الاثنين، 24 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (29):





في حلقتنا هذه من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” نستكمل حديثنا عن “بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم” فتتناول نظرية النبوة عند فلاسفة وفقهاء المسلمين كما تصورونها، والاصطفاء الإلهي، ونفي العمل الكسبي للإنسان في الحصول على النبوة، واستخقاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والمواهب الشخصية التي سنتكلم فيها بشكل أوسع في الحلقة التالية، فلنبدأ:
يقول السيد إبراهيم فصيح الحيدرى: (اعلم ان الرسالة عطية إلهية لاتُكتَسب بجهد ولا تنال بكسب، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، ولكن الكسب فى امداد النفس لقبول آثار الوحى بالعبادات والمعاملات الخالصة عن الرياء من لوازم الرسالة، وكما أن النوع الإنسانى متميز عن سائر الحيوانات بنفس ناطقة هى فوقها بالفضيلة العقلية كذلك نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تميزت عن عقول الناس بعقلٍ هاد مهدى هو فوق العقول كلها بالفضيلة الربانية والمدبرة لها والمالكة عليها والمتصرفة فيها، فإن النبى وإن شارك الناس فى البشرية الإنسانية من حيث الصورة فقد باينهم من حيث المعنى؛ إذ بشريته فوق بشرية الناس لاستعداد بشريته لقبول الوحي، وقد أشار الله تعالى إلى جهة المشابهة من حيث الصورة بقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [سورة الكهف: من الآية: 110]، وإلى جهة المباينة من حيث المعنى بقوله: ﴿يُوحَى إِلَيَّ﴾ [سورة الكهف: من الآية: 110]) [السيد ابراهيم الحيدرى، الصراط المستقيم للدين المحمدى القويم. مكتبة الحقيقة تركيا ص 12].
لقد شكلت نظرية النبوة في الفكر الإسلامي أثرًا بعيد المدى وجدلاً طويلًا؛ فقد تناولتها أقلام الفلاسفة بين مؤيد ومعارض لها، وكانت التي تدور حــــــــــــــولها أغلب اجتهاداتهم ومجادلاتهم، هي: هل النبوة فطرية أم مكتسبة؟ أي هل هي موجودة في الإنسان الذي سيكون نبيًا؟ أم أنه يستطيع بشي من المواهب الروحية وعن طريق قوة خاصة أو مخيلة ممتازة إذا أكتسبها فاز بالنبوة؟
يجيب أبو الفتح الشهرستاني على التساؤلات السابقة في “نهاية الإقـــــــــدام في علم الكلام”، يقول: (فكما يصطفيهم من الخلق فعلاً ــ أي الرسل ــ بكمال الفطرة ، ونقاء الجوهر، وصفاء العنصر، وطيب الأخلاق، وكرم الأعراق فيرفعهم مرتبة. مرتبة حتى إذا بلغ أشـــــده وبلــــغ أربعين سنة وكملت قوته النفسية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكًا وأنزل كتابًا).
ومهما يكن فنظرية أهل السنة قائمة على أنه في نفس النبي ومزاجه كمالًا فطريًا استحـــــق به النبوة وسما بسببه إلي الاتصـــــال بالملائـكة وقبول الوحي، والأنبياء هم صفوة الناس وخيـــــرة الله في خلقه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [سورة الحج: 75].[دكتور إبراهيم مدكور، مجلة الرسالة، العدد177] لذا فقد وجب العلم بأن النبوة اصطفاء خالص من الله تعالى يختص به من يشاء من عباده الذين توفرت فيهم صفاتها فهي لا تنال بالمجاهدة والمعاناة وتكلف أنواع العبادات أو الاجتهاد في تهذيب النفوس وتنقية الخواطر وتطهير الأخلاق بأنواع الرياضات النفسية والبدنية.
فالنبوة بذاتها مرتبة فوق مرتبة البشر العاديين لأنها خارج الحدود التي يستطيعون الوصول إليها باجتهاداتهم فالذي يختاره الله تعالى يؤهل بعنصر لا يحتاج للبشر العاديين ذلك هو الاتصال بالله تعالى عن طريق والوحي أمر إلهي محض لا أثر لسعى المرء في كسبه أو دفعه وبالتالي فالنبوة إلزامية غير كسبية فلا ينالها الإنسان بالجهد الفكري أو الترقي الروحي والأخلاقي ولا عبرة في حصولها للقيم الدنيوية والاعتبارات المادية فالله تعالى قد اختص بالنبوة من شاء في الوقت الذي شاء وفقًا لحكمته وعلمه.
يرى الشيخ محمد الغزالى في كتابه “علل وأدوية” أن النبوة على الرغم من كونها اصطفاء إلهي، غير أن محمدًا صلى الله عيه وسلم كان أهلاً لاستحقاقها، فيقول: (فى علوم الدين يقولون: أن النبوة هبة لا كسب، يعنون أن النبوة ليست إجازة علمية أو تربوية يحصل عليها بعض الدارسين بعد ليال ساهرة في البحث والتمحيص، إنها فضلٌ أعلى، يخلق الله له أُناسًا من معدن خاص، يكونون بنقاوتهم الفطرية أهلاً لتلقى الوحي، والوصول إلى درجة من المعرفة دونها جمهرة الفلاسفة والمفكرين. ونحن نقول: لو كانت النبوة كسبًا شخصيًا ــ وهذا فرض فحسب ــ لكان الإنسان الذي يتناولها ولو كانت في الثريا هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولكان استحقاقه لها بتفوق ساحق يجعل مكانة الذين يجيئون بعده في مؤخرة الصف، إنه الوحيد الذي غير الدنيا واجتاح ظلماتها ومظالمها، والوحيد الذي ترك تراثًا قديرًا على هذا التغير المطرد كلما تفسخت الحضارات، واعوجت الخطوات).
وذلك ما كان له أن يكون إلا لأن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم فى إنسانيته قد عانقت رسالته.
يقول خالد محمد خالد، “رجال حول الرسول”: (إن الإنسان والرسول، إلتقيا في محمد لقاءً باهرا، والذين استرابوا في رسالته، لم يستريبوا في عظمته ولا في صفاء جوهره، ونقاء إنسانيته، وإن الله الذى يعلم أين يجعل رسالتــــــه قد اختار لها إنسانًا، يزكيه أقصى ما تطمع البشرية في إدراكه من رفعة، وسمو، وأمانة. فلعدم إسترابتهم فى خُلقه كرجلٍ عاش بينهم صبيًا وحتى بلغ مطالع الرجال فرغم مجابهتهم بدعوته ومبارزتهم لُب عقيدتهم وهو يرجها رجًا، لم يطالبوه بودائعهم والأمانات المودعة عنده، وهذه ولا شك أخوف مايخاف عليه ممن خرج على اعتقادهم، وعلى هذا فلم يفعلوا، لأن مرجعيته الأخلاقية عندهم أقوى من إعتقادهم فيما يعتقدونه).
لقد اشتهر صلى الله عليه وسلم بين قومه بعلو الهمة والبعد عن الدنايا حتى أُطْلِقَ عليه الصادق الأمين, وارتضوه حكمًا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، وأمينًا على ودائعهم حتى بعد أن واجههم بدعوته التي تناهض عقائدهم وسلوكهم، فإنهم يعلمون أن خُلقه من ذاته، وكماله طبعٌ فيه[عطية صقر، المصطفون الأخيار، ص145].
يشهد المستشرق السياسي أنتونى ناتنج برحمة وخلق وفهم سيد البشر صلى الله عليه وسلم للبشر، فيقول: (ولعل أشد مايستأثر بِلب دارس التاريخ العربى من غير المسلمين إنما هو ماطُبِع عليه محمد من صفات الإنسانية. كان أكثر الناس فهمًا للقصور البشري، ومن ثَم كان أرحم الناس بالناس، وكان عزوفًا عن متاع الحياة) [انتونى ناتنج، العرب تاريخ وحضارة ص 35].
وليس بجديد حين نجاهر بالقول مع من قال: إن عظمة نبي هذه الأمة لا تكمن في عصمته وارتفاعه عن أفق البشر ــ وما لعظمة فى هذا إذا كان الأمر محض اختيار وترتيبٍ إلهيين لا تعليل لهما ــ بقدر ماتَكْمُنْ في ارتفاعه هو بجهده واختياره إلى آفاق المسئولية الكونية دون أن يفارق بشريته صلى الله عليه وسلم.
نصل في نهاية حلقتنا مع العقاد الذي يقترب من حدود ما نراه في كون الرسول يتصف بمواهب شخصية بشرية في ذاته قبل اتصاله بمقام النبوة، يقول العقاد مبينًا الفارق بين أن يكون الإنسان نبيًا ومع هذا له ملكاته ومواهبه الشخصية: (والنبوة ـ ولاخفاء ـ شرفٌ عظيم تدين له الرؤوس والقلوب، ولكن النبوة وحدها بغير شخصية” تناسبها لم تكن كفيلة لذات النبي بهذه الهيبة وهذا الحب والإعجاب جيلاً كاملاً حافلاً بالعظائم والتجارب مزدحمًا بأطوار النصر والهزيمة، وعوارض الرجاء والقنوط، فلو لم يكن محمد يملك من صفات القدرة والشجاعة والبلاغة والتدبير والمهابة وحسن الأثر في النفوس نصيبًا أوفى من نصيب أصحابه وأتباعه لما دانت له هذه الأطواد الشوامخ بالتطامن والاطمئنان، ولما انقضى الزمن على هذه الصحبة دون أن تظهر فوارق الصفات الشخصية إلى جانب فوارق النبوة وفوارق الدعوة وما تقتضيه من الإصغاء بوحي الإيمان، دون وحي العاطفة والبديهة) [عباس محمود العقاد، ما يقال عن الإسلام، ص221].
ونواصل في الحلقات القادمة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم موضوع بشريته صلى الله عليه وسلم، فإلى لقاء..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق