مع الحلقة السابعة عشر من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نتعرف على بوادر رحيـــل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العامة والخاصة:
إنَّ المتأمل لسير الأحداث يرى أن علم عمر رضي الله عنه بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاءت به الآيات هو العلم العام بأن نهاية الرسول حتمًا الموت لأنها نهاية كل حي، وهو كذلك علم العامة من صحابة رسول الله التي أَحسَّت بقرب الوفاة على وجه الإجمال من استقراء شواهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله مثل: عرض جبريل القرآن عليه صلى الله عليه وسلم مرتين وكان يعرضه في كل عام مرة، كما أَسَّرَ بذلك لابنته فاطمة، فقالت: ’’فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين ولا أُراني إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك’’.
وكذلك توديعه صلى الله عليه وسلم للأحياء والأموات: فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: ”السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون, غدًا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد“.[البقيع هو مدفن أهل المدينة].
وفي رواية أنه قال صلّى الله عليه وسلّم: ”فإن جبريل أتاني.. فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم“، قالت عائشة: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: ”قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين مِنَّا والمستأخرين وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون“[أخرجه مسلم برقم :974].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج يومًا فصلى على قتلى أُحد صلاة الميت بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع علي المنبر، فقال: ’’إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنْ أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا’’، قَالَ عُقْبَةُ: وَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) [البخاري ومسلم].
وربما عزَّز حدسهم في أن مايفعله الرسول صلى الله عليه وسلم هو ولا شك الوداع هو صلاته صلى الله عليه وسلم على شهداء مضى على موتهم قرابة الثماني سنوات، وشهداء المعارك لا يُصلى عليهم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة.
يقول ابن حجر في فتح الباري تعليقًا على هذه الصلاة التي وردت بالحديث: “أمَّا هذا الحديث فكأنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعًا لهم بذلك, كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم”.
أمَّا أبو بكر فقد علم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيك الوفاة بالعلم الخاص، لأن عبارات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تدل على أن الأمر عُرِضَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار كما جاء فى خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم: ’’إنَّ عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختارما عنده’’.
وما يؤيد أنها علم الخاصة أن العامة من الصحابة أكابرهم وأصاغرهم غُمَّت عليهم وفهموا من مراد رسول الله أن الله إنما عرض عليه الدنيا فاستبعدوا فكرة موته صلى الله عليه وسلم، بل لاموا الصدِّيق حين بكى رضى الله عنه وعنهم أجمعين، وأصبح أبو بكرٍ وحده هو المُصدِّق بوفاة الرسول الوشيكة دونهم، وهذا ليكون أبا بكرٍ أول من صدَّقَ برسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين ابتعثه الله رسولاً، وليكون أول من َصدَّق وفهم مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيقن بدنو أجله، لتتحقق بذلك مقولة: “لينفرد الصدِّيق بالتصديق قائمًا ذلك المقام”.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: ’’عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ’’. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ وَبَكَى فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ’’إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَىَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍوَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ لاَ تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ’’[أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب (5/4)].
إنَّ الذي أعان الصدِّيق ــ ربما ــ على فهم مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه كان يفهم مرامي كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما كانت تعلمه بضعته وابنته السيدة عائشة رضي الله عنها، ولعله سمعه منها من جملة العلوم التي فقهتها من زوجها رسول الله حين قالت عند موت الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة, فسمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّة [شديدة] يقول: ’’مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا’’ [سورة النساء: (69)] قالت فظننته خير حينئذ. [البخاري برقم 4436, 4437, 4463, 4586، 6348, 6509, ومسلم برقم 2444].
ومع الصديقة بنت الصديق تنتهي حلقتنا لنبدأ الإبحار غدًا من جديد، في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ونستزيد.. فحتى ألقاكم على خير إن شاء الله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق