الاثنين، 29 مايو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ـ حلقة (4)...





مع الحلقة الرابعة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتناول بعض إجابات جمهور العلماء والفقهاء عمَّا احتجَّ به مَنْ رَجَّح ترك السيادة  للرسول صلى الله  عليه وسلم:
1- أن الأدلة الشرعية الدالَّة على وجوب تعظـيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوقيره، وتسـويده، والنهي عن مخاطبته، أو ذكره كما يخاطب أو يذكر بعضـنا بعضًا جاءت عـامة لا مخصِّصَ لها، فيُشرَع امتثالُها في كل موضعٍ جرى فيه ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حملا للمطلَق على المقيَّد، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ أو الإقامةَ أو الصلاةَ من ذلك، غاية ما في الأمر أنَّ تَرْك ذِكْرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ جمعًا بين الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع.
2 ـ أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، ولقد جاءت ألفاظ التشهد والأذان في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر أو يناقضه؛ لأن صاحب الشرع الذي علَّم الناس ألفاظ الأذان والتشهد هو الذي ندب إلى أن يُسوَّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويُعظَّم في كل موضع، وهذه الألفاظ قيلت على سبيل التعليم، واستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين ليس زيادةً في الشرع بل هو مقدَّم على العمل بأحدهما وحدَه، فتعيَّن العمل بالأمرين معًا.
3 ـ أنه لا يصح الاحتجاج بمجرَّد الترك على التحريم أو الكراهة، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام، بل غايته أن يُستَدل به على عدم الوجوب؛ فليس كل ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله يكون حرامًا أو مكروهًا، ومن باب أوْلَى ليس كل ما تَرَكَه السلف حرامًا أو مكروهًا، بل قد يكون تَرْكهم لهم أمْرًا اتفاقيًّا لا مواطأة فيه، وقد يكون لأنه حرام، أو لأن غيره أفضل منه، أو لغير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال بَطَلَ به الاستدلال.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: (كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تَرْكهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به).
4ـ أن ذِكْر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عُرْف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرْف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [سورة الأعراف: (199)]، ومع كثرة ألقاب التفخيم في عصرنا هذا فليس من اللائق أن لا نذكر السيادة مع المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو الحقيقُ بها في كل موطنٍ يُذكَر فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
5 ـ أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إذا صلَّيتُم علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلاَةَ علَيه؛ فإنَّكم لا تدرُونَ لعلَّ ذلك يُعْرَضُ عليه "، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. [رواه ابن ماجه في (السنن) وابن جرير الطبري في (تهذيب السنن والآثار)].
6ــ والجواب عَمَّن قَصَرَ الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذِكْر السيادة في التشهد مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرْق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم، ومع تسليم أن ذِكْر السيادة في الأذان زيادة فيه فإن الشرع قد أذن بالزيادة في الأذان عند الحاجة، كما في نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الأذان: "صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ"، وكما زاد سيدنا بلال رضي الله عنه التثويب في أذان الصبح وهو قوله: "الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال له: ’’مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ! اجْعَلْهُ فِي أَذَانِك’’ رواه الطبراني في المعجم الكبير، ولو كانت مثل هذه الزيادة اليسيرة للحاجة غير جائزة في الأذان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة من حيث هي، فلَمَّا استحسنها كان ذلك دليلا على أن مثل هذا مُغْتَفَرٌ في الأذان.
ولفظ "سيدنا" في الأذان أخف من ذلك كله، مع كون الحاجة إلى ذكره أدعَى وأولَى في هذه العصر الذي تعيَّنَتْ فيه الألقاب في ذكر الأسماء والتخاطب بين الناس عرفًا، خاصة لذوي المنزلة والمكانة بينهم، فصح بذلك استحبابُ ذكر السيادة في الأذان والإقامة.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ (سيدنا) قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم ممن يُعَدُّ اتهامُهم بالبدعة ومخالفة السنَّة نوعًا من الهوى والتعصب المقيت الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو المختار والراجح في مقام سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما عليه الفتوى؛ فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا عن الأفضلية، أما عن الجواز فكلا الأمرين جائز، والأمر في ذلك واسع، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وَسِع مَن قَبلَنا الخلافُ فيها؛ لأنه لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فليس ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مقترنًا بالسيادة مخالفًا للشرع، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا، ونحن أحوج إلى حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر مِن أي وقت آخر، فنحن في عصر تَمُوج فيه الآراء وتختلف المشارب، وقد كثرت الفتن في الظاهر والباطن، وليس مِن نجاة من كل ذلك إلا بحب سيد الخلق سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نعلمه أبناءنا وندعو إليه غيرَنا، ونَبقى عليه إلى أن نَلقى اللهَ سبحانه فيُشَفِّعَه فينا ويُدخِلَنا الجنةَ مِن غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق