انتهينا في الحلقة السابقة عند فداء الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنمضي اليوم مع هذه الحلقة لنتابع موكب الفداء حين يمضى من عهد الصحابة حتى يصل إلى عهد إخوانه صلى الله عليه وسلم:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ، فَقَالَ:’’السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا’’.
قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَال: ’’أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ’’.
فَقَالُوا : كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: ’’أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟”
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا’’ [رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن ايوب وغيره، (أخبرنا) أبو الحسن علي بن محمد المقري انبأ الحسن بن محمد بن اسحاق ثنا يوسف بن يعقوب ثنا أبو الربيع ثنا اسمعيل بن جعفر].
نعم .. نحن إخوانه صلى الله عليه وسلم وأتباعه الذين قال فيهم صلى الله عليه وسلم: ’’من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله’’[أخرجه مسلم برقم: 5060].
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَيَعْلَى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ أَخْبَرَهُ قَالَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:’’أَشَدُّ أُمَّتِي لِي حُبًّا قَوْمٌ يَكُونُونَ أَوْ يَخْرُجُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَعْطَى أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَنَّهُ رَآنِي’’.
ويجب التنويه والتنبيه والعلم على من يتمنون ويكثرون من قولهم: (لو أدركنا زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكنا معه)، أن يتمنى المسلم أن لو أدرك عهده وعاش معه ظنًا أنهم كانوا سيظفرون لو أدركوه بفضل الصحبة، بل يجب عليهم أن يحمدوا الله الذي هداهم وعافاهم، لأنه لا يعلم أحد إذا أدركوه ـ فرضًا ـ أيكونون من أتباعه صلى الله عليه وسلم أم من خصومه حينئذ؟!
ولقد أخرج ابن حبان في صحيحه عن جبير بن نفير قال جلسنا إلى المقداد بن الأسود يومًا، فمر به رجلٌ فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب، فجعلتُ أعجب ما قال إلا خيرًا ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرًا غَيِّبهُ الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم تعرفون ربكم مصدقين لما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم، قد كُفيتُم البلاء بغيركم.
نعم .. نحن إخوانه صلى الله عليه وسلم وأتباعه وكلنا له الفدا، فمن فم الصديق الطاهر رضي الله عنه: فداك أبى وأمى يارسول الله … نطقتها القلوب الطاهرة في صدور الأطفال والشباب والعجائز من رجال الأمة ونسائها، بنفس إخلاص الصحابة بنفس الحب الصادق الطازج المنير، فهذا من إعجازه صلى الله عليه وسلم محبة أصحابه ومحبة أتباعه .. حيةٌ دائمةٌ .. حاضرة .. شاهدة .. كاملة .. ربانية .. متصلة .. متواصلة .. متفاعلة .. يَقِظة .. نقولها اليوم وكل يوم كما سيقولها من سيأتى بعدنا:
نفديك بالأرواح ياعلم الهدى .. نقولها كما قالها الدكتور عائض القرنى في قصيدته بقلمه بالنيابة عن قلوبنا، ولسان حالنا شاهدٌ بصدقنا:
نفديك بالأرواح ياعلم الهدي ……….. نفديك بالأعراض والأعمار
نفديك بالأبناء في زمن الصبا ………….. نفديك من دكّا إلي دكّار
من دون عرضك ياحبيب قلوبنا …. ضربُ الجماجم من بني المليار
المجدُ يبدأ من محمدِ شامخاً ……………. وبوجهه يزدانُ كل نهار
والحقُ يبدأ من محمدِ مثلما ………. فاض الضياء بروحه في الغار
والعدلُ يبدأ من محمدِ معلناً …………… للناس حق مكانة الأحرار
هو سيد العظماء مامن سيدِ ……………….. إلا له يعنو بكل وقار
هو فجرنا هو نورنا هو فخرنا …….. هو ذخرنا في البدو والحضّار
ودماؤنا تجري بنبض حديثه ………… كالسلسل الجاري من التيار
خفقاتُ أرواح الشعوب بحبّه ………… ودموعهم كالهاطل المدرار
فعليه صلي الله ماسطع الضيا ………….. وترنمت ورقاءُ بالأشعار
وعليه صلي الله ماالتف الدجي ……….. وتردّدت ذكراهُ في الأقطار
إعجاز رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: محبته التى تجمع كل الفرقاء المختلفون فى وسيلة حبه على حبه صلى الله عليه وسلم.
يقول المستشرق هاملتون جب: (ما تزال الاحتفالات العائلية تختم بأدعية وأناشيد في تمجيد الرسول وكل الأمة تراعيها وتشهدها بحماسة في ذلك اليوم المجيد، يوم مولد النبي في الثاني عشر من شهر ربيع الأول. هنالك ترى المجددين والمقلدين والصوفية والسلفية والعلماء وأفراد الجمهور يلتقون جميعًا معًا على بقعة واحدة، وقد يكون بين نزعاتهم العقلية تنوع واسع متباين، ولكنهم جميعًا وحدة متآلفة في إخلاصهم وحبهم محمد) [دراسات في حضارة الإسلام ، ص 259 هاملتون جب].
ويقول الشاعر:
صلُوا عليهِ وسَلْمِوُا مهما بِكُمْ بَعُدَ المَدى
يصل إليه سـلامُكُمْ حيٌ ما أفنـاهُ الرَدى
فى كُلِ وَقتٍ اسمهُ مع الآذان تـَــــرْدَدَ
وفى الصلاةِ ذكـرهُ لا تخلو منه تَشَــهُدَ
حيٌ عليه صـــلاتُنا وَكُلُنَاَ لَهُ الفِــدَا
إنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
بقعة النور الوضاءة في ثوب الدنيا، بقعة الأمان والمحبة فى أرض الدنيا والآخرة، حوله يتآلف المختلفون، ويتلاقى المتباعدون..
عند ذكر اسمه تلهج الألسنة تسبقها القلوب بالصلاة عليه مهما تباينت درجات الالتزام الإيماني، وتفاوتت مراحل التمسك بتوقير شعائر الدين، لكن ’’محمدًا’’ في نفس كل منهم هو الجانب الوضيء المضيء الذي لا خلاف عليه ولا خلاف على حبه صلى الله عليه وسلم..
ومثلما كانت معجزته صلى الله عليه وسلم حال حياته أن تلتف القلوب حوله رغم اختلاف عظمتها، ما تزال معجزته باقية حتى بعد وفاته، تهفو القلوب إليه طائعةً مختارة من العابد ومن العاصي، من العاشق ومن القالي، من الغالي فيه ومن الجافي عنه..
يعشق رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان من أمته، ولا يسعه إلا أن ِّيوقره من كان على غير دينه وملته؛ فقد أرسله الله لهذا ولذاك، وقلب محمدٍ الرحيم اتسع لحب من هو من شيعته ولبُغض مَنْ فَرَ من رحمته، فلا تزال رحمته في الأرض تفعل فعلها تناشد كل آبقٍ هارب غارق ويظن أنه ناجٍ وهو يسبح بعيدًا عن سفينة محمد..
ورحمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم تًنادي ذلك الهارب: (يا أخى .. اركب معنا .. فُزْ معنا بالله .. انج بنفسك لله) ..
إنه ’’محمد’’ العظمة التى اتسعت آفاقها، وتعددت نواحيها ــ كما يقول العقاد ـ حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم والحيلة والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب… تلك هى بلا ريب عظمة العظمات ومعجزة الإعجاز الباقية حين يقول المسلم طوال عهد الإسلام: (فداك نفسي وأمي وأبي يا رسول الله).
ويمضي بنا موكب الدراسات اليسيرة مع صاحب السيرة صلى الله عليه وسلم، ونبحر في موضوع طويل متصل، سنتناوله لحلقات، وإلى أن نلتقي.. أترككم مع الرجاء ببلوغ ليلة القدر، وأن يتقبل الله منا هذا الشهر.. وخالص التحيات..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق