لم يكتفِ المتصوفة بأن يتخذوا من انقطاع الرسول
صلى الله عليه وسلم في غار حراء الليالي ذوات العدد، رمزًا لاتخاذهم وانتهاجهم مسلك
الخلوة الذي حددوا مدته وشروطه، حتى ابتدعوا "ديوان تصريف الأكوان" وهو ديوان
للأقطاب والأوتاد والأبدال ليدير شئون الكون من خلال قراراته، ويروي الشعراني في
الطبقات الكبرى عن عبد الله التستري, أنه قال : (ما من ولي لله صحت ولايته إلا ويحضر
إلي غار حراء بمكة المكرمة في كل ليلة جمعة
لا يتأخر عن ذلك)، وذلك للنظر في أمور الكون، وتصريف أحواله نيابة عن الله عز وجل.
ينقل أحداث هذا الديوان وهيئته وكيفيته اثنان،
أستاذ وتلميذ، فأمَّا التلميذ فهو أحمد بن مبارك السلجماسي المغربي الذي نقل هذا الكلام
إملاءً من شيخه وأستاذه عبد العزيز مسعود الدباغ، والتلميذ من حيث الحيثيات أكثر علمًا
من أستاذه؛ إذ هو الفقيه، الأصولي، الإمام، العلاّمة، الحافظ، المتبحر، الجهبذ، المحرر،
المدقّق أبو العباس أحمد بن مبارك ـ وبه عُرف ـ ابن محمد بن عمر السجلماسي اللَّمَطي؛
بفتحتين نسبة إلى لَـمَط، رهط من سجلماسة؛ الفاسي الدار والقرار، يتصل نسبه بأبي بكر
الصديق رضي الله عنه، فهو أيضا البكري الصديقي.بل إنه العلامة الأوحد الحافظ المحقق
المشارك في جميع الفنون، بحسب ما جاء في مخطوطة "سؤال وجواب" الموجودة بقسم
المخطوطات بمكتبة الملك عبد العزيز بجامعة الرياض، كما أنه من أعلام المذهب المالكي،
ويتبوأ مكانة رفيعة بين علمائها، ويعتزون به أيما اعتزاز.
من تصانيفه: "إنارة الافهام بسماع ما قيل في دلالة العام،
شرح المحلى على جمع الجوامع، رد التشديد في مسألة التقليد وكشف اللبس عن المسائل الخمس،
الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز".
وقد أورد أحمد اللمطي واقعة ديوان التصريف في
كتابه الأخير "الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز" وهو عبد العزيز بن مسعود المعروف بالدباغ،
(1095 الموافقة ١٦٧٩ م ـــ 1132 ه الموافقة ١٧٢٠ م)، صوفي، من أهل فاس بالمغرب، كان
أميًا لا يقرأ ولا يكتب، ولأتباعه مبالغة في الثناء عليه ونسبة الخوارق إليه [انظر:
معجم الشيوخ 2/100، الأعلام 4/28، معجم المؤلفين 5/262 ــ 263].
والدباغ نسبة إلى الدباغيون وهم أشراف أدريسيون، من سلالة علي وفاطمة الزهراء, رضي الله عنهما.
والدباغ نسبة إلى الدباغيون وهم أشراف أدريسيون، من سلالة علي وفاطمة الزهراء, رضي الله عنهما.
يصفه أتباعه بأنه العارف بالله، الولي الكامل،
الشيخ الشريف القطب الغوث, أحد الأئمة الأولياء ومشاهير الأصفياء، قطب من أقطاب الصوفية،
صاحب الإشارات العلية والعبارات السنية والحقائق القدسية، والأنوار المحمدية والأسرار
الربانية، منشئ معالم الطريقة، ذي النسبتين الطاهرتين الجسمية والروحية، والسلالتين
الطيبتين الشاهدية والغيبية، المحمدي العلوي الحسني، قطب السالكين، وحامل لواء العارفين.
ويتباهون بأنه يخوض في العلوم التي تعجز عنها العقول مع أنه كان أميًا, لم يحفظ القرآن
ولم يُرىَ في مجالس علم, وقد جاءه كل هذا العلم حين التقى الخضر عليه السلام، ولقنه
وِردًا داوم عليه حتى جاءه الفتح!
خصص له أحمد بن مبارك السجلماسي اللمطي الكتاب
المشار إليه آنفًا، وهو من الكتب الشهيرة في أدب المناقب في العالم العربي والإسلامي،
كما يزعم أتباعه، وبدأه بالحمد الذي فتح لأوليائه
طريق الوسائل، وأجرى على أيديهم الكريمة أنواع الفضائل، فمن اقتدى بهم انتصر واهتدى،
ومن حاد عن طريقهم انتكس وتردى. وهو بهذا يضع الرؤيا المنطلق لترجمته للشيخ، والتي استهلها بذكر أصل أجداده و أبيه و والدته، ثم التنبؤات
التي سبقته، وإشارات إلى المكانة العظيمة التي ستكون له في عالم الولاية والكشف، فذكر
حكايات وأحاديث خاصة نقلها عن الشيخ، منها طريقه في الكشف الرباني وتفسيراته لما التبس
على مريديه من أحاديث نبوية وآثار بعض مشايخ التصوف، ناهيك عن "عرفانه اللدني"
في مواضيع البرزخ والبعث والجنة والنار، وغيرها من أمور العقيدة، أيضًا كما يزعمون.
والسؤال: كيف قَبِلّ العلامة السلجماسي ما قاله
أستاذه الدباغ حتى أفرد له كتابه هذا دون معارضة أو تفنيد لرأيه، مع كونه يجيد هذا
الفن تمامًا؟
يدون المتصوفة في كتبهم عن الشيخ أحمد بن المبارك
اللمطي السلجماسي أنه العلامة المحقق شيخ علماء عصره، ولما لا وقد أعطاهم فرصة ذهبية
لكي يتباهوا بأنه كان تلميذًا لسيدهم القطب الكبير عبد العزيز الدباغ الحسني وأنه نقل
عنه من المواهب والأسرار ما أثبت بعضه في كتاب "الإبريز".
ثم يضيفون: (وهكذا لا تجد عالما كبيرًا ومحققًا شهيرًا إلا دخل في طريق القوم والتمس البركة من أهلها ونال الحظوة بسبب الانتساب إليها، وهذا أمر معلوم يدركه من قرأ تراجم العلماء وتتبع سيرهم واستقصى أخبارهم، ومن لم يعرف أو لم يعتد به فهو جاهل متعنت لا اعتداد به ولا عبرة بما يقول.(
ثم يضيفون: (وهكذا لا تجد عالما كبيرًا ومحققًا شهيرًا إلا دخل في طريق القوم والتمس البركة من أهلها ونال الحظوة بسبب الانتساب إليها، وهذا أمر معلوم يدركه من قرأ تراجم العلماء وتتبع سيرهم واستقصى أخبارهم، ومن لم يعرف أو لم يعتد به فهو جاهل متعنت لا اعتداد به ولا عبرة بما يقول.(
يعجب صادق سليم صادق من مسلك ابن المبارك، فيقول:
(سَلَّم أحمد بن
المبارك لشيخه الأمي الجاهل: عبد العزيز الدباغ، وفيما يظهر من ترجمة أحمد بن المبارك،
ومسائله لشيخه، أنه كان من العلماء ــ وهذا ما أشرتُ إليه ــ ومع هذا فهو يقول معددًا
مسموعاته عن شيخه الدباغ: (... وكذا سمعتُ منه من المعرفة بالله تعالى، وعَلِيِّ صفاته،
وعظيم أسمائه، ما لا يُكيَّف ولا يُطاق، ولا يدرك إلا بعطية الملك الخلاق، وكذا سمعت
منه من المعرفة بأنبياء الله تعالى، ورسله الكرام عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام،
ما تحسه به كأنه كان مع كل نبي في زمانه، ومن أهل عصره، وأوانه، وكذا سمعت منه المعرفة
بالملائكة الكرام، واختلاف أجناسهم، ومراتبهم العظام، ما كنت أحسب أن البشر لا يبلغون
إلى علم ذلك، ولا يتخطون إلى ما هنالك، وكذا سمعت منه من المعرفة بالكتب السماوية،
والشرائع النبوية السالفة الأعصار، المتقادمة الليل والنهار، ما تقطع وتجزم إذا عرفته،
بأنه سيد العارفين، وإمام أولياء أهل زمانه أجمعين. وكذا سمعت منه من المعرفة باليوم
الآخر، وجميع ما فيه من: حشر، ونشر، وصراط، وميزان، ونعيم باهر؛ ما تعرف إذا سمعته
أنه يتكلم عن شهود وعيان، ويخبر عن تحقيق وعرفان؛ فأيقنتُ حينئذٍ بولايته العظمى، وانتسبتُ
لجنابه الأحمى...) [المصادر العامة للتلقي عند الصوفية.. عرضًا
ونقدًا].
وقال أيضًا: (... فكل من سمعه يتعجب
منه، ويقول: ما سمعنا مثل هذه المعارف، ويزدهم تعجبًا، كون صاحبها رضي الله عنه، أميًا،
لم يتعاطَ العلم، ومن الذين أعرضوا عنه في الظاهر غاية الإعراض).
وأحسب أن هذا النص، ليس في حاجة إلى تحليل؛ فإن
المعرفة باليوم الآخر وجميع ما فيه إن لم يكن من أنواع الغيوب فليس هناك غيب أصلًا؛
إذ العلم بشيء بذلك مقيد بما ورد في الكتاب والسنة. ونحن نعلم أن الدباغ لم يستفد من
هذا العلم المزعوم منهما لأمور:
1ــ أن تلميذه الراوي صرح بأنه يتحدث عن شهود
وعيان.
2ــ أن تفصيل جميع ما في الآخرة لم يأتِ في الكتاب
والسنة، بل جاء فيهما ــ غالبًا ــ إجمال تلك الأمور حسب ما يقتضيه الترغيب والترهيب.
3ــ أن الدباغ أمي لم يقرأ الكتاب والسنة كما
صرح ابن المبارك نفسه [محمد أحمد لوج، تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي، عرض وتحليل على
ضوء الكتاب والسنة، ص61، ج1].
في ضوء ما أسلفنا بيانه، وما أجاب عنه ابن مبارك وأبانه،
بيقينه بولاية الدباغ العظمى، وانتسابه لجنابه الأحمى، على الرغم من تمكَّن ابن مبارك
السلجماسي من ناصية جلّ العلوم، حتي أخذ يُقارع العلماء، ويرد على أكابرهم، سواء المتقدم
منهم أو المتأخر، وكاد لا يحصل منه إذعان لواحد منهم، بل ويصرح لنفسه بالاجتهاد المطلق،
وبالفعل فقد كانت له عارضة في المقابلة بين أقوال العلماء، والبحث معهم، والإجابة عنهم
بمقتضى الصناعة والآلات، مع تفرده بأشياء يصل إليها بفهمه وبحثه.وحظي عدد كبير من التلامذة
المعاصرين له بالنهل من معين علمه، والاقتباس من ثمرة اجتهاده[نشر المثاني (4/40)،
التقاط الدرر، للقادري (2/393-394)، طبقات الحضيكي (1/120)، سلوة الأنفاس لمحمد بن
جعفر الكتاني (2/203)، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (352)، إتحاف أعلام الناس لابن
زيدان (1/291)، هدية العارفين (1/174)، معجم المؤلفين (2/56)، الأعلام للزركلي
(1/202)].
في ضوء ما تقدم نستطيع الآن أن نتفهم ما كتبه ابن مبارك عن
ديوان تصريف الأكوان ـ المزعوم ـ أو كما يقول أتباعه: "الإبريز الذي تلقاه نجم العرفان الحافظ سيدي أحمد بن المبارك عن قطب
الواصلين سيدي عبدالعزيز الدباغ".
لقد فُتِنَ السلجماسي
التلميذ بشيخه الدباغ حيًا وميتًا؛ إذ دُفِنَ بجواره بعد أن أصابه الطاعون، ليلة يوم
الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى عام خمسة أو ستة وخمسين ومائة وألف، ودفن مع شيخه المذكور
في قبته، متصلًا به، ليس بينه وبينه إلا جبهة بناء، وعليهما اليوم دُربوز واحد؛ فوقه
مقبريتان خارج باب الفتوح قي عدوة فاس الأندلس.
لقد اخترع الدباغ وظيفة لغار حراء لم ترد على خاطر الرسول
صلى الله عليه وسلم حال حياته، وجمع الأحياء مع الأموات، وقدم مذهب مالك على المذاهب
كلها، وأشاع أحمد بن مبارك هذا الهراء حتى أصبح كثير من أهل التصوف يصدقون هذا الكون
المخفي عنا، بل يتعجبون من تكذيبنا له باتهامنا بالغفلة والعمى والزيغ عن طريق النور،
والحقائق الجلية لهم بظنهم.
أن كل كتابة جرى بها قلمٌ لصوفيّ وكل عبارة نطق بها وسُمِعَتْ
عنه، مما أراد به نقل خبرته الروحية إلى الآخرين، هو من قبيل الشعر الذي يخرج من مجال
المعقولات مهما تكن له من قيمة تعبيرية في مجال الفن الأدبي؛ وإن أعجب العجب في هذا
الصدد هو أن الأدوات نفسها التي ندرك بها المدركات العقلية هي الأدوات التي يعدها المتصوفة
مؤدية إلى الضلال؛ فإذا كانت المشاهدات العلمية وسيلتها الحواس، فالحواس عند الصوفي
لا ترى إلا الظاهر دون الباطن، والحق إنما يكون ــ عندهم ــ فيها هو باطن مستور، ولا
يكون أبدًا فيما تراه الأبصار مما يظهر لها على أسطح الأشياء؛ وإن كانت المعرفة العلمية
قائمة على تحليل الموضوع المراد معرفته إلى عناصره الأولية التي منها يتألف، فالتحليل
عند الصوفي يفسد علينا حقيقة الشيء، لأن حقيقته هي في جملته مجتمعةً في مركَّب واحد،
لا في أجزائه وهي فرادى.
والخلاصة هي أنه بينما "العلم" يقف
دائمًا عند حدود ما يظهر لنا من الكون يزعم المتصوفة أن العالم الحق هو ما يكمن وراء
الظواهر، فهم بذلك يعيشون في عالم غير عالمنا الذي نعيش فيه، ومن ثم يبطل بيننا تبادل
المعرفة على النحو الذي نألفه في العلوم وفي الحياة العملية على حد سواء؛ وإن هذا العالم
المستور عنا والمكشوف للصوفي، يبهره بهرًا قد يُشيع فيه رجفةَ الخوف، وكثيرًا ما يراه
الصوفي وكأنه يرى نورًا ساطعًا يستعصي على
الرؤية الكاملة، ويخيل إليه أن الحقيقة الباهرة تلك تروغ منه وتختفي كلما ظن أنه قد
أوشك على شهود كامل، فتراه عندئذ ينحو باللائمة على ما يزال باقيًا عنده من غلالات
الأباطيل التي تخلقها في الإنسان حواسه؛ وإننا إذ نُشَّبه رؤية المتصوف هذه برؤية الشاعر
والفنان والعاشق الولهان بموضوع حبه، فإنما نضيف القول بأن هؤلاء الأشباه جميعًا لا
يتلقون من هذا العالم المحجوب إلا لمعات خافتة يرونها ثم يعودون إلى حياة الحس المألوف.
وأمَّا المتصوف فيغمس روحه في ذلك الضوء غمسًا،
فلا عجب أن نجد المتصوفة على عقيدة راسخة بأن ما يعرفونه عن "الحق" بمثل
تلك الرؤية المباشرة المستغرقة فيما تراه، لا يجوز أن يقاس إليها أي معرفة أخرى، فكل
معرفة أخرى ــ ومنها المعرفة العلمية ذاتها ــ إن هي إلا جهالة عمياء إذا قورنت بالحقيقة
التي تشرق على المتصوفة في لحظات وجدهم. تلك الرؤية الكاشفة عما حجبته الأستار عن سائر الناس، هي إذن أولى خصائص التصوف، وهي خصيصة تكفي
وحدها لنُدخِلَ التصوف في "عالم اللا معقول" [دكتور زكي نجيب محمود، المعقول
واللامعقول في تراثنا الفكري].
يقول المستشرق
الألماني فريتز ماير: (إن العقلانية والدين
قد اقترنا إلى حد جعل المسلمين يتباهون بأن دينهم هو الأكثر عقلانية بين كل الأديان).
وأعتقد أن الرجل
لم يطالع ما نقله ابن مبارك السلجماسي عن أستاذه الدباغ، ولو قرأ لكان له رأي آخر ليس
في الإسلام بالطبع ولكن في بعض أتباعه الذين كادوا أن يتفوقوا على مبدعي أفلام الخيال
العلمي، لتجاوزهم المعقول، ومحاولة الزج بالإسلام إلى مناطق تفوق اللامعقول، فكانوا
أشد خطرًا عليه من أعدائه.
ويبقى السؤال
مطروحًا فوق مائدة البحث لم يجد له سبيلًا إلى الإجابة عليه سوى إجابات غير منطقية
من أتباع الدباغ دائمًا والتي تصب في صالح ولايته، وتضخيم وجوده الروحي، وقطبيته:
كيف ولماذا تابع التلميذ "الأعلم" شيخه "الأدنى" منه علمًا؟!
والسؤال
الأهم: كيف قبل أن ينقل هذا الهراء عن شيخه مما جاء في كتابه "الإبريز"،
وهو الذي له باع طويل وتبحر في المنطق والبيان والأصول والحديث والقراءات والتفسير.
وله عارضة في المقابلة بين أقاويل العلماء والبحث معهم لم تكن لغيره حفظا وبحثا ومعارضة
واستنباطا، ويصرح لنفسه بالاجتهاد ويرد على الأكابر من المتقدمين والمتأخرين، وكان
كثير التنويه بقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحمل الناس على شدة محبته؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق