بانتهاء الحلقة السابقة، السادسة نكون قد أنهينا موضوع "التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومع الحلقة السابعة سنبدأ إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، وقد يراه البعض مناقضًا لما تناولناه من أننا نادينا سابقًا بالتأدب مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والآن ننهي عن المغالاة في حبه صلى الله عليه وسلم، وليس في الأمر مناقضة لمن قرأ فوعى وتدبر؛ فقد صار من دأب بعض ممن غالوا في حب الرسول صلى الله عليه وسلم أن أتوا من البدع التي قد تلامس حد الشركيات، ومن ذلك مغالاة بعضهم في طرح الأسئلة التى لا جدوى منها ولا نفع ولا تفيد المسلمين فى شيء سوى الظن أنها قربة لله ولرسوله، مع كونها تفت فى عضد الأمة وتفرقها أكثر مما تجمعها، وذلك بمن يسأل مثل هذه الأسئلة التى قتلت بحثًا وصدرت فى شأنها الأحكام القاطعة الباهرة:
هل مكة أفضل من المدينة؟ أو هل تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض؟ أو هل التربة التي دفن فيها الرسول أفضل من المسجد الحرام؟
استنادًا لأقوال علماء أجلاء قامت أجوبتهم على الاجتهاد الشخصي والنزوع نحو عاطفة العامة أكثر مما قامت على العلم الشرعي فى هذا الشأن تحديدًا، ولئن جارى العلماءُ العامةَ فى مرحلة كانت الأمة ناهضة قوية مترامية الأطراف لايُخشى عليها من بأس عدو أو تربص متربص، فاليوم حال الأمة لا يخفى على لبيب أو شاهد، فالاستهداف على أشده من تنصير وتشيع وغزو فكرى بالفن الهابط والمخدرات الرخيصة السهلة التناول، والدس على الدين، وظهور الفرق المارقة الضالة التي تشوش على الناس عقائدها، والطعن على الصحابة الكرام من أوشاب الناس الذين تمترسوا بالصحافة، وأكل لحوم العلماء بالتطاول على أقوالهم، وفض الناس عن الدين فيما يفيد ليشغلوهم بعلم لا ينفع وجهل لا يضر، يبدأ بهل مكة أفضل من المدينة؟ فينتصر فريق لمكة والآخر للمدينة ثم يهون شأن الاثنان فلا حرمة ولا أفضلية لا لمكة أو مدينة.
لذا فقد كان نهج الصحابة رضوان ربي عليهم النهج العملي فلم ينشغلوا عن الصلاة والصيام وكثير القيام، ولم يلتفتوا عن الجهاد يذبون عن الأمة من حاول اقتحام بيضتها وعزها، فما ألقوا بالاً إلى مثل هذه الأسئلة التى يعلمون أنها لا من الشرع ولا من العقيدة بل سفسطة وشنشنة يعرفونها من أخزم.
ولهذا فمن الفوائد التي يغنمها المطالع لأحداث السيرة النبوية المطهرة هو ذلك التعامل اليومي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضوان الله عليهم في إطار تعليمهم وتفقههم في دينهم، من دلائل ذلك المنهج في نهيه أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم في طرح الأسئلة التي لا غناء من ورائها فتوردهم المهالك والفتن كسؤال النصارى في المائدة فأصبحوا بها كافرين، ودلت الأحاديث المطهرة على النهي عن القاء الاسئلة عما لا يحتاج إليه أو على وجه التعنت والعبث والاستهزاء كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب من اليهود خاصة في المدينة.
كما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن الافراط في السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، وقد أثمر في الصحابة ذلك الهدي النبوي حتى بات عندهم أن من أعظم الجُرم من سأل عن شيء لم يحرِّم فحرِّم من أجل مسألته.
وبدا من تورعهم الإعراض عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الأموال، وكلها مسائل تصب في دائرة الاقتصاد في الأقوال والأفعال مما تشربوه من أقوال رسولهم الكريم، حتى أصبحوا ينتظرون قدوم الأعراب من الوافدين على المدينة المنورة لما كان من نهجه صلى الله عليه وسلم معهم من الترخص لهم في المسائل تأليفًا لهم، يستشف هذا من قول البراء بن عازب:
(إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب).
وضع الرسول لصحابته وأمته من بعده القاعدة الذهبية الحياتية الدائمة الباقية ببقائه، والباقية بعد رحيله لينتهجونها ويسيرون عليها لا يزيغون عنها :
’’مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ’’[(رواه البخاري ومسلم خرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة (6/2658) الحديث رقم (6858) باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى والإمام مسلم في صحيحه (2/975) الحديث رقم (1337) باب فرض الحج مرة في العمر واللفظ لمسلم، وصححه الألباني في إرواء الغليل (556 ، 559 ، 562 ، 705)].
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله، فقال: ’’يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه’’.
ولقد خرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا وقال فيه: "فنزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [سورة المائدة: (101)].
فالتزم بهذه القاعدة الصحابة، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : (يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق) وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’لا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا’’.
وانتقل المعنى والالتزام من الصحابة إلى التابعين بالتبعية فكانوا يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة خرج عمر على الناس فقال: (أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُونَا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغُلًا (، بل وصل الأمر إلى أنه لعن السائل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء، يقول: كان هذا[أي حدث هذا] فإن قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون[أي حتى يقع أو يحدث].
قال الحسن: (مَا عَبَدَ الْعَابِدُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ) ، ففي الأمر، قال: ’’مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ’’، ’’فَأْتُوا’’ [فَافْعَلُوا- فَأْتَمِرُوا - فَخُذُوا – فَاتَّبِعُوهُ]،وقوله: ’’مَا اسْتَطَعْتُمْ’’ أدخل الإستطاعة في الأمر، فكلٌّ يأتي منه ما يقدر عليه، مستعينا بالله، ويجتهد. أما في النهي، فقد قال: ’’فَاجْتَنِبُوهُ’’ [فَدَعُوهُ - فَانْتَهُوا – ذَرُوهُ]، ولم يذكر الاستطاعة ليُعلم أن ما نهى عنه يجب أن يُجتنب في جملته وتفصيله فلا يُركب منه شيء، قل أو كثر، صغر أو كبر. إنه الفرار من المرديات ـ فتوعد الله تعالى المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة وهي الزيغ ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المطلق يقتضي الوجوب[(شرح الورقات) للفوزان (ص 59)].
وهكذا كان الإمام أحمد ابن حنبل، فقد سأله رجل عن مسألةٍ من هذا النوع، فقال أحمد له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟، وقال لرجلٍ آخر سأله أيضًا عن مثل تلك المسائل، فقال له: سل رحمك الله عما ابتليت به، وقال لآخر: دعنا من هذه المسائل الـمُحدثة خذ ويحك فيما تنتفع به، وإياك وهذه المحدثة!
فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام به هو البحث عمَّا جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر فلا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر متى ذلك يا علي قال إذا تفقه لغير الدين وتعلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة.
ومما تقدم نستخلص أن من امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهي عما نهى عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ’’إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم’’ .. قال بعض العلماء هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة وروى هذا عن الإمام أحمد رحمه الله.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ’’اتق المحارم تكن أعبد الناس’’، وقالت عائشة رضي الله عنها : (من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب) وروي مرفوعًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق