مع دراسات يسيرة في رحاب السيرة يمضي موكبنا في استشراف موضوع يبحث في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تحويه من مفاهيم، ومدى تأثيرها على الفكر الإسلامي والإنساني، وكيف أن بشريته صلى الله عليه وسلم التي نقولها بكل بساطة أخذت جدلًا ونقاشًا طويلًا، وما معنى بشرية الرسول أو ماذا تعني بشريته بالنسبة لنا؟ دعونا نبحر معًا ونقرأ معًا:
اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون عبدًا رسولًا على أن يكون نبيًا ملكًا وذلك كما جاء في الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: “بَلْ عَبْدًا رَسُولًا” [أخرجه أحمد فى “المسند” (ح7160/12/76) ط الرسالة].
يفسر الإمام ابن تيمية فى مجموع الفتاوى سر اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم بأن النبى الملك هنا قسيم العبد الرسول كما هو حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان عبدًا رسولا، مؤيدًا مطاعًا متبوعا، وبذلك يكون له أجر مثل من تبعه، وينتفع به الخلق، وَيُرْحَمُوا به، وَيُرْحَمْ بهم، ولم يختر أن يكون ملكًا، لئلا ينقص، لما فى ذلك من الاستمتاع بالرياسة والمال ، عن نصيبه فى الآخرة.
وقد ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عن خيثمة أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيًّا قبلك، ولا نعطي أحدًا من بعدك، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله، فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله عز وجل في ذلك: ﴿تَبَارَكَ الذِي إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان:10].
يَعجَب المستشرق والمؤرخ “جيمس متشنر” ويُعجَب بعبودية الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اختار أن يكون عبدًا رسولًا، فيقول: (أن محمدًا هذا الرجل المُلهَم، الذي أقام الإسلام، ولد حوالي 570 ميلادية في قبيلة عربية تعبد الأصنام، ولد يتيمًا محبًا للفقراء والمحتاجين والأرامل واليتامى والأرقاء والمستضعفين، وقد أحدث محمد بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية وفي الشرق كله؛ فقد حطم الأصنام بيديه، وأقام دينًا يدعو إلى الله وحده، ورفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها تقاليد الصحراء، ونادى بالعدالة الاجتماعية وقد عُرِضَ عليه في آخر أيامه أن يكون حاكمًا بأمره، أو قديسًا، ولكنه أصر على أنه ليس إلا عبدًا من عباد الله أرسله إلى العالم منذرًا وبشيرا).
يرى الدكتور محمد راتب النابلسي لو أن الله جعل رسوله صلى الله عليه وسلم ملكاً، لآمن به الناس جميعًا هيبة لسطوته، وتنفيذًا لأمره، فهل هذا التنفيذ عبادة؟ لا، بل خوف لا قيمة له أبدا، ولهذا اختار عليه الصلاة و السلام أن يكون نبيًا عبدًا، لأن العبودية طاعة و قرب من الله.
تؤكد آيات الكتاب الحكيم بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم:’’ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا’’ والقـــــرآن الكريم بهذا المنطق يقطع الطريق علي كل المحاولات التي يمكن أن تظهر من ضعاف العقول والإيمان لتشكك في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا يقول الدكتور محمــد عمارة: (إن بشرية الرسول التي تؤكدها معجزته القرآن ليست مجرد تحصيل حاصل، وإنما هي ثورة علي التصورات الجاهلية للأمم السابقة عن طبيعة الرسل وطبيعة المعجزات، لتعلن جدارة البشــر بالاصطفاء في وجه من اعترضوا علي كــــــــون الرسول بشرا [محمــد عمارة: مــــاذا يعني بشرية الرســـــــول؟ حراء العدد: 3 (أبريل – يونيو) 2006].
فكان لا بد للبشرية لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ودينه، فالإنسانية قد اكتمل رشدها العقلى وتكامل أيضًا نموها النفسي فاشتدت حاجتها إلى نبي من البشر جدير
بالإصطفاء الإلهي “محمد” ورسالة عالمية بشرية خالدة “الإسلام” تلبي متطلبات الحضارات القادمة والقائمة، وتملك من القدرات على توجيه وقيادة قدرات ومقدرات إنسان عصرها وإنسان كل العصور القادمة، فيكون العقل سبيلها في الإقناع والخطاب الجديد، كما يجب أن تأتي بتشريع وتقنين إنساني، فالتشريع الإسلامي من هذه الناحية لا يعد فقط تجسيدًا لعقيدة إنسانية خالصة، أو لدعوة دينية عالمية، أو لعبادة ربانية تساوي بين الجميع .. ولكنه فوق هذا تنظيم قانوني مذهل ومتوازن، يحقق حاجات النفس الإنسانية، وكذلك المتطلبات المتغيرة للمجتمعات البشرية على تباينها، فكان العدل شعاره وسنامه، ودثاره الذى يشمل كل الناس، فيمنحهم الأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم ومصالحهم وآمالهم وطموحاتهم .. فهو ـ بحق ـ دينٌ رباني المنهج، رباني الغاية، رباني الوجهة، إنسـاني الطابع، يشمل كل مكان وكل زمان، ويصلح لكل مكان وكل زمان، دين واقعـي ،قريب من واقع الناس والحياة، دين لايسكن برجًا عاجيًا، يعلم مشكلات الإنسان ماكان منها وما سيكون، فقدم الحلول سماوية الرسالة أرضية التنفيذ فجاء هذا الدين واضحاً سهلًا في تعاليمه في أوامره ونواهيه وفي عباداته ومعاملاته، يجمع بين الثبات والتطور، ليلائم دائمًا حراك البشر اللامتناهي.
كفى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم أنها جاءت رحمة عامة للبشرية كلها كما قال الله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
فلم تكن رسالة الإسلام الخاتمة مثل الرسالات التى جاءت من قبلها خاصة أي تختص بقوم رسولهم فقط كما قال تعالى:
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف:65].
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 73].
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [الأعراف: 855].
لقد كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وإلى الناس كافة كما جاء فى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].
وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28].
ورسالته صلى الله عليه وسلم كانت فوق كونها عالمية فهى الخاتمة والكاملة تفى باحتياجات البشر جميعاً وتقوم بتقنين وتنظيم شئونهم المادية والمعنوية عبر الزمان والمكان بكل ما فيه خيرهم فى الدنيا والآخرة.
وقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب:40].
قال الله تعالى فى وصفه لإكمال الدين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة بالإسلام العام: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: من الآية رقم: 3].
إن عموم رسالة محمد إلى العالمين، وباعتبارها الرسالة الكاملة والخاتمة يعنى امتداد دورها واستمرار وجودها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها مصداقًا لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9].
يشهد بكون رسالة الإسلام هي الرسالة الخاتمة، وبتفردها بين الرسالات السابقة عليها مجموعة من المفكرين الأوروبيين المنصفين، منهم المستشرق الفرنسي “شانليه” في حديث له عن رسالة الإسلام الذي أوردته “مجلة المقتطف” بعددها السابع من المجلد الثالث، فيقول: (إن رسالة محمد هي أفضل الرسالات التي جاء بها الأنبياء قبله، لأنها جاءت إلى الشعوب نقية من كل عيب؛ خاليةً من كل نقص، بل إنه يوجد فيها من التعاليم القيمة ما لا يوجد في غيرها من الديانات).
فنحن إذا قلنا إن الله وحده هو الذى كان يعلم أن البشرية تدخل أجواء العصر العقلى والطور الراشد فشاءت حكمته تعالى أن يكون الإسلام هو دين هذا العصر وكل العصور التالية من بعده ؛ فإننا لا نُنقص من قدر السابقين من الأنبياء الكرام قبل مَبعث محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، ولكن اقتضت مشيئة الله ذلك ليكون سيد الخلق هو محمد صلى الله عليه وسلم، ورسالته هي الخاتمة، وأن دين الحق هو الإسلام، وكتاب الله تعالى “القرآن الكريم” هو آخر الكتب السماوية، والمهيمن على كل الكتب السماوية السابقة عليه، فالحمد لله على نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة.
ونواصل في الحلقات القادمة من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم موضوع بشريته صلى الله عليه وسلم، فإلى لقاء..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق