مع هذه الحلقة نمضي في دراسات يسيرة في رحاب السيرة، من خلال موضوع مهم جدًا، لأنه يناقش مسائل عقدية ــ من العقيدة ــ وفقهية أيضًا، خلافية، حاول الباحث أن يجد لها مخرجًا ، سنتحدث عن “الحياة البرزخية للرسول صلى الله عليه وسلم”… فلنبدأ:
قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها متعلقةٌ بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من نوى منهم زيارته على الأغلب ما قصد فقط زيارة قبره على حدة، ولا نوى في دعاء أو رجاء أن يفوز بشرف زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما تبدأ النية بأمنية تتردد في الصدر مشتاقة أن يُكتب لهم الحج هذا العام أو أداء العمرة وهم يعلمون أن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم ليست من المناسك التعبدية،
ولكن زيارته صلى الله عليه وسلم في القلب صريحة وعلى اللسان فصيحة تتشكل في الروح منسكُا منحوتًا قائمًا بذاته تهفو الأفئدة صوامة قوامة في كل حين برجاء أن يجمعها الله به صلى الله عليه وسلم كما جمع الروح بالبدن، ومن ثم تصبح الزيارة صحيحة تمامًا ملتزمة بآدابها ومشروعتيها لمن مر به صلى الله عليه وسلم أو كان بمسجده أو جاء المدينة من خارجها، فهذا هو القصد المستحب:
قصد المسجد أصلاً، وزيارة القبر تبعًا، لكن الذي لا يجوز هو السفر لأجل زيارة القبر، فحسن الظن الغالب على أغلب المسلمين أنهم إنمَّا يعلمون أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعلها مخالف للسنة ولإجماع الأئمة كما أنهم يحافظون ألا يغضبوا نبيهم وألاينزل عليهم غضب ربهم كما قال صلى الله عليه وسلم:
’’اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ’’ [حديث ثابت رواه مالك في الموطأ وغيره].
فليس غاية سفينة المسلم إلا مرفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مثواه، ولكنه يعلم أن القبر محتواه.. فأين يلقاه؟!
ولقد رأيتُ أن معظم من زار المدينة المنورة بساكنها صلى الله عليه وسلم كانت غايتهم الصلاة بمسجده على الأكثر، وزيارته فى القدوم وعند المغادرة، وربما عرجوا أثناء إقامتهم بمدينته المنورة ..
وليس هذا من سوء الأدب ولكنه من تحرير العقيدة من فساد البدع أولاً، وثانيًا فإنهم يأتنسون بجواره صلى الله عليه وسلم والسير في دروب وطرقات ربوع المدينة الطاهرة وسعيهم للصلاة في مسجد قباء وزيارة البقيع وأُحُد والمساجد التى صلى فيها صلى الله عليه وسلم بُغية أن يقع قدم على قدم، أو إذا هبت النسائم صافحت حبات تراب طاهرات وجوههم باقية من يوم أحُد أو عند دخوله المدينة مقيمًا، فحيث هم في المدينة فهم معه يجلسون أمام مسجده وهو مغلق من بعد صلاة العشاء في ضيافته صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم يقول كما قال الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديارا
فيقينًا هم يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غادر دنيانا حيث الرفيق الأعلى، ولكن في قلوبهم يعيش حيًا، لحمًا ودمًا، قرآنًا وسنة، رسالةً وسيرة، اسمًا يسمون به أولادهم ويتلذذون بندائهم إياه، يأتيهم النداء للصلاة تذكيرًا بشهادة نبوته خمس مرات في اليوم والليلة، وفى كل تَشهد أوسط وأخير فى صلواتهم، يحيونه ذكرًا دائمًا في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، يعيشونه زيارة للسلام عليه حيث مرقده، وحلمًا يلامس شغاف قلوبهم على أمل رؤياه منامًا، يستبشرون بمن يدعو لهم بالسفر حيث الحبيب، يحيونه مرجعًا وذاكرة مقدسة كلما ذكَّرهم باسمه أحد عندما يغضبون أو ينسون أو يقسمون أو يحزنون فكيف يظن الظان أنه ميت صلى الله عليه وسلم؟!
وكيف يموت وهو يرد عليهم سلامهم صلى الله عليه وسلم؟!
وكيف يموت وهم يعلمون أنه يحيا حياة برزخية فى قبره صلى الله عليه وسلم كما صرح بهذا الكثيرون من أهل السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم حيٌ في قبره حياة برزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه وتعالى، وليست من جنس حياة أهل الدنيا بل هي نوع آخر يحصل بها له صلى الله عليه وسلم الإحساس بالنعيم، ويسمع بها سلام المسلم عليه عندما يرد الله عليه روحه ذلك الوقت.
كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلا رَدَّ اللَّهُ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ’’.
وخرج البزار بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِيَ السَّلامَ’’.
وأخرج أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ’’لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا وَصَلُّوا عَلَىَّ فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ تَبْلُغُنِى حَيْثُ كُنْتُمْ’’.
وهذه الحياة البرزخية أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله عنها سبحانه بقوله : ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[سورة آل عمران: 169]، وفي قوله عز وجل: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [سورة البقرة: 154].
وروحه عليه الصلاة والسلام في أعلى عليين عند ربه عز وجل، وهو أفضل من الشهداء فيكون له من الحياة البرزخية أكمل من الذي لهم، ولكن لا يلزم من هذه الحياة أنه يعلم الغيب أو يعلم أمور أهل الدنيا بل ذلك قد انقطع بالموت لقوله صلى الله عليه وسلم:
’’إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له’’ [أخرجه مسلم في صحيحه].
قال الشيخ الإمام عبدالله بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله: (والذى نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق, وأنه حى فى قبره حياة برزخية, أبلغ من حياة الشهداء, للنصوص عليها فى التنزيل, إذ هو أفضل منهم بلا ريب) [الدرر السنية:1114].
وقال الشيخ العلامة عبدالله أبا بطين: ( فحياة الأنبياء حياة برزخية, والله أعلم بحقيقتها. والنبى صلى الله عليه وسلم قد مات بنص القرآن والسنة, ومن شك فى موته فهو كافر) [الدرر السنية:2|16].
كما يقول الشيخ ناصر الدين الألباني: (… فحياة الأنبياء بعد الموت حياة برزخية، ولنبينا صلى الله عليه وسلم فيها من الخصائص ما ليس لغيره… ولكن لا يجوز التوسع في ذلك بالأقيسة والأهواء) [الفوائد الملتقطة في من زعم أنه رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقظة، ص 25].
ومعنى موته صلى الله عليه وسلم هو أنه كغيره من الأموات “انقطع عمله” عن الدنيا فلم تعد حواسه التي كان يطل بها على الدنيا وعلى من حوله تعمل وإن كانت لم تبلَ ولم تأكلها الأرض ’’إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ’’… كما جاء فى الحديث.
فيجب علينا الإيمان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حَيٌ حياة برزخية كما الأنبياء والمرسلين. وإن تلك الحياة البرزخية لا تنافي موته حقيقة.
غدًا نستكمل باقي هذا الموضوعٍ ..نلتقي على خير حول سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.. فحتى ألقاكم دمتم في أمان الله، وبلغنا الله وإياكم ليلة القدر..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق