سوف نعيش في أجواء هذه الحلقة والتي تليها من “دراسات يسيرة في رحاب السيرة” فداء المسلم للرسول صلى الله عليه وسلم منذ عهد الإسلام الأول في مكة المكرمة، وحتى عصرنا الحاضر، غير أن بدايتنا ستكون مع الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم حين يقول أحدهم: “فداك أبي وأمي يا رسول الله”، ونمضي مع الفداء:
إن إعجاز سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليبدو أكثر مايبدو حين يقول المسلم من عهد الصحابة مخاطبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فداك أبي وأمى يارسول الله( إلى مسلم هذا العهد من القرن الواحد والعشرين حين يجأر بها صادقًا من قلبه لترفعها الملائكة إلى مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: فداك أبى وأمى يارسول الله.
قالت عائشة رضى الله عنها: “بينما نحن جلوس فى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: ِفداءٌ له أبى وأمى، والله ما جاء فى هذه الساعة إلاَّ لأمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأذن، فأذن له، فدخل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر: ’’أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَك’’. فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:’’فإني قد أذن لي في الخروج’’، فقال أبو بكر: الصحبة بأبى أنت يارسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:’’نعم’’ [صحيح البخارى: باب هجرة النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه 1/553].
ورويَ أن أبا بكر قال: “نظرتُ إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دمًا فاستبكيتُ وعلمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن تعود الحفاء والجفوة”..
ورويَ أنه دخل الغار قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقيه بنفسه، وأنه رأى جُحرًا فيه فألقمه عقبه لئلا يخرج منه ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجر أبي بكر ونام فَلُدِّغ أبو بكر في رجله من الجُحر ولم يتحرك، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ’’مالك يا أبا بكر؟’’, فقال: لُدِغْتُ فِداك أبى وأمى. فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده”.
ففي الصحيحين عن أبي ذر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في ليلة: “جعلني الله فداك” مرتين [صحيح البخارى:6443].
وفي الصحيحين من حديث أنسٍ رضيَ اللهُ عنه قال: “لما كان يومَ أحُدٍ انـهزمَ الناسُ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو طلحةَ بينَ يدَي النبيّ صلى الله عليه وسلم مُجوّبٌ عليهِ بحجَفةٍ له، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً شديدَ النـزعِ ، كَسَرَ يومَئذ قوسَينِ أو ثلاثاً، وكان الرجلُ يَمرُّ معه بجعْبةٍ من النّبل فيقولُ : انْثُرها لأبي طلحةَ. قال: ويُشرِفُ النبيّ صلى الله عليه وسلم ينظرُ إلى القوم ، فيقولُ أبو طلحة: بأبي أنتَ وأمي! لا تُشرفْ يُصيبُكَ سهمٌ من سِهام القوم، نَحرِي دُونَ نحرِك” [رواه البخاري].
وعن قيس بن أبي حازم قال: “رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَىَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ” [رواه البخاري].
ونادى النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا، وقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك [رواه أحمد وأبو داود من رواية أبي همام عبد الله بن يسار].
وقالها الرسول صلى الله عليه وسلم ـ فداك أبى وأمى ـ يوم أحد عندما وقف سعد بن أبى وقاص يدافع عن رسول الله ويحارب المشركين، ويرميهم حتى نالته دعوة الرسول، حين رآه فسر منه وقال: ’’يا سعد، ارم فداك أبي وأمي’’، فكان سعد يقول: “ما جمع رسول الله أبويه لأحد قبلي، وكانت ابنته عائشة بنت سعد تباهي بذلك وتفخر، وتقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله يوم أحد بالأبوي”.
ففي الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير وسعد: ’’فداك أبي وأمي’’.
عن زيد بن وهب عن أبي ذر، قال النبي صلى الله عليه وسلم :’’أبو ذر’’، فقلت: لبيك وسعديك يا رسول الله وأنا فداؤك [إسناده جيد].
كما روى الطبراني عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلي من نفسي وإنك لأحب إلي من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى أتي فأنظر إليك وإذا ذكرتُ موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ [سورة النساء: 69]. [قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح إلا عبد الله بن عمران و هو ثقة].
وقد هجا حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب الذي هجا الرسول صلى الله عليه وسلم:
هـجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعنـد الله في ذاك الجــزاء
فإن أبي ووالده وعــرضى لعرض محمد منكم وقـــاء
أتهجوه ولستَ له بكـفءٍ فشركما لخيـركما الفــــداء
كما افتدى الصحابى الجليل سواد بن قارب الدوسي بنفسه ـ نسبة إلى دوس بن عدثان بن عبدالله بن زهران ـ حين قام مقامه الحميد في دوس حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام حينئذ سواد فقال: “يا معشر الأزد، إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم ومن شقائهم ألا يتعظوا إلا بأنفسهم ومن لم تنفعه التجارب ضرته ومن لم يسعه الحق لم يسعه الباطل وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس وقد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تناول قومًا أبعد منكم فظفر بهم وأوعد قومًا أكثر منكم فأخافهم ولم يمنعه منكم عدة ولا عدد وكل بلاء منسي إلا بقي أثره في الناس ولا ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية وإنما كف نبي الله عنكم ما كفكم عنه فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاء داخلين مما فيه أهل العافية حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبكم ونقيبكم فعبر الخطيب عن الشاهد ونقب النقيب عن الغائب ولست أدري لعله تكون للناس جولة فإن تكن فالسلامة منها: الأناة والله يحبها، فأحبوها، فأجابه القوم وسمعوا قوله فقال في ذلك سواد بن قارب وكان رضي الله عنه من أعلم أهل وقته، ورزقنا ثباته:
جلت مصيبتك الغداة سواد وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمد صلى الإله عليه ما يعتاد
حزنا لعمرك في الفؤاد مخامرا أو هل لمن فقد النبي فؤاد؟
كنا نحل به جنابا ممرعا جف الجناب فأجدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا وتصدعت وجدا به الأكباد
قل المتاع به وكان عيانه حلما تضمن سكرتيه رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه باق لعمرك في النفوس تلاد
إن النبي وفاته كحياته الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمدا بذلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيه النفوس ببذلها هذا له الأغياب والأشهاد
هذا ، وهذا لا يرد نبينا لو كان يفديه فداه سواد
قد يسأل أحدهم: لماذا أحبَّ الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل هذا الحب؟!
نعم ولك أن تعجب كما أخذ العجب الدكتور محمد عبده يمانى إذ لا يوجد في التاريخ كله قوم أحبّوا إمامهم أو زعيمهم أو شيخهم أو قائدهم أو أستاذهم كما أحبّ أصحاب محمد محمدًا صلى الله عليه وسلم حتى افتدوه بالمهج، وعرّضوا أجسامهم للسيوف دون جسمه، وضحوا بدمائهم لحمايته، وبذلوا أعراضهم دون عرضه، فكان بعضهم لا يملأ عينيه من النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له، ومنهم من ذهب إلى الموت طائعًا ويعلم أنها النهاية وكأنه يذهب إلى عرس، ومنهم من احتسى الشهادة في سبيل الله كالماء الزلل، لأنه أحبّ محمدًا ودعوته. بل كانوا يتمنون رضاه على رضاهم، وراحته ولو تعبوا، وشبعه ولو جاعوا، فما كانوا يرفعون أصواتهم على صوته، ولا يقدمون أمرهم على أمره، ولا يقطعون أمرًا من دونه، فهو المطاع المحبوب، والأسوة الحسنة، والقدوة المباركة.
أما دواعي هذا الحب وأسبابه، فأعظمها أن هذا الإنسان هو رسول الرحمن، وصفوة الإنس والجان، أرسله الله ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويقودهم إلى جنة عرضها السموات والأرض، ثم إنهم وجدوا فيه صلى الله عليه وسلم الإمام الذي كملت فضائله وتمّت محاسنه. [محمد عبده يماني.. السلام عليك يا رسول الله، مجلة المنهلا، العدد 484 المجلد 52].
معًا… نبدأ الإبحار غدًا لنستكمل موضوع الفداء في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولكن مع الشق الثاني منه وهو فداء المسلم المعاصر عن أو لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. فحتى ألقاكم أترككم على خير إن شاء الله..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق