مع الحلقة الثالثة نستكمل التأدب الواجب مع سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أما بالنسبة للألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع كالأذان والإقامة وتشهد الصلاة: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أوْلَى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أوْلَى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ’’، وقال لمن خاطبوه بقولهم: أنْتَ سَيِّدُنَا: ’’السَّيِّدُ اللهُ’’، ثم قال: ’’قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلاَ يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، فأقرَّ ذِكْر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه.
قال الإمام الخَطّابي: قَوْلُه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ ’’السَّيِّدُ اللهُ’’ أَيْ السُّؤْدُد كُلّه حَقِيقَة للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ عَبِيد الله، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ سَيِّدًا مَعَ قَوْله: ’’أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم’’ لأَنَّهُمْ قَوْمٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّ السِّيَادَة بِالنُّبُوَّةِ كَما هِيَ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُمْ رُؤَسَاء يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِمْ، وَقَوْله: ’’قُولُوا بِقَوْلِكُمْ’’ أَيْ قُولُوا بِقَوْلِ أَهْل دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي الله تَعَالَى فِي كِتَابه وَلا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ وَلا تَجْعَلُونِي مِثْلهمْ؛ فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا دُونكُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا وَأَنَا أَسودكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا.
وخُوطِب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ"يا سَيِّدِي" فأقرَّ ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: ’’مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ’’، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: ’’لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) والحاكم في (المستدرك) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرْق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أوْلَى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه. بل أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمر بتسويده عند ذكر اسمه الشريف حيث راجع مَن ذكَرَه مجرَّدًا عن السيادة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ’’مَنْ أَنَا؟’’ قلنا : رسول الله، قال: ’’نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ أَنَا؟’’ قلنا: أنت محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ’’. [رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة "رسول الله" عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها، تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقَى مكانه وقال له بعد الصلاة: "ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُصَلِّيَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم"، وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخَّر الطوافَ لـمَّا دخل مكَّة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على مَن دخل مكة؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كُنتُ لأَفعَلَ حتَّى يَطُوفَ بِه رسولُ اللهِ"، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وجَعَلَه مِن مفاخره ومناقبه؛ فإنه لَمَّا قال الناس: "هنيئًا لأبي عبد الله! يطوف بالبيت آمنًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ’’. [رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وابن أبي حاتم في "التفسير"].
وهذا هو المعتمد عند الشافعية كما نصَّ عليه العلامة المحقق الجلال المحلي [ت864هـ]، والشيخان: ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] والشهاب الرملي [ت957هـ]، وعند الحنفية كما أفتى به العلامة القحفازي [ت745هـ]، واعتمده البرهان الحلبي [ت956هـ]، والإمام علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ]، والعلامة الطحطاوي [ت1231هـ] ، وعند المالكية -كما قال الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ] وجزم به القاضي ابن عبد السلام [ت749هـ] قاضي الجماعة في تونس، وشيخ الإسلام أبو القاسم البرزلي [ت844هـ]، والشهاب الحِمْيَرِي القُسَنْطيني الجزائري [ت878هـ]، واعتمده الإمام الحطَّاب [ت954هـ]، والإمام الأُبِّي [ت827هـ] وغيرهم-، ونقله الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ورجحه العلاّمة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق