الثلاثاء، 25 يوليو 2017

” أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت ” الحلقة (02):




الحلقة الثانية:

"إطلالة على جهود المخلصين في نشر الثقافة"..



عزيزي القارئ توقفت معك في الحلقة السابقة عند سبعينيات القرن العشرين وسلسلة كتابك، ونبدأ الآن الإبحار مع جهود المخلصين في نشر الثقافة بوجه عام وثقافة القراءة بوجه خاص من تسعينيات القرن العشرين:
                         
مكتبة الأسرة وانطلاق قاطرة الثقافة:
مع منتصف تسعينيات القرن العشرين انطلق مشروع "مكتبة الأسرة" التي جاءت فكرة إنشائها في اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع برئاسة السيدة سوزان مبارك رئيس اللجنة وحرم الرئيس الأسبق، وتكاتفت جهود الجهات المشتركة في المهرجان لتمويل هذا المشروع، وهم: المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وزارة التربية والتعليم، وزارة التنمية المحلية، جمعية الرعاية المتكاملة، وزارة الإعلام، وزارة الشباب. ليكون هدفه هو نشر روائع الأدب من أعمال إبداعية وفكرية وفلسفية، وتقديم الأعمال التي ساهمت في تشكيل مسيرة الحضارة الإنسانية، علي أن تطرح هذه الكتب للبيع بأسعار رمزية لتشجيع القراءة وحب الاطلاع بين الشباب والمواطنين، وغيرها من الأهداف التي تدور حول بث الروح الوطنية، وتمكين الشباب وغيرهم من قراءة الأعمال الأدبية والإبداعية والدينية والفكرية والثقافية والسياسية، ونشر أحدث مؤلفات العلماء التي تواكب التطور العلمي والتكنولوجي في العالم، والتواصل مع الحضارات الأخرى من خلال الترجمة التي تقدم للشباب، نشر الوعي بالتراثين العربي والإسلامي.

تراث الإنسانية من الوأد إلى البعث، من الستينيات إلى التسعينيات:
   لم يقم مشروع مكتبة الأسرة على الإيجاز مثل سابقيه "اقرأ" و"كتابك"، ولكنه اتصل بالإيجاز حين إصدار أعداد مجلة "تراث الإنسانية" في عام 1994م، تلك المجلة الشهيرة التي أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، وكانت تصدر شهرية منذ عام 1962م، وحتى عام 1971م، تضم عددًا من خيرة الكتاب والعلماء، مثل: عباس محمود العقاد، والدكتور عبدالحليم منتصر، والدكتور زكي نجيب محمود، وعلي أدهم، والدكتور فؤاد زكريا، والدكتور أحمد أبو زيد، وإبراهيم زكي خورشيد، وإبراهيم الأبياري.

    أصدرت مكتبة الأسرة بعض المواد العلمية من مجلة تراث الإنسانية على هيئة كتيبات  تحمل نفس عنوانها، في موضوعات مختلفة حول الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة والفنون والعلوم وغيرها، وقد أصدرت  في عام 1994م:
تحديد نهايات الأقاليم للبيروني بقلم الدكتور إمام إبراهيم أحمد، عيون الأخبار لابن قتيبة بقلم إبراهيم الأبياري، الانيادة لفرجيل بقلم الدكتور إبراهيم سكر، نكت الهميان في نكت العميان للصفدي بقلم الدكتور النعمان القاضي، روبنسون كروزو لدانيال ديفو بقلم الدكتورة انجيل بطرس سمعان، الكامل في التاريخ الابن الأثير بقلم الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، سقط الزند لأبي العلاء المعري بقلم أحمد إبراهيم الشريف، الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو بقلم فوزي شاهين، العالم إرادة وتمثلًا لشوبنهور بقلم الدكتور فؤاد زكريا، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري أحمد بن عبد الوهاب بقلم إبراهيم الإبياري.

    أما ما أصدرته في عام 1995م، بحسب ما وصلني:
الضفادع لأرستوفانيس بقلم دكتور محمد صقر خفاجة، الفرس لإيسخيلوس بقلم دكتور محمد سليم سالم، الإدارة العلمية لفردريك تايلور بقلم دكتور أحمد الرشيد، البحث عن اليقين لجون ديوي بقلم دكتور أحمد فؤاد الأهواني، عجائب المخلوقات للقزويني بقلم دكتور عبد الحليم منتصر، القانون المسعودي للبيروني بقلم دكتور إمام إبراهيم أحمد، الأساطير الإغريقية بقلم الدكتور إبراهيم سكر، الكتب الخمسة لكنفوشيوس بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، القلق لسيجموند فرويد بقلم الدكتور محمد عثمان نجاتي، الحكايات للافونتين بقلم الدكتور علي درويش، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري لكوندرسيه بقلم الدكتور السيد محمد بدوي، العقد الاجتماعي لجان جاك روسو بقلم الدكتور حسن سعفان، روح القوانين لمونتسكيو بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، رحلات جليفر لسويفت بقلم صوفي عبدالله، سيرة بني هلال بقلم الدكتور عبد الحميد يونس، الاستاتيقا لكروتشة بقم أحمد حمدي محمود، تاريخ الأمم والملوك للطبري بقلم محمد خليفة التونسي، الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الوسيلة الأدبية، للحسين المرصفي بقلم محمد عبد الغني حسن، نقد العقل الخالص لكانط بقلم الدكتور عثمان أمين.

   ثم صدر المجلد الأول في التسعينيات، وهو يضم الموضوعات التالية:
 أبو الطيب المتنبى بقلم عباس محمود العقاد، الأبطال لتوماس كارلايل بقلم على أدهم، النظرية النسبية بقلم الدكتور محمود أحمد الشربينى، ثروة الأمم لآدم سميث بقلم الدكتور عبد المنعم الطناملى، تشريح القانون لابن النفيس بقلم الدكتور بول غليونجى، التأملات لديكارت بقلم الدكتور عثمان أمين، الموسيقى الكبير للفارابي بقلم الدكتور محمود أحمد الحفني.

   تتفق المجلة مع ما جاء من منهجنا حول الإيجاز وحول ترتيب الموضوعات على غير اتفاق كما فعل العاملي في الكشكول والعقاد في ساعات بين الكتب، وهو ما أثبته الدكتور عبد القادر حاتم في مقدمته للمجلد الأول الصادر في الستينات حين قال: (تظهر في الغرب من حين إلى حين مجموعات وسلاسل كثيرة مختلفة المنهج تدرس روائع الكتب العالمية التي أثرت في الحضارة وتلخصها، كما تُترجم لكتابها في إيجاز، وتعرض من هذه الكتب نماذج  مختارة تساعد على فهمهما وتبين خصائصها. ولم نخضع هذه المجموعات لترتيب تاريخي، أو منهج تصنيفي، ذلك أن أذواق القراء وميولهم تختلف، فما يثير خيال قارئ قد لا يثير خيال آخر، ومن ثمَّ لم يُراعَ فيها إلا أن يصدر كل عدد منها حاويًا لألوانٍ مختلفةٍ من المعرفة الإنسانية).

ــ أنور الجندي ومحاولة اقتحام العلاقة بين الشباب والقراءة:
  فطن المفكر الإسلامي الراحل الأستاذ أنور الجندي إلى الحالة التي عليها الشباب من عدم الإقبال على القراءة، والقراءة الجادة بشكل خاص، فأثر أن يصدر بعض الكتيبات التي تحمل قضايا هامة تخص الإسلام والمسلمين، وتلفت انتباههم إلى ما يحيط بهم من مؤمرات تحاك ضدهم فكان أن أصدر هذه الكتيبات التي تتفاوت في أوراقها التي لا تكاد تصل للثلاثين ورقة تحت عنوان واحد في مجموعة واحدة من مثل "في دائرة الضوء" ويكون لكل كتيب عنوان وموضوع مختلف، وكذلك مجموعة أحرى له اسماها "على طريق الأصالة الإسلامية" وكل كتيب يحمل عنوانًا وموضوعًا جديدًا يستمده من العنوان الأكبر للمجموعة، كما يحمل رقمًا متسلسلًا يساعد القارئ على تتبع ما يقوله الجندي، ومنها كتيبات "أحاديث إلى الشباب المسلم" وتتميز بعدد صفحاتها الذي قد يزيد إلى ضعف الكتيبات الأخرى، ويتغلب الجندي على ملل القارئ بتقسيم الموضوعات وتباينها وقصرها وانفصالها عن بعضها غير أنها مشمولة بالموضوع العام الذي يختاره لكتابه من مثل "شبهات في الفكر الإسلامي".

محمد عبد الغني حسن وتقديم الرواد:
حاول الأستاذ محمد عبد الغني حسن محاولة رائعة حين أوجز خمسة كتب لمؤلفين رواد من المؤلفين العرب، وهو يرى أن الرواد من العلماء العرب من الكثرة بمكان، وأن الرائد في تعريفه ما كان الأول في ميدانه الذي اشتهر به وفيه، ثم جاء بعده من استكمل العلم وعمقه وزاد عليه، غير أن الريادة تبقى محفوظة مصونة، لا يحجب فضله من جاءوا بعده، وساروا على دربه.

    لا يدَّعي الرجل إحصاء الرواد ومؤلفاتهم فهذا عمل ينوء بحمله الرجال، وأن كل ما استطاع أن يقوم به هو اختياره لخمسة من الرواد يمثلون عصورًا مختلفة من تاريخ العرب والإسلام، ويمثلون ألوانًا مختلفة من الثقافة والفكر في مجالات الأمثال، واللغة، والأدب، وتاريخ الأدب العربي، وهؤلاء الخمسة هم:

الميداني صاحب كتاب "مجمع الأمثال"، والفيروز آبادي صاحب كتاب "القاموس المحيط"، والشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب "الوسيلة الأدبية"، وجرجي زيدان صاحب كتاب "تاريخ أداب اللغة العربية"، وعبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد". 

  حاول المخلصون من الذين يريدون لهذه الأمة الخير أن تتوثق عرى الصداقة والألفة بينهم وبين القراءة، والمعرفة، وحب الكتاب، فلم يقفوا عند حدود بحث الأسباب، وتشخيص الدواء، بل سارعوا كلٌ بحسب ما استطاع أن يمد يد العون للأخذ بأيديهم، فأوجزوا الكتب المسهبة، وقربوا المسائل البعيدة، وأضافوا، ويسروا، وهذا كتابي ينضم إلى هذه الكتيبة المقاتلة يحاول معهم أن تنجو الأجيال العربية من وهدات الجهل والسطحية المقيتة، واستشراف المستقبل بالتحصن بالثقافة والمعرفة، وأملي فيهم أنهم سيفعلون بعونه تعالى.


” أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت ” الحلقة (01):



"إطلالة على جهود المخلصين في نشر الثقافة"..








هل من جديد نطرحه حول مشكلة ضعف الإقبال على القراءة عند العرب سواء من الكبار أو الصغار، هل الأمر يكمن في البحث عن الأسباب ثم تقديم الحلول فما أيسر هذا؟! ولكن الأصعب منه والأفضل والأجمل هو المساهمة الواقعية الفعالة في تبديد هذه الأسباب، ومحاولة كسب وجذب القارئ الذي تعود القراءءة ثم هجرها لأسباب معيشية أو غيرها، أو خلق قارئ جديد، أو خلق مناخ جاذب للقراءة والثقافة، أو محاولة للقضاء على المغالاة في أسعار الكتب، أو طبع طبعات رخيصة الثمن وتفي بالغرض مثل "بنجوين".

  إن التعرف على الأسباب التي تفضي إلى العزوف عن القراءة،  يكمن في الغالب وبحسب العديد من الدراسات المطروحة والتي سننتقي بعض ما توصلوا إليه منها،  ضعف مستوى القراءة عند الطلاب في المدارس  والجامعات في الأساس، نتيجة تراجع جودة التعليم، عدم وجود الدافعية في طلب العلم، ومحو الجهل، عدم الوعي بأهمية القراءة وجدواها، ارتباطها بأسباب مادية تتعلق بالعائد من ورائها والذي لا يتمثل سوى في "وجع الرأس" كما يقولون، سرعة الملل وقلة المثابرة  لانتفاء العزيمة والمداومة عليها لغياب الهدف من القراءة في الأساس، القراءة ليست شيئًا جديرًا بالاهتمام خاصة بعد انتهاء المراحل الدراسية، ولذلك لا يخصص لها المواطن العربي وقتًا في يومه، كما أن مكونات البيت العربي منذ فترة بعيدة وهو يهتم بـ "غرفة الطفل" عند تجهيز الأثاث، ولا يهتم بعمل مكتبة منزلية، الاكتفاء بكل ما هو سرعي وسطحي ومصور ومرئي، مثل: قراءة المجلات والنشرات والصحف ومتابعة التلفاز والنت، وقد أصبح كل هذا متاحًا ويحمله في يده "المحمول" ذلك الذي أغناه عن حمل الكتاب، ضعف الحالة المادية ، وسوء الأحوال الاقتصادية لا تغري المواطن العربي في بعض البلدان بشراء الكتب حتى لو كان عاشقًا للقراءة،  وقد لجأ أكثر من يقرأ من المثقفين إلى الاعتماد بشكل واسع على الإصدارات المنشورة على مواقع الانترنيت، وهي التي تمكنهم  من التصفح المجاني للكتب دون أن يفقدوا مالًا من ميزانيتهم أو ميزانية أسرهم، وفي نفس الوقت لم ولن يتحملوا مشقة الذهاب إلى المكتبة والشراء منها.

هناك من قدموا مشاريعًا أو آليات بشكل فردي لمحاولة جذب المواطن العربي نحو عادة القراءة، وبالتالي خدمة للثقافة، وهناك من قاموا بعمل كتب تتسم بالموسوعية من قديم ولكن ليس لهذا الغرض خصيصًا، ولعل من أول المحاولات التي وقعتُ عليها كتابيّ "المخلاه"، و"الكشكول"  لبهاء الدين العاملي، يقول الطاهر أحمد الزاوي محقق كتاب "الكشكول" عنه: (جمع العاملي فيه من شتى الفنون، واختار له من أمتع البحوث العلمية، وأغرب المسائل التي لا تنتمي إلى فن بعينه، ولا أسرة علمية واحدة، فكان جديرًا بهذه التسمية لما بينهما من المشابهة على الدلالة على جمع أشياء متفرقة).

  وقد جمع العاملي في الكشكول، أي الحقيبة بالفارسية، موضوعات تتعلق بالفقه، والتفسير، والحديث، والهندسة، والجبر، والحساب، والجغرافيا، والفلك، والسحر، والشعر الرقيق، والنثر البليغ، والأمثال، والفلسفة، وعلوم البلاغة، والصرف ، والنحو وغيرها من الفنون التي لم يجمعها غيره من الكتب السابقة عليه، مما يعني أنه نسيج وحده.

  فإذا انتقلنا إلى زمن الراحل عباس محمود العقاد في مطالع القرن العشرين، سنجد أنه في مدينته أسوان قد اختط لنفسه مشروعًا آخر لم يكن القصد من وراءه أن يجذب القارئ للقراءة أو غيرها، ذلك أنه عند إقامته في بلدته بعيدًا عن القاهرة  كان يقرأ الكتب ثم يثبت ما يكتبه في كتاب طويل عنده ــ آنذاك ــ شمل العديد من الفصول التي تدور حول الشعر، والتاريخ، والدين، والاجتماع، والأخلاق كان قد أصدر منه كراساتٍ خمس، ثم لما تولى الصفحة الأدبية عند عودته إلى القاهرة في صحيفة  "البلاغ" الأسبوعية فكان ينشر من ذلك الكتاب أو مايرد إليه من كتب بعد أن يعرضها ثم ينقدها، بحسب الساعة أو الساعات التي عكف فيها على قراءتها.

عندما تصبح الروايات في الجيب:

    يعد عام 1936 هو البداية الكبيرة للقارئ المصري والعربي في التعرف على الروايات العالمية وذلك حين أسس المترجم والكاتب المصري الراحل عمر عبد العزيز أمين  دار نشر أطلق عليها "روايات الجيب"  تولت إصدارر العديد من ترجمات للروائيين الكبار من أمثال فيكتور هوجو وألكسندر دوماس وأجاثا كريستي البوليسية. وما يعنينا هنا أن هذه الكتب كان يصدرها عمر أمين موجزة أي على هيئة روايات مختصرات من الأعمال العالمية مترجمة إلى العربية، وقد تتلمذ العديد من كبار الروائيين والأدباء المصريين والعرب على هذه السلسلة التي كانت سهلة الحمل، وخفيفة الثمن أيضًا، جاذبة للقراءة، ولقد قرأها نجيب محفوظ، وصنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف وغيرهم.  

ثقافة الوعي العربي حين تستلهم "اقرأ":

   في أربعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية سلسلة "اقرأ" والتي قدم لها الدكتور طه حسين بكلمة موجزة أبان فيها السبب الحقيقي وراء إصدارها وهو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، والإيجاز هنا ليس له محل، بل هي ثقافة تستهدف نشر الوعي بين شعوب الأمة العربية قاطبة.

"كتابي" وثقافة الإيجاز:

 يبدأ الإنجاز الحقيقي للمشاريع التي تستهدف توسيع رقعة القراء، وتوسيع مداركهم، وثقافتهم المتنوعة المتباينة مع الدكتور حلمي مراد الذي كان قاصًا ومترجمًا وكان له مشروع عظيم، بتقديم ملخصات وافية لأبرز كتب التراث الإنساني في سلسلة "كتابي" التي أصدرها عام 1952 بشكل شهري، وظلت تصدر منتظمة حتي أواخر الستينات، وفي أواخر التسعينات قامت إحدي دور النشر الكبري، وهي المؤسسة العربية الحديثة بإعادة طبعها مرة أخري وتوزيعها، كما يقول الأستاذ محمود قاسم، في مقاله "المجهول في عالم المعرفة الثقافية أكثر من المعلوم".

غير أن الأستاذ محمود قاسم يسقط فترة تاريخية أخرى كانت قبل هذا التاريخ الذي ذكره، عندما عاود الدكتور حلمي مراد بنفسه إصدار سلسلة كتابي عن طريق دار المعارف في ثمانينات القرن العشرين، وكتب لها المقدمة التي خاطب فيها القارئ الذي كان يناشده بجمع كل نوعية من المواد التي سبق نشرها وإعادة نشرها مجتمعة في كتاب واحد أو عدة كتب، فلبى النداء وأصدر "مختارت كتابي" وأصدر أعدادًا جديدة من "مطبوعات كتابي" و "كتابي" التي كان يصدرها في سلسلة نجحت في إصدار الترجمات الكاملة لأكثر من مائة رواية عالمية، منها: "هل تحبين برامس، لفرانسوا ساجان" و"اعترافات جان جاك روسو" و"مرتفعات ويذرنج"، و"دكتور زيفاجو"  و"مدام بوفاري" و"الألياذة" و"الطريق إلي بئر سبع" و"المسبحة" أو قربان الحب"، و"مدموازيل جوفر" غير مجلة للصغار مع بعض الأعداد وغيرها.

الرغيف الثقافي في "كتابك":

 مع سبعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية أيضًا سلسلة "كتابك" والذي قدم لها المستشار الثقافي للدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد مع أول كتاب يصدر عنها للأديب توفيق الحكيم، يذكر خورشيد السبب وراء إصدار هذه السلسلة التي لا تعتمد مثل سلسلة اقرأ على النقل والترجمة والإيجاز بل العناية بالثقافة، فيقول: (وقد أحست دار المعارف حاجة القارئ العربي الشديدة إلى الثقافة العامة التي لا غنى عنها لكل إنسان يعيش في القرن العشرين، فاستقر رأيها على أن تمده بهذا الرغيف الثقافي الذي لا يقل وزنًا ولا خطرًاعن رغيف العيش. بل هو أسمى منه وأرفع وأقدرعلى تنمية الذوق. وإمتاع الفكر. وصقل الوجدان. وإفساح الرؤية).

نواصل الحديث عن جهود المخلصين في نشر الثقافة في الحلقة القادمة، ألقاكم على خير..


أَوْجَزْتُ لَك .. لِتَقْرَأ أَنْت







المقدمة
  

نشأت كأغلب أبناء جيلي على حب القراءة إلى درجة الهيام بها؛ فقد كانت هوايتنا التي لا تنازعها سوى السينما، والإذاعة، والتليفزيون، وكانت ضالتي الأولى في مجلات الأطفال، ثم في كتبي المدرسية، وكتب من يكبرونني سنًا. لم أكتفِ بالاستعارة من مكتبة مدرستي، فاستعرت من مكتبة مدرسة أخي الأكبر، أي يستعيرها لي، ثم اشتركت في أكثر من مكتبة بأقليمنا غير التي كنت أشتريها من مصروفي الصغير، وكنت أتابع برنامج "قرأت لك" الذي يقدمه الإذاعي الكبير وفيق مازن الذي كانت تبثه إذاعة صوت العرب، وعلى قدر ما أفادني على قدر ما كنت أرفض أن يقرأ أحد بالنيابة عني، ولا يجب أن تكون القراءة بالنيابة عن أو المشاركة من مثل "اقرأ معي"، القراءة عمل يجب أن يكون عن قناعة ودافعية ومحبة للمعرفة في الأساس، وليست قراءة كسبية في مضمونها وهدفها من أجل الارتزاق والترقي فقط، بل هي أرقى من ذلك.

  من هنا نشأت فكرة هذا الكتاب الذي يواكب ذلك الانحسار الشديد في القراءة بين أبناء هذا الجيل، وذلك عن طريق إيجاز بعض الكتب أو الفصول الهامة منها في مختلف المعارف فيما يشبه العمل الموسوعي الذي لا يبعث على الملل حين تأتي متتالية حول موضوع واحد، وفي نفس الوقت يغطي مناطق كثيرة في عقل القارئ، ويوجهه نحو اهتمامات لم يلقِ لها بالًا.

      ولقد جربت هذه الطريقة مع بعض الشباب وقد أفلحت عبر تناول مفيد للكتب وعرضها بشكل إجمالي، والتعريف بالمؤلف، والتركيز على الكتاب أو بعض فصوله، ومحاولة لنقده، مما يثير ذهن القارئ ومحاولة الإحاطة به، وتحفيزه لقراءته، وربطه بكتب تتوافق معه أو تختلف، وتأتي موضوعات هذه الكتب على غير ترتيب في العرض؛ فتنتقل من علم إلى أدب، إلى دين تسمح للقارئ بالحرية في قراءة ما يريد، وهي طريقة انتهجها أكثر من كتاب لنفس الغرض.

 وأرجو من الله أن أوفق في هذه المهمة عبر هذه الآلية التي أرى أنها قد تؤتي ثمارها مع العزيمة الصادقة من القارئ، وجهود المخلصين الذين يعملون من أجل نشر ثقافة القراءة، وغاية "لتقرأ أنت"، أي قراءة "ما أوجزته لك" حتى يكون السبيل إلى قراءة النص الأصل غير الموجز.


السيد إبراهيم أحمد





كتاب جديد: "سياحة يسيرة في رحاب السيرة"...

   




صدر عن مكتبة صحيفة ذي المجاز لمؤسسها ورئيس تحريرها الشاعر القدير الأستاذ محمد عبد الستار طكو،  كتاب: "سياحة يسيرة في رحاب السيرة" لمؤلفه الأستاذ السيد إبراهيم أحمد، في شهر يوليو عام 1917م، ويقع في (169) صفحة من القطع المتوسط. والكتاب كان قد صدر في حلقات يومية طوال شهر رمضان المبارك الماضي،  برعاية كريمة من الشاعر القدير الأستاذ ياسين عرعار والذي أشرف على التنسيق الداخلي للكتاب.

  يضم الكتاب بعضًا من المقالات الهامة في تأصيل مسائل يتشابك فيها الفقه مع العقيدة مع السيرة المطهرة في إطار الالتزام بالنقل الصحيح وشيء من إعمال الفكر من أجل الخروج بقيم جديدة، ورؤى دقيقة من هذا الالتباس المصطنع أحيانًا في مسألة زيارة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.

كما يتعرض الكاتب خلال تلك السياحة إلى الإرهاصات التي سبقت رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك على العامة والصحابة وعلى ابنته الزهراء رضوان الله عليهم أجمعين، ليقدم بتحليل ـ غير مسبوق ربما ـ صورة جديدة غير الذي دأب الفكر الإسلامي على طرحها وبثها بشكل يكاد يكون محفوظًا من كثرة استهلاكه.

كما تستعرض المقالات ذلك الاقتتال الحادث بين المتصوفة والسلف حول الحياة البرزخية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما تأتي المقالات منتصرة فيه لجانب السلف بشيء من الحياد العلمي، لغلبة الأدلة النقلية والعقلية في صالحهم.

    وتتعرض المقالات كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحي في قلوبنا بدراسة المحبة والفداء بين من أحبه من الصحابة رضوان الله عليهم وبين آخر وأصغر مسلم تظاهر دفاعًا عن سيده ونبيه صلى الله عليه وسلم ويفتديه بنفسه وروحه وبأمه وأبيه.

كما تناولت المقالات ضرورة التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أولئك الذين ظنوا أن قدره الكريم مثل قدر أي أحد من البشر، بل فاقوا في تعظيمهم أناسٍ ما يساوون قلامة ظفره صلى الله عليه وسلم، فأغرقوهم بالألقاب والتفخيم، وأزالوا عن اسمه الكريم لقب السيادة، واستسهلوا فلم يكتبوا الصلاة والسلام عليه بعد اسمه الكريم صلى الله عليه وسلم.

يقول الأستاذ محمد طكو في نهاية الكتاب: (تلك الرحلات التي مضينا بها مع الأستاذ السيد إبراهيم من خلال السيرة النبوية العطرة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، كانت رحلات ماتعة ورياض من الخير والبركة، استأنسنا بهن في شهر رمضان المبارك. أسلوب الأستاذ إبراهيم في السرد، وطريقة طرح الأفكار تشد القارئ بشكل ماتع وشيق، أسأل الله أن ينفعه وينفعنا بما كتب، وينفع كل من سمع وقرأ).

     كما يرى الكاتب أن هذه السياحة في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها تحتاج قراءة جادة بالقلب والعقل معًا وليس بالعاطفة وحدها؛ فربما تصور متصور من قراءة العنوان أنه كلام تقليدي لا يحتاج منه غير قراءة عابرة ثم يصلي ويسلم على سيد الخلق أجمعين ثم يمضي إلى نومه أو عمله أو صلاته، وقد تصور أنه فعل ما عليه، بل هي تحتاج أكثر من ذلك، وهذا ليس للتشويق، أو لبيان الجهد، بقدر ما هو للاستعداد والمثابرة. وقد تدعو الحاجة لتناول الموضوع الواحد لطوله وأهميته فسنفرده في مقالين متتاليين أو أكثر، وسيكون هناك التزام بذكر المراجع، وعزو الآيات والأحاديث والأقوال لأصحابها من باب الأمانة العلمية، على أننا سنضمنها في ثنايا المقال لتناسب الحال.

والحق أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ستظل ماثلة في القلوب والأذهان إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، سواء في ذلك عقل وقلب من أحبوه واتبعوه أو من خالفوه فاحترموه أو من غيرهم، ولهذا ستظل نبعًا متجددًا لا يقف عند حد الإشباع والارتواء بل سيجد فيها كل قارئ فضلاً جديـــدًا، ورؤية تدعو إلى التفكير والتأمل وربط الأحداث والتعمق فيها، واستكناه الأسرار، والتعرض للأنوار، وقد تفتح أمام القارئ مساقات يحب أن يزيد فيها تعمقًا وفهمًا.


  لتحميل الكتاب:

http://www.zelmajaz.com/%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8/%

الاثنين، 24 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (30):



في حلقتنا الأخيرة من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” نستكمل حديثنا عن “بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم” فتتناول شخصية الرسول صلى الله عليه البشرية فقط، وهي التي تجعل لكل نبي شخصيته المتفردة عن النبي الآخر، وكيف نتعامل مع بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نغالي فيها، حتى نجعلها في مقام فوق مقام الربوبية، ولا نجافيها حتى نغمطها حقها، بالتقليل من قدرها، والتنقيص من شأنها، كما أشرتُ سابقًا في دراساتنا عن التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلنبدأ:
إن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ـ ولاشك ـ هي حجر الزاوية في بناء الإسلام الشامخ.
يؤكد هذا محمد قطب في كتابه “منهج التربية الإسلامية”: (كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تُحَبْ، وتُحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقًا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعدٌ آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضًا لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئًا واحدًا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك).
فالمواهب الشخصية للرسول وماجَبُلَ عليه من صفات وطباع تختلف من رسول لرسول فلا يمكن أن يكونوا جميعًا شخصًا واحدًا، ومع كونهم أخوة إلا أن أمهاتهم شتى وبيئاتهم شتى وعصورهم وأقوامهم وكذلك معجزاتهم متباينة من حيث الشكل متحدة من حيث جوهر الدين وفحوى الرسالة فدين الله واحد ألا وهو الإسلام، وإلا ما كان نبينا محمدًا سيد المرسلين وخاتمهم صلى الله عليه وسلم.
يطرح الأديب توفيق الحكيم سؤالًا: (هل للطبع والمزاج والخلق الذى رُكِبَ عليه النبي أو الرسول أثر فى أسلوب رسالته؟ هل شخصية الرسول تطبع بخاتمها شكل الدين الذى يدعو إليه؟).[توفيق الحكيم، تحت شمس الفكر ص33].
ويجيب مؤكدًا أن كل ما سبق له تأثيره على شخص الرسول لأن التبعة في أسلوب الأديان تقع بلا مراء على كاهل الأنبياء، فيقول: (والنبي إذن مسئول عن الطريق الذي اتبعه للإبانة عن الحق مسئولية ملقاة على شخصيته التي صبغت الشريعة بصبغتها، وعلى قدر الشخصية ذات الوجود الفعلى تقاس العبقرية العظمى والمجد الأسمى! ومن هنا فإن النبي أو الرسول لا يصل إلى الحق متجردًا عن شخصيته، إلا عن طريق إحساسه وطبعه وعقله، وهي ملكات تختلف باختلاف الأشخاص!).
يقرر الحكيم في النهاية بشكل حاسم وجازم: (ولعل “محمدًا” هو أكثر الأنبياء حرصًا على تنبيه الناس في كل مناسبة إلى وجود شخصيته المستقلة فهو لايفتأ يذكّرهم أنه بشر خاضع للقوانين التي يخضع لها البشر).
إن بشرية محمد صلى الله عليه وسلم حين التقت برسالة السماء جاء الإعجاز في شخصه الكريم التي كانت محملة بالملكات والمواهب الذاتية.
يقول الدكتور محمد شيخاني: (هذه هى النبوة شخصية متزنة منذ ولادة صاحبها، عاقلة مفكرة مميزة بين الخير والشر. هذا هو الاستعداد لتلقي رسالة السماء وكيف لا؟ فإن التكامل في هذه الشخصية لابد له من القدر الإلهي، لابد له من الرسالة، لقاء السماء بالأرض، آيات من الله لتكون دستورًا أبديًا متجددًا وشخصية مميزة بكل ما يعنى التميز من معنى، تلتقى الشخصية بما لديها من ملكات بما تنزله السماء فتحدث المعجزة؛ معجزة الله في شخص هذا النبي) [الدكتور محمد شيخاني، محمد عبقرى مصلح أم نبي مرسل ص 18].
لقد صدق من قال أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكن رسولًا كريمًا لكن بحق رجلًا عظيمًا، فلو لَم يكن صلى الله عليه وسلم رسولًا لكان “إنسانًا” في مستوى الرسول يبتدره من يراه هاتفًا: هذا الرجل كاد أن يكون نبيًا، وحاشاه أن تنفصل نبوته عنه صلى الله عليه وسلم، فالنبوة رسالة وليست وظيفة، بقدر ما نريد أن لا نغمطه حقه صلى الله عليه وسلم حين نحيل كل مافيه إلى النبوة منكرين عليه أن يكون له ملكاته وأخلاقه وصفاته الخاصة.
ينبه الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر الأسبق ــ رحمة الله عليه ــ من خلال كتابه “الرسول صلى الله عليه وسلم: لمحات من حياته ونور من هديه” كل من يتعرض من المسلمين للكتابة عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون حريصًا مع ما يتناسب ومقام وجلال شخصه الكريم بحيث لا يسلك مسلك المستشرقين فيقلل من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في التركيز على “البشرية” فقط، وكأنه ليس فيه صلى الله عليه وسلم شيء سوى البشرية.
كما ينبه الدكتور عبد الحليم محمود إلى وجوب من يتعرض لهذا الجانب من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أن يلازم ويناسب ويوائم بين ﴿بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ وبين ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾، وهذه المناسبة أو تغليب أحد القولين على الآخر إنما يعود إلى قوة الشعور الدين والإيماني عند الأديب أو الكاتب.
غير أن الدكتور عبد الحليم محمود يقرر في النهاية إلى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه نبي ورسول فهو متصل بالله دائمًا، فيقول: (إنه صلى الله عليه وسلم في السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدي رسالة السماء غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: “بشرًا رسولا” فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله؛ إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله).
إن تركيز القرآن الكريم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم يحمل وراءه سرًا كبيرًا في العقيدة الإسلامية التي تحافظ على ضرورة ولزوم أن تظل هذه العقيدة في مقام “التوحيد” بحسب المفهوم الإسلامي، بعيدة بعد السماء عن الأرض من الشرك أيًا كان نوعه أصغر أو أكبر، وهذا الحرص يوجب تحديد الصفات الإلهية التي لا يمكن أن يتشارك فيها أحدًا من البشر ولو كانوا من الأنبياء والرسل مهما بلغت معجزاتهم.
كما أن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم تعطي فخرًا للبشر كلهم في كون الله تعالى لم يرسل ملكا من الملائكة، بل أن من يستبعدون أن يكون الرسول من البشر لم يعظم الله حق عظمته مطلقًا، ولم يفهم حكمته الإلهية من أن يكون الرسول بشرًا من البشر الذين يصلحون لئن يحملوا رسالات السماء إلى بني جنسهم، لتقطع الطريق على من يزعمون أن البشر لا يصلحون لتبليغ كلام الله تعالى، غير أن بشريته صلى الله عليه وسلم لا تعني أن مكانته فوق مكانة البشر، بل أن الأصل أنه تعطيه باتصاله بالسماء شرعية في أن كل ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم هو تشريعٌ لكل المسلمين يناسب بشريتهم بما لا يخرج عن استطاعتهم ومقدورهم، ويوافقها تمامًا فهم صناعة إلهية وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير.
والحق أن جورج سارتون أصاب حين وصف الشريعة الإسلامية بالشريعة الإسلامية، حيث يقول: (أن مايتميز به الشرع الإسلامي من البساطة والاعتدال، يَسَّر لأي إنسان في أي موطن، أن يتقبله وينفذ إلى روحه وجوهره منذ اللحظة الأولى، ولهذا جاءت الشريعة الاسلامية شريعة بشرية من يوم أرسل الله بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).
إن النبوة صفة إيجابية مضافة لمن اختاره الله تعالىواصطفاه للقيام بأعبائها، ولا يمكن بأي حال أن تكون صفة سالبة للملكات الشخصية، والمواهب الفطرية، والخلال الإنسانية التي يتحلى أو تحلى بها قبلًا الرسول أو النبي، هذه الصفات التي تكون مركوزة في شخص الرسول/البشر من منح ربانية، وصفات موروثة استمدادًا من الأرومة والأسلاف، وصفات مكتسبة من البيئة، وهي التي تصنع التمايز والتباين داخل أفراد الأسرة الواحدة.
هنا لا تحلق البشرية بعيدًا عن مشكاة النبوة، كما لا تزايل النبوة أنفاس البشر/الرسول؛ فالوحي الإلهي ليس ملازمًا للنبي طوال يومه، وإلا فأين يقع اجتهاد الرسول فيما ليس فيه نص؟!

إن الذي يجب التنبيه عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وسيظل هو أكمل البشر في أي جانب من جوانب البشرية في مسيرتها؛ فلقد كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر عبودية لله تعالى انطلاقًا من كون كمال الرسول صلى الله عليه وسلم فى تمام عبوديته لله عز وجل، وأن مقام العبودية أرقى درجات الكمال البشرى، وعبوديتهم لله تعالى هي سر خلقهم، ووجودهم في الأساس، وهي الغاية التي أرسل الله بها رسوله ليخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادته وحده، وتحمل في سبيل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشاق وإساءات رحمةً منه بالبشر وإشفاقًا عليهم، حتى يركبون معه صلى الله عليه وسلم سفينة النجاة فرارًا من الوثنية والشرك، ليكون رسولًا من البشر إلى جنسه من البشر لكنه صلى الله عليه وسلم يبقى منفردًا، ومتفردًا، ومتميز عن جميع البشر.

الخاتمة:
مع آخر كلماتنا عن حبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم البشر الكامل، وسيد الخلق تنتهي سلسلة حلقات “دراسات يسيرة في رحاب السيرة”، ولا يسعني أن أتوجه بالشكر إلى من فكر فيها، والداعي إليها، ومن قام بتنفيذها، والإشراف عليها، وفي مقدمتهم: مؤسس صحيفة ذي المجاز “نافذة الخير” الشاعر والإعلامي القدير الأستاذ محمد طكو، ومن زاملني رحلة النشر الشاعر القدير الستاذ ياسين عرعار، وكل فريق العمل بصحيقتنا “الغراء”.


كما أتوجه إلى سيداتي وآنساتي وسادتي من القراء الكرام بأسمى آيات الشكر لمتابعتهم الكريمة، واهتمامهم البالغ، والاعتذار الشديد لمن لم يجد فيما قلت كلامًا جديدًا… وكل عام وأنتم بخير، تقبل الله رمضانكم المبارك، وأسعدكم بفطركم المبارك، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (29):





في حلقتنا هذه من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” نستكمل حديثنا عن “بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم” فتتناول نظرية النبوة عند فلاسفة وفقهاء المسلمين كما تصورونها، والاصطفاء الإلهي، ونفي العمل الكسبي للإنسان في الحصول على النبوة، واستخقاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والمواهب الشخصية التي سنتكلم فيها بشكل أوسع في الحلقة التالية، فلنبدأ:
يقول السيد إبراهيم فصيح الحيدرى: (اعلم ان الرسالة عطية إلهية لاتُكتَسب بجهد ولا تنال بكسب، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، ولكن الكسب فى امداد النفس لقبول آثار الوحى بالعبادات والمعاملات الخالصة عن الرياء من لوازم الرسالة، وكما أن النوع الإنسانى متميز عن سائر الحيوانات بنفس ناطقة هى فوقها بالفضيلة العقلية كذلك نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تميزت عن عقول الناس بعقلٍ هاد مهدى هو فوق العقول كلها بالفضيلة الربانية والمدبرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها، فإن النبى وإن شارك الناس فى البشرية الإنسانية من حيث الصورة فقد باينهم من حيث المعنى؛ إذ بشريته فوق بشرية الناس لاستعداد بشريته لقبول الوحي، وقد أشار الله تعالى إلى جهة المشابهة من حيث الصورة بقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [سورة الكهف: من الآية: 110]، وإلى جهة المباينة من حيث المعنى بقوله: ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ [سورة الكهف: من الآية: 110]) [السيد ابراهيم الحيدرى، الصراط المستقيم للدين المحمدى القويم. مكتبة الحقيقة تركيا ص 12].
لقد شكلت نظرية النبوة في الفكر الإسلامي أثرًا بعيد المدى وجدلاً طويلًا؛ فقد تناولتها أقلام الفلاسفة بين مؤيد ومعارض لها، وكانت التي تدور حــــــــــــــولها أغلب اجتهاداتهم ومجادلاتهم، هي: هل النبوة فطرية أم مكتسبة؟ أي هل هي موجودة في الإنسان الذي سيكون نبيًا؟ أم أنه يستطيع بشي من المواهب الروحية وعن طريق قوة خاصة أو مخيلة ممتازة إذا أكتسبها فاز بالنبوة؟
يجيب أبو الفتح الشهرستاني على التساؤلات السابقة في “نهاية الإقـــــــــدام في علم الكلام”، يقول: (فكما يصطفيهم من الخلق فعلاً ــ أي الرسل ــ بكمال الفطرة ، ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق، وكرم الأعراق فيرفعهم مرتبة. مرتبة حتى إذا بلغ أشـــــده وبلــــغ أربعين سنة وكملت قوته النفسية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكًا وأنزل كتابًا).
ومهما يكن فنظرية أهل السنة قائمة على أنه في نفس النبي ومزاجه كمالًا فطريًا استحـــــق به النبوة وسما بسببه إلي الاتصـــــال بالملائـكة وقبول الوحي، والأنبياء هم صفوة الناس وخيـــــرة الله في خلقه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [سورة الحج: 75].[دكتور إبراهيم مدكور، مجلة الرسالة، العدد177] لذا فقد وجب العلم بأن النبوة اصطفاء خالص من الله تعالى يختص به من يشاء من عباده الذين توفرت فيهم صفاتها فهي لا تنال بالمجاهدة والمعاناة وتكلف أنواع العبادات أو الاجتهاد في تهذيب النفوس وتنقية الخواطر وتطهير الأخلاق بأنواع الرياضات النفسية والبدنية.
فالنبوة بذاتها مرتبة فوق مرتبة البشر العاديين لأنها خارج الحدود التي يستطيعون الوصول إليها باجتهاداتهم فالذي يختاره الله تعالى يؤهل بعنصر لا يحتاج للبشر العاديين ذلك هو الاتصال بالله تعالى عن طريق والوحي أمر إلهي محض لا أثر لسعى المرء في كسبه أو دفعه وبالتالي فالنبوة إلزامية غير كسبية فلا ينالها الإنسان بالجهد الفكري أو الترقي الروحي والأخلاقي ولا عبرة في حصولها للقيم الدنيوية والاعتبارات المادية فالله تعالى قد اختص بالنبوة من شاء في الوقت الذي شاء وفقًا لحكمته وعلمه.
يرى الشيخ محمد الغزالى في كتابه “علل وأدوية” أن النبوة على الرغم من كونها اصطفاء إلهي، غير أن محمدًا صلى الله عيه وسلم كان أهلاً لاستحقاقها، فيقول: (فى علوم الدين يقولون: أن النبوة هبة لا كسب، يعنون أن النبوة ليست إجازة علمية أو تربوية يحصل عليها بعض الدارسين بعد ليال ساهرة في البحث والتمحيص، إنها فضلٌ أعلى، يخلق الله له أُناسًا من معدن خاص، يكونون بنقاوتهم الفطرية أهلاً لتلقى الوحي، والوصول إلى درجة من المعرفة دونها جمهرة الفلاسفة والمفكرين. ونحن نقول: لو كانت النبوة كسبًا شخصيًا ــ وهذا فرض فحسب ــ لكان الإنسان الذي يتناولها ولو كانت في الثريا هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولكان استحقاقه لها بتفوق ساحق يجعل مكانة الذين يجيئون بعده في مؤخرة الصف، إنه الوحيد الذي غير الدنيا واجتاح ظلماتها ومظالمها، والوحيد الذي ترك تراثًا قديرًا على هذا التغير المطرد كلما تفسخت الحضارات، واعوجت الخطوات).
وذلك ما كان له أن يكون إلا لأن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم فى إنسانيته قد عانقت رسالته.
يقول خالد محمد خالد، “رجال حول الرسول”: (إن الإنسان والرسول، إلتقيا في محمد لقاءً باهرا، والذين استرابوا في رسالته، لم يستريبوا في عظمته ولا في صفاء جوهره، ونقاء إنسانيته، وإن الله الذى يعلم أين يجعل رسالتــــــه قد اختار لها إنسانًا، يزكيه أقصى ما تطمع البشرية في إدراكه من رفعة، وسمو، وأمانة. فلعدم إسترابتهم فى خُلقه كرجلٍ عاش بينهم صبيًا وحتى بلغ مطالع الرجال فرغم مجابهتهم بدعوته ومبارزتهم لُب عقيدتهم وهو يرجها رجًا، لم يطالبوه بودائعهم والأمانات المودعة عنده، وهذه ولا شك أخوف مايخاف عليه ممن خرج على اعتقادهم، وعلى هذا فلم يفعلوا، لأن مرجعيته الأخلاقية عندهم أقوى من إعتقادهم فيما يعتقدونه).
لقد اشتهر صلى الله عليه وسلم بين قومه بعلو الهمة والبعد عن الدنايا حتى أُطْلِقَ عليه الصادق الأمين, وارتضوه حكمًا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، وأمينًا على ودائعهم حتى بعد أن واجههم بدعوته التي تناهض عقائدهم وسلوكهم، فإنهم يعلمون أن خُلقه من ذاته، وكماله طبعٌ فيه[عطية صقر، المصطفون الأخيار، ص145].
يشهد المستشرق السياسي أنتونى ناتنج برحمة وخلق وفهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم للبشر، فيقول: (ولعل أشد مايستأثر بِلب دارس التاريخ العربى من غير المسلمين إنما هو ماطُبِع عليه محمد من صفات الإنسانية. كان أكثر الناس فهمًا للقصور البشري، ومن ثَم كان أرحم الناس بالناس، وكان عزوفًا عن متاع الحياة) [انتونى ناتنج، العرب تاريخ وحضارة ص 35].
وليس بجديد حين نجاهر بالقول مع من قال: إن عظمة نبي هذه الأمة لا تكمن في عصمته وارتفاعه عن أفق البشر ــ وما لعظمة فى هذا إذا كان الأمر محض اختيار وترتيبٍ إلهيين لا تعليل لهما ــ بقدر ماتَكْمُنْ في ارتفاعه هو بجهده واختياره إلى آفاق المسئولية الكونية دون أن يفارق بشريته صلى الله عليه وسلم.
نصل في نهاية حلقتنا مع العقاد الذي يقترب من حدود ما نراه في كون الرسول يتصف بمواهب شخصية بشرية في ذاته قبل اتصاله بمقام النبوة، يقول العقاد مبينًا الفارق بين أن يكون الإنسان نبيًا ومع هذا له ملكاته ومواهبه الشخصية: (والنبوة ـ ولاخفاء ـ شرفٌ عظيم تدين له الرؤوس والقلوب، ولكن النبوة وحدها بغير شخصية” تناسبها لم تكن كفيلة لذات النبي بهذه الهيبة وهذا الحب والإعجاب جيلاً كاملاً حافلاً بالعظائم والتجارب مزدحمًا بأطوار النصر والهزيمة، وعوارض الرجاء والقنوط، فلو لم يكن محمد يملك من صفات القدرة والشجاعة والبلاغة والتدبير والمهابة وحسن الأثر في النفوس نصيبًا أوفى من نصيب أصحابه وأتباعه لما دانت له هذه الأطواد الشوامخ بالتطامن والاطمئنان، ولما انقضى الزمن على هذه الصحبة دون أن تظهر فوارق الصفات الشخصية إلى جانب فوارق النبوة وفوارق الدعوة وما تقتضيه من الإصغاء بوحي الإيمان، دون وحي العاطفة والبديهة) [عباس محمود العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص221].
ونواصل في الحلقات القادمة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم موضوع بشريته صلى الله عليه وسلم، فإلى لقاء..

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (28):









في حلقتنا هذه من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” نستكمل حديثنا عن “بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم” فتتناول بشرية الرسول صلى الله عليها وسلم في تفردها بمجموع معاناة الرسل السابقين عليه، فكل نبي كان له “مُفردة” من عذاب أو ألم تحملها صلى الله عليه وسلم باجتماعها فيه، زد على هذا أن كل صفات الأنبياء السابقين عليه تجمعت فيه بوصفه النبي الجامع لكل صفات الخير فيه، علاوة على ما تفردت به ذاته صلى الله عليه وسلم من صفات، وهو ما يعطيه خصيصة أنه سيد الأنبياء عليه وعليهم السلام في كونه الجامع لعذاباتهم والشامل لكل صفاتهم، كما تناقش هذه الحلقة حدًا فاصلًا بين “محمد/الإنسان” وفهم أصحابه رضي الله عنهم لهذا في خطابه لهم، وبين “محمد/النبي” وخطابه لهم بهذه الصفة، فلنبدأ:

يقول الكاتب أحمد بهجت في كتابه: ”أنبياء الله”: (إنَّ ما زاد في قدر محمد أنه بُعِثَ لعصر النضج العقلى .. وبُعِثَ قبل هذا العصر .. فاحتمل أضعاف ما احتمله الأنبياء.. وقاسى في الله أضعاف ماقاسوه .. وتعذب وحده بمثل ماتعذبوا جميعًا، وأحب الله مثلما أحبوه وزاد .. وكرمه الله حين أمهم فى الصلاة فى رحلة الاسراء والمعراج).

لقد احتمل صلى الله عليه وسلم أضعاف ما احتمله الأنبياء قبله جميعًا عليهم السلام، هذا على الإجمال، وتفصيله يبينه الدكتور عائض القرنى فيقول في كتابه “على بوابة الوحى”: (وفي الوحي المقدس: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾. لا والله لا يصل واصل إلى الولاية الكبرى والسعادة العظمى والعبودية الحقة إلا بجهد مبذول، وعرق مسفوح، ودم مسفوك وعرض يمزقه الحسد، وسمعةٍ يشوهها الجناة، وقلب يبلغ الحنجرة من التهديد والوعيد، وكبد حرى تشوى على جمر الانتظار، وقلب مفجوع بويلات المواقف، وأهوال تشيب لها رؤوس الولدان، وحتى يختطف النصر بجدارة، ويؤخذ الكتاب بقوة، وينال المجد بتضحية، وتقطف الثمرة باستحقاق، وتعطى الجائزة بتأهيل، فآدم يأكل الشجرة ويهبط ويندم ويتوب وينكسر ثم يجتبى ويعلو ويكرم، ونوح ينوح من عقوق الابن، وشقاق المرأة، ومحاربة قومه، وموسى يتجرع الغصص، ويقف تلك المواقف التي يهتز لها الكيان ويرتجف من هولها الجنان مع تهم وإيذاء، وصد ومنازلة، وحروب وإعراض وإرجاف.

وإبراهيم يعيش حياته جهادًا في سبيل الله مع تكذيب والده، والأمر بذبح ابنه، وإعراض قومه، ووضعه في النار وملابسة الشدائد، والمرور بالنكبات والمصائب. وعيسى يذوق طعم الافتراء المر، والأذى المعتمد، والفقر المضنى).
بعد سرد القرني لعذابات الأنبياء عليهم السلام يرى أن قائمة الأنبياء وصحيفة الرسل لابد أن تختم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي: (تجمع له هذه النكايات جميعًا ليكون أعلى الكل كعبا، وأثبتهم قدما، وأسعدهم حظا، فيموت أبوه وهو حمل، ثم يتبعه جده وهو طفل، ثم يلحقه عمه في زمن الضعف، ثم تتلوه خديجة زمن النصر، ثم يطرد من مكة طردا، ويشرد تشريدا مع الضرب بالحجارة ، ووضع السلىَ على الرأس، مع قاموس من الشتائم بوصفه بالجنون وقتل الأصحاب، وموت الأبناء ، وقذف الزوجة، ومصاولة اليهود، وتكذيب النصارى، ومحاربة المشركين، وتربص المنافقين، وصلف الأعراب، وتيه الملوك، وبطر الأغنياء، مع مراراة الفقر، وجدب المعيشة، وعوز الحاجة، وحرارة الجوع، ومعاناة قلة ذات اليد، فالمرض عليه يضاعف، فهو يوعك كما يوعك رجلان منا، شج وجهه وكسرت ثنيته وجرح في جسمه، ثم كان الله معه في كل ذلك ففاز بالزلفى ونال حسنى العقبى، بل وصل أشرف المقامات وأجل الرتب).

لم تكن إلا رسالة الإسلام هي الرسالة العالمية الجامعة الشاملة الخاتمة الخالدة الباقية، ولابد لها من رسول يجمع صفات كل الأنبياء الذين سبقوه فيقول سليمان الندوى في كتابه “الرسالة المحمدية”: (إن جميع الأنبياء كانوا شهداء ودعاة ومُبشِّرين ومُنذِرين؛ بَيْد أن هذِهِ الصفات لم تكن سواسية في جميع الرسل؛ بل كان بعضها في بعضهم أظهر من أخواتها؛ فكان يعقوب وإسحاق وإسماعيل عليهم السلام قد غلبت عليهم صفة الشهادة وكانوا شهداء الحق، وغلبت علَى إبراهيم وعيسى صفة التبشير؛ فكانا مُبَشِّرَين، ومِن الأنبياء مَن غلب عليه وصف الإنذار لِـمَن خالف الحق وجحده؛ فكانوا مُنذِرين كنوح، وموسى، وهود، وشعيب، ومنهم مَن غلب عليه صفة الدعوة إلَى الحق، وامتـاز بها أكثر مما امتــاز بسـائر النُّـعوت الأخـرى كيوسف، ويونس عليهم الصلاة والسلام جميعًا).

يختتم الندوي حديثه بالنبي الجامع لكل الصفات السابقة عليه والموجودة في ذوات الأنبياء السابقين عليه عليه وعليهم السلام مضافًا إليها صفاته الكريمة التي يتفرد بها، فيقول: (أما مَن كان جامعًا لهذه الصفات كلها، واتصف بها جميعًا، فكانَ مبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلَى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وكانت حياته ملأى بهذه النعوت والشؤون، وسيرته ممتازة بهذه الخصال والخلال؛ فهو النبي الجامع محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بُعِث ليختم الله به النبيين والنبوات؛ فأعطي الرسالة الأخيرة ليبلغها إلَى البشر كافة؛ فجاء بالشريعة الكاملة الَّتِي لا يحتاج البشر معها إلَى غيرها، ولم تنزل من السماء إلَى الأرض شريعة علَى قلب بشر بعد هذِهِ الشريعة).
لقد حظيت التعاليم المحمدية بالخلود، واختُصت بالبقاء والدوام إلَى يوم القيامة؛ فكانت نفس محمد صلى الله عليه وسلم جامعة لجميع الأخلاق العالية والعادات السَّنية.

إن الموقف الذى طالما التزمناه وارتضيناه منهاجًا في كتابة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن محمدًا بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لو لم يكن رسولًا كريمًا لكان رجلاً وإنسانًا عظيمًا ما نقص منه من ذلك شيء.

يقول الراحل خالد محمد خالد في كتابه “إنسانيات محمد”: (لو لَم يكن “محمد” “رسولاً” لكان “إنسانًا” فى مستوى الرسول! ولو لم يتلقَّ الأمرَ من ربه: “يأيها الرسولُ بَلِّغ ما أُنزِل إليك” لَتَلَقَّاهُ من ذاتِ نفسه، يأيها الإنسان بلِّغ ما يعتملُ في ضميرك . . ذلك أن “محمدًا الإنسان” جاوزَ نُضجهَ وارتقاؤه كُلَّ تُخُوم الذات وحدودها، ولم يكن ثمةَ سبيل لوقف انتشار هذا النضج، وهذا الارتقاء خارج الذات، وخارج البيئة .. بل خارج كل زمان، وكل مكان .. إن عظمته التي فرضت نفسها، ونادت إليها ولاء المؤمنين، وإعجاب المعرضين .. عظمته، التي لبثت زُهاء ألف وأربعمائة عام، وستظل دومًا، تُرسل ضياءها وسناها .. وتبثُّ في ضمير الزمن رشدها، ونُهاها.. عظمته هذه، تنبُع ـ أول ما تنبع ـ من إنسانية “محمد” . . من الطريقة التي كَّون بها نفسه، وجدانه، وعقله تحت عين الله ورعايته .. ومن الموقف الذي اختاره والتزمه، تجاه الكون، والناس والحياة … والحق أن “محمدًا الإنسان” شيءٌ باهر .. فإذا التقى به “محمد الرسول” فإن عظمته آنئذ تجاوز كل حدود الثناء! ولكن، لماذا أضع الإنسان مقابل الرسول؟ أو ليس الرسول إنسانًا؟ بلي.. أن الرسول إنسان، وإنما أريد بصــــفة “الإنسان” هنا، التنبيه إلي الطابع البشري المحض الذي يشترك فيه “محمد” مع غيره من الناس والذي تفرَّق فيه علي من سواه من الناس).

يرى خالد محمد خالد أن الطابع البشري بكل انفعالاته في شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وبساطته، وتلقائيته هوالذى يُبهجنا ويُبهرنا، لأنه من صنع واحد منا .. واحد مثلنا .. ومن ثَم، فهو يمنحنا ثقة بأنفسنا، واحترامًا عظيمًا لبشريتنا التي تنجب مثل هذا الطراز الرفيع من الخَلق.

ومع هذا فالرسول فى تعامله مع المسلمين كان يفصل بين الإنسان والرسول فيقول الدكتور حسين فوزي النجار في كتابه “الإسلام والسياسة”: (ولئن كان رسول الله بشرًا رسولاً إلا أنه كان يفصل بين ما يوحي إليه من ربه، وبين ما يسوس ويقودالمسلمين، ففي الأولي الطاعة التامة لأوامــــر الله ونواهيه ، وفي الثانية شــــوري بينه وبينهم، كما عرف من تبعه في دين الله أنه يصدر فيما يري ويقول إما عن الوحي الإلهي، وإما عن نفسه، وهم يفرقون بين هذا وذاك فالوحي أمر وطاعة وما عن نفسه فرأي وشوري وهم يفرقون بين محمد الرســول ومحمد الإنسان).

ولقد دار سؤال فيما سبق: هل كان يغيب عن الحق سبحانه وتعالى قــدر من سيحمل الرسالة، وهذا مستحيلٌ على الله عز وجل؟ فالرسالة تستوجب لصاحبها كمالاً يميزه علي غيره من البشر وحسًا وجلالًا عن غيره .. يسمو به إلى الغاية من جلال الكون ووحدته الأزلية.

فجاء محمد صلى الله عليه وسلم: (نفحة الخالق إلي عباده في صورة بشر ليكون في الناس وإلي الناس سواء بسواء ولكنه ينفرد دونهم بالسر الإلهي الذي أودع الله جوانبه، وينفرد بينهم بالاختيار للرسالة السامية التى بُعِثَ بها، ويكون له بهذا التفرد من السلطان على أتباعه ما ليس لأحد من البشر، وهو سلطان الولاء والإيمان والحب لاسلطان القهر والغلب والتحكم) [دكتور حسين فوزى النجار، الإسلام والسياسة].

وليس معنى أن رسول الله مختار من البشر أن يشابهنا في نقائصنا وعيوبنا وتقصيرنا، ولن يكون هنا موضع للاحتجاج علي المثلية البشرية، بقدر ما سيكون الإحتجـــــــاج منا عن سبب الاصطفــــاء والاختيار له من قبل الخالق بتولي هذه المهمة إن لم يكن منفردًا ومتميزًا عنا ومتفوقًا علينا فغالبًا مــــا سنشهر سيف السببية: (لماذا كان هو النبي المختار .. ونحــن لا؟!) وهذا ما دفـــع المحتجون علي بعثه رسولاً؛ إذ كانوا يتمنونها لأنفسهم أو لأحد وجهائهم وعظمائهم.

يقول الشيخ محمد الغزالى في كتابه “فقه السيرة”: (إن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بشر، لكن الوجود لايعرف تفاوتًا بين أفراد جنس واحد كما يعرف ذلك فى جنس الإنسان، إن بعضهم أرقى من الأفلاك الزاهرة، وبعضهم الآخر لايساوى بعرة ، وإن كان الكل بشر، وذلك التفاوت واقع بين من لم يؤيدوا “بوحي إلهي” فكيف إذا اصطفى إنسان ما وزيد فى أطوار آخر فومض فيه أشعة التأييد والتوفيق والإرشاد والإمداد).

نعلم إنه صلى الله عليه وسلم بشر، ولكن ونحن في دنيا البشر لا نساوى في النظرة والحكم بين كل البشر، فهناك التمايز والتباين، فكما يقول دكتور مصطفى محمود في كتابه “محمد صلى الله عليه وسلم محاولة لفهم السيرة النبوية”: (فمحمد بشرٌ مثلنا وليس بشراً مثلنا .. لأنه يوحى إليه ونحن لا يوحى إلينا بشىء .. وإنما نحن أصحاب إجتهاد على الأكثر .. أقصى ما نحلم به هو انقداح الفكر وفيض الخاطر .. وهذا الفرق الدقيق هو سر النبوة .. إن النبى مثلنا وليس مثلنا هو فى حضرة الملأ الأعلى والملكوت يرى جبريل رؤية عين، ويسمع منه، ونحن فى الحضرة الأرضية، وفى الحضيض البشري محجوبون لاحظَّ لنا فى هذه المرائي العالية).

نواصل بعونه تعالى بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم في الحلقة القادمة من حلقات “درسات يسيرة في رحاب السيرة".. فكونوا معنا..

التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...