لا أدري
لماذا حلَّ عليَّ الاكتئابُ في هذه الليلةِ، مع أنها كانت ليلةٌ قمراء، وجاءت في
نهاية الأسبوع والجمعة وقت راحتي، وتمادَى الحزنُ حتى انحدرَتِ الدموعُ على
وَجْنَتي، دخلَتْ أمي غرفتي تُخبِرني بموعد طعام العشاء، فأذهلها وأفزعها ما رأَتْ
مِن حالي، وأخذَتِ الأسئلةُ تنهمِرُ مِن فمِها، بينما كسا الهولُ والجزع وجهَها،
وقرأتُ في عينَيْها أسئلةً تبحثُ عن إجابات، والمصيبة أنه لا إجابات عندي ولا
تفسير!
ولكني وجدت
تفسيرًا ربما راح عن خاطري، غير أنه ولا شك مستقرٌّ في رأسي، وذلك مَرَدُّه
لمتابعتي للأحداث السياسية التي تصبُّها فوق رؤوسِنا نشراتُ الأخبار التي لا
تَغِيب عن مشاهدها غالبًا صورُ الأطفال المشرَّدين أو المقتولينَ في بلادنا
العربية والإسلامية فقط - دون بلاد وديانات الدنيا - مِن تشريد، وتهجير، ودكٍّ
بالطائرات، وبألوان من المدفعية والرشاشات والبنادق في سوريا، والعراق، واليمن،
وفلسطين، وليبيا، وأفغانستان، ربما كان هذا هو السببَ!
طمأنتُ أمي،
وهدَّأَتْني ونصحَتْني أن أذهب غدًا لصلاة الجمعة معها في المسجد القريب في
منطقتنا؛ فالصلاة والمساجد كثيرًا ما تفرِّج الهموم.
قابَلني
والدي على العَشاء بابتسامتِه اللطيفة، وغالبًا ما يناديني: "طفلتي"،
طمأنَتْه أمي عن سرِّ تأخيرنا، وفهِم ولم يشَأْ أن يسألني، فقد أدرك أن أمي قد
قامَت بالواجبِ وزيادة، فلم يشَأْ أن يُثقِل عليَّ.
تناوَلْنا
العَشاءَ الذي كان أشهى ما فيه مسامراتُ أبي ودعاباته التي أذهَبَت الحزن عن نفسي،
وأنسَتْني ما كنت فيه، واستأذنتُهما في النوم مبكرًا لأصلِّيَ الجمعة مع والدتي
ووالدي في المسجدِ، وقد أسعد هذا الخبرُ السارُّ والدي، الذي فاجأني بأن يكون
الغداءُ أيضًا خارج المنزل، فليس لديه أعمالٌ أو مقابلات بعد صلاة الجمعة.
ولا أدري
لماذا أتمرد أحيانًا على أمي وأبي برغم ما يصنعانه من أجلي؟! لا أعلم السبب الخفي
وراء هذا التنمر أحيانًا، وكثيرًا ما يكظم والدي غضبه، وأحيانًا ما يُعنفني على
مزاجي المتقلب الذي لا يدري له سببًا، ولا أدري له أيضًا سبب، غير أن أمي أحيانًا
ما تنسحب من غرفتي وهي تتمتم بدعوات تكون أقساها وأقصاها حين تدعو الله أن يريحها
مني بالزواج أو الموت .. أيهما أسبق وأسرع.. وأسمعها تبكي في صلاتها أن لا يستجيب
دعواتها، وأن يهديني، ويأخذ بناصيتي لطاعته، ودموعها تنسل من عينيها مدرارة..
حاولتُ أن
أنامَ دون أن أُفكِّر في أي موضوع من شأنِه أن يُعكِّر صَفْوي بعد هذا العَشاء
الطيِّب، وممازحاتِ أبي التي أضحكَتْني، ومفاجأةِ الخروج معًا بعد صلاة الجمعة
التي أسعدَتْني.
تسلَّل
النُّعاس إلى عيني وئيدًا، فاستسلمتُ له في سرورٍ، ورأيتُ كأن سحاباتٍ بيضاءَ
تطوفُ حولِي، وأنا لا أدري مكانَها، ولا ماذا تريد مني أو بي؟ وأنا في هذا المكان
منزويةٌ في ركنٍ مِن أركانه، ممسكة بمِنْديلٍ أبكي كثيرًا ولا أدري من أي شيء
أبكي، أو سر هذا الحزن بداخلي؟
وينقشعُ
السحاب، ثم يدخل نور فِضيٌّ ينساحُ في الغرفة، وغلالةٌ رقيقة بيضاء تدورُ وحدَها
في المكان، ولكني تبيَّنت أن طرفها في كف طفلةٍ مُمسكةٍ به، تقترب الطفلة مني
شيئًا فشيئًا وكأننا يعرف بعضُنا بعضًا منذ زمن بعيد، وقد رقَّت لحالي وما أنا
عليه، تقدَّمَت مني وهي تمسحُ بكفَّيها الصغيرتينِ دموعي برفق ونعومة كأنهما
الحرير بل أرق وأنعم، وتتوسل إليَّ بنظراتها أن أكف عن البكاء، وأن أبتسم، ثم
همسَتْ في أذني:
ــ لا تبكي؛
فحالُك أحسنُ من حالي، وعلى الرغم مما حل بي فإني ما زلت أبتسمُ.
لم أستطِعْ
أن أردَّ عليها، فقد انسحَبَت من المكان أو تلاشَتْ، لا أدري، وقد أيقظني صوتُ أمي
لنتهيَّأ للخروج إلى الصلاة، وفي المسجد كانت هناك مجموعةٌ من المتَّشِحات بالسواد
يبكين، وقد تبيَّن لي أنهن جِئن ليصلين على والدِهن صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة،
فقد تُوفِّي ساجدًا أثناء صلاة الضحى، وبينما أنا أجيلُ النظرَ فيهن، نهضَتْ من
بينهن طفلةٌ، أخذت تنظر إليَّ طويلًا، وأنا أنظر إليها كأنما أسيرُ في حُلمي الذي
راودني بالأمس، ولم أَلْمَح في عينيها حزنًا أو بكاءً، بل سعادة غامرة، ثم تقدَّمت
نحوي، وأخبرتني بأن والدها هو مَن سيُصلَّى عليه بعد قليل، فلمحت في عيني دموعًا
فكفكفتها بكفَّيها، وهي تتوسل إليَّ ألا أبكي، وقبل أن أسألها: لِمَ لا تبكي والدها؟
أجابتني بأنها سعيدة أن الله حقَّق لأبيها ما كان يتمنَّاه دومًا في دعواته بأن
يقبضه ساجدًا، كما أن وصيتَه لي بألا أبكيه، ثم التفتت إليَّ قائلة:
احمَدي الله،
وداوِمي على الصلاة، وكُونِي رهنَ إشارةِ والديك، ألم أقل لك: إن حالك أحسنُ مِن
حالي؟!
ثم انسلَّت
من بين يدي، وأخذتُ أبحث عنها بين النائحات فلم أجِدْها، قيل لي: إنها نزلت
لتُودِّع والدَها المسجَّى وتُصلِّي قريبة منه، فقد كانت كثيرًا ما تصلي خلفه في
المنزل؛ ولذا فهي أولُ مَن أخبرت عائلتها بوفاته.
هرولتُ مسرعةً خارج المسجد كي ألحق بالجِنازة،
بينما كانت أمي تحاول جاهدةً أن تدركني، وعلى الجانب الآخر يقف والدي منتظرًا عند
السيارة، وقد هاله ما أنا فيه، فأقبل مسرعًا نحوي، وهو يسأل أمي متعجبًا، عما
يحدث، وأمي نفسها تنظر إليه ولا تجيب:
ــ أين ذهبت
الجنازة يا أبي؟
ـ لم نصلِ
اليوم بالمسجد صلاة الجنازة بنيتي.. فمن أتيتِ بهذا؟!
ـ أمي وأنا
كنا في مصلى النساء وكان معنا نسوة متشحات بالسواد...و
قاطعتني
والدتي:
ـ حبيبتي أنا
وأنتِ كنا هناك وحدنا.. لم تكن بالمسجد نساء غيرنا.. إلا امرأة كبيرة تصحبها
ابنتها.
تأبط والدي ذراعي، وأحاطت ذراع أمي بخاصرتي،
ووقفنا قليلًا، ربما لم تكن هناك جنازة، لكن كانت هناك طفلة كنت معها على موعد في
رؤيا لكي أفهم معنى أن تموتَ ساجدًا لله، ومعنى أن تنعَمَ بالحياة في مرضاة الله،
ومعنى أن ترضى بقضاءِ الله، وتحمَده على ما أصابك في السرَّاء والضراء، ولا
تتسخَّط منه، وأن تعلم أن والديك أغنى ما كنزتَ في الدنيا.. فقبلتُ يد أبي،
وَوَجْنةَ أمي ..وانطلقنا نحو السيارة والدموع تتلاشى بعد أن حاصرتها ابتسامتي
التي أسعدت أبي وأمي كثيرًا.. بينما كنت أجيل البصر بحثًا عن طفلة الرؤيا في
الطرقات التي نمر عليها..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق