مع الحلقة السادسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، وهي الحلقة الأخيرة في موضوع التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدأها بالسؤال الذى يجب أن نسأله لأنفسنا:
هل وقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما كان يوقره الصحابة رضوان الله عليهم؟ هل تأدبنا معه صلى الله عليه وسلم بمثل أدبهم معه؟ ولرب داهمنا من يتساءل: وكيف كان توقيرهم له وتأدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟
والإجابة: لقد كان من توقير الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، أنهم ما فتئوا يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون إلا بإذنه.
وفى ذلك قال البراء بن عازب رضي الله عنه يصف حضورهم جنازة يجهز لحدها: ( فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير)[رواه أبو داود(4753) وأحمد(4/287)] .
وقال أسامة بن شريك رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا،أفتنا في كذا)[رواه ابن ماجه(3436) وأحمد(4/278) وصححه ابن حبان(486)] ، ورواه الطبراني: “كأن على رؤوسنا الطير”.
ولم يكن رضوان الله عليهم يتهيبونه ويهابونه حال حياته أو حال حضوره فقط بل الشاهد أنهم كانوا على مثل تلك الحالة من الهيبة والتوقير حتى بعد أن غادر دنياهم مُختارًا رفيق ربه صلى الله عليه وسلم.
كما روى عمرو بن ميمون فقال: ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشئ قط يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ذات عشية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: “أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريبًا من ذلك أو شبه ذلك”) [رواه مسلم في التمييز(7) والطبراني في الكبير(8617)] .
وما كانوا يقرعون بابه صلى الله عليه وسلم إن أرادوه بالأظافير، بل وما كانوا يرفعون أصواتهم رضى الله عنهم بحضرته صلى الله عليه وسلم، وخفضوه أكثر بعد نزول آية الحجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [سورة الحجرات: (2)] .
فقد قال ابن الزبير رضي الله عنهما : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه خشية حبوط العمل [رواه البخاري (4564)] .
وواقع الأمر أن تأدبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون نابعًا من المحبة الإيجابية له صلى الله عليه وسلم والتي يجب أن تستلهم نموذجها من فعل الصحابة المتمثل فى تمام الطاعة والانقياد والتسليم كما يحددها بحق ابن القيم حين ينقل مفهوم الأدب والتأدب من إطاره النظرى القلبي واللساني إلى منطقته الحقيقية العملية، فيقول:
(فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزُبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل ــ سبحانه وتعالى ــ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه [مدارج السالكين: (2/387)] .
فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى مبينًا وجوب النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في كل خلاف:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء: (65)] ،في هذه الآية يقسم رب العالمين بربوبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا له في ذلك خطاب التكريم، وقد بينت الآية أن الإيمان لا يكون صحيحًا إلا بثلاثة أمور لا بد من تحقيقها:
الأول: تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل قضية وقع فيها شجار أو خلاف.
والثاني: عدم وجود حرج أو ضيق من حكمه صلى الله عليه وسلم.
والثالث: التسليم والإذعان والانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام.
وهذه الآية تدل على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أوجب الانقياد لحكمه وبالغ في ذلك الإيجاب، وبين أنه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب، وذلك ينفي صدور الخطأ عنه صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: (واستدلوا بالآية أيضًا على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، فمن بلغه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بمخالفة قياسه له فهو غير مطيع للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاثة المشروطة في صحة الإيمان بنص الآية، ومخالفة نص القرآن بالقياس أعظم جرمًا وأضل سبيلاً، وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا: إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أنه يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها، لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص) [تفسير القرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار ج5/238] .
واتكاءً على تفسير المنار ومدلول الآية قال الدكتور عبدالله شاكر: (إن كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه جامعوا الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث تعيَّن على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرًا وباطنًا، وأن لا يلتمس مخارج لرده أو تأويله، ليخرج به عن ظاهره، لمذهب تقلده، أو عصبية نشأ عليها) [مجلة التوحيد العدد 74 لسنة 2008] .
فمن ادعى المحبة ولم يقم ببواطنها وظواهرها من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بالقلب واللسان واتباع سنته بتنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم والانتهاء مما نهانا عنه، أو تغليب عقولنا فيما كان صحيحاً عنه ، أو ترك ما أمر به صلى الله عليه وسلم لقول قائل فليحذر وليرجع لأن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول ابن العربي ـ ميتًا كحرمته حيًا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا﴾ [سورة الأعراف: (204)] .
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضًا في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93)] .
ومن الأدب عند قبره صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: (ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر) [أضواء البيان: (7/617)] .
يُجْمِل الشيخ أبى بكر الجزائري الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى أن يكون:
1ـ بطاعته واقتفاء أثره، وتَرَسُّمِ خُطاهُ في جميع مسالك الدنيا والدين.
2ـ ألا يُقدِّمَ المسلم على حُبِّهِ وتوقيرهِ وتعظيمه حُبَّ مخلوق أو توقيره أو تعظيمه كائنًا من كان.
3 ـ موالاة من كان يوالي، ومعاداة من كان يعادي، والرضا بما كان يرضى به، والغضب لما كان يغضب له.
4 ـ إجلال اسمه وتوقيرهُ عند ذكره، والصلاةُ والسلامُ عليه، واستعظامه وتقديرُ شمائلِهِ وفضائلِهِ.
5 ـ تصديقُهُ في كل ما أخبر به من أمر الدنيا والدين وشأنِ الغيب فى الحياة الدنيا وفي الآخرة.
6 ـ إحياءُ سُنتِهِ وإظهارُ شَرِيعَتِهِ، وإبلاغُ دَعوَتِهِ، وإنفاذِ وصاياهُ.
7 ـ خفضُ الصوتِ عند قبره، وفى مسجده لمن أكرمه الله بزيارته، وشَرَّفَهُ بالوقوفِ على قبره صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا.
8 ـ حُبُّ الصالحين وموالاتهم بحُبه، وبغض الفاسقين ومعاداتُهُم بُبُغْضِه[منهاج المسلم ص 67] .
فليتأمل كل مسلم نفسه ويعرض نفسه على شروط التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما ظن أنه يحسن الأدب دائمًا وهو في الغالب يحسن في ناحية ويسئ في أخرى دون أن يدري، فقد أساء الأدب من يسب الصحابة رضوان الله عليهم أو على الأقل يذكرهم بما لا يليق دون علم أو سند، أساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أو تناول أمهات المؤمنين بما يُشين ولو حتى تحت ستار البحث العلمي وباطنه ممتلئ حقدًا وسمًا مثل تلك الأقلام المأجورة التي غزت بعض الصحف والتي تتبنى أو تتبناها مذاهب على غير مذهب أهل السنة والجماعة.
أساء الأدب من لم يتدبر سيرته أو قرأها ثم أشاعها في نفسه وأسرته وعمله خُلقًا ومنهاجًا وسلوكًا، أساء الأدب ممن تمذهب بالمذاهب المادية والإلحادية وروَّجَ لها، أساء الأدب من أنكر سنته واتخذ القرآن الكريم حكمًا وحاكمًا وسمى نفسه “القرآني” ووسم باقى المسلمين المتمسكين بسنة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ “البخاريين” وقصدهم التنقيص من قدر الإمام البخاري ومن قدر الحديث الشريف، أساء الأدب من أشاع الفاحشة، ومن أفتى بغير علم، ومن فرَّق على المسلمين صفوفهم وكلمتهم، أساء الأدب من أنكر الحجاب وكل فرض واجب في الإسلام، أساء الأدب ممن سخر من الذين يعضون على دينهم بالنواجذ ويتمسكون بأمر السنة النبوية في مظهرهم سواء في الجلباب أو النقاب ومع هذا لا تطرف له عين على الحرمات المنتهكات فلا تسمع له صوت بالإدانة أو الشجب وكأن المألوف هو الباطل.
فالواجب على كل من رضي بمحمدٍ رسولًا واتبعه وآمن به صلى الله عليه وسلم أن يحبه حبًا صادقًا أعظم من حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وتصديق ما أخبر به، وامتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، والاهتداء بهديه والاقتداء بسنته والرضا بحكمه والحرص على متابعته، وتوقير حديثه والصلاة والسلام عليه إذا ذُكِرَ اسمه صلى الله عليه وسلم، وعدم رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه، وعدم الضحك وقت تلاوة أخباره وكلامه وآثاره، والخشوع عند ذكر شيء من سنته، والتأدب عند الاستشهاد بقوله، والتسليم عند أمره ونهيه، والإيمان بمعجزاته والذب عن جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه، فالأدب معه صلى الله عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، والأدب مع شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم بإجلاله وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها: لا غلوّ ولا جفاء.
فيا من أساء الأدب .. ويا من أحسن التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزيد من الأدب .. مزيد من المحبة.. مزيد من الطاعة والاتباع .. فالأمر يستحق .. فمبتدأ معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ومنتهى معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ..ولن يبقى لنا في النهاية غير’’سيدنا محمد’’ و ’’رب محمد’’..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق