الجمعة، 16 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 8





مع الحلقة الثامنة نعاود إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، ولك عزيزي القارئ، أن تسأل: ألم يكن يسأل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة افتراضية، ولن أتعرض للفتاوى الافتراضية المعاصرة في حياتنا وكيف وصفها العلماء في  عصور سبقت:
يوضح الإمام القرطبي المقصود بالأسئلة الافتراضية بأنها تلك الأسئلة التي يبعد وقوعها في الحياة والتي لا ينبغي الاشتغال بها؛ وهذا منهج كثير من السلف؛ كانوا يكرهون الأسئلة عن الأمور التي لم تقع بعد، فقد أخرج الدارمي بسنده أن عمر بن الخطاب كان يلعن من سأل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت الأنصاري يقول: إذا سُئل عن الأمر أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا لم يكن، قال: فذروه حتى يكون.
كما أجاب الإمامان أبو إبراهيم يحي ابن إسماعيل المزني، والخطيب البغدادي عن سبب كراهية الصحابة الإجلاء والسلف الصالح للأسئلة الافتراضية، أي التي لم تقع، فذكرا أن المنع يحتمل أن يكون قُصد به السؤال على سبيل التعنت والمغالطة، لا على سبيل التفقه وابتغاء الفائدة.
يقول الإمام البيهقي: "كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتابٌ ولا سنة؛ وإنما يسأل السائل عن مسألةٍ مبنيةٍ عن الاجتهاد لا نص فيها".
لم تكن الأمور كلها تجري في منع السؤال الافتراضي على إطلاقه أو الفتوى الافتراضية التي لم تقع، وإنما كان هذا مباحًا للمتفقهة؛ ليرشدوا إلى طريق النظر والرأي، وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها، كما ذكر البيهقي.
والجواب عن أن الصحابة كانت كل أسئلتهم تدور في سياق الواقعية لا الافتراضية فقط، وإن بدا أنها افتراضية بمعنى أنها لم تقع، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أجاب عن أسئلةٍ من هذا النوع، وستبدو لمن يطالعها أنها ممكنة الوقوع وليست مستحيلة، وأن حرص الصحابي أن يكون معه الحكم والعلم بها قبله مخافة أن تقع ولا يحسن التصرف فيها، مثلما جاء في الصحيحين:
عن المقداد ابن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرةٍ، فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".
ولقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار".
والحديث يدور حول أسئلة أربع ولكنها تدور حول حدث واحد قد يبدو لقارئه افتراضيًا، ولكنه في الواقع قائم وقد يحدث بين الفينة والأخرى في البيئة التي يعيش فيها الصحابي، وهو مهموم بذلك بدلالة ترتيب الأسئلة في ذهنه وسردها في مباشرة وروية وثبات، على عكس من يخمنون ويفترضون ويتخيلون أمورًا قد لا تحدث في زمانهم ولا الأزمنة التي تليهم بقرون، وهذا هو الفارق بين أسئلة الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم بدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضق بأسئلته ذرعًا أو نهاه عنها.
يؤكد هذا ما قاله ابن رجب الحنبلي: (وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها؛ لكن للعمل بها عند وقوعها؛ كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها؟).
مثلما سأل الصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم، عن الدجال، وعن مدة إقامته في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "أربعون يومًا؛ يومٌ كسنة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"؛ قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا، أقدروا له قدره).
ولقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ظهور الدجال كان محتمل أن يقع في زمن النبوة أو بعده، ولكنه ليس سؤالًا افتراضيًا بل يتعلق بأصل، ولم ينههم عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
والأسئلة الافتراضية ليست شرًا كلها، ولكن كان لها من النفع في كثير من الأحيان في عصرنا الحالي وإن كان زمان طرحها سابقًا وعلى سبيل "أرأيت"، ولكن مع المستجدات التي طرأت على واقع المسلم في كثير من مناحي الحياة كان لها وجاهتها، خاصة إذا كان لتلك المسألة حكم خفي ــ كما يوضح الإمام المُزني ــ حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر والاستنباط، أو لا يكون لها حكم؛ فإن لم يكن لها حكم، فلا وجه لذلك، وإن كان لها حكمٌ لا يوصل إليه إلا بالمناظرة والاستنباط، فالتقدم يكشف الخفي، ومعرفته، وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى؛ فإذا نزلت، كان حكمها معروفًا، فوصل بذلك الحق إلى أهله، ومُنِعَ به الظالم من ظلمه، وكان خيرًا وأفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظر في المسألة عند المناظرة.
ولهذا كله فقد أحسن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية حين سُئِلَ عن مكة هل هي أفضل من المدينة؟ أم بالعكس؟
فأجاب: الحمد لله، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: ’’والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت’’ [قال الترمذي حديث صحيح].
وفي رواية: ’’إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله’’. فقد ثبت أنها خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله. وهذا صريح في فضلها. وأما الحديث الذي يروى: ’’أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكنى أحب البقاع إليك ’’. فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم.
وعندما سئل رحمه الله عن رجلين تجادلا ، فقال أحدهما : إن تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السماوات والأرض. وقال الآخر: الكعبة أفضل ، فمع من الصواب؟
 فأجاب: الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه ، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه [(الفتاوى الكبرى) (4/411) و(مجموع الفتاوى) ( 27/38)].
ولما سئل رحمه الله عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي أفضل من المسجد الحرام ؟
قال: وأما التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعاً وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولاحجة عليه، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد. [مجموع فتاوى ابن تيمية مسألة تربة النبي أفضل من السموات والأرض أم الكعبة أفضل؟ (27/37)].
وفي الختام: كل ما أرجوه هو الاقتصاد في الأسئلة وعدم التفريع، والسؤال فيما يهم، فقد كثرت برامج الفتاوي والتي أصبحت تشكل برنامجًا إعلانيًا دعائيًا للقنوات الخاصة وغيرها، حتى في إذاعات القرآن الكريم لانجد إلا الأسئلة المعروفة،وصدق من قال: (أدركت قومًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم، وفي ذلك كلّه كانوا يلتزمون الأدب الذي أدبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم به)..فيا ليتنا نتأسى بأدب وفقه الصحابة في سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
 ومع حلقة قادمة نبحر معًا في سياحة يسيرة في دراسة السيرة... فإلى لقاء...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق