الثلاثاء، 13 يونيو 2017

التاريخ حين يعانق رمضان

  









يتيه شهر رمضان، هذا لو جاز له أن يتيه، بكثرة الأسماء التي تضاف إلى اسمه الكريم، فهو سيد الشهور، وشهر القرآن، وشهر الغفران، وشهر الفرقان، وشهر الجهاد، وشهر الفتوحات، وشهر البطولات، وشهر الانتصارات، وشهر العتق من النيران، وشهر الجود، وشهر الكرم والكثير مما سماه بها كل من أحبوه ووقروه.


   إنه الشهر الذي يعانق التاريخ أو الذي سعى إليه التاريخ وعانقه وصادقه وزامله، ذلك أنه الشهر الذي شهد بداية اللحظة الفارقة في تاريخ البشرية يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، الموافق لليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 من ميلاد المسيح عليه السلام، وذلك كما حددها بعد النظر والتأمل في القرائن الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في كتابه "الرحيق المختوم"، مستندًا في هذا على الرأي القائل بأن ميلاده صلى الله عليه وسلم كان صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول الموافق لليوم العشرين من أبريل/ نيسان سنة 571 من الميلاد، وهو الذي يوافق السنة الأولى من حادثة الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم، أخذًا بما حققه عالم الفلك المصري المرحوم محمود باشا الفلكي.

     بناءً على التاريخ الذي تقدم يكون عمر الرسول  صلى الله عليه وسلم أربعين سنة قمرية تامة، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا‏ من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم في غار حراء، حين  شاء الله تعالى أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرم عبده محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة، ثم أنزل إليه جبريل بآيات من القرآن الكريم لتبدأ الحضارة.

يقول سعيد جودت فى مدخل كتابه: "اقرأ وربك الأكرم": (المسلمون الذين كلما كتب كاتب في الأرض عن تاريخهم لا يقضي عجبًا من سرعة ما ملكوا العالم المعاصر لهم، انطلقوا من الكلمة (اقرأ) إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس وأشدهم اتصالاً بالقراءة والكتاب والعلم الذي يطلبونه في كل مكان ومن كل مصدر، لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم).

  كان العالم قبل اقرأ شيء ولكنه بعد اقرأ القرآنية شيئًا جديدًا، اقرأ التي شهدها رمضان سيد الشهور هي التي جعلت من رمضان تاريخًا جديدًا في تاريخ العالم تتسابق تواريخ الأيام والسنوات لتتلاصق به وتتماس، فيتيه الحدث ويكتب له الخلود في سجلات الدنيا، فشكل رمضان في الأمة الإسلامية وجوده في عقولها وقلوبها.

  عانق تاريخ البطولات تاريخ رمضان فبدأ المسيرة المباركة من الانتصارات مع يوم الجمعة الموافق السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة مع أول غزواته "بدر الكبرى"، وتنتهي مسيرة الغزوات النبوية مع يوم العشرين من رمضان من السنة الثامنة من الهجرة المباركة مع فتح الفتوح "فتح مكة المكرمة"، وتأتي البطولات من بعد عصر النبوة والتي وقعت في رمضان، ومنها: موقعة البويب سنة أربعة عشر من الهجرة النبوية المباركة، موقعة القادسية في العام الخامس عشر من الهجرة، فتح النوبة عام 31 من الهجرة، والذي لا يذكره أحد مع فتوحات المسلمين في رمضان، فتَح المسلمون جزيرة رودس سنة 53هـ، كما كان فتح بلاد الأندلس في رمضان سنة 92هـ، وشهد رمضان معركة الزلاقة، جنوب دولة إسبانيا حاليًا، في عام 479هـ،  وشهد موقعة حطين كانت عام 584هـ، كما شهد أيضًا معركة عين جالوت عام 685ه، وشهد رمضان في عام 1241هـ استيلاء إبراهيم باشا ابن محمد علي، على مدينة "ميسولونجي" من بلاد اليونان، كما كان رمضان شاهدًا على كبرى الانتصارات العربية والإسلامية الحديثة وهي حرب العاشر من رمضان عام  1393ه الموافق للسادس من أكتوبر لعام 1973م.       
  كما شهد رمضان العديد من التواريخ التي اتسمت بالحزن أو التي عمَّها الفرح، مثل: وفاة أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة، وفي نفس السنة في يوم العاشر من رمضان ماتت سيدة المسلمين السيدة خديجة رضي الله عنها أول أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم وأول خلق الله تعالى إسلامًا، وقد توفت السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من السنة الثانية من الهجرة، كما توفت ىسيدة نساء العالمين في زمانها، وأم الحسنين في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة من الهجرة المباركة، ثم استشهد زوجها الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في اليوم السابع عشر من رمضان من السنة الأربعين من الهجرة وفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شهر رمضان عام 58ه توفيت إلى رحمة الله تعالى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق ثالث أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم، كما شهد شهر رمضان سنة ثمان ومائتين هجرية في مصر، وفاة نفيسة العلم، العابدة الزاهدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي العلوية من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رمضان توفي الصحابي سعد بن مالك الخزرجي الساعدي والد الصحابي سهل بن سعد، وكان تجهز ليشارك في غزوة بدر فمات قبلها.

  ومن الحوادث السارة التي شهدها شهر رمضان المبارك مولد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما في المدينة المنورة في منتصف رمضان من السنة الثالثة من الهجرة، وزواج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الثالث الهجري من أم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث "أم المساكين"، وفي رمضان من السَّنة التاسِعة للهجرة  قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك منتصرًا، وفي نفس العام حضَر إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وفْدُ ثقيف لمبايعته وأعلنوا دخولهم في الإسلام، وفي رمضان من عام 361 هجرية تم بناء الجامع الأزهر، منارة الإسلام، بالقاهرة.

 وللعلماء وأهل العلم مع رمضان تواريخ لا يستطيعون نسيانها من كتب ومؤلفات فرغ منها أصحابها من المصنفين في هذا الشهر الكريم أو بدأوها فيه، فكان رمضان وهو يعانق التاريخ من حيث إنطلاقه بخير الرسالات على البشرية كلها، ليهدي الدنيا أرحم الحضارات التي تعد من مفاخر هذا الدين، وأضافت إلى الحضارة الإنسانية الكثير من منجزاتها، يشهد الكثير من هذه الإنجازات التي تمت في أيامه المعدودات، مثلما شهد الكثير من الفتوحات البطولية والعسكرية المختومة بختم النصر والتأييد والتمكين، كما لم تخلُ أيامه كذلك من فتوحات علمية ظل يتداولها أصحاب العقول والأفهام بالتلقي والتعليم والتعلم، لتصنع تاريخًا جديدًا لا تنقضي عجائبه منذ عانق التاريخ رمضان على هذه الأرض، وإلى أن تنتهي.  


http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1642



الاثنين، 12 يونيو 2017

رمضان شهر التواصل والتكامل











يأتينا في كل عام جديدًا، نفس البهجة في النفوس، والانشراح في الصدور، والاطمئنان في القلوب، هذا أجمل ما في شهر رمضان سيد الشهور عند المسلمين، ولا تجد له مثيلًا عند غيرهم، فالاحتفاء به ليس على سبيل الكرنفالات والاحتفالات والمهرجانات كما نراها هنا وهناك على شاشات التلفاز.

  رمضان شهر له عبق خاص، وروائح تأتي قبيل قدومه من النسمات والبشائر التي يستشعرها المسلم سواء الغني أو الفقير، القادر وغير القادر، عباءة رمضان تتسع للجميع، وهو شهر الكرم بحق ولهذا يتسابق فيه الجميع في تنافس محمود؛ فالحسنات أجرها مضاعف أزيد من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف في كل الأعمال الصالحات من العبادات التي يقوم بها المسلم إلا أن الصوم له خصوصية "الثواب المفتوح" إن أحسنت التعبير، ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو من يتولى رصد الحسنات والثواب بنفسه سبحانه، فالصوم لله تعالى وهو يجزي به، وله دون العبادات الأخرى صفة السرية فلا يطلع عليه غير الله تعالى دون العبادات الظاهرة لكافة الناس، وفيه المشقة والجهاد على كبح جماح النفس عما تشتهيه قربة لله تعالى.

   تأملت هذا الشهر الكريم فوجدتُ فيه ما ليس في غيره من شهور العام بوجه عام  حتى الهجرية، فلا تجد شهرًا فيه من التواصل والتكامل بين العبادات كما في هذا الشهر؛ فالنهار صيام وصلاة، وقراءة قرآن، وذكر وتسبيح وتهليل وتحميد واستغفار، ودعاء لا يفارق كل هذا الخشوع لله تعالى بالقبول، يتواصل مع الليل حتى بعد تناول طعام الإفطار، لتبدأ دورة جديدة من التواصل والتكامل بين العبادات من صلوات تزيد بصلاة التراويح، وقيام الليل، ولا تنتهي بالسحور حتى تبدأ دورة جديدة مع صلاة الفجر والدعاء وقراءة القرآن الكريم.

   لا يوجد في أي شهر من شهور العام شهر تتواصل فيه العبادات ليل نهار بمثل هذه الطريقة، وعلى نفس النهج والوتيرة، ولا تقل لي رجب أو شعبان فالعبادة فيهما على سبيل التطوع والاستحباب والفردية، أما في سيد الشهور فالفرضية ثابتة بالقرآن والسنة، والوجوب ملزم، والجماعية حاكمة في البيوت، والمساجد، والعمل، والشوارع، وفي الوطن العربي، والعالم الإسلامي، والعالم بأسره، بضواحيه ومدنه، وجمهورياته، وملكياته، وإقطاعياته، وقاراته، الكل يغزل نسيجًا واحدًا هو ثوب رمضان، والكل يشكل فسيفساء من زخارف لوحة رمضان الكبيرة التي تضم الأجناس، واللهجات، واللغات، والقوميات، والألوان التي يوحدها رمضان سيد الشهور بريشته الحانية الساحرة الأخاذة بالقلوب والألباب، والمهج والأفكار.

  ينسخ رمضان كل العادات المتبعة، والسلوكيات الثابتة عند كل مسلم مهما كان وأي ما كان، ليبدأ ذلك المسلم معه الترحال حيث مرافئ الطهر والتعفف والتخفف من الذنوب، والانغماس في أنواره الرحيمة الرحيبة بشفافية ملائكية أو تكاد، وخروج من الذات الأرضية السجينة نحو آفاق الروحانيات والمثاليات والسمو والرقي.

   في رمضان تتواصل الأجساد مع الأرواح بأسلوب جديد، وباتفاق خفي بين طيات النفس، وانعتاق من الماديات التي تحط على كاهل العبيد، ليتحرروا من الثقل إلى الخفة، ومن القتامة إلى الألوان الزاهية، حيث معدن الإنسان النقي الأول، إنها نقطة اكتشاف الذات، بالبعد عن الملذات، والأفكار الخبيثة والملغزات.

  في رمضان تتواصل القلوب في اصطفاف جديد في صلاة، وفي حياة، حتى بين المسلم وأصحاب الديانات والمذاهب المخالفة، يضم رمضان الجميع في موائد الإفطار بين دعوات من هنا وهناك لا تتقيد بتلك القيود الشكلية في الأيام العادية، وفي تسامح عجيب، وقبول للآخر، وانسجام حبيب مع الكون.

  في رمضان تتكامل العبادات بالتسليم لبعضها البعض في رضا وحبور، ينطلق الآذان فترتفع المصاحف، لتقام الصلوات، يحدوها الخشوع، والخضوع للحق المطلق، وتنتهي الصلوات التي تنتهي برفع أكف الدعاء، والتسبيح والتهليل والتحميد، والاستغفار، ثم تتناول الأيدي المصاحف من جديد لتمتد مائدة الله بين المسلم وربه في إقبال على الله، وبغير إذعان أو إجبار أو تكلف بل بكل المحبة والرضا.

    والدعاء في رمضان جسرًا قصيرًا بين العبد وربه، وهو في رمضان مضمون الاستجابة لمن فقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل دعوة الصائم من الدعوات المستجابات، وذلك للتواصل العميق بين الإنسان وربه في لحظة تصفو فيها النفس عن شهوات الدنيا ومطامعها للطمع في وجه الله تعالى.

 رمضان هو الشهر الوحيد الذي شهد تواصل الأرض بالسماء في مشهد كوني حافل بمراسم الاصطفاء والتكليف، حين تلقى أمين الأرض الرسول  صلى الله عليه وسلم  النور والرسالة من أمين السماء، ليؤكد أن الاتصال بين الإنسان والله قائم بلا حلول ولا اتحاد، برسالة تمثلت أنقى تمثيل بالتوحيد، وعبادة الله بلا وسائط ولا شركيات.  

    ليس هناك غيره رمضان، ولن يكون غير رمضان، شهر يطل على الأكوان بمثل هذه الحفاوة والحب في الاستقبال، وبمثل هذا البكاء المرير على مرور أيامه مسرعات، وتبدأ أشرعة الشوق من جديد في أنهار العام تنتظر قدومه على شوق، وتبقى القلوب واجفة بين الدعاء بقبول الطاعات فيه، والدعاء ببلوغه من جديد، إنها رحلة من التواصل التي لا تنتهي في حياة المسلم والتي تصنع فيه حلقات من التكامل لا تنتهي مع رمضان.. ذلك الزائر الدائم في كل عام..

http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1639

بدر .. باكورة الغزوات والانتصارات السيد إبراهيم أحمد






 شهد وادي بدر صبيحة يوم الجمعة الموافق السابع عشر من شهر رمضان المبارك، من السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، فتح الفتوحات، ووقعة بدر، ويوم بدر، وبدر الكبرى، ويوم الفرقان، كما شهدت عين بدر التي كتب الله لها الخلود في سجلات التاريخ البشري، والتاريخ الإسلامي بصفة خاصة.

    غزوة بدر العظمى، كانت باكورة الغزوات التي خاضها الإسلام ضد قوى الكفر في مكة وقوى الشرك في الجزيرة العربية ممثلة في زعماء مكة الذين كانوا يديرون الحرب ضد الإسلام، ومن هنا كانت نقطة فاصلة في تاريخ الإسلام بجميع أوجهه من حيث التأثير والآثار، وذلك من الوجهة التاريخية، والوجهة السياسية، والوجهة العسكرية، مما يوجب دراستها من أكثر من زاوية وهو الحادث بالفعل في كثير من الدراسات والمقالات، غير أن المهيمن عليها في التقديم فقط هو الشكل التاريخي والدعوي.

  إن غزوة بدر تتبدى عظمتها في فيصليتها التاريخية الفارقة في تاريخ الإسلام وقت نشوب المعركة، وأسلوب إدارتها، وتاريخ الإسلام في مستقبله الذي لولا انتصار المسلمين في هذه الغزوة لتغير وجه تاريخ المسلمين ومن ثم تاريخ العالم بأسره، ولهذا وصف الله تعالى ذلك اليوم في كتابه العزيز بأنه: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ [الأنفال:41]، وهو اليوم الذي فرق فيه الله عز وجل بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، والجمعان: حزب الله  وحزب الشيطان كما يقول القرطبي في تفسيره، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم بقارقيتها وخطورتها وأنها تمثل لحظة تاريخية  فاصلة لها ما بعدها في حالة النصر وأنه قد لا يكون هناك بعدها في حالة الهزيمة من حيث وجود الإيمان في الأرض، وتوحيد الله سبحانه، ولهذا لاذ بالله تعالى يدعوه رافعًا أكف الضراعة، مستقبلًا القبلة يستنجزه وعده، وهو يقول: "اللهُمَّ آتني ما وعدتني، اللهُمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تَهلِكَ هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض"، وظل صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة لا يفارقها حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وحتى نزل الوحي يطمئنه؛ سيُهزَم الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُر.

وقد يدور سؤالًا مشروعًا: هل كانت لهذه الموقعة ضرورة مع ما يكتنفها من مخاطر ستقع آثارها، غالبًا، على المسلمين الأقل في العدة والعدد؟

وقبل الإجابة نرصد المسافة التي قطعها رسول صلى الله عليه وسلم 165 كم، ما بين المدينة المنورة وبدر، ومن حيث العدد، كان أول جيش منظم في الإسلام يبلغ 314 جنديًا، من حيث العدة، لم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا يتعقبونها.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير ـ أي يتعاقبون ـ وكان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا له: نحن نمشي عنك ـ ليظل راكبًا ـ فقال: "ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".
 وكان عدد المشركين في أول أمرهم ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية خروجه من مكة، ثم أصبح ألفًا بعد رجوع بني زهرة إلى مكة تاركة القتال لأبي جهل ومن معه، وكان معهم مائة فرس، وستمائة درع، وينفق على جيش المشركين تسعة من وجهاء قريش وأشرافها، ويكفي أنهم كانوا ينحرون في كل كل يوم تسعًا أو عشرًا من الإبل.
والجواب على هذا السؤال يقول بأن الصدام كان لا محالة سيحدث بين قوى الإيمان وقوى الشرك مهما طال الأمر، ومن يعد إلى وثيقة المدينة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود والمشركين والنص على عدم التحالف بينهم وبين مشركي قريش مع عدم وجود دلالات وقت هذه الوثيقة على وجود روابط بين هذه الأطراف، لا يخفي النظرة الثاقبة الواعية والتي أثبت التاريخ واقعيتها وسبقها لرؤية من كان يظن باستحالتها، كما أن قوافل قريش قامت على أموال اقترفتها من بيع دور مغلقة للمهاجرين بمكة، وظل المهاجرين يعانون وحال الأنصار المدينة في جوارهم لهم ومؤازرتهم لا يعني أن الأنصار لم يكن يعانون اقتصاديًا أيضًا، وأن المهاجرين كانوا من عزة النفس بما لا يسمح لهم بالركون إلى كرم الأنصار الذي فاق الحد، كان يجب أن تظهر قوة المسلمين ووجودهم في أن يشكلوا خطرًا على طريق القوافل المكية التي تمر به من المدينة بما يشعرهم بالقلق على أموالهم وتجاراتهم، كما أن قريش قد اشتد بها الغيظ من أهل المدينة في مؤازرتهم للدعوة الجديدة، وكانوا يتحينون الفرص للاشتباك معهم بطريقة أو بأخرى.

    أما السبب المباشر لعزوة بدر فهو، أنه قد بلغ المسلمين تحرُكُّ قافلة تجارية كبيرة من الشام تحمل أموالاً هائلة لقريش يقودها أبو سفيان ويقوم على حراستها بين ثلاثين وأربعين رجلًا، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة ليقوم بجمع معلومات عنها، وبعد أن عاد الصحابي الجليل بالمعلومات، ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج،  أي لم يأمرهم بل ترك الأمر للرغبة من عدمها، وقال لهم: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها"، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك، ولم يكن يعزم على قتال بل كان قصده عير قريش فقط.
 ويكفينا لمحات خاطفات نطوق بها أحداث غزوة بدر باكورة الغزوات الإسلامية، وبشائر انتصاراتها المجيدة الحاسمة والتي لولاها لما قام للإسلام قائمة، ومن هذه اللمحات: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لجيشه بالمبادأة بالقتال، حيث بدأ الهجوم من جانب المشركين؛ إذ هجم الأسود بن عبد الأسد على الحوض الذي بناه المسلمون معاهدًا اللات والعزى ليشربن من الحوض أو يهدمنه أو يموتن دونه، فتصدى له حمزة بن عبد المطلب فضربه فلم يرتدع، فأجهز عليه قبل أن يبر بعهده على الأصنام.
  ومن هذه اللمحات: أن التكتيك العسكري كان رائعًا ومدروسًا، ولم تغب عن المعركة الاستشارة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدير المعركة من داخلها، كما ظهرت وحدة الصف في جيش المسلمين، بينما ظهرت الانشقاقات في جيش الكفار، ولم يتخلَ الله تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأجاب دعاءه، وأرسل إليه الملائكة كمددٍ من السماء، في حين تخلى الشيطان في إجارته للمشركين فارًا من المعركة ليتركهم وحدهم يلاقون مصيرهم، كان لهذه المعركة أثر كبير في رفع الحالة المعنوية للمسلمين وتثبيتهم، أذلت قوى الشرك والكفر والنفاق واليهود في سائر الجزيرة العربية.

   إن بدر الكبرى .. غزوة الفصل، والوعد بالنصر من الله، لمن ينصره تعالى، ويعلي كلمة الله لتكون العليا، والفداء بالنفس رخيصة في سبيل الله، رجاء ما عند الله، فيا ليتنا نعد إلى الله، ليثبت أقدامنا، ويجمعنا على كلمة سواء، ليتنا نجعل من بدر النصر، وبدر الفداء، بدر في حياتنا، وبدر حياتنا، وليتنا ندرسها ونتفهمها، إنها خطة عمل كبيرة في حياة هذه الأمة لو فقهت أمر دينها، ونهج نبيها، ومنهاج كتابها، وأمر ربها، لو طبقتها، لنجت.


http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1641

الثلاثاء، 30 مايو 2017



مع الحلقة الخامسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناول ما رآه البعض مشكلة في زيادة السيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم  عند قراءة التشهد  في الصلاة بأنه حكاية المناجاة بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج، ويُجاب عن ذلك:
بأن هذا أمر ذوقيٌّ لم يَرِد فيه حديث صحيح، والأحكام الشرعية منوطة بالأسباب والعلل لا بالأذواق والحِكَم؛ فإن المصلِّي إنما يقول التشهد على جهة الإنشاء من نفسه؛ مُحَيِّيًا اللهَ تعالى ومُسَلِّمًا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين وشاهدًا بوحدانية الله تعالى ورسالة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقصد بتشهده الإخبار والحكاية عما وقع في معراجه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم مِن خطابه لربه سبحانه وخطاب ربه له صلى الله عليه وآله وسلم على فرض ورود ذلك وصحته، وهذا المعنى الإنشائي يقتضي مِن المصلي تسويده أيضًا عليه الصلاة والسلام في الشهادة له بالرسالة كما قد نُصَّ عليه أيضًا، مع ملاحظة أن ذلك كله على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحَتم والإيجاب.
ومع ماتقدم فهناك من يتحفظ على الإتيان بلفظ السيادة في الآذان والإقامة، لأنه لم يثبت أن أحداً ممن أذن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أتى بالسيادة فيهما، ولو كانت مشروعة ما تركها أحد منهم ولا أقروا تاركها على تركها، والثابت أن أول من أحدث هذا هو هشام بن عبد الملك. [على من أراد التوسع فليراجع ص 182 رقم 8868 ج 6 فيض القدير . ورقم 7 ص 8 الدين الخالص ج 1 ، الفتاوى الأمينية ج 1ص47].
 يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه: (ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضًا إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله) [في ظلال القرآن: (4/2535)].
   ومن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد عبدًا ورسولاً فليتبعه ويحبه فمن علامــــــات  محبته إتباعه قولاً وعملًا،  ظاهرًا  وباطنًا، والرضا بحكمه وإيثاره علي حكــــم غيره من البشــر وإن  تعارض، ولا يطيع أحدًا في الله إلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم  وأيضًا من علامات محبته تعظيمه عند سمــاع اسمه وذكره مع إظهار الخشوع والخضوع والإنكسار والإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم  فذكره يشفي الصـــدور،  ويجلي القلوب ويعطر الألسن ومن علامات محبته: نصرة دينه قولاً وفعلاً والتحلي بأخلاقــه ما أستطعت إلي ذلك سبيلًا، ومن علامات محبته: حب القرآن الذي أتي به واهتدي به وتخلق به ، ومحبة سنته وقراءة حديثه والعمل به، واتباع هديه الكريم.
    كما أن من واجب الحب والتأدب مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بعد أن علم كل مسلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى ـ أن لايكتب اسمه صلى الله عليه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك إلا بذكر الصلاة والسلام عليه، فأهل العلم من قديم وحديث الزمان يقررون أن المشروع أن تكتب الصلاة والسلام كاملة تحقيقاً لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة على رسول الله على كلمة "ص" أو "صلعم" وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة "صلى الله عليه وسلم" كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علمًا بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
    فقد قال ابن الصلاح في كتابه: "علوم الحديث" المعروف ما نصه: (أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكراره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظاً عظيماً، وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك)... إلى أن قال: (ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب "وسلم").
 وروي عن حمزة الكناني رحمه الله تعالى أنه كان يقول: (كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكتب "وسلم" فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت "وسلم")... إلى أن قال ابن الصلاح: قلت: ويكره أيضاً الاقتصار على قوله: "عليه السلام" . المقصود من كلامه رحمه الله تعالى ملخصًا.
وقال العلامة السخاوي رحمه الله تعالى ما نصه:  (واجتنب أيها الكاتب  "الرمز لها " أي الصلاة والسلام على رسول الله  صلى الله عليه وسلم في خطك بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك، فتكون منقوصة ــ صورة ــ كما يفعله "الكتاني" والجهلة من أبناء العجم غالباً وعوام الطلبة، فيكتبون بدلاً من صلى الله عليه وسلم "ص" أو "صم" أو "صلعم" فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى)[ فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي].
وقال السيوطي رحمه الله تعالى: (ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله عز من قائل: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾)، إلى أن قال: (ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب "صلعم" بل يكتبهما بكمالها)[تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي].
 كما أن من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم طاعته ، فقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
(هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ’’مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد’’).
 وقال الإمام الطحاوي: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام).
ولقد قال ابن أبي العز : (أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه).

روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: (من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم .. فمن أحبّ سيد ولد آدم فليُعظّم أقواله وسُننه أكثر من تعظيمه لقول مَن سواه من البشر).

الاثنين، 29 مايو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ـ حلقة (4)...





مع الحلقة الرابعة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتناول بعض إجابات جمهور العلماء والفقهاء عمَّا احتجَّ به مَنْ رَجَّح ترك السيادة  للرسول صلى الله  عليه وسلم:
1- أن الأدلة الشرعية الدالَّة على وجوب تعظـيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوقيره، وتسـويده، والنهي عن مخاطبته، أو ذكره كما يخاطب أو يذكر بعضـنا بعضًا جاءت عـامة لا مخصِّصَ لها، فيُشرَع امتثالُها في كل موضعٍ جرى فيه ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حملا للمطلَق على المقيَّد، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ أو الإقامةَ أو الصلاةَ من ذلك، غاية ما في الأمر أنَّ تَرْك ذِكْرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ جمعًا بين الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع.
2 ـ أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، ولقد جاءت ألفاظ التشهد والأذان في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر أو يناقضه؛ لأن صاحب الشرع الذي علَّم الناس ألفاظ الأذان والتشهد هو الذي ندب إلى أن يُسوَّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويُعظَّم في كل موضع، وهذه الألفاظ قيلت على سبيل التعليم، واستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين ليس زيادةً في الشرع بل هو مقدَّم على العمل بأحدهما وحدَه، فتعيَّن العمل بالأمرين معًا.
3 ـ أنه لا يصح الاحتجاج بمجرَّد الترك على التحريم أو الكراهة، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام، بل غايته أن يُستَدل به على عدم الوجوب؛ فليس كل ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله يكون حرامًا أو مكروهًا، ومن باب أوْلَى ليس كل ما تَرَكَه السلف حرامًا أو مكروهًا، بل قد يكون تَرْكهم لهم أمْرًا اتفاقيًّا لا مواطأة فيه، وقد يكون لأنه حرام، أو لأن غيره أفضل منه، أو لغير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال بَطَلَ به الاستدلال.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: (كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تَرْكهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به).
4ـ أن ذِكْر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عُرْف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرْف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [سورة الأعراف: (199)]، ومع كثرة ألقاب التفخيم في عصرنا هذا فليس من اللائق أن لا نذكر السيادة مع المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو الحقيقُ بها في كل موطنٍ يُذكَر فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
5 ـ أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إذا صلَّيتُم علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلاَةَ علَيه؛ فإنَّكم لا تدرُونَ لعلَّ ذلك يُعْرَضُ عليه "، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. [رواه ابن ماجه في (السنن) وابن جرير الطبري في (تهذيب السنن والآثار)].
6ــ والجواب عَمَّن قَصَرَ الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذِكْر السيادة في التشهد مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرْق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم، ومع تسليم أن ذِكْر السيادة في الأذان زيادة فيه فإن الشرع قد أذن بالزيادة في الأذان عند الحاجة، كما في نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الأذان: "صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ"، وكما زاد سيدنا بلال رضي الله عنه التثويب في أذان الصبح وهو قوله: "الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال له: ’’مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ! اجْعَلْهُ فِي أَذَانِك’’ رواه الطبراني في المعجم الكبير، ولو كانت مثل هذه الزيادة اليسيرة للحاجة غير جائزة في الأذان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة من حيث هي، فلَمَّا استحسنها كان ذلك دليلا على أن مثل هذا مُغْتَفَرٌ في الأذان.
ولفظ "سيدنا" في الأذان أخف من ذلك كله، مع كون الحاجة إلى ذكره أدعَى وأولَى في هذه العصر الذي تعيَّنَتْ فيه الألقاب في ذكر الأسماء والتخاطب بين الناس عرفًا، خاصة لذوي المنزلة والمكانة بينهم، فصح بذلك استحبابُ ذكر السيادة في الأذان والإقامة.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ (سيدنا) قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم ممن يُعَدُّ اتهامُهم بالبدعة ومخالفة السنَّة نوعًا من الهوى والتعصب المقيت الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو المختار والراجح في مقام سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما عليه الفتوى؛ فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا عن الأفضلية، أما عن الجواز فكلا الأمرين جائز، والأمر في ذلك واسع، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وَسِع مَن قَبلَنا الخلافُ فيها؛ لأنه لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فليس ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مقترنًا بالسيادة مخالفًا للشرع، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا، ونحن أحوج إلى حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر مِن أي وقت آخر، فنحن في عصر تَمُوج فيه الآراء وتختلف المشارب، وقد كثرت الفتن في الظاهر والباطن، وليس مِن نجاة من كل ذلك إلا بحب سيد الخلق سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نعلمه أبناءنا وندعو إليه غيرَنا، ونَبقى عليه إلى أن نَلقى اللهَ سبحانه فيُشَفِّعَه فينا ويُدخِلَنا الجنةَ مِن غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب.

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ـ الحلقة (3)...



مع الحلقة الثالثة نستكمل التأدب الواجب مع سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أما بالنسبة للألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع كالأذان والإقامة وتشهد الصلاة: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أوْلَى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أوْلَى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ’’، وقال لمن خاطبوه بقولهم: أنْتَ سَيِّدُنَا: ’’السَّيِّدُ اللهُ’’، ثم قال: ’’قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلاَ يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، فأقرَّ ذِكْر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه.
قال الإمام الخَطّابي: قَوْلُه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ ’’السَّيِّدُ اللهُ’’ أَيْ السُّؤْدُد كُلّه حَقِيقَة للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ عَبِيد الله، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ سَيِّدًا مَعَ قَوْله: ’’أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم’’ لأَنَّهُمْ قَوْمٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّ السِّيَادَة بِالنُّبُوَّةِ كَما هِيَ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُمْ رُؤَسَاء يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِمْ، وَقَوْله: ’’قُولُوا بِقَوْلِكُمْ’’ أَيْ قُولُوا بِقَوْلِ أَهْل دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي الله تَعَالَى فِي كِتَابه وَلا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ وَلا تَجْعَلُونِي مِثْلهمْ؛ فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا دُونكُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا وَأَنَا أَسودكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا.
وخُوطِب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ"يا سَيِّدِي" فأقرَّ ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: ’’مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ’’، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: ’’لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) والحاكم في (المستدرك) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرْق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أوْلَى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه. بل أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمر بتسويده عند ذكر اسمه الشريف حيث راجع مَن ذكَرَه مجرَّدًا عن السيادة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ’’مَنْ أَنَا؟’’ قلنا : رسول الله، قال: ’’نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ أَنَا؟’’ قلنا: أنت محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ’’. [رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة "رسول الله" عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها، تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقَى مكانه وقال له بعد الصلاة: "ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُصَلِّيَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم"، وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخَّر الطوافَ لـمَّا دخل مكَّة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على مَن دخل مكة؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كُنتُ لأَفعَلَ حتَّى يَطُوفَ بِه رسولُ اللهِ"، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وجَعَلَه مِن مفاخره ومناقبه؛ فإنه لَمَّا قال الناس: "هنيئًا لأبي عبد الله! يطوف بالبيت آمنًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ’’. [رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وابن أبي حاتم في "التفسير"].
وهذا هو المعتمد عند الشافعية كما نصَّ عليه العلامة المحقق الجلال المحلي [ت864هـ]، والشيخان: ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] والشهاب الرملي [ت957هـ]، وعند الحنفية كما أفتى به العلامة القحفازي [ت745هـ]، واعتمده البرهان الحلبي [ت956هـ]، والإمام علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ]، والعلامة الطحطاوي [ت1231هـ] ، وعند المالكية -كما قال الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ] وجزم به القاضي ابن عبد السلام [ت749هـ] قاضي الجماعة في تونس، وشيخ الإسلام أبو القاسم البرزلي [ت844هـ]، والشهاب الحِمْيَرِي القُسَنْطيني الجزائري [ت878هـ]، واعتمده الإمام الحطَّاب [ت954هـ]، والإمام الأُبِّي [ت827هـ] وغيرهم-، ونقله الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ورجحه العلاّمة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ].

الأحد، 28 مايو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ــ حلقة (2)...







هذه حلقتنا الثانية من حيث الترتيب، وهي الأولى من حيث الموضوع والتناول، ولقد آثرت أن يكون المفتتح فيها تحت عنوان: 


[التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]



تحرز علماء السلف الصالحين من المناهضين للتوسل ونفي السيادة عن الرسول في الصلاة مخافة جلب الشرك إلى الدين الحنيف، وعدم مشروعية تخصيص قبره بالزيارة بل قصر نية الزيارة على مسجده بما فيه تضعيف حديث عرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا جرأ على جناب رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من تجرأ، وبات أحيانًا يذكرون اسمه بلا سيادة مما ينافي التوقير له، بل أحيانًا ماينظرون شذرًا لمن ينطق لفظة سيدنا مقرونة باسمه مخافة الظن أنه من الصوفية، وهذا مما يؤاخذهم عليه الصوفية أنفسهم بأنهم يوقرون علمائهم ويضفون عليهم من الألقاب الشئ الكثير بينما عند ذكر سيد ورسول الأمة ينادونه بلا لقب مع ماله من سيادة صلى الله عليه وسلم، حتى عاب عليهم بعض المتصوفة انتهاجهم مثل هذا المسلك بقولهم: (...يسمون النبى بلفظ محمد ـ أي السلفيون ـ هكذا مجردًا بحجة أنه قال: ’’لاتطرونى إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله’’، بينما نجدهم يطرون ابن تيمية ويأتون بألقاب كثيرة تسبق اسمه) [سلسلة الفتوحات العزمية.. دراسة نقدية لتوحيد السلفية ص116ـ117 ].



أن جمهور الفقهاء ذهبوا أخذًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأذان الذي تعلمه الرسول من جبريل عليه السلام جاء فيه: " أشهد أن محمدًا رسول الله" وعلى ذلك ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة، ولكن الشافعية أجازوا تسييد الرسول في الأذان . لأن الأدب مع رسول الله واجب فإذا كنا نُسيد من يعلمنا علمًا من العلوم الشرعية والقرآن الكريم فكيف لا نُسيد ــ عقلاً ونقلاً وتأدبًا ــ من نزل على قلبه القرآن وهدانا إلى الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟! 



إن السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على كل مؤمن، وإذا كان الحديث الذي أخذ به الأئمة الثلاثة، يؤخذ من منطوقه عدم سيادة الرسول في الأذان، فأن مفهوم اللفظة وإن كان يُفهم منه لا يُسيد وهو حاضر، إلا أنه حال غيابه صلى الله عليه وسلم له الفضل والسيادة وزيادة.
وقد بحث قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية مسألة تسويد النبى استعرض فيه المسألة من كافة جوانبها بعلمية وحيادية أنقل منه بتصرف أهم ما جاء فيها:



(فإن سيدنا محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو جوهرة النفوس، وتاج الرؤوس، وسيد ولد آدم أجمعين، ولا يدخل الإنسان دائرة الإيمان إلا بحبه وتعظيمه وتوقيره والشهادة برسالته؛ فهو أحد ركنَي الشهادة؛ إذ لا يقبل الله تعالى من أحد الوحدانية حتى يَشفَعَها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رسوله إلى العالمين. 



وقد عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطَب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجرَّدًا بل قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، وأمَرَنا بالأدب معه وتوقيره فقال: ﴿إنَّا أَرْسَلناكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا * لِتُؤمِنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلا﴾ [سورة الفتح: (8-9)].



ومِن توقيره تَسوِيدُه عليه الصلاة والسلام كما قال السديُّ:’’وتوقروه’’: أي تُسَوِّدُوه، ذكره القرطبي في تفسيره، وقال قتادةُ: أمَرَ الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه . أخرجه عبد بن حميد وابن جرير الطبري في التفسير، ونهانا عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحذَّرنا مِن رفع الصوت فوق صوته الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أو الجهر له بالقول، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة الحجرات: (1 ــ 3)]. 



 كما نهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يُخاطب بعضُـنا بعضًا فقال سبحانه: ﴿لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ سورة النور: (63).



قال قتادة: "أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ". أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في التفسير. فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نُسَوِّدَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كلما ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل). 



ولا فرق بين النداء والذِّكْر في ذلك؛ فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. 



أجمعت الأمَّة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: "فلفظ "سيدنا" عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم"، وأما ما شذَّ به بعضُ مَن تمسَّك بظاهر بعض الأحاديث متوهِّمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَدُّ به، ولذلك اتفق العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع.



كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية:



أما التـلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه.
وأما الروايـة: فإنها حكايةٌ للمَرْوِيِّ وشهادةٌ عليه؛ فلابُدَّ من نقلها كما هي، على أن بعض العلماء نصُّوا على أن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما مِن حيث الأداء ــ حيث يُؤمَن اللبس وإيهامُ الزيادة ــ فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في المرْوِيِّ وغيره، كما قال الإمام العارف بالله أبو عبد الله الهاروشي المالكي وغيره.


التراث الطبي في الحضارات: المصرية واليونانية والإسلامية...

 قد تتساءل كيف يضم سطرًا واحدًا ثلاث حضارات كان لها تاريخها المجيد مع "الطب"، غير أن الحضارة الأولى هي التي لها حق الريادة والعماد...