الجمعة، 18 أغسطس 2017

قصة القطار..







لم يكن فى نيته يومًا الارتباط بها، فليس كل الأقارب يتزوجون بالضرورة من أقربائهم، لكنها تصر عليه...

ــ تربينا معًا، وعشنا معًا، وكبرنا معًا، حتى العمل بالمدينة نذهب إليه معًا ونعود منه معًا.. اللعنة على مشوار المدينة اليومd، فهو الذي يغذي ذلك الوهم النابع من رأسها فقط ..

ينحدر بهما الطريق الرملي جانبًا وهما في طريقهما لركوب قطار العودة .. أحس برعدة كاد أن يسقط.. تدركه من ذراعه . يمتقع لونه وهو ينظر إليها مشفقًا.. يخلفان وراءهما غبارًا خفيفًا..


الأقدام تفر من تحتها الرمال، الشمس يخنقها الغروب. تتوارى.. المقابر تسير مع الطريق تصاحب الأحياء رحلة الدرب الرملي الطويل .. ينظر نحوهم يتمنى لو كان هناك، تبدو عربات القطار المسترخية على أشرطة القضبان الفرعية أمام بقايا من بيوت رحل عنها ساكنوها.. ينظر نحوها يتمنى لو كان مع من رحلوا..

ــ ما ذنبي؟! أبى يهجرني صغيرًا لأمٍ أنهكها الانتظار وشماتة المحيطين فهجرتني رغمًا عنها بالموت، يربيني عمي في بيته.. أكبر معها، تحبني ولا أحبها، ومن أحببتها وتزوجتها بعيدة حيث العاصمة وابني معها..

ينظر نحوها بعطف، تنظر إليه شذرًا، يسكنه اللون الأصفر.. عيون الأموات ترقب حياتهما، كادت تتعثر في حجرٍ ناتئ صغير، يمسك يدها تجذبها دفعةً واحدة، يغزوه اللون الباهت ثانيةً. يرتعد. تثبِّت عينيها في عينيه.. شفتاها تتحركان، تتلو صحيفة جرائمه. يسقط فى يده. يتسمر..

ــ من المؤكد أنها عرفت قصة زواجه وانجابه سرًا ممن استأمنهم عليه فأذاعوه.

  تتكلم .. لم يكن معها . تنهره في عنف . يغرس بصره في موقع قدميه . تزجره . يتشجع على الكلام .. تدمدم الأرض تحتهما.. يغزو الكون صوت قادم . احتواهما الفزع .. قطار آتٍ من بعيد .. يتكلم .. تسرح . لاتسمعه .. تستصرخه.. يحاول الكلام .. صوت القطار يبتلع صوته .. لا تسمع . تتلو عليه ذنبًا آخر.. يعلو صوته مدافعًا رافضًا موقفه الذليل لفضل أبيها الذي تُحسَّن استغلاله .. تصغي في ذهول .. يأكل صوته غضب القطار البطيء .. تصرخ في وجهه.. يتقهقر، تمضي أمامه يائسة .. السكون يشجعه على الكلام .. فتح فمه .. التقط صفير القطار عباراته. محاها .. تشده إليها .. القطار الغاضب مازال يسير الهوينى على القضبان المنهكة التي لا ترحب باستقباله .. نظر إليها النظرة الأخيرة..


ليس له من أملٍ هنا، شاع أمر زواجه عندها فمن المؤكد أن البلدة كلها علمت بأمره وأهلها والعمدة وإمام المسجد وعمه وهذا ما فعلته ابنته فكيف هو؟ .. محاكمات في المجالس وتقطيع سيرته سهارى وحكايات على المصاطب و .... و .... و ...


ــ سأركب القطار.. ابني ليس له عم هنا أو هناك..

ــ قطارنا لم يأت موعده بعد .. انتظـ ـ ـ ـر .....

لم يسمعها .. كان قد أخذ قراره، واتجه نحو القطار مسرعًا.. يعانق ظله ظله.. يتحدان.. تصرخ فيه.. رأتهما جسدًا واحدًا.. خيل إليها أنه غطى بجسده القطار أو أن القطار قد تمدد فيه.. يلوح لها من العربة الأخيرة.. تحاول أن تلحق به، تصرخ باكية:

ــ عد ..

يتكلم . تصغي .. يأكل آخر كلماته صوت قطار يعلن عن رحيله .. لم تسمع . تزجره .... ذهب صوته.. وذهب القطار... لتبقى وحدها والدرب الطويـــل...


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فازت قصة القطار فى مسابقة "قصص على الهواء" التي تنظمها "مجلة العربى" الكويتية، مع هيئة الإذاعة البريطانية " BBC"، وقد اختارها الناقد البحريني فهد حسين لتفوز عن شهر مايو 2010م، معللاً سبب اختياره لها بقوله : (قصة فنية تعاملت مع شخصيتين رئيسيتين لإيمان القاص بقدرة القصة على طبيعة استيعاب الشخصيات في القصة، بلغة قصصية جميلة وتقنية تعاملت مع القص بشكل فني. وضحت فكرة البعد التراثي في الفكر التقليدي للعائلات في المجتمع).


رابط إذاعة BBC:

http://www.bbc.com/arabic/tvandradio/2010/04/100408_storytrain.shtml#

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق