الجمعة، 16 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 9




في الحلقة التاسعة أدعوكم لتعيشوا خواطري وخواطر كل مسلم فى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، والتي ستكون مقدمة ضرورية لحلقات قادمات، ومنها أيضًا استرواحًا لنفوسكم من عناء الحلقات السابقة، واستقبالًا لنفحاته صلى الله عليه وسلم، فهيا بنا:
والسيارة تدخل متهادية مدار مدينة الحبيب، كأنها تدلف براكبها حدود كوكب درى مبتور عن جغرافية كل العالم كجزيرة لا يحدها إلا طهو رالنور .. يُعَبِّر المسجد النبوى الشريف عن وجوده قبل أن نراه بمئذنتيه الشهيرتين كذراعين من ضياء تناجيان السماء، فإذا بالروح تسبح في الملأ القدسي تعلو بالجسد حيث لا جسد ولا كينونة .الزمن البشري بكل عقارب ساعاته قد توقف داخلي، واشرأبت كل خلجة مني وكل لمحة فيَّ لتسجل بانبهارٍ حبيب عظمة تلك اللحظات.
ما كدتُ أعبر عتبة حرمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب عبد المجيد حتى وقع نظري على القبة الخضراء الشهيرة التي صارت علمًا على المسجد والقبر وساكنه، فيخفق قلبي خفقانًا يعلو وجيبه ليصم الأذنين فلا أكاد أسمع شيئا، وحولي زرافات من محبيه وتابعيه وزائريه يرفلون كالملائك فى أزيائهم البيضاء يهرولون للقائه في شوق محموم.
يملؤنى إحساس غريب بوجوده صلى الله عليه وسلم .. بأنه فى انتظارنا ببسمته الوضاءة .. يفرش لنا رداءه كيما نتحلق حوله صلى الله عليه وسلم، وخبر السماء ما زال يتنزل عليه وكأن جبريل لم تنقطع زيارته له ..
أحس بأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ فى المدينة مازال دربه موصولاً بين بيته وأحبته ساكني البقيع يصاحبه غلامه أبا مويهية رحلة العودة بعد أن يسلم ويترحم عليهم .. جميعنا من مختلف الجنسيات ومن شتى البقاع لم نأتِ لزيارة غائب بل حاضرٌ يشتاقنا كما نشتاقه، والشوق لا يكون أعظمه وأوج حرارته إلا بين أحياء وأحياء.
أقف أمام قبره وصوتٌ داخلي يسري يصاحب خُطُواتي إليه: هنا يرقد حبيبك وشفيعك الذي طالما قرأت عنه وقرأت له أحاديث شريفة غاية في الإعجاز والبيان والفصاحة ودقة اللفظ دون إبهام أو غموض مع بلوغ الهدف من مراميها بأيسر السبل .. هنا يرقد معلم البشرية الخير، من تحاول جاهدًا أن تتبع سنته وتتأسى بخطاه. هنا قبر الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
أقف .. وكل هذه السنحات تمر برأسى . أقف.. وقفة المتهيب في حضرته صلى الله عليه وسلم، أنظر خلف تلك المشرفيات . لكأنه رآنى .. أرتعش أكثر . أتهيب أكثر .. أُلقي عليه السلام بحبٍ عميق وخشوع ٍ جم .. وكأني سمعته يرد عليَّ السلام الذي عَبَرَ مسامعى وأطرافي وغزا قلبي كسريان النسيم البارد الناعم .. مُرحبّاً بى فى رحابه وحرمه ومسجده وبيته صلى الله عليه وسلم ..
يتحول نظري يمينه صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتحول قلبي عنه أبدًا ـ فألقي السلام على صاحبيه اللذين آثرا أن لا يصاحباه رحلة الحياة وحسب بل ورحلة الممات أيضًا ليظل الحب موصولاً والأنس غير مجدود، فلقد كانا ـ رضى الله عنهما وعن سادتنا الصحابة ـ للرسول صلى الله عليه وسلم بمثابة السمع والبصر وأنىَ لبشر أن يستغني عن سمعه وبصره؟!
لم تكن وقفتي عند قبر رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة للتحية وتمضي بل كلها دروس وعبر مستفادة يتوجها هذا الإخلاص من رجال تدربوا وتلقوا ونهلوا وشربوا وتضوعوا من أريج شجرة ومدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقفة تردك للماضي قبيل زمن البعثة المباركة لنستطلع فيه حال الخليفتين وما كانا عليه، ثم حالهما فى زمن الهجرة ومقامهما بالمدينة، والعودة مع فتح الفتوح لمكة المكرمة وصحبتهما للرسول القائد صلى الله عليه وسلم في الغزوات والمواقف الحرجة التي مرت بها الرسالة، ليتفجر من كل هذه المواقف تساؤل: ومن لنا بمثل الرجلين، بل ومثل الصحابة الكرام أجمعين رضوان الله عليهم؟!
لقد مضوا مع زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكأنهم خُلقوا له لزمنه هو ثم آثروا الرحيل .. فهم رجال عشقوا الرجولة حياةً كما عشقوها مماتا .. وعندما تنظر أمامك ووراءك وتستطلع محيط الكون كله لتبحث عن مثلهم .. فلا والذى سمك السماء لن تجد؛ فقد كانت أهدافهم عالية، ومحبتهم سامية لله عز وجل وللعقيدة السمحة ولرسولهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، حب لم يشكله اللفظ وحده من خطب رنانة وأقوال جوفاء، بقدر ما كان نهجه كل ما هو عملي وفهم عميق لمعنى ومبنى الرسالة التي دانوا بها؛ فإن نادى المنادي بالهجرة لم يتأخروا عنها فهاجروا بحرًا وبرا، أو دعاهم داعي الجهاد في سبيل الله كانوا أول من شارك، أو دعت الحاجة للمال بذلوه هينًا رخيصًا حبًا وكرامة لقاء الأجر من الله تعالى، يفتدون نبيهم وسيدهم بأرواحهم وأبنائهم وأهليهم إن طلب وإن لم يطلب فكلهم رهن الإشارة ورهن الأمر لا الطلب وحسب ..إنهم العترة المحمدية .. التلاميذ النجباء الأوفياء السابحون السائحون في النهر المحمدى الصافى الفياض الطاهر، نهلوا من ينابيعه، وأُشرِبوا تعاليمه، ووعت عيونهم وجوارحهم وأرواحهم وشغاف قلوبهم أقواله وأفعاله وسكناته وحركاته، فتحلقوا حوله صامتين خاشعين كأن على رؤوسهم الطير ليسري فيهم وبينهم نورُ محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون والنور النبوي يصاحبهم حتى لتكاد تصافحهم الملائك في الطرقات.
يقطع عبق وقفتي الألسن اللهجى بشتى اللغات واللهجات من شعوب مختلفة عُرب وعجم كلهم جاءوا من فِجاج الأرض يقرؤنك يا سيدى السلام، ويستظلون بروضتك الهنية، ويتنسمون روائحك الطاهرة الزكية، ويستشرفون آفاق تلك الروح العالية .. ومقامك يا سيدى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم بينهم لا تمل منهم ولا يملون منك، يستعذبون وجودك، ويرفضون مغادرة حضرتك الندية. فإذا فارقوا فالدمع الثخين ينثال لاهبًا الخدود مخافة ألاَّ يكون اللقاء بك مرة أخرى .. فيناشدونك أن تطلبهم وتدعوهم إلى مدينتك مرات ومرات.
 ......................

ويغلق مسجدك يا سيدي أبوابه بعد التسليم من العشاء بوقتٍ قصير، فنمضي وملء جوانحنا وتحت جنوبنا ومضاجعنا نار الشوق تلهبنا .. فأطل على مآذنك السامقات لا أقطع ما بيننا من حديث ووجد، وأحيانًا ألف وأدور ماشيًا حول الأبواب كالطير روحًا خفاقة لا تمل ولا تكل .. وهل إلى مزارك ومسجدك جئتُ لكي أنم؟! وهل قطعت تلك الأميال الطوال لتكون مدينتك مضجعي؟! بل حرَّمت على عينيَّ الكرى كي تقر برؤياك يا حبيبى.
 ........................

لم يكد يسري آذان الفجر منسابًا كالنور في أنحاء المدينة المنورة حتى دبت الحياة في الشوارع تقطع سكون الليل حركة دبيب الأقدام المهرولة إلى المسجد النبوي العامر لتؤدي فرض الله ثم تتواصل مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى تباشير الصبح لتصل ما انقطع من حديث ووجد ما انقطع أبدًا .. فأنت يا رسول الله فينا قائما، حيًا داخلنا، فو الذى نفس محمدٍ بيده لم تغب عنا حتى ونحن في بلادنا وبين ظهرانينا وداخل ديارنا وبين الأهل نتعطر بذكرك، ونتذكر مآثرك، وندعو بدعائك المأثور، ونتدثر بنورك، ونستشفع بك صلى الله عليه وسلم في دعائنا لربنا سبحانه وتعالى.
وها قد دعا داعي الرحيل وعليَّ أن ألملم شتاتي لرحلة العودة، فاسْتثقلتْ الخطوات التي كانت تهرول إليك مسرعة وما لها لا تفعل فقد أتت تحمل صاحبها مودعة، ولستُ أحسن حالاً منها فالدمع يذيبني، والحسرة تملك مجامع قلبي خوفًا ويأسا كي لا ألقاك بعدها ولكم تمنيتُ الموت بالمدينة وأنا فيها إعمالاً للحديث الصحيح، والذي قلت فيه سيدي صلى الله عليك وسلم: "مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا"، حتى لا أفارق ديارك أو أبرح مدينتك، ولكن وجب الرحيل فوجب الوداع ووجب أن أقول بملء القلب:
السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته .. السلام عليك يا سيدى يارسول الله .. السلام عليك يا خير خلق الله .. السلام عليك يا من أرسله ربه عز وجل رحمة للعالمين .. السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين .. السلام عليك يا من وصفه الله بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .. السلام عليك وأسألك الصحبة، وأسألك مرافقتك في الجنة .. فاللهم عودًا إليك .. حبًا وكرامة واقتداء .. عليك يا رسول الله ومن مجامع قلبي الذي ينبض بحبك وحدبك عليك الصلاة وأزكى السلام.
والسلام عليكم أيها الأحبة أيضًا إلى حلقة جديدة من حلقات لا تنقطع بيننا بصحبة نبينا وفي نوره نسيح سياحة يسيرة إن شاء الله تعالى.. وصلى الله عليه وسلم .. فإلى لقاء...

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 8





مع الحلقة الثامنة نعاود إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، ولك عزيزي القارئ، أن تسأل: ألم يكن يسأل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة افتراضية، ولن أتعرض للفتاوى الافتراضية المعاصرة في حياتنا وكيف وصفها العلماء في  عصور سبقت:
يوضح الإمام القرطبي المقصود بالأسئلة الافتراضية بأنها تلك الأسئلة التي يبعد وقوعها في الحياة والتي لا ينبغي الاشتغال بها؛ وهذا منهج كثير من السلف؛ كانوا يكرهون الأسئلة عن الأمور التي لم تقع بعد، فقد أخرج الدارمي بسنده أن عمر بن الخطاب كان يلعن من سأل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت الأنصاري يقول: إذا سُئل عن الأمر أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا لم يكن، قال: فذروه حتى يكون.
كما أجاب الإمامان أبو إبراهيم يحي ابن إسماعيل المزني، والخطيب البغدادي عن سبب كراهية الصحابة الإجلاء والسلف الصالح للأسئلة الافتراضية، أي التي لم تقع، فذكرا أن المنع يحتمل أن يكون قُصد به السؤال على سبيل التعنت والمغالطة، لا على سبيل التفقه وابتغاء الفائدة.
يقول الإمام البيهقي: "كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتابٌ ولا سنة؛ وإنما يسأل السائل عن مسألةٍ مبنيةٍ عن الاجتهاد لا نص فيها".
لم تكن الأمور كلها تجري في منع السؤال الافتراضي على إطلاقه أو الفتوى الافتراضية التي لم تقع، وإنما كان هذا مباحًا للمتفقهة؛ ليرشدوا إلى طريق النظر والرأي، وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها، كما ذكر البيهقي.
والجواب عن أن الصحابة كانت كل أسئلتهم تدور في سياق الواقعية لا الافتراضية فقط، وإن بدا أنها افتراضية بمعنى أنها لم تقع، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أجاب عن أسئلةٍ من هذا النوع، وستبدو لمن يطالعها أنها ممكنة الوقوع وليست مستحيلة، وأن حرص الصحابي أن يكون معه الحكم والعلم بها قبله مخافة أن تقع ولا يحسن التصرف فيها، مثلما جاء في الصحيحين:
عن المقداد ابن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرةٍ، فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".
ولقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار".
والحديث يدور حول أسئلة أربع ولكنها تدور حول حدث واحد قد يبدو لقارئه افتراضيًا، ولكنه في الواقع قائم وقد يحدث بين الفينة والأخرى في البيئة التي يعيش فيها الصحابي، وهو مهموم بذلك بدلالة ترتيب الأسئلة في ذهنه وسردها في مباشرة وروية وثبات، على عكس من يخمنون ويفترضون ويتخيلون أمورًا قد لا تحدث في زمانهم ولا الأزمنة التي تليهم بقرون، وهذا هو الفارق بين أسئلة الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم بدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضق بأسئلته ذرعًا أو نهاه عنها.
يؤكد هذا ما قاله ابن رجب الحنبلي: (وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها؛ لكن للعمل بها عند وقوعها؛ كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها؟).
مثلما سأل الصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم، عن الدجال، وعن مدة إقامته في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "أربعون يومًا؛ يومٌ كسنة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"؛ قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا، أقدروا له قدره).
ولقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ظهور الدجال كان محتمل أن يقع في زمن النبوة أو بعده، ولكنه ليس سؤالًا افتراضيًا بل يتعلق بأصل، ولم ينههم عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
والأسئلة الافتراضية ليست شرًا كلها، ولكن كان لها من النفع في كثير من الأحيان في عصرنا الحالي وإن كان زمان طرحها سابقًا وعلى سبيل "أرأيت"، ولكن مع المستجدات التي طرأت على واقع المسلم في كثير من مناحي الحياة كان لها وجاهتها، خاصة إذا كان لتلك المسألة حكم خفي ــ كما يوضح الإمام المُزني ــ حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر والاستنباط، أو لا يكون لها حكم؛ فإن لم يكن لها حكم، فلا وجه لذلك، وإن كان لها حكمٌ لا يوصل إليه إلا بالمناظرة والاستنباط، فالتقدم يكشف الخفي، ومعرفته، وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى؛ فإذا نزلت، كان حكمها معروفًا، فوصل بذلك الحق إلى أهله، ومُنِعَ به الظالم من ظلمه، وكان خيرًا وأفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظر في المسألة عند المناظرة.
ولهذا كله فقد أحسن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية حين سُئِلَ عن مكة هل هي أفضل من المدينة؟ أم بالعكس؟
فأجاب: الحمد لله، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: ’’والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت’’ [قال الترمذي حديث صحيح].
وفي رواية: ’’إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله’’. فقد ثبت أنها خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله. وهذا صريح في فضلها. وأما الحديث الذي يروى: ’’أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكنى أحب البقاع إليك ’’. فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم.
وعندما سئل رحمه الله عن رجلين تجادلا ، فقال أحدهما : إن تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السماوات والأرض. وقال الآخر: الكعبة أفضل ، فمع من الصواب؟
 فأجاب: الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه ، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه [(الفتاوى الكبرى) (4/411) و(مجموع الفتاوى) ( 27/38)].
ولما سئل رحمه الله عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي أفضل من المسجد الحرام ؟
قال: وأما التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعاً وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولاحجة عليه، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد. [مجموع فتاوى ابن تيمية مسألة تربة النبي أفضل من السموات والأرض أم الكعبة أفضل؟ (27/37)].
وفي الختام: كل ما أرجوه هو الاقتصاد في الأسئلة وعدم التفريع، والسؤال فيما يهم، فقد كثرت برامج الفتاوي والتي أصبحت تشكل برنامجًا إعلانيًا دعائيًا للقنوات الخاصة وغيرها، حتى في إذاعات القرآن الكريم لانجد إلا الأسئلة المعروفة،وصدق من قال: (أدركت قومًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم، وفي ذلك كلّه كانوا يلتزمون الأدب الذي أدبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم به)..فيا ليتنا نتأسى بأدب وفقه الصحابة في سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
 ومع حلقة قادمة نبحر معًا في سياحة يسيرة في دراسة السيرة... فإلى لقاء...

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 7





بانتهاء الحلقة السابقة، السادسة نكون قد أنهينا موضوع "التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومع الحلقة السابعة سنبدأ إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، وقد يراه البعض مناقضًا لما تناولناه من أننا نادينا سابقًا بالتأدب مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والآن ننهي عن المغالاة في حبه صلى الله عليه وسلم، وليس في الأمر مناقضة لمن قرأ فوعى وتدبر؛ فقد صار من دأب بعض ممن غالوا في حب الرسول صلى الله عليه وسلم أن أتوا من البدع التي قد تلامس حد الشركيات، ومن ذلك مغالاة بعضهم في طرح الأسئلة التى لا جدوى منها ولا نفع ولا تفيد المسلمين فى شيء سوى الظن أنها قربة لله ولرسوله، مع كونها تفت فى عضد الأمة وتفرقها أكثر مما تجمعها، وذلك بمن يسأل مثل هذه الأسئلة التى قتلت بحثًا وصدرت فى شأنها الأحكام القاطعة الباهرة:
هل مكة أفضل من المدينة؟ أو هل تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض؟ أو هل التربة التي دفن فيها الرسول أفضل من المسجد الحرام؟
استنادًا لأقوال علماء أجلاء قامت أجوبتهم على الاجتهاد الشخصي والنزوع نحو عاطفة العامة أكثر مما قامت على العلم الشرعي فى هذا الشأن تحديدًا، ولئن جارى العلماءُ العامةَ فى مرحلة كانت الأمة ناهضة قوية مترامية الأطراف لايُخشى عليها من بأس عدو أو تربص متربص، فاليوم حال الأمة لا يخفى على لبيب أو شاهد، فالاستهداف على أشده من تنصير وتشيع وغزو فكرى بالفن الهابط والمخدرات الرخيصة السهلة التناول، والدس على الدين، وظهور الفرق المارقة الضالة التي تشوش على الناس عقائدها، والطعن على الصحابة الكرام من أوشاب الناس الذين تمترسوا بالصحافة، وأكل لحوم العلماء بالتطاول على أقوالهم، وفض الناس عن الدين فيما يفيد ليشغلوهم بعلم لا ينفع وجهل لا يضر، يبدأ بهل مكة أفضل من المدينة؟ فينتصر فريق لمكة والآخر للمدينة ثم يهون شأن الاثنان فلا حرمة ولا أفضلية لا لمكة أو مدينة.

لذا فقد كان نهج الصحابة رضوان ربي عليهم النهج العملي فلم ينشغلوا عن الصلاة والصيام وكثير القيام، ولم يلتفتوا عن الجهاد يذبون عن الأمة من حاول اقتحام بيضتها وعزها، فما ألقوا بالاً إلى مثل هذه الأسئلة التى يعلمون أنها لا من الشرع ولا من العقيدة بل سفسطة وشنشنة يعرفونها من أخزم.
ولهذا فمن الفوائد التي يغنمها المطالع لأحداث السيرة النبوية المطهرة هو ذلك التعامل اليومي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضوان الله عليهم في إطار تعليمهم وتفقههم في دينهم، من دلائل ذلك المنهج في نهيه أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم في طرح الأسئلة التي لا غناء من ورائها فتوردهم المهالك والفتن كسؤال النصارى في المائدة فأصبحوا بها كافرين، ودلت الأحاديث المطهرة على النهي عن القاء الاسئلة عما لا يحتاج إليه أو على وجه التعنت والعبث والاستهزاء كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب من اليهود خاصة في المدينة.
كما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن الافراط في السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، وقد أثمر في الصحابة ذلك الهدي النبوي حتى بات عندهم أن من أعظم الجُرم من سأل عن شيء لم يحرِّم فحرِّم من أجل مسألته.

وبدا من تورعهم الإعراض عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الأموال، وكلها مسائل تصب في دائرة الاقتصاد في الأقوال والأفعال مما تشربوه من أقوال رسولهم الكريم، حتى أصبحوا ينتظرون قدوم الأعراب من الوافدين على المدينة المنورة لما كان من نهجه صلى الله عليه وسلم معهم من الترخص لهم في المسائل تأليفًا لهم، يستشف هذا من قول البراء بن عازب:
(إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب)‏.‏

وضع الرسول لصحابته وأمته من بعده القاعدة الذهبية الحياتية الدائمة الباقية ببقائه، والباقية بعد رحيله لينتهجونها ويسيرون عليها لا يزيغون عنها :
’’مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ’’[(رواه البخاري ومسلم خرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة (6/2658) الحديث رقم (6858) باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى والإمام مسلم في صحيحه (2/975) الحديث رقم (1337) باب فرض الحج مرة في العمر واللفظ لمسلم، وصححه الألباني في إرواء الغليل (556 ، 559 ، 562 ، 705)].

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله، فقال: ’’يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه’’.
ولقد خرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا وقال فيه: "فنزل قوله تعالى: ‏﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [سورة المائدة‏: (101)].
فالتزم بهذه القاعدة الصحابة، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : (يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق) وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’لا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا’’.
وانتقل المعنى والالتزام من الصحابة إلى التابعين بالتبعية فكانوا يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة خرج عمر على الناس فقال: (أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُونَا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغُلًا (، بل وصل الأمر إلى أنه لعن السائل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء، يقول: كان هذا[أي حدث هذا] فإن قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون[أي حتى يقع أو يحدث]. 
قال الحسن: (مَا عَبَدَ الْعَابِدُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ) ، ففي الأمر، قال: ’’مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ’’، ’’فَأْتُوا’’ [فَافْعَلُوا- فَأْتَمِرُوا - فَخُذُوا – فَاتَّبِعُوهُ]،وقوله: ’’مَا اسْتَطَعْتُمْ’’ أدخل الإستطاعة في الأمر، فكلٌّ يأتي منه ما يقدر عليه، مستعينا بالله، ويجتهد. أما في النهي، فقد قال: ’’فَاجْتَنِبُوهُ’’ [فَدَعُوهُ - فَانْتَهُوا – ذَرُوهُ]، ولم يذكر الاستطاعة ليُعلم أن ما نهى عنه يجب أن يُجتنب في جملته وتفصيله فلا يُركب منه شيء، قل أو كثر، صغر أو كبر. إنه الفرار من المرديات ـ فتوعد الله تعالى المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة وهي الزيغ ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المطلق يقتضي الوجوب[(شرح الورقات) للفوزان (ص 59)].

وهكذا كان الإمام أحمد ابن حنبل، فقد سأله رجل عن مسألةٍ من هذا النوع، فقال أحمد له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟، وقال لرجلٍ آخر سأله أيضًا عن مثل تلك المسائل، فقال له: سل رحمك الله عما ابتليت به، وقال لآخر: دعنا من هذه المسائل الـمُحدثة خذ ويحك فيما تنتفع به، وإياك وهذه المحدثة!
فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام به هو البحث عمَّا جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر فلا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر متى ذلك يا علي قال إذا تفقه لغير الدين وتعلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة.
ومما تقدم نستخلص أن من امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهي عما نهى عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ’’إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم’’ .. قال بعض العلماء هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة وروى هذا عن الإمام أحمد رحمه الله.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ’’اتق المحارم تكن أعبد الناس’’، وقالت عائشة رضي الله عنها : (من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب) وروي مرفوعًا.
LikeShow more reactions
Comment

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 6




مع الحلقة السادسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، وهي الحلقة الأخيرة في موضوع التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدأها بالسؤال الذى يجب أن نسأله لأنفسنا:
هل وقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما كان يوقره الصحابة رضوان الله عليهم؟ هل تأدبنا معه صلى الله عليه وسلم بمثل أدبهم معه؟ ولرب داهمنا من يتساءل: وكيف كان توقيرهم له وتأدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟
والإجابة: لقد كان من توقير الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، أنهم ما فتئوا يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون إلا بإذنه.
وفى ذلك قال البراء بن عازب رضي الله عنه يصف حضورهم جنازة يجهز لحدها: ( فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير)[رواه أبو داود(4753) وأحمد(4/287)] .

وقال أسامة بن شريك رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا،أفتنا في كذا)[رواه ابن ماجه(3436) وأحمد(4/278) وصححه ابن حبان(486)] ، ورواه الطبراني: “كأن على رؤوسنا الطير”.
ولم يكن رضوان الله عليهم يتهيبونه ويهابونه حال حياته أو حال حضوره فقط بل الشاهد أنهم كانوا على مثل تلك الحالة من الهيبة والتوقير حتى بعد أن غادر دنياهم مُختارًا رفيق ربه صلى الله عليه وسلم.
كما روى عمرو بن ميمون فقال: ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشئ قط يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ذات عشية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: “أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريبًا من ذلك أو شبه ذلك”) [رواه مسلم في التمييز(7) والطبراني في الكبير(8617)] .
وما كانوا يقرعون بابه صلى الله عليه وسلم إن أرادوه بالأظافير، بل وما كانوا يرفعون أصواتهم رضى الله عنهم بحضرته صلى الله عليه وسلم، وخفضوه أكثر بعد نزول آية الحجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [سورة الحجرات: (2)] .
فقد قال ابن الزبير رضي الله عنهما : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه خشية حبوط العمل [رواه البخاري (4564)] .
وواقع الأمر أن تأدبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون نابعًا من المحبة الإيجابية له صلى الله عليه وسلم والتي يجب أن تستلهم نموذجها من فعل الصحابة المتمثل فى تمام الطاعة والانقياد والتسليم كما يحددها بحق ابن القيم حين ينقل مفهوم الأدب والتأدب من إطاره النظرى القلبي واللساني إلى منطقته الحقيقية العملية، فيقول:

(فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزُبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل ــ سبحانه وتعالى ــ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه [مدارج السالكين: (2/387)] .
فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى مبينًا وجوب النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في كل خلاف:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء: (65)] ،في هذه الآية يقسم رب العالمين بربوبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا له في ذلك خطاب التكريم، وقد بينت الآية أن الإيمان لا يكون صحيحًا إلا بثلاثة أمور لا بد من تحقيقها:
الأول: تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل قضية وقع فيها شجار أو خلاف.
والثاني: عدم وجود حرج أو ضيق من حكمه صلى الله عليه وسلم.
والثالث: التسليم والإذعان والانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام.
وهذه الآية تدل على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أوجب الانقياد لحكمه وبالغ في ذلك الإيجاب، وبين أنه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب، وذلك ينفي صدور الخطأ عنه صلى الله عليه وسلم.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: (واستدلوا بالآية أيضًا على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، فمن بلغه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بمخالفة قياسه له فهو غير مطيع للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاثة المشروطة في صحة الإيمان بنص الآية، ومخالفة نص القرآن بالقياس أعظم جرمًا وأضل سبيلاً، وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا: إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أنه يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها، لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص) [تفسير القرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار ج5/238] .
واتكاءً على تفسير المنار ومدلول الآية قال الدكتور عبدالله شاكر: (إن كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه جامعوا الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث تعيَّن على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرًا وباطنًا، وأن لا يلتمس مخارج لرده أو تأويله، ليخرج به عن ظاهره، لمذهب تقلده، أو عصبية نشأ عليها) [مجلة التوحيد العدد 74 لسنة 2008] .
فمن ادعى المحبة ولم يقم ببواطنها وظواهرها من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بالقلب واللسان واتباع سنته بتنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم والانتهاء مما نهانا عنه، أو تغليب عقولنا فيما كان صحيحاً عنه ، أو ترك ما أمر به صلى الله عليه وسلم لقول قائل فليحذر وليرجع لأن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول ابن العربي ـ ميتًا كحرمته حيًا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا﴾ [سورة الأعراف: (204)] .
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضًا في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93)] .
ومن الأدب عند قبره صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: (ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر) [أضواء البيان: (7/617)] .
يُجْمِل الشيخ أبى بكر الجزائري الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى أن يكون:
1ـ بطاعته واقتفاء أثره، وتَرَسُّمِ خُطاهُ في جميع مسالك الدنيا والدين.
2ـ ألا يُقدِّمَ المسلم على حُبِّهِ وتوقيرهِ وتعظيمه حُبَّ مخلوق أو توقيره أو تعظيمه كائنًا من كان.
3 ـ موالاة من كان يوالي، ومعاداة من كان يعادي، والرضا بما كان يرضى به، والغضب لما كان يغضب له.
4 ـ إجلال اسمه وتوقيرهُ عند ذكره، والصلاةُ والسلامُ عليه، واستعظامه وتقديرُ شمائلِهِ وفضائلِهِ.
5 ـ تصديقُهُ في كل ما أخبر به من أمر الدنيا والدين وشأنِ الغيب فى الحياة الدنيا وفي الآخرة.
6 ـ إحياءُ سُنتِهِ وإظهارُ شَرِيعَتِهِ، وإبلاغُ دَعوَتِهِ، وإنفاذِ وصاياهُ.
7 ـ خفضُ الصوتِ عند قبره، وفى مسجده لمن أكرمه الله بزيارته، وشَرَّفَهُ بالوقوفِ على قبره صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا.
8 ـ حُبُّ الصالحين وموالاتهم بحُبه، وبغض الفاسقين ومعاداتُهُم بُبُغْضِه[منهاج المسلم ص 67] .

فليتأمل كل مسلم نفسه ويعرض نفسه على شروط التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما ظن أنه يحسن الأدب دائمًا وهو في الغالب يحسن في ناحية ويسئ في أخرى دون أن يدري، فقد أساء الأدب من يسب الصحابة رضوان الله عليهم أو على الأقل يذكرهم بما لا يليق دون علم أو سند، أساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أو تناول أمهات المؤمنين بما يُشين ولو حتى تحت ستار البحث العلمي وباطنه ممتلئ حقدًا وسمًا مثل تلك الأقلام المأجورة التي غزت بعض الصحف والتي تتبنى أو تتبناها مذاهب على غير مذهب أهل السنة والجماعة.
أساء الأدب من لم يتدبر سيرته أو قرأها ثم أشاعها في نفسه وأسرته وعمله خُلقًا ومنهاجًا وسلوكًا، أساء الأدب ممن تمذهب بالمذاهب المادية والإلحادية وروَّجَ لها، أساء الأدب من أنكر سنته واتخذ القرآن الكريم حكمًا وحاكمًا وسمى نفسه “القرآني” ووسم باقى المسلمين المتمسكين بسنة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ “البخاريين” وقصدهم التنقيص من قدر الإمام البخاري ومن قدر الحديث الشريف، أساء الأدب من أشاع الفاحشة، ومن أفتى بغير علم، ومن فرَّق على المسلمين صفوفهم وكلمتهم، أساء الأدب من أنكر الحجاب وكل فرض واجب في الإسلام، أساء الأدب ممن سخر من الذين يعضون على دينهم بالنواجذ ويتمسكون بأمر السنة النبوية في مظهرهم سواء في الجلباب أو النقاب ومع هذا لا تطرف له عين على الحرمات المنتهكات فلا تسمع له صوت بالإدانة أو الشجب وكأن المألوف هو الباطل.
فالواجب على كل من رضي بمحمدٍ رسولًا واتبعه وآمن به صلى الله عليه وسلم أن يحبه حبًا صادقًا أعظم من حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وتصديق ما أخبر به، وامتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، والاهتداء بهديه والاقتداء بسنته والرضا بحكمه والحرص على متابعته، وتوقير حديثه والصلاة والسلام عليه إذا ذُكِرَ اسمه صلى الله عليه وسلم، وعدم رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه، وعدم الضحك وقت تلاوة أخباره وكلامه وآثاره، والخشوع عند ذكر شيء من سنته، والتأدب عند الاستشهاد بقوله، والتسليم عند أمره ونهيه، والإيمان بمعجزاته والذب عن جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه، فالأدب معه صلى الله عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، والأدب مع شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم بإجلاله وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها: لا غلوّ ولا جفاء.

فيا من أساء الأدب .. ويا من أحسن التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزيد من الأدب .. مزيد من المحبة.. مزيد من الطاعة والاتباع .. فالأمر يستحق .. فمبتدأ معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ومنتهى معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ..ولن يبقى لنا في النهاية غير’’سيدنا محمد’’ و ’’رب محمد’’..
 

الثلاثاء، 13 يونيو 2017

التاريخ حين يعانق رمضان

  









يتيه شهر رمضان، هذا لو جاز له أن يتيه، بكثرة الأسماء التي تضاف إلى اسمه الكريم، فهو سيد الشهور، وشهر القرآن، وشهر الغفران، وشهر الفرقان، وشهر الجهاد، وشهر الفتوحات، وشهر البطولات، وشهر الانتصارات، وشهر العتق من النيران، وشهر الجود، وشهر الكرم والكثير مما سماه بها كل من أحبوه ووقروه.


   إنه الشهر الذي يعانق التاريخ أو الذي سعى إليه التاريخ وعانقه وصادقه وزامله، ذلك أنه الشهر الذي شهد بداية اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، الموافق لليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 من ميلاد المسيح عليه السلام، وذلك كما حددها بعد النظر والتأمل في القرائن الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم"، مستندًا في هذا على الرأي القائل بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق لليوم العشرين من أبريل/ نيسان سنة 571 من الميلاد، وهو الذي يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم، أخذًا بما حققه عالم الفلك المصري المرحوم محمود باشا الفلكي.

     بناءً على التاريخ الذي تقدم يكون عمر الرسول  صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قمرية تامة، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏ من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم في غار حراء، حين  شاء الله تعالى أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرم عبده محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ثم أنزل إليه جبريل بآيات من القرآن الكريم لتبدأ الحضارة.

يقول سعيد جودت فى مدخل كتابه: "اقرأ وربك الأكرم": (المسلمون الذين كلما كتب كاتب في الأرض عن تاريخهم لا يقضي عجبًا من سرعة ما ملكوا العالم المعاصر لهم، انطلقوا من الكلمة (اقرأ) إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس وأشدهم اتصالاً بالقراءة والكتاب والعلم الذي يطلبونه في كل مكان ومن كل مصدر، لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم).

  كان العالم قبل اقرأ شيء ولكنه بعد اقرأ القرآنية شيئًا جديدًا، اقرأ التي شهدها رمضان سيد الشهور هي التي جعلت من رمضان تاريخًا جديدًا في تاريخ العالم تتسابق تواريخ الأيام والسنوات لتتلاصق به وتتماس، فيتيه الحدث ويكتب له الخلود في سجلات الدنيا، فشكل رمضان في الأمة الإسلامية وجوده في عقولها وقلوبها.

  عانق تاريخ البطولات تاريخ رمضان فبدأ المسيرة المباركة من الانتصارات مع يوم الجمعة الموافق السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة مع أول غزواته "بدر الكبرى"، وتنتهي مسيرة الغزوات النبوية مع يوم العشرين من رمضان من السنة الثامنة من الهجرة المباركة مع فتح الفتوح "فتح مكة المكرمة"، وتأتي البطولات من بعد عصر النبوة والتي وقعت في رمضان، ومنها: موقعة البويب سنة أربعة عشر من الهجرة النبوية المباركة، موقعة القادسية في العام الخامس عشر من الهجرة، فتح النوبة عام 31 من الهجرة، والذي لا يذكره أحد مع فتوحات المسلمين في رمضان، فتَح المسلمون جزيرة رودس سنة 53هـ، كما كان فتح بلاد الأندلس في رمضان سنة 92هـ، وشهد رمضان معركة الزلاقة، جنوب دولة إسبانيا حاليًا، في عام 479هـ،  وشهد موقعة حطين كانت عام 584هـ، كما شهد أيضًا معركة عين جالوت عام 685ه، وشهد رمضان في عام 1241هـ استيلاء إبراهيم باشا ابن محمد علي، على مدينة "ميسولونجي" من بلاد اليونان، كما كان رمضان شاهدًا على كبرى الانتصارات العربية والإسلامية الحديثة وهي حرب العاشر من رمضان عام  1393ه الموافق للسادس من أكتوبر لعام 1973م.       
  كما شهد رمضان العديد من التواريخ التي اتسمت بالحزن أو التي عمَّها الفرح، مثل: وفاة أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة، وفي نفس السنة في يوم العاشر من رمضان ماتت سيدة المسلمين السيدة خديجة رضي الله عنها أول أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأول خلق الله تعالى إسلامًا، وقد توفت السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، كما توفت ىسيدة نساء العالمين في زمانها، وأم الحسنين في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، ثم استشهد زوجها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الأربعين من الهجرة وفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان عام 58ه توفيت إلى رحمة الله تعالى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق ثالث أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شهد شهر رمضان سنة ثمان ومائتين هجرية في مصر، وفاة نفيسة العلم، العابدة الزاهدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي العلوية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رمضان توفي الصحابي سعد بن مالك الخزرجي الساعدي والد الصحابي سهل بن سعد، وكان تجهز ليشارك في غزوة بدر فمات قبلها.

  ومن الحوادث السارة التي شهدها شهر رمضان المبارك مولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في المدينة المنورة في منتصف رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، وزواج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الثالث الهجري من أم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث "أم المساكين"، وفي رمضان من السَّنة التاسِعة للهجرة  قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك منتصرًا، وفي نفس العام حضَر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفْدُ ثقيف لمبايعته وأعلنوا دخولهم في الإسلام، وفي رمضان من عام 361 هجرية تم بناء الجامع الأزهر، منارة الإسلام، بالقاهرة.

 وللعلماء وأهل العلم مع رمضان تواريخ لا يستطيعون نسيانها من كتب ومؤلفات فرغ منها أصحابها من المصنفين في هذا الشهر الكريم أو بدأوها فيه، فكان رمضان وهو يعانق التاريخ من حيث إنطلاقه بخير الرسالات على البشرية كلها، ليهدي الدنيا أرحم الحضارات التي تعد من مفاخر هذا الدين، وأضافت إلى الحضارة الإنسانية الكثير من منجزاتها، يشهد الكثير من هذه الإنجازات التي تمت في أيامه المعدودات، مثلما شهد الكثير من الفتوحات البطولية والعسكرية المختومة بختم النصر والتأييد والتمكين، كما لم تخلُ أيامه كذلك من فتوحات علمية ظل يتداولها أصحاب العقول والأفهام بالتلقي والتعليم والتعلم، لتصنع تاريخًا جديدًا لا تنقضي عجائبه منذ عانق التاريخ رمضان على هذه الأرض، وإلى أن تنتهي.  


http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1642



الاثنين، 12 يونيو 2017

رمضان شهر التواصل والتكامل











يأتينا في كل عام جديدًا، نفس البهجة في النفوس، والانشراح في الصدور، والاطمئنان في القلوب، هذا أجمل ما في شهر رمضان سيد الشهور عند المسلمين، ولا تجد له مثيلًا عند غيرهم، فالاحتفاء به ليس على سبيل الكرنفالات والاحتفالات والمهرجانات كما نراها هنا وهناك على شاشات التلفاز.

  رمضان شهر له عبق خاص، وروائح تأتي قبيل قدومه من النسمات والبشائر التي يستشعرها المسلم سواء الغني أو الفقير، القادر وغير القادر، عباءة رمضان تتسع للجميع، وهو شهر الكرم بحق ولهذا يتسابق فيه الجميع في تنافس محمود؛ فالحسنات أجرها مضاعف أزيد من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف في كل الأعمال الصالحات من العبادات التي يقوم بها المسلم إلا أن الصوم له خصوصية "الثواب المفتوح" إن أحسنت التعبير، ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو من يتولى رصد الحسنات والثواب بنفسه سبحانه، فالصوم لله تعالى وهو يجزي به، وله دون العبادات الأخرى صفة السرية فلا يطلع عليه غير الله تعالى دون العبادات الظاهرة لكافة الناس، وفيه المشقة والجهاد على كبح جماح النفس عما تشتهيه قربة لله تعالى.

   تأملت هذا الشهر الكريم فوجدتُ فيه ما ليس في غيره من شهور العام بوجه عام  حتى الهجرية، فلا تجد شهرًا فيه من التواصل والتكامل بين العبادات كما في هذا الشهر؛ فالنهار صيام وصلاة، وقراءة قرآن، وذكر وتسبيح وتهليل وتحميد واستغفار، ودعاء لا يفارق كل هذا الخشوع لله تعالى بالقبول، يتواصل مع الليل حتى بعد تناول طعام الإفطار، لتبدأ دورة جديدة من التواصل والتكامل بين العبادات من صلوات تزيد بصلاة التراويح، وقيام الليل، ولا تنتهي بالسحور حتى تبدأ دورة جديدة مع صلاة الفجر والدعاء وقراءة القرآن الكريم.

   لا يوجد في أي شهر من شهور العام شهر تتواصل فيه العبادات ليل نهار بمثل هذه الطريقة، وعلى نفس النهج والوتيرة، ولا تقل لي رجب أو شعبان فالعبادة فيهما على سبيل التطوع والاستحباب والفردية، أما في سيد الشهور فالفرضية ثابتة بالقرآن والسنة، والوجوب ملزم، والجماعية حاكمة في البيوت، والمساجد، والعمل، والشوارع، وفي الوطن العربي، والعالم الإسلامي، والعالم بأسره، بضواحيه ومدنه، وجمهورياته، وملكياته، وإقطاعياته، وقاراته، الكل يغزل نسيجًا واحدًا هو ثوب رمضان، والكل يشكل فسيفساء من زخارف لوحة رمضان الكبيرة التي تضم الأجناس، واللهجات، واللغات، والقوميات، والألوان التي يوحدها رمضان سيد الشهور بريشته الحانية الساحرة الأخاذة بالقلوب والألباب، والمهج والأفكار.

  ينسخ رمضان كل العادات المتبعة، والسلوكيات الثابتة عند كل مسلم مهما كان وأي ما كان، ليبدأ ذلك المسلم معه الترحال حيث مرافئ الطهر والتعفف والتخفف من الذنوب، والانغماس في أنواره الرحيمة الرحيبة بشفافية ملائكية أو تكاد، وخروج من الذات الأرضية السجينة نحو آفاق الروحانيات والمثاليات والسمو والرقي.

   في رمضان تتواصل الأجساد مع الأرواح بأسلوب جديد، وباتفاق خفي بين طيات النفس، وانعتاق من الماديات التي تحط على كاهل العبيد، ليتحرروا من الثقل إلى الخفة، ومن القتامة إلى الألوان الزاهية، حيث معدن الإنسان النقي الأول، إنها نقطة اكتشاف الذات، بالبعد عن الملذات، والأفكار الخبيثة والملغزات.

  في رمضان تتواصل القلوب في اصطفاف جديد في صلاة، وفي حياة، حتى بين المسلم وأصحاب الديانات والمذاهب المخالفة، يضم رمضان الجميع في موائد الإفطار بين دعوات من هنا وهناك لا تتقيد بتلك القيود الشكلية في الأيام العادية، وفي تسامح عجيب، وقبول للآخر، وانسجام حبيب مع الكون.

  في رمضان تتكامل العبادات بالتسليم لبعضها البعض في رضا وحبور، ينطلق الآذان فترتفع المصاحف، لتقام الصلوات، يحدوها الخشوع، والخضوع للحق المطلق، وتنتهي الصلوات التي تنتهي برفع أكف الدعاء، والتسبيح والتهليل والتحميد، والاستغفار، ثم تتناول الأيدي المصاحف من جديد لتمتد مائدة الله بين المسلم وربه في إقبال على الله، وبغير إذعان أو إجبار أو تكلف بل بكل المحبة والرضا.

    والدعاء في رمضان جسرًا قصيرًا بين العبد وربه، وهو في رمضان مضمون الاستجابة لمن فقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل دعوة الصائم من الدعوات المستجابات، وذلك للتواصل العميق بين الإنسان وربه في لحظة تصفو فيها النفس عن شهوات الدنيا ومطامعها للطمع في وجه الله تعالى.

 رمضان هو الشهر الوحيد الذي شهد تواصل الأرض بالسماء في مشهد كوني حافل بمراسم الاصطفاء والتكليف، حين تلقى أمين الأرض الرسول  صلى الله عليه وسلم  النور والرسالة من أمين السماء، ليؤكد أن الاتصال بين الإنسان والله قائم بلا حلول ولا اتحاد، برسالة تمثلت أنقى تمثيل بالتوحيد، وعبادة الله بلا وسائط ولا شركيات.  

    ليس هناك غيره رمضان، ولن يكون غير رمضان، شهر يطل على الأكوان بمثل هذه الحفاوة والحب في الاستقبال، وبمثل هذا البكاء المرير على مرور أيامه مسرعات، وتبدأ أشرعة الشوق من جديد في أنهار العام تنتظر قدومه على شوق، وتبقى القلوب واجفة بين الدعاء بقبول الطاعات فيه، والدعاء ببلوغه من جديد، إنها رحلة من التواصل التي لا تنتهي في حياة المسلم والتي تصنع فيه حلقات من التكامل لا تنتهي مع رمضان.. ذلك الزائر الدائم في كل عام..

http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1639

بدر .. باكورة الغزوات والانتصارات السيد إبراهيم أحمد






 شهد وادي بدر صبيحة يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر رمضان المبارك، من السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، فتح الفتوحات، ووقعة بدر، ويوم بدر، وبدر الكبرى، ويوم الفرقان، كما شهدت عين بدر التي كتب الله لها الخلود في سجلات التاريخ البشري، والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة.

    غزوة بدر العظمى، كانت باكورة الغزوات التي خاضها الإسلام ضد قوى الكفر في مكة وقوى الشرك في الجزيرة العربية ممثلة في زعماء مكة الذين كانوا يديرون الحرب ضد الإسلام، ومن هنا كانت نقطة فاصلة في تاريخ الإسلام بجميع أوجهه من حيث التأثير والآثار، وذلك من الوجهة التاريخية، والوجهة السياسية، والوجهة العسكرية، مما يوجب دراستها من أكثر من زاوية وهو الحادث بالفعل في كثير من الدراسات والمقالات، غير أن المهيمن عليها في التقديم فقط هو الشكل التاريخي والدعوي.

  إن غزوة بدر تتبدى عظمتها في فيصليتها التاريخية الفارقة في تاريخ الإسلام وقت نشوب المعركة، وأسلوب إدارتها، وتاريخ الإسلام في مستقبله الذي لولا انتصار المسلمين في هذه الغزوة لتغير وجه تاريخ المسلمين ومن ثم تاريخ العالم بأسره، ولهذا وصف الله تعالى ذلك اليوم في كتابه العزيز بأنه: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال:41]، وهو اليوم الذي فرق فيه الله عز وجل بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، والجمعان: حزب الله  وحزب الشيطان كما يقول القرطبي في تفسيره، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بقارقيتها وخطورتها وأنها تمثل لحظة تاريخية  فاصلة لها ما بعدها في حالة النصر وأنه قد لا يكون هناك بعدها في حالة الهزيمة من حيث وجود الإيمان في الأرض، وتوحيد الله سبحانه، ولهذا لاذ بالله تعالى يدعوه رافعًا أكف الضراعة، مستقبلًا القبلة يستنجزه وعده، وهو يقول: "اللهُمَّ آتني ما وعدتني، اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِكَ هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض"، وظل صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة لا يفارقها حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحي يطمئنه؛ سيُهزَم الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُر.

وقد يدور سؤالًا مشروعًا: هل كانت لهذه الموقعة ضرورة مع ما يكتنفها من مخاطر ستقع آثارها، غالبًا، على المسلمين الأقل في العدة والعدد؟

وقبل الإجابة نرصد المسافة التي قطعها رسول صلى الله عليه وسلم 165 كم، ما بين المدينة المنورة وبدر، ومن حيث العدد، كان أول جيش منظم في الإسلام يبلغ 314 جنديًا، من حيث العدة، لم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا يتعقبونها.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير ـ أي يتعاقبون ـ وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك ـ ليظل راكبًا ـ فقال: "ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".
 وكان عدد المشركين في أول أمرهم ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية خروجه من مكة، ثم أصبح ألفًا بعد رجوع بني زهرة إلى مكة تاركة القتال لأبي جهل ومن معه، وكان معهم مائة فرس، وستمائة درع، وينفق على جيش المشركين تسعة من وجهاء قريش وأشرافها، ويكفي أنهم كانوا ينحرون في كل كل يوم تسعًا أو عشرًا من الإبل.
والجواب على هذا السؤال يقول بأن الصدام كان لا محالة سيحدث بين قوى الإيمان وقوى الشرك مهما طال الأمر، ومن يعد إلى وثيقة المدينة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود والمشركين والنص على عدم التحالف بينهم وبين مشركي قريش مع عدم وجود دلالات وقت هذه الوثيقة على وجود روابط بين هذه الأطراف، لا يخفي النظرة الثاقبة الواعية والتي أثبت التاريخ واقعيتها وسبقها لرؤية من كان يظن باستحالتها، كما أن قوافل قريش قامت على أموال اقترفتها من بيع دور مغلقة للمهاجرين بمكة، وظل المهاجرين يعانون وحال الأنصار المدينة في جوارهم لهم ومؤازرتهم لا يعني أن الأنصار لم يكن يعانون اقتصاديًا أيضًا، وأن المهاجرين كانوا من عزة النفس بما لا يسمح لهم بالركون إلى كرم الأنصار الذي فاق الحد، كان يجب أن تظهر قوة المسلمين ووجودهم في أن يشكلوا خطرًا على طريق القوافل المكية التي تمر به من المدينة بما يشعرهم بالقلق على أموالهم وتجاراتهم، كما أن قريش قد اشتد بها الغيظ من أهل المدينة في مؤازرتهم للدعوة الجديدة، وكانوا يتحينون الفرص للاشتباك معهم بطريقة أو بأخرى.

    أما السبب المباشر لعزوة بدر فهو، أنه قد بلغ المسلمين تحرُكُّ قافلة تجارية كبيرة من الشام تحمل أموالاً هائلة لقريش يقودها أبو سفيان ويقوم على حراستها بين ثلاثين وأربعين رجلًا، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة ليقوم بجمع معلومات عنها، وبعد أن عاد الصحابي الجليل بالمعلومات، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج،  أي لم يأمرهم بل ترك الأمر للرغبة من عدمها، وقال لهم: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها"، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك، ولم يكن يعزم على قتال بل كان قصده عير قريش فقط.
 ويكفينا لمحات خاطفات نطوق بها أحداث غزوة بدر باكورة الغزوات الإسلامية، وبشائر انتصاراتها المجيدة الحاسمة والتي لولاها لما قام للإسلام قائمة، ومن هذه اللمحات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لجيشه بالمبادأة بالقتال، حيث بدأ الهجوم من جانب المشركين؛ إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذي بناه المسلمون معاهدًا اللات والعزى ليشربن من الحوض أو يهدمنه أو يموتن دونه، فتصدى له حمزة بن عبد المطلب فضربه فلم يرتدع، فأجهز عليه قبل أن يبر بعهده على الأصنام.
  ومن هذه اللمحات: أن التكتيك العسكري كان رائعًا ومدروسًا، ولم تغب عن المعركة الاستشارة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدير المعركة من داخلها، كما ظهرت وحدة الصف في جيش المسلمين، بينما ظهرت الانشقاقات في جيش الكفار، ولم يتخلَ الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأجاب دعاءه، وأرسل إليه الملائكة كمددٍ من السماء، في حين تخلى الشيطان في إجارته للمشركين فارًا من المعركة ليتركهم وحدهم يلاقون مصيرهم، كان لهذه المعركة أثر كبير في رفع الحالة المعنوية للمسلمين وتثبيتهم، أذلت قوى الشرك والكفر والنفاق واليهود في سائر الجزيرة العربية.

   إن بدر الكبرى .. غزوة الفصل، والوعد بالنصر من الله، لمن ينصره تعالى، ويعلي كلمة الله لتكون العليا، والفداء بالنفس رخيصة في سبيل الله، رجاء ما عند الله، فيا ليتنا نعد إلى الله، ليثبت أقدامنا، ويجمعنا على كلمة سواء، ليتنا نجعل من بدر النصر، وبدر الفداء، بدر في حياتنا، وبدر حياتنا، وليتنا ندرسها ونتفهمها، إنها خطة عمل كبيرة في حياة هذه الأمة لو فقهت أمر دينها، ونهج نبيها، ومنهاج كتابها، وأمر ربها، لو طبقتها، لنجت.


http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1641

التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...