الثلاثاء، 30 مايو 2017



مع الحلقة الخامسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناول ما رآه البعض مشكلة في زيادة السيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم  عند قراءة التشهد  في الصلاة بأنه حكاية المناجاة بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج، ويُجاب عن ذلك:
بأن هذا أمر ذوقيٌّ لم يَرِد فيه حديث صحيح، والأحكام الشرعية منوطة بالأسباب والعلل لا بالأذواق والحِكَم؛ فإن المصلِّي إنما يقول التشهد على جهة الإنشاء من نفسه؛ مُحَيِّيًا اللهَ تعالى ومُسَلِّمًا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين وشاهدًا بوحدانية الله تعالى ورسالة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقصد بتشهده الإخبار والحكاية عما وقع في معراجه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم مِن خطابه لربه سبحانه وخطاب ربه له صلى الله عليه وآله وسلم على فرض ورود ذلك وصحته، وهذا المعنى الإنشائي يقتضي مِن المصلي تسويده أيضًا عليه الصلاة والسلام في الشهادة له بالرسالة كما قد نُصَّ عليه أيضًا، مع ملاحظة أن ذلك كله على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحَتم والإيجاب.
ومع ماتقدم فهناك من يتحفظ على الإتيان بلفظ السيادة في الآذان والإقامة، لأنه لم يثبت أن أحداً ممن أذن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أتى بالسيادة فيهما، ولو كانت مشروعة ما تركها أحد منهم ولا أقروا تاركها على تركها، والثابت أن أول من أحدث هذا هو هشام بن عبد الملك. [على من أراد التوسع فليراجع ص 182 رقم 8868 ج 6 فيض القدير . ورقم 7 ص 8 الدين الخالص ج 1 ، الفتاوى الأمينية ج 1ص47].
 يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه: (ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضًا إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله) [في ظلال القرآن: (4/2535)].
   ومن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد عبدًا ورسولاً فليتبعه ويحبه فمن علامــــــات  محبته إتباعه قولاً وعملًا،  ظاهرًا  وباطنًا، والرضا بحكمه وإيثاره علي حكــــم غيره من البشــر وإن  تعارض، ولا يطيع أحدًا في الله إلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم  وأيضًا من علامات محبته تعظيمه عند سمــاع اسمه وذكره مع إظهار الخشوع والخضوع والإنكسار والإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم  فذكره يشفي الصـــدور،  ويجلي القلوب ويعطر الألسن ومن علامات محبته: نصرة دينه قولاً وفعلاً والتحلي بأخلاقــه ما أستطعت إلي ذلك سبيلًا، ومن علامات محبته: حب القرآن الذي أتي به واهتدي به وتخلق به ، ومحبة سنته وقراءة حديثه والعمل به، واتباع هديه الكريم.
    كما أن من واجب الحب والتأدب مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بعد أن علم كل مسلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى ـ أن لايكتب اسمه صلى الله عليه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك إلا بذكر الصلاة والسلام عليه، فأهل العلم من قديم وحديث الزمان يقررون أن المشروع أن تكتب الصلاة والسلام كاملة تحقيقاً لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة على رسول الله على كلمة "ص" أو "صلعم" وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة "صلى الله عليه وسلم" كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علمًا بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
    فقد قال ابن الصلاح في كتابه: "علوم الحديث" المعروف ما نصه: (أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكراره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظاً عظيماً، وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك)... إلى أن قال: (ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب "وسلم").
 وروي عن حمزة الكناني رحمه الله تعالى أنه كان يقول: (كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكتب "وسلم" فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت "وسلم")... إلى أن قال ابن الصلاح: قلت: ويكره أيضاً الاقتصار على قوله: "عليه السلام" . المقصود من كلامه رحمه الله تعالى ملخصًا.
وقال العلامة السخاوي رحمه الله تعالى ما نصه:  (واجتنب أيها الكاتب  "الرمز لها " أي الصلاة والسلام على رسول الله  صلى الله عليه وسلم في خطك بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك، فتكون منقوصة ــ صورة ــ كما يفعله "الكتاني" والجهلة من أبناء العجم غالباً وعوام الطلبة، فيكتبون بدلاً من صلى الله عليه وسلم "ص" أو "صم" أو "صلعم" فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى)[ فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي].
وقال السيوطي رحمه الله تعالى: (ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله عز من قائل: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾)، إلى أن قال: (ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب "صلعم" بل يكتبهما بكمالها)[تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي].
 كما أن من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم طاعته ، فقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
(هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ’’مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد’’).
 وقال الإمام الطحاوي: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام).
ولقد قال ابن أبي العز : (أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه).

روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: (من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم .. فمن أحبّ سيد ولد آدم فليُعظّم أقواله وسُننه أكثر من تعظيمه لقول مَن سواه من البشر).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق