق الأخرى معًا أنه خندق الشعر الذي لم ولن يتنازل عنه، ليظل بحق كما يريد أميرًا للشعر العربي في عصره.


السبت، 15 يوليو 2017

طفلة الرؤيا..





لا أدري لماذا حلَّ عليَّ الاكتئابُ في هذه الليلةِ، مع أنها كانت ليلةٌ قمراء، وجاءت في نهاية الأسبوع والجمعة وقت راحتي، وتمادَى الحزنُ حتى انحدرَتِ الدموعُ على وَجْنَتي، دخلَتْ أمي غرفتي تُخبِرني بموعد طعام العشاء، فأذهلها وأفزعها ما رأَتْ مِن حالي، وأخذَتِ الأسئلةُ تنهمِرُ مِن فمِها، بينما كسا الهولُ والجزع وجهَها، وقرأتُ في عينَيْها أسئلةً تبحثُ عن إجابات، والمصيبة أنه لا إجابات عندي ولا تفسير!

ولكني وجدت تفسيرًا ربما راح عن خاطري، غير أنه ولا شك مستقرٌّ في رأسي، وذلك مَرَدُّه لمتابعتي للأحداث السياسية التي تصبُّها فوق رؤوسِنا نشراتُ الأخبار التي لا تَغِيب عن مشاهدها غالبًا صورُ الأطفال المشرَّدين أو المقتولينَ في بلادنا العربية والإسلامية فقط - دون بلاد وديانات الدنيا - مِن تشريد، وتهجير، ودكٍّ بالطائرات، وبألوان من المدفعية والرشاشات والبنادق في سوريا، والعراق، واليمن، وفلسطين، وليبيا، وأفغانستان، ربما كان هذا هو السببَ!

طمأنتُ أمي، وهدَّأَتْني ونصحَتْني أن أذهب غدًا لصلاة الجمعة معها في المسجد القريب في منطقتنا؛ فالصلاة والمساجد كثيرًا ما تفرِّج الهموم.

قابَلني والدي على العَشاء بابتسامتِه اللطيفة، وغالبًا ما يناديني: "طفلتي"، طمأنَتْه أمي عن سرِّ تأخيرنا، وفهِم ولم يشَأْ أن يسألني، فقد أدرك أن أمي قد قامَت بالواجبِ وزيادة، فلم يشَأْ أن يُثقِل عليَّ.

تناوَلْنا العَشاءَ الذي كان أشهى ما فيه مسامراتُ أبي ودعاباته التي أذهَبَت الحزن عن نفسي، وأنسَتْني ما كنت فيه، واستأذنتُهما في النوم مبكرًا لأصلِّيَ الجمعة مع والدتي ووالدي في المسجدِ، وقد أسعد هذا الخبرُ السارُّ والدي، الذي فاجأني بأن يكون الغداءُ أيضًا خارج المنزل، فليس لديه أعمالٌ أو مقابلات بعد صلاة الجمعة.

ولا أدري لماذا أتمرد أحيانًا على أمي وأبي برغم ما يصنعانه من أجلي؟! لا أعلم السبب الخفي وراء هذا التنمر أحيانًا، وكثيرًا ما يكظم والدي غضبه، وأحيانًا ما يُعنفني على مزاجي المتقلب الذي لا يدري له سببًا، ولا أدري له أيضًا سبب، غير أن أمي أحيانًا ما تنسحب من غرفتي وهي تتمتم بدعوات تكون أقساها وأقصاها حين تدعو الله أن يريحها مني بالزواج أو الموت .. أيهما أسبق وأسرع.. وأسمعها تبكي في صلاتها أن لا يستجيب دعواتها، وأن يهديني، ويأخذ بناصيتي لطاعته، ودموعها تنسل من عينيها مدرارة..

حاولتُ أن أنامَ دون أن أُفكِّر في أي موضوع من شأنِه أن يُعكِّر صَفْوي بعد هذا العَشاء الطيِّب، وممازحاتِ أبي التي أضحكَتْني، ومفاجأةِ الخروج معًا بعد صلاة الجمعة التي أسعدَتْني.

تسلَّل النُّعاس إلى عيني وئيدًا، فاستسلمتُ له في سرورٍ، ورأيتُ كأن سحاباتٍ بيضاءَ تطوفُ حولِي، وأنا لا أدري مكانَها، ولا ماذا تريد مني أو بي؟ وأنا في هذا المكان منزويةٌ في ركنٍ مِن أركانه، ممسكة بمِنْديلٍ أبكي كثيرًا ولا أدري من أي شيء أبكي، أو سر هذا الحزن بداخلي؟

وينقشعُ السحاب، ثم يدخل نور فِضيٌّ ينساحُ في الغرفة، وغلالةٌ رقيقة بيضاء تدورُ وحدَها في المكان، ولكني تبيَّنت أن طرفها في كف طفلةٍ مُمسكةٍ به، تقترب الطفلة مني شيئًا فشيئًا وكأننا يعرف بعضُنا بعضًا منذ زمن بعيد، وقد رقَّت لحالي وما أنا عليه، تقدَّمَت مني وهي تمسحُ بكفَّيها الصغيرتينِ دموعي برفق ونعومة كأنهما الحرير بل أرق وأنعم، وتتوسل إليَّ بنظراتها أن أكف عن البكاء، وأن أبتسم، ثم همسَتْ في أذني:
ــ لا تبكي؛ فحالُك أحسنُ من حالي، وعلى الرغم مما حل بي فإني ما زلت أبتسمُ.

لم أستطِعْ أن أردَّ عليها، فقد انسحَبَت من المكان أو تلاشَتْ، لا أدري، وقد أيقظني صوتُ أمي لنتهيَّأ للخروج إلى الصلاة، وفي المسجد كانت هناك مجموعةٌ من المتَّشِحات بالسواد يبكين، وقد تبيَّن لي أنهن جِئن ليصلين على والدِهن صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة، فقد تُوفِّي ساجدًا أثناء صلاة الضحى، وبينما أنا أجيلُ النظرَ فيهن، نهضَتْ من بينهن طفلةٌ، أخذت تنظر إليَّ طويلًا، وأنا أنظر إليها كأنما أسيرُ في حُلمي الذي راودني بالأمس، ولم أَلْمَح في عينيها حزنًا أو بكاءً، بل سعادة غامرة، ثم تقدَّمت نحوي، وأخبرتني بأن والدها هو مَن سيُصلَّى عليه بعد قليل، فلمحت في عيني دموعًا فكفكفتها بكفَّيها، وهي تتوسل إليَّ ألا أبكي، وقبل أن أسألها: لِمَ لا تبكي والدها؟ أجابتني بأنها سعيدة أن الله حقَّق لأبيها ما كان يتمنَّاه دومًا في دعواته بأن يقبضه ساجدًا، كما أن وصيتَه لي بألا أبكيه، ثم التفتت إليَّ قائلة:
احمَدي الله، وداوِمي على الصلاة، وكُونِي رهنَ إشارةِ والديك، ألم أقل لك: إن حالك أحسنُ مِن حالي؟!

ثم انسلَّت من بين يدي، وأخذتُ أبحث عنها بين النائحات فلم أجِدْها، قيل لي: إنها نزلت لتُودِّع والدَها المسجَّى وتُصلِّي قريبة منه، فقد كانت كثيرًا ما تصلي خلفه في المنزل؛ ولذا فهي أولُ مَن أخبرت عائلتها بوفاته.

  هرولتُ مسرعةً خارج المسجد كي ألحق بالجِنازة، بينما كانت أمي تحاول جاهدةً أن تدركني، وعلى الجانب الآخر يقف والدي منتظرًا عند السيارة، وقد هاله ما أنا فيه، فأقبل مسرعًا نحوي، وهو يسأل أمي متعجبًا، عما يحدث، وأمي نفسها تنظر إليه ولا تجيب:
ــ أين ذهبت الجنازة يا أبي؟
ـ لم نصلِ اليوم بالمسجد صلاة الجنازة بنيتي.. فمن أتيتِ بهذا؟!
ـ أمي وأنا كنا في مصلى النساء وكان معنا نسوة متشحات بالسواد...و
قاطعتني والدتي:


ـ حبيبتي أنا وأنتِ كنا هناك وحدنا.. لم تكن بالمسجد نساء غيرنا.. إلا امرأة كبيرة تصحبها ابنتها.

  تأبط والدي ذراعي، وأحاطت ذراع أمي بخاصرتي، ووقفنا قليلًا، ربما لم تكن هناك جنازة، لكن كانت هناك طفلة كنت معها على موعد في رؤيا لكي أفهم معنى أن تموتَ ساجدًا لله، ومعنى أن تنعَمَ بالحياة في مرضاة الله، ومعنى أن ترضى بقضاءِ الله، وتحمَده على ما أصابك في السرَّاء والضراء، ولا تتسخَّط منه، وأن تعلم أن والديك أغنى ما كنزتَ في الدنيا.. فقبلتُ يد أبي، وَوَجْنةَ أمي ..وانطلقنا نحو السيارة والدموع تتلاشى بعد أن حاصرتها ابتسامتي التي أسعدت أبي وأمي كثيرًا.. بينما كنت أجيل البصر بحثًا عن طفلة الرؤيا في الطرقات التي نمر عليها..




التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...