الاثنين، 24 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة – الحلقة (18):



الحلقة الثامنة عشر من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نمضي في استكمال موضوعنا: “بوادر رحيـــل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العامة والخاصة”:


ولئن سأل سائل ألم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبأنه مُحَدِّث كما جاء فى الحديث : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر’’؟ [البخاري رقم: 3689، مسلم رقم: 2398].


فهذا الحديث كما جاء في فتح الباري شرح النووي: (تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدَّث. فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة.. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلمًا في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام) [فتح الباري (7/50)، شرح النووي (15/166)].


وفسره بعضهم بالتفرس، فقد قال ابن حجر في فتح الباري: (والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات. وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه).


فقد قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوي: (وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمــة بالباطـن والظاهــر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد).


ولقد قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: (ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصدِّيق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث، فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير).


كما قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (فإن اختلف أبوبكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر، وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم).
وقد يتساءل أحدهم متعجبًا: وهل غُم على ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها أيضًا ليتحقق للصدِّيق الفوز بهذا المقام؟!


وكيف والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذى أسَّرَ إليها ثانية بعد حزنها على فراقه لمَّا أخبرها بخبر عرض القرآن عليه مرتين في العرضة الأخيرة من جبريل مما يعنى رحيله، وبأنها ستكون أول أهله لحوقًا به فَسُرتْ بذلك حيث قالت: فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: ”يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين, أو سيدة نساء هذه الأمة“؟ قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت” [البخاري برقم: 4433, 4434, ومسلم برقم: 2450, واللفظ لمسلم].


وفي رواية: ”فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت“؟![البخاري برقم: 4433, 44344, ومسلم: 2450].


ثم يستتبع التساؤل الأول تساؤلاً آخر: مع علمها اليقيني بوفاة والدها وأنها فرحت بلحوقها به، فلماذا فعلتْ ما فعلتْ عند علمها بوفاته وبعد دفنه صلى الله عليه وسلم؟!


وقبل الجواب نود أن نُقِرْ هنا بمقصودنا بمفاهيم العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة: بأنه يفارق ويزايل ذلك المعنى المتصور الذى أورده الإمام أبي حامد الغزالي في حديثه عن درجات الصوم الواردة في الفصل الثانى من كتاب أسرار الصوم من موسوعته إحياء علوم الدين، ويأتي أقرب في التصور تقسيم العلماء للرحمة المحمدية إلى عامة وخاصة؛ حين عرَّفوا الرحمة العامة : (بأنها التي تشمل سائر الخلائق ويدخل تحتها رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان)، وعرَّفوا الرحمة الخاصة: (بأنها الرحمة الخاصة بأمته صلى الله عليه وسلم).


إنَّ ماقصدتُ إليه من هذه المفاهيم هو من حيث قرب علاقة صاحب الحدث بالرسول صلى الله عليه وسلم “القلبية”، و”المكانية” حيث مكان الحدث؛ فحديث عمر كان في الحج ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الأمة فالعمومية هنا متوفرةٌ جدًا، أما في موقف الصديق فكان الخطاب في مسجد الرسول والحُضُور من المسلمين ـ بداهةًـ أقل، فالخصوصية متوفرةٌ جدًا، أمَّا من حيث العلاقة القلبية فعامة المسلمين عامتهم قبل خاصتهم يعلمون موقع أبا بكر من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والأحاديث في هذا الباب كثيرة نورد منها، ما يلى:


عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’لاتؤذوني في صاحبي، فإن الله عز وجل بعثني بالهدى ودين الحق فقلتم:‏ كذبت، وقال أبو بكر‏:‏ صدقت، ولو أن الله سماه صاحبًا لاتخذته صاحبا ولاتخذته خليلًا ولكن أخوة لله، ألا‏!‏ فسدوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة’’‏.‏


عن أبي الدرداء‏، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، أَتَمْشِي أَمَامَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ مَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَلا غَرَبَتْ، عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ’’.‏


عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: ’’أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي’’، وفِي حَدِيثِ التَّمِيمِيِّ: ’’فَأَرَانِي الْبَابَ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ’’، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ودِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ’’أَمَّا إِنَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي’’.
وحتى لا نغمط الفاروق حقه ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نورد الحديث الذي رواه الخليفة الرابع علي رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ’’أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَا خَلَا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ’’[حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد وغيره ، للاستزادة: انظر: الغرر في فضائل عمر للسيوطى].



ومع الفاروق عمر رضي الله عنه تنتهي به حلقتنا به كما بدأناها معه، لنبدأ الإبحار غدًا من جديد، في سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم ونستزيد.. فحتى ألقاكم على خير إن شاء الله..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق