يتيه شهر رمضان، هذا لو جاز له أن يتيه، بكثرة الأسماء التي تضاف إلى اسمه الكريم، فهو سيد الشهور، وشهر القرآن، وشهر الغفران، وشهر الفرقان، وشهر الجهاد، وشهر الفتوحات، وشهر البطولات، وشهر الانتصارات، وشهر العتق من النيران، وشهر الجود، وشهر الكرم والكثير مما سماه بها كل من أحبوه ووقروه.
إنه الشهر الذي يعانق التاريخ أو الذي سعى إليه التاريخ وعانقه وصادقه وزامله، ذلك أنه الشهر الذي شهد بداية اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، الموافق لليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 من ميلاد المسيح عليه السلام، وذلك كما حددها بعد النظر والتأمل في القرائن الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم"، مستندًا في هذا على الرأي القائل بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق لليوم العشرين من أبريل/ نيسان سنة 571 من الميلاد، وهو الذي يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم، أخذًا بما حققه عالم الفلك المصري المرحوم محمود باشا الفلكي.
بناءً على التاريخ الذي تقدم يكون عمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قمرية تامة، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم في غار حراء، حين شاء الله تعالى أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرم عبده محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ثم أنزل إليه جبريل بآيات من القرآن الكريم لتبدأ الحضارة.
يقول سعيد جودت فى مدخل كتابه: "اقرأ وربك الأكرم": (المسلمون الذين كلما كتب كاتب في الأرض عن تاريخهم لا يقضي عجبًا من سرعة ما ملكوا العالم المعاصر لهم، انطلقوا من الكلمة (اقرأ) إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس وأشدهم اتصالاً بالقراءة والكتاب والعلم الذي يطلبونه في كل مكان ومن كل مصدر، لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم).
كان العالم قبل اقرأ شيء ولكنه بعد اقرأ القرآنية شيئًا جديدًا، اقرأ التي شهدها رمضان سيد الشهور هي التي جعلت من رمضان تاريخًا جديدًا في تاريخ العالم تتسابق تواريخ الأيام والسنوات لتتلاصق به وتتماس، فيتيه الحدث ويكتب له الخلود في سجلات الدنيا، فشكل رمضان في الأمة الإسلامية وجوده في عقولها وقلوبها.
عانق تاريخ البطولات تاريخ رمضان فبدأ المسيرة المباركة من الانتصارات مع يوم الجمعة الموافق السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة مع أول غزواته "بدر الكبرى"، وتنتهي مسيرة الغزوات النبوية مع يوم العشرين من رمضان من السنة الثامنة من الهجرة المباركة مع فتح الفتوح "فتح مكة المكرمة"، وتأتي البطولات من بعد عصر النبوة والتي وقعت في رمضان، ومنها: موقعة البويب سنة أربعة عشر من الهجرة النبوية المباركة، موقعة القادسية في العام الخامس عشر من الهجرة، فتح النوبة عام 31 من الهجرة، والذي لا يذكره أحد مع فتوحات المسلمين في رمضان، فتَح المسلمون جزيرة رودس سنة 53هـ، كما كان فتح بلاد الأندلس في رمضان سنة 92هـ، وشهد رمضان معركة الزلاقة، جنوب دولة إسبانيا حاليًا، في عام 479هـ، وشهد موقعة حطين كانت عام 584هـ، كما شهد أيضًا معركة عين جالوت عام 685ه، وشهد رمضان في عام 1241هـ استيلاء إبراهيم باشا ابن محمد علي، على مدينة "ميسولونجي" من بلاد اليونان، كما كان رمضان شاهدًا على كبرى الانتصارات العربية والإسلامية الحديثة وهي حرب العاشر من رمضان عام 1393ه الموافق للسادس من أكتوبر لعام 1973م.
كما شهد رمضان العديد من التواريخ التي اتسمت بالحزن أو التي عمَّها الفرح، مثل: وفاة أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة، وفي نفس السنة في يوم العاشر من رمضان ماتت سيدة المسلمين السيدة خديجة رضي الله عنها أول أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأول خلق الله تعالى إسلامًا، وقد توفت السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، كما توفت ىسيدة نساء العالمين في زمانها، وأم الحسنين في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، ثم استشهد زوجها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الأربعين من الهجرة وفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان عام 58ه توفيت إلى رحمة الله تعالى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق ثالث أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شهد شهر رمضان سنة ثمان ومائتين هجرية في مصر، وفاة نفيسة العلم، العابدة الزاهدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي العلوية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رمضان توفي الصحابي سعد بن مالك الخزرجي الساعدي والد الصحابي سهل بن سعد، وكان تجهز ليشارك في غزوة بدر فمات قبلها.
ومن الحوادث السارة التي شهدها شهر رمضان المبارك مولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في المدينة المنورة في منتصف رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، وزواج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الثالث الهجري من أم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث "أم المساكين"، وفي رمضان من السَّنة التاسِعة للهجرة قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك منتصرًا، وفي نفس العام حضَر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفْدُ ثقيف لمبايعته وأعلنوا دخولهم في الإسلام، وفي رمضان من عام 361 هجرية تم بناء الجامع الأزهر، منارة الإسلام، بالقاهرة.
وللعلماء وأهل العلم مع رمضان تواريخ لا يستطيعون نسيانها من كتب ومؤلفات فرغ منها أصحابها من المصنفين في هذا الشهر الكريم أو بدأوها فيه، فكان رمضان وهو يعانق التاريخ من حيث إنطلاقه بخير الرسالات على البشرية كلها، ليهدي الدنيا أرحم الحضارات التي تعد من مفاخر هذا الدين، وأضافت إلى الحضارة الإنسانية الكثير من منجزاتها، يشهد الكثير من هذه الإنجازات التي تمت في أيامه المعدودات، مثلما شهد الكثير من الفتوحات البطولية والعسكرية المختومة بختم النصر والتأييد والتمكين، كما لم تخلُ أيامه كذلك من فتوحات علمية ظل يتداولها أصحاب العقول والأفهام بالتلقي والتعليم والتعلم، لتصنع تاريخًا جديدًا لا تنقضي عجائبه منذ عانق التاريخ رمضان على هذه الأرض، وإلى أن تنتهي.
http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1642
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق