الاثنين، 24 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة الحلقة (21):






في هذه الحلقة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نواصل موضوعنا: “بوادر رحيـــل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العامة والخاصة”:

أوصت السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهاـ زوجها علي بن أبي طالب بثلاث وصايا قبيل وفاتها، فقالت:” يا بن عم، إنه قد نُعيتُ إلي نفسي، وإنني لا أرى حالي إلا لاحقةً بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي، فقال رضي الله عنه: أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، فقالت رضي الله عنها: يا بن العم ما عهدتني كاذبة ولا خائفة، ولا خالفتك منذ عاشرتني، فقال رضي الله عنه: معاذ الله ! أنت أعلم بالله تعالى، وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفًا من الله تعالى، وقد عَزَّ عليَّ مفارقتك وفقدك إلا أنه أمرٌ لابد منه، والله لقد جدَّدتِ عليَّ مصيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل فقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون… ثم أوصته رضى الله عنها بثلاث :

أولا: أن يتزوج بأمامة بنت العاص بن الربيع، وبنت أختها زينب رضي الله عنها، وفي اختيارها لأمامة رضي الله عنها قالت:(أنها تكون لولدي مثلي في حنوتي ورؤومتي). وأمامة هي التي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحملها في الصلاة.

ثانيا: أن يتخذ لها نعشًا وصفته له، وكانت التي أشارت عليها بهذا النعش أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وذلك لشدة حياءها رضي الله عنها فقد استقبحت أن تحمل على الآلة الخشبية ويطرح عيها الثوب فيصفها، ووصفه أن يأتى بسرير ثم بجرائد تشد على قوائمه، ثم يغطى بثوب.

ثالثا :أن تدفن ليلًا بالبقيع.

وقد روى الإمام أحمد كيفية وفاتها في حديثٍ ضَعفه أهل العلم عن أم رافع قالت: “اشتكت فاطمة شكواها الذي قبضت فيه، فكنت أمرضها فأصبحت يومًا كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وخرج علي لبعض حاجته، فقالت: يا أمه اسكبي غسلا فسكبت لها غسلا، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغتسل، ثم قالت: يا أمة اعطني ثيابي الجديدة فأعطيتها فلبستها، ثم قالت: يا أمه قدمي لي فراشي وسط البيت ففعلت واضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها، ثم قالت: “يا أمة إني مقبوضة الآن… وقد تطهرتُ فلا يكشفني أحد فقبضتْ مكانها، قالت: فجاء علي فأخبرته”.

وكذا روى ابن سعد في الطبقات: “أنها غسَّلت نفسها قبل أن تموت، ووصَّت أن لا يغسَّلها أحد لئلا ينكشف جسدها، وأن عليًا دفنها دون غُسل، قال الذهبي عن هذا الكلام في السير: “هذا منكر”.

قال الزيلعي في نصب الراية”: واعلم أن الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وفي العلل المتناهية… وقال: “هذا حديثٌ لا يصح”.

وضعفه ابن حزم في المحلي وقال ابن كثير: “غريب جدًا”…. أما ابن الأثير فقال في أسد الغابة: “والصحيح أن عليًا وأسماء غسًّلاها.”

وقد روى الشافعي والدار قطني وأبو نعيم والبيهقي وحسنه ابن حجر والشوكاني، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسَّلها علي رضي الله عنه. قال الشوكاني: “ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على علي وأسماء، فكان إجماعًا. 

وأمَّا إنكار ابن مسعود فلا يصح، وعلى هذا جمهور أهل العلم. وذهب الحنفية في الأصح وأحمد في رواية إلى عدم جواز ذلك لانقطاع الزوجية، والأول أصح، لأن الصحابة أفهم لدين الله عز وجل من غيرهم، وهذا الأثر الذي فيه وصية فاطمة يبطل ما قبله، فتعين الأخذ به”.

ولقد روى الإمام الذهبي قصة وفاتها في السير عن أم جعفر” أن فاطمة قالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يُصنع بالنساء، يُطرح على المرأة الثوب فيصفها، قالت: يا ابنة رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنَتْها، ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة ما أحسن هذا وأجمله، إذا متُ فغسليني أنتِ وعليّ، ولا يدخلن أحد عليً”… فكانت رضى الله عنها هي أول من غُطى نعشها في الإسلام على تلك الصفة كما قال ابن عبد البر، وأما أمرها أن لا يصلي عليها أبوبكر وعمر رضي الله عنهما ولا أن يتوليا دفنها، فهذا محض كذب وافتراء.

وهكذا فقد توفيت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشية الهاشمية أم الحسنين رضي الله عنها وأرضاها بعد وفاة أبيها بستة أشهر في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة فدُفنَت ليلاً كما أوصت بعد أن صلى عليها علي بن أبى طالب ونزل في قبرها ومعه العباس والفضل بن العباس رضى الله عنهم أجمعين، قال ابن الأثير في أسد الغابة: “هذا أصح ما قيل”. وقال الذهبي في السير:” وعاشت أربعًا أو خمسًا وعشرين سنة”، وأكثر ما قيل: أنها عاشت تسعًا وعشرين سنة، والأول أصح.

والحق يشهد والواقع يقول بأن زهراء بيت النبوة رضى الله عنها لم تكن الوحيدة التي تمنت اللحاق بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل وحُب الدفن بدياره والموت بجواره، فالدلائل تترى تحكي قصة الشوق للأنس بلقاءه هناك حيث الجنة وحسن المآب من أصحابه صلى الله عليه وسلم:

فعن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: “أي يوم هذا؟، قالوا: يوم الاثنين، قال: فإن متُ من ليلتي فلا تنتظروا بي الغد فإن أحب الأيام والليالي إليّ أقربها من رسول الله صلى الله عليه و سلم”[ رواه أحمد و صححه أحمد شاكر].

قال سعيد بن عبد العزيز :”عندما احتضر بلال رضي الله عنه قالت امرأته : واحزناه، فقال: بل واطرباه غدًا نلقىَ الأحبة محمدًا وصحبه”.

وعن الوليد بن مسلم، عن عبدة بنت خالدبن معدان، قالت : “قلما كان خالد يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقَهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار ثم يسميهم ويقول: هم أصْلي وفصْلي، وإليهم يحنُّ قلبي، طال شوقي إليهم، فعجِّلْ ربِّ قِّبضي إليك. حتى يغلبه النوم وهو في بعض ذلك” [روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق 10/475 وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 1 / 359].

عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِت ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ :”بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي : ’’إِنْ رَأَيْتَهُ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟’’، قَالَ : فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ ، وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً : مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ، وَيَقُولُ لَكَ:أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟، قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِيَ الأَنْصَارِ: لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَفِيكُمْ شُفْرٌ يَطْرِفُ، قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ”[ سير أعلام النبلاء: 4/539، الحلية: 5/210، الشفا: 2/21].

روى البخاري عن عمرو بن ميمون أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: “يا عبد الله ابن عمر، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقل: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لستُ اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمربن الخطاب أن يُدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها فوجدها قاعدةً تبكي حزنًا على أمير المؤمنين رضي الله عنه، فقال: يقرأُ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني، فأسنده رجلٌ إليه، فقال: ما لديك، قال: الذي تحبُ يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمَ إليَّ من ذلك. فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم، فقل: يستأذنُ عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين”.

رحم الله السيدة فاطمة الزهراء التي تنتهي بوفاتها سلسلة حلقات “بودار الرحيل بين العامة والخاصة”، لنبدأ الإبحار غدًا مع موضوعٍ جديد من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.. فحتى ألقاكم على خير إن شاء الله..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق