الاثنين، 24 يوليو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة – الحلقة (22):




في هذه الحلقة من دراسات يسيرة في رحاب السيرة نبدأ موضوعًا جديدأ حول “الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وهو موضوع سيجد فيه شعراء ذي المجاز فرصة كبيرة للتعرف على بعض مراثي الصحابة رضوان الله عليهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحق يشهد والواقع يقول أن فاطمة لم تكن الوحيدة التي حزنت على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم تكن وحدها التي رثته بشعرها المعبر عن فاجعتها فيه، فقد رَثته عماته صلى الله عليه وسلم صفية وعاتكة وأروىَ، فأما من شارك في رثائه صلى الله عليه وسلم فيما أمكن الوصول إليه ـ ثلاثون شاعرًا، ثلاثة عشر من قريش بينهم ثماني نساء، وخمسة من الأنصار، واثنا عشر من سائر القبائل العربية الأخرى. وذلك بحسب احصاء الدكتور محمد أبو المجد على [مراثى النبى صلى الله عليه وسلم ص 52].
وقد وقف شعراء كثيرون أمام قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مثلما وقفت ابنته فاطمة رضي الله عنهم ـومن لم يقف منهم تمنى الوقوف وأرسل أمنيته فى قصيدته سواء من المتقدمين أو المتأخرين، فهذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمسًا لفاطمة العذر فى وقوفها على قبر أبيها وبكائها الثخين عليه فيخاطبها، قائلاً:
أفاطم إن جزعت فذاك عذر وإن لم تجزعي فهوالسبيـل
فعودى بالعزاء فإن فيـــــه ثواب الله والفضلُ الجزيلُ
وقولى فى أبيـــك ولاتملى وهل يجزى بفعل أبيك قيلُ
فقبر أبيك سيـد كـل قبـر وفيه سيد النـــاس الرســـول

أما شاعر الرسول حسان بن ثابت فيقول في مرثيته الطويلة مخاطبًا القبرالشريف:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبــــــا عليـــه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعيـــــن عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة عشية علوه الثرى لا يوسد

كما قال أبو العتاهية راثيًا الرسول صلى الله عليه وسلم:
سلامٌ على قبر النبى محمدٍ نبى الهدى والمصطفى والمؤيدِ
نبيٌ هدانــا اللهُ بعدَ ضلالةٍ به لم نكن لولا هــــــداهُ لنهتدى
فكان رسولُ اللهِ مِفتاحَ رحمةٍ من اللهِ أهداها لكل موحدِ
وكان رسولُ اللهِ أفضل من مشى على الأرض إلا أنه لم يٌخلَدِ
شهدتُ على أن لانبوةَ بعدهُ وأن ليس حىٌ بعده بمخلدِ

يعلق الدكتور محمود علي مكي في كتابه “المدائح النبوية” على مرثية أبى العتاهية، فيقول :
(ولأبي العتاهية مراثٍ للرسول صلى الله عليه وسلم، تبدو لنا شيئاً فريدًا في عصره، ولرثاء الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مضي نحو قرنين من الزمان على وفاته دلالة خاصة، لأننا نرى الشاعر فيها يستحضر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كما لو كان قد مات لتوه، ونحسُ في هذه المراثى حبًا وإخلاصًا بعيدين عن التكلف).

كما يهفو لقبر الرسول فى عصرنا قلب الشاعر الطبيب حسن إبراهيم فيقول وهو يقف أمام القبر الشريف على صاحبه الصلاة والسلام، من ديوانه: “محمد رسول الله”:
مشيتُ وفي قلبى وجيبٍ ورهبة ٍ إلى خير قبرٍ ضمَ خيرَ رُفاتِ
وهادىَّ حبي محو مثوى محمدٍ عليه لعمري أطيب الصلواتِ

تعلقت قلوب المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره فأحبوا زيارته وسعوا لها ومن لم يسعه السعى أطلق الزفرات المشتاقة الحارة أبيات شعرية أرسلها مع نسمات الأيام العطرات في ذكرى وفاته ومولده ومع من شرَّفه الله بالحج والعمرة وزيارة مسجد ساكن القبر الشريف صلى الله عليه وسلم تحمل التحيات المعطرات بشوق المثول مثلما حمل الدكتور عائض القرني صديقه هذه التحية:
أريج الصبا هل جئت من منبع الرند لعل الشذا يسليك من وحشة البعد
إذا غردت في القاع يوماً حمامة أثارت شجوني فالدموع على الخد
وما ذاك من ذكر الأحبة والهوى ولكنه في القلب أسمى من الوجد
فحي القبور الماثلات تحية وضع قبلة ياصاح منك على اللحد
على خير من مس الثرى بعبيره وأكرم ميت في الورى لف في برد
أبي قاسم كم شيد الله ذكره نبي وما فوق النبوة من مجد
تحية من قد أشغف الحب قلبه وخير سلام من سميع الدعا أهدي
عليه صلاة الله ما أزهر الضحى ولم يعتلق من حب هند ولا دعد

إن من يطالع القصائد الحارة فى مراثي النبي صلى الله عليه وسلم من كافة المسلمين على اختلاف عصورهم ومشاربهم، سيتكشف له أن قصائد الشيعة غالبًا ما يكون مفتتحها مدح أو رثاء الرسول بينما غايتها الكامنة هى مديح أو رثاء آل البيت والمعصومين من أئمتهم، يشهد بهذا الدكتور محمود على مكي حيث يقول: (على أن ما نلاحظه على شعر السيد الحميري، وغيره من شعراء الشيعة، أن تناولهم لجوانب من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مقصودًا لذاته، بل هو موظَّفٌ لخدمة عقائدهم في آل البيت، فهو مجرد منطلق لهم لكي يبسطوا قضيتهم وحججهم لأحقية أئمة آل البيت في الخلافة).
ذلك في الوقت الذي يتجرد فيه أهل السنة من هذا النزق؛ فمبتدأ رثائهم ومدحهم وخاتمته هو خالص محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن بدت قصائدهم ـ للوهلة الأولى ـ أقل لوعة وحرقة واشتياقًا لأنها تقوم على العقل أو ما يسمى الرشدنة، بينما يفتقد الصوفية هذا الرشد فتبدو قصائدهم أكثر حرارة وموجدة لأن محبتهم دعائمها العاطفة المحمومة غير الرشيدة التي تستمد سخونتها من الأحاديث الضعيفة والموضوعات والقصص الموضوعة المدسوسة على سيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلا يستطيع منصف إلا أن يشهد بأن المتصوفة خالفوا الشيعة من حيث كون مدحهم للرسول صلى الله عليه وسلم ومراثيهم فيه إنما غايته حب الرسول ذاته دون أن يخلطوا به حبهم لمشايخهم وأقطابهم وأبدالهم، وهي نظرة تتفق مع أهل السنة حينًا ثم لاتلبث أن تفارقها حين تتبنى مفهوم أزلية الوجود المحمدي وأن هذا الوجود أول شيء خلقه الله وأن كل موجود يستمد منه، فهو مبدأ الوجود والحياة وأن نوره تجسم في صورة آدم وصور الأنبياء من بعده. وهو يتجسم بعد الرسول في صور الأولياء من أقطاب الصوفية الذين يصلون منه إلى مرحلة الذوبان بما يسمى بالفناء الكلي في الذات العلية، لتجد أنهم ما كادوا يلامسون أهل السنة حتى يميلوا كل الميل تجاه الشيعة فيتجاوز ـ كما قلنا سابقًا ـــ حبهم لمشايخهم وأقطابهم حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا عندهم أصل الأصول للقربى والوصول فيسبحوا بعيدًا بعيدًا عن مرفأ النهج النبوي القويم وإن ظنوا المثول.
يقول الدكتور شوقى ضيف في كتابه “فصول فى الشعر ونقده”: (وكان وراء هذه البيئة الصوفية والبيئة الشيعية السالفة بيئة أهل السنة، لكنها لم تبنِ هذا الإجلال على أفكار المتصوفة والشيعة وماذهبا إليه من قِدَّم النور المحمدي أو من قِدَّم الوجود المحمدي ولم تبنه أيضًا على أنه صورة الذات الإلهية وكل وجود مستعارٌ منه، وإنما بنته على قدسيته وأنه مَثَلٌ أعلى فى الحياتين الدينية والخُلُقية، ومن أجل ذلك تعلقت بلألائه قلوب أهل السنة، ولهجوا بمديحه والثناء عليه بقصائد رنانة أكثروا فيها من الاستغاثة به. وكانوا إذا حجُّوا أو أدَّوا فريضة الحج زاروا قبره الطاهر في ذهابهم أو في إيابهم خاشعين متبتلين).
غدًا مع موضوعٍ جديد نلتقي على خير حول سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم.. فحتى ألقاكم دمتم في أمان الله، وبلغنا الله وإياكم ليلة القدر..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق