الخميس، 13 ديسمبر 2012

لماذا بكت فاطمة؟! - سيرة - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة

لماذا بكت فاطمة؟! - سيرة - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة


أسرَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى وحيدته فاطمة - رضي الله عنها - خبر انتقاله إلى الرفيق الأعلى صراحةً ومشافهةً دون غيرها، ثم أَسرَّ إليها ثانية بعد حُزنها على سماع خبر فِراقه، بأنها ستكون أول أهله لحوقًا به، فَسُرَّتْ بذلك؛ حيث قالت: فلمَّا رأى جزَعي، سارَّني الثانية، فقال: ((يا فاطمة، أما ترَضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين, أو سيدة نساء هذه الأمة؟))[1]، وفي رواية: "فأخبَرني أني أوَّل مَن يتبعه من أهله، فضحِكت"[2].

إذًا فخبرُ وفاته - صلى الله عليه وسلم - كان معلومًا لفاطمة ابنته؛ أي: إنها كانت مهيَّأة تمامًا من الناحية النفسية والزمنية، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا فعَلت ما فعلت بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وعانت ما عانت من ألَم الفاجعة وشدة المصيبة، وعِظَم النازلة بفَقْده، حتى قالت عندما جاءها نبأُ وفاته: "يا أبتاه، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأْواه، يا أبتاه، إلى جبريلَ ننعاه؟!".

وحين قالت لأَنسٍ بعد دفْن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنس، أطابَت أنفسكم أن تَحثُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التراب؟!".

وعندما أخذت تَرثي أباها - فيما نُسِب إليها - قائلة:
اغْبَرَّ آفاقُ السماءِ فَكُوِّرتْ 
شمسُ النهار وأظْلَم العَصرانِ 
الأرضُ من بعد النبيِّ كئيبةٌ 
أسَفًا عليه، كثيرةُ الرَّجَفانِ 
فليَبكِه شرقُ العباد وغربُها 
وليَبْكِه مُضَرٌ وكُلُّ يَماني 
وليَبكه الطَّودُ المعظَّمُ جَوُّهُ 
والبيتُ ذو الأستار والأرْكانِ 
يا خاتَمَ الرُّسل المُبارَك ضَوءُه 
صلَّى عليك مُنَزِّلُ القرآنِ 

والجواب لا يَتبادر إلى الذهن كما فعَل السؤال، بل ينفجر من القلب يقينًا بلا ارتيابٍ، تَعلوه دهشة السؤال، فيُباغتنا بسؤال بلا افتعالٍ: كيف لفاطمة - رضي الله عنها - ألا تَفعل ما فعَلت حتى لو علِمت بأنها ستَلحق بأبيها بعد دقائق معدودات، ولكن الأهم عندها أنه سيموت قبلها ولو بدقيقة.

إن علاقة فاطمة بأبيها علاقة خاصة، ومن حق المتعجِّب أن يتعجَّب؛ لأنه يَجهلها، وإذا علِمها دون أن يتعمَّقها ويُعايشها، ويتعايش معها - فما أحسَّها ولا علِمها، ما دام لم يُعاين وقائعها وأحداثها منذ ولادة فاطمة، ومعاصرتها أحداث الدعوة، وفِراق الأحبَّة من الأهل، ثم هجرة أبيها إلى المدينة، وبقاءها في مكة حتى استدعاها إليه وأُختها معها.

ففاطمة أصغر بنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ كانت زينب الأولى، ثم رُقيَّة الثانية، ثم أم كلثوم الثالثة، ثم الزهراء الرابعة، وهي أطول إخوتها صُحبةً لأبيها - صلى الله عليه وسلم - إذ لم تَتركه منذ ميلادها حين كانت قريش تبني بيتها؛ أي: قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخمس سنين، وعُمره - صلى الله عليه وسلم - آنذاك خمس وثلاثون سنة، ولطول صُحبتها مَزيَّة لها، كما أن لها ضَريبتها القاسية التي دفَعتها من سنوات عمرها وشبابها وصحتها، فقد كانت بحقٍّ سيدة الصابرين التي تجرَّعت كؤوس الأحزان مُترعات كأسًا كأسًا، فقد مات أخواها القاسم وعبدالله، ثم ماتت أُمها، ثم تتابَعت الأحزان بوفاة أُختَيها رقية يوم بدر في العام الثاني من الهجرة، وأم كلثوم في السنة التاسعة من الهجرة، وآخِرُ مَن شيَّعت إبراهيمُ أصغر إخوتها من السيدة مارِية، ثم عاشَت لتَشهد رحيل أعز وأعظم الناس قاطبةً، الأب الحاني والبقية الباقية لها بعد موت الأم والإخوة والأخوَات، فزهِدت الابتسام ولقاءَ الناس بعده؛ إذ ليس بعده عندها إلا أن يَحين دورها في الرحيل؛ لتَلحق به - صلى الله عليه وسلم - فكانت بحقٍّ "أُم أبيها"، تلك الكُنية الفذة التي فازت بها دون بنات جنسها على الإطلاق؛ وذلك لكونها عاشت مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - بعد موت والدتها، ترعى أموره وتشدُّ أَزْره، كما كانت قريبةً منه أشدَّ القُرب في معظم أوقات حياته، فلم تَغِب عن بصره - ربما - إلا ساعات خروجه من الدار، فقد كانت - رضي الله عنها - شديدةَ التعلق والاهتمام به حتى بعد زواجها، كما كانت تحدِّثه بما يُسلِّي خاطرَه، ويُدخل الفرحة على قلبه، برغم ما كانت تُعانيه وتتحمَّله بثبات أهل الإيمان العميق.

إنها فاطمة التي قلما فارَقت أباها، فمنذ طفولتها والدعوة ما زالت في بواكيرها، كانت تخرج معه - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرم، وذات مرة بينما كان ساجدًا، إذ أحاط به أُناس من مشركي قريش، وجاء عُقبة بن أبي مُعيط بسَلى جَزور، وقذَفه على ظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، حتى تقدَّمت هي، فأخَذت السَّلى، ودَعت على من صنَع ذلك بأبيها، وعندئذ رفع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - رأسه وقال: ((اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بأبي جهل، وعُتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعقبة بن أبي مُعيط، وأُبَي بن خلف)).

فخشَع المشركون لدعائه، وغضُّوا أبصارهم حتى انتهى من صلاته، وانصرَف إلى بيته تَصحبه ابنته فاطمة، وما هي إلا أعوام قليلة وترى فاطمة - رضي الله عنها - هؤلاء الملأ قتْلى في بدر.

فاطمة الزهراء سيدتنا - سيدة هذه الأمة - أو سيدة نساء العالمين، ابنة رسول الله وحبيبته، التي أقسم - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه حِبُّه وحبيبه وابنُ حبيبه أسامة بن زيد مستشفعًا للمرأة المخزومية السارقة؛ كيلا يُقيمَ عليها حَدَّ السرقة، فغضِب - صلى الله عليه وسلم - من أسامة، ثم جمع الناس، فخطَب فيهم، فقال: ((أيها الناسُ، إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريفُ ترَكوه، وإذا سرَق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللهِ، لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرَقَتْ، لقطعتُ يدَها))[3].

والشاهد من العظمة قد لا يَلحظه أحدنا على اعتبار أنها - أي: فاطمة - لن تَسرق، ولكن يجب أن تَعلم أن الخطاب كان على الملأ، ويجب علينا أن نَثِق تمام الثقة أن فاطمة لو فعلتها لأبرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَسَمه.

وكانت فاطمة - رضي الله عنها - هناك لَمَّا خرَج - صلى الله عليه وسلم - يومًا إلى قريش، وقد نزَل قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، فجعل ينادي: ((يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتَروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبدمناف، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبدالمطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفيةُ عمَّةَ رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا)).

ثم اختصَّ فاطمة من أولاده فخاطَبها : ((ويا فاطمة بنت محمد، سَليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا))[4].

تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن تعليقًا على هذا الموقف: "وخفَق قلب فاطمة حنانًا وتأثُّرًا، فهمَست تقول: لبَّيك يا أحبَّ والدٍ وأكرم داعٍ، فقد كانت - رضي الله عنها - حتى الرَّمق الأخير من حياتها، لا تَمَل من تلبيته وطاعته - صلى الله عليه وسلم".

وهل غابت فاطمة عن أبويها في شِعب أبي طالب؟!
حيث عاشت هناك في حصار أجْهدها سنوات عديدة، كما أنهك أُمَّها السيدة خديجة، ثم عادت من الحصار إلى مكة لتَشهد موت أُمها - رضي الله عنها - ثم هاجر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يثرب، وبَقِيت فاطمة مع أُختها أم كلثوم في مكة، حتى جاءها من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - مَن يَصحبها إلى المدينة المنورة.

كما خرَجت السيدة فاطمة - رضي الله عنها - لمُداواة الجرحى وسِقايتهم مع نساء المسلمين يوم أُحد، ولَمَّا رأَت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد انكسَرت رَباعيته وسال الدم على وجهه الشريف، جرَت عليه واعتنَقته، وأخذَت تمسح الدم من على وجهه الشريف، ولَمَّا وجَدته لا يتوقَّف، حرَقت حصيرًا ومنَعت به الدمَ، فامتنع، وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اشتَدَّ غضبُ الله على قومٍ دَمَّوْا وجْه رسول الله، وهَشَموا عليه البيضة، وكسَروا رَباعِيَته))، ثم مكَث ساعة، ثم قال: ((اللهم اغفِر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))[5].

إنها الشبيهة الحبيبة، والتي شاءت إرادة الله - تعالى - أن يُمَدَّ في عُمرها - رضي الله عنها وأرضاها - ليكون منها - دون إخوتها - النسل المتَّصل برسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهي من أعظم المناسبات التي أدخَلت فيها الزهراء الفرحة على أبيها - صلى الله عليه وسلم - حين كان ينادي الحسن والحسين: ((يا بُني))، وكانا يَدعوانه: يا أبتِ.

ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يَنهض إذا دخَلت عليه، ويقوم بتقبيل رأسها ويدها، كما روَت عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمتًا وهَدْيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فاطمة، كانت إذا دخَلت عليه قام إليها، فأخذ بيدها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكانت إذا دخل عليها قامت إليه، وأخَذت بيده وقبَّلته وأجلَسته في مجلسها[6].

وكان لا ينام حتى يُقبِّل عُرْض وجهها، وبين عَينيها، وكان يقول لها: ((فداك أبوك، كما كنتُ فكوني))[7]، حتى إنه كلما قدِم من سفرٍ بدأ بالمسجد، فيصلِّي ركعتين، ثم يذهب لفاطمة، ثم يأتي بيوت أزواجه.

كما أنها لم تَتركه في أوقات مرضه الأخير في بيت السيدة عائشة وحتى وفاته - صلى الله عليه وسلم - ورَضِي الله عنها وأرضاها؛ ولهذا لم يُطِق - صلى الله عليه وسلم - بُعْدَها عنه، وكذلك لم تتحمَّل فاطمة بُعْدَه عنها، وذلك في أول أيام زواجها من عليٍّ حين أسكَنها بيت أُمه، وكانت دارها بعيدة عن بيت النبوة؛ كما جاء في رواية ابن سعد في "الطبقات" عن أبي جعفر، لَمَّا قدم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وتزوَّج عليٌّ فاطمة، وأراد أن يبنيَ بها، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اطلُبْ منزلاً))، فطلب عليٌّ منزلاً، فأصابه مستأخِرًا عن النبيِّ قليلاً، فبنى بها فيه، فجاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليها قال: ((إني أريد أن أُحوِّلك إليَّ))، فقالت لرسول الله: "فكلِّم حارثة بن النعمان أن يتحوَّل - ينتقل من منزله - وأكون إلى جوارك"، وكان حارثة كلما تزوَّج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحوَّل له حارثة عن منزل بعد منزلٍ، حتى صارت منازل حارثة كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها: ((يا بُنيَّة، قد تحوَّل حارثة عنا حتى استَحْيَيتُمما يتحوَّل لنا عن منازله))، فبلغ ذلك حارثة، فتحوَّل وجاء إلى النبي، فقال: يا رسول الله، إنه بلَغني أنك تريد أن تُحوِّل فاطمة إليك، وهذه منازلي، وهي أسقبُ - أقرب - بيوت بني النجار بك، وإنما أنا ومالي لله ولرسوله، والله يا رسول، لَلَّذي تأخذه مني أحبُّ إليَّ من الذي تدَع،فقال له الرسول: ((صدَقت، بارَك الله عليك))، فحوَّلها رسول الله إلى بيت حارثة.

ذكَر ابن حجر في "الإصابة" عن عبدالرزاق عن ابن جُريج، قال: كانت فاطمة أصغر بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحبَّهنَّ إليه، وسُئِلت عائشة - رضي الله عنها - كما روى الترمذي في سننه بسند حسَّنه: أيُّ الناس كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة، قيل: فمِن الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان كما علِمت صوَّامًا قوَّامًا[8].

هكذا كانت - رضي الله عنها - في كل المواقف معه دائمًا - صلى الله عليه وسلم - الابنة الحبيبة الرفيقة الشفيقة المواسية، وكيف لا تكون وهي فرع الحنان المُتدلي من شجرة الحنان الكثيفة الوارفة، التي أظلَّت المسلمين ورسولَ الإسلام بحُنوِّها وعطفها، ومالها وجهادها، حتى صار لها في عُنق كل مسلم دَينٌ حتى قيام الساعة؟!

إنها فاطمة ابنة خديجة - رضي الله عنهما - وعن كل أُمَّهات المؤمنين.

ولئن تَعجَّبنا كيف أن الابنة لم يُروِّعها النبأ، بل سُرَّت به، فيما يمكن أن نُسمي علاقة البنوة بالأبوَّة المتشابكة بين الزهراء وأبيها، بأنها معجزة تُضاف لسيد الخَلق حين نجَح في أن يُهذِّب ويؤدِّب ابنته إلى هذا الحد الفائق من الطاعة، حين لم تَرُد عليه مقالته، بل وجعَلت نَعيها بِشارة، فلم تغتمَّ ولكن سُرَّت؛ ليس زهدًا في الحياة ولكن فرَحًا بالمرافقة والمجاورة لأبيها في رحلته الأخيرة عن الدنيا.

كما لم يكن هذا أنانِية منها بترْك زوجها وصغارها، فقد أوصت بهم لمن بعدها، وغالبًا ما كانت تعرف من نبوءَات أبيها بأن ولديها لن يُعمّرا طويلاً، وكان من رحمة والدها بها - ربما - ألاَّ يُذيقها نار فِراقهما في حياتها، كما تجرَّعها هو - صلى الله عليه وسلم - في أولاده وإخوتها، وآخرهم إبراهيم آخر أبنائه من السيدة مارية - رضي الله عنهم - جميعًا، فكم هو مؤلِمٌ على النفس والقلب فِراقُ الأولاد في حياة والديهم.

أما ما ينفي الأنانية عن السيدة فاطمة بفرَحها لمغادرة الدنيا التي فيها الزوج والأولاد، هو حديثها مع زوجها علي أحبِّ الناس إلى قلبها بعد والدَيها الكريمين؛ حيث رأت أن تُوصيه، وتقبَّل منها وصاياها ونفَّذها بعد موتها وفاءً لها؛ لأنه كان يعلم أن أمْر وفاتها وحياتها ليس في يد أبيها، وإن كان رسولاً، بل يقف موتها عند حد التبليغ من الرسول الكريم لابنته، وغالبًا ما أوجَعه، وما كان ليَبوحَ لها به، إلا لَمَّا رأها تأذَّت وبكت حين سارَّها برحيله، كما أنها تعلم كما يعلم زوجُها الذي نبَّأه الرسول سابقًا بأنه شهيد - أنهما لم يُجرِّبا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا هما ولا عامة المسلمين، وما دام قد قال، فقد صدَق، وما عليهما إلا التسليم بقضاء الله، وهذا ما فعلاه، ونستشفُّ هذا من الحوار الرقيق الدقيق الأخير عن الرحيل الأكيد، فتجد الكلام في موضعه، فهي توصي بحقٍّ لا لتَستشف تعلُّق زوجها بها، وحزنه عليها من عدمه، كما أنه لن يُجاملها أو يخفِّف عنها بأنها ستتعافَى وسيشدُّ الله أزْرها، ويمدُّ في عمرها مُواساةً منه، فإن عليًّا يعلم أنه لو فعَل هذا، فإنما يرد كلام رسول الله ويُكَذِّبه، وحاشاه أن يفعل؛ ولهذا تعامَل مع الموقف تعامُل الرجل الحكيم المُسَلِّم بقضاء الله وقدره.

أوصَت الزهراء - رضي الله عنها - زوجها علي بن أبي طالب بثلاث وصايا، فقالت: يا ابن عم، إنه قد نُعيت إليَّ نفسي، وإنني لا أرى حالي إلا لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أُوصيك بأشياءَ في قلبي، فقال - رضي الله عنه -: أوصِيني بما أحبَبت يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عند رأسها، وأخرَج مَن كان في البيت، فقالت - رضي الله عنها -: يا ابن العم، ما عهِدتني كاذبة ولا خائفة، ولا خالَفتك منذ عاشَرتني، فقال - رضي الله عنه -: معاذ الله، أنت أعلم بالله تعالى، وأبرُّ وأتقى، وأكرم وأشد خوفًا من الله تعالى، وقد عزَّ علي مُفارقتك وفقْدك، إلا أنه أمرٌ لا بد منه، والله لقد جدَّدتِ عليّ مصيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجَلَّ فقْدُك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أوصَته - رضي الله عنها - بثلاث:
أولاًأن يتزوَّج بأُمامة بنت العاص بن الربيع، وبنت أُختها زينب - رضي الله عنها - وكان اختيارها لأُمامة - رضي الله عنها - يقوم على أسباب وجيهة، بيَّنتها قائلة: إنها تكون لولدي مثلي، في حُنوتي ورَؤومَتي، أما أُمامة، فهي التي رَوَوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يَحملها في الصلاة.

ثانيًاأن يتَّخذ لها نعشًا وصفَته له، وكانت التي أشارت عليها بهذا النعش أسماء بنت عُميس - رضي الله عنها - وذلك لشدة حيائها - رضي الله عنها - فقد استقبَحت أن تُحمل على الآلة الخشبية، ويُطرَح عليها الثوب، فيَصِفها، ووصْفُه أن يأتي بسَريرٍ، ثم بجرائد تُشَد على قوائمه، ثم يُغطَّى بثوبٍ.

ثالثًا: أن تُدفَن ليلاً بالبقيع.

وقد روى الإمام أحمد كيفيَّة وفاتها في حديث ضعَّفه أهل العلم عن أمِّ رافع، قالت: اشتكَت فاطمة شكواها الذي قُبِضت فيها، فكنت أُمَرِّضها، فأصبَحت يومًا كأمثل ما رأيتُها في شكواها تلك، قالت: وخرَج عليٌّ لبعض حاجته، فقالت: يا أُمَّه، اسكُبي غُسلاً، فسكبتُ لها غُسلاً، فاغتسَلت كأحسن ما رأيتُها تَغتسل، ثم قالت: يا أُمَّه، أعطيني ثيابي الجديدة، فأعطيتُها، فلَبِستها، ثم قالت: يا أُمَّه، قدِّمي لي فراشي وسط البيت، ففعَلت، واضطجَعت واستقبَلت القِبلة، وجعلت يدها تحت خدِّها، ثم قالت: يا أُمَّه، إني مقبوضة الآن، وقد تطهَّرت، فلا يَكشفني أحد، فقُبِضت مكانها، قالت: فجاء عليٌّ، فأخبَرته.

وكذا روى ابن سعد في الطبقات أنها غسَّلت نفسها قبل أن تموت، ووصَّت ألا يُغسِّلها أحد؛ لئلا يَنكشف جسدها، وأن عليًّا دفَنها دون غُسلٍ؛ قال الذهبي عن هذا الكلام في السِّيَر: "هذا مُنكر".

قال الزيلعي في "نصب الراية": "واعلَم أن الحديث ذكَره ابن الجوزي في الموضوعات، وفي "العلل المتناهية"، وقال: "هذا حديث لا يَصِح".

وضعَّفه ابن حزم في "المحلَّى"، وقال ابن كثير: غريب جدًّا، أما ابن الأثير فقال في "أُسد الغابة": "والصحيح أن عليًّا وأسماء غسَّلاها".

وقد روى الشافعي والدارقطني، وأبو نُعيم والبيهقي، وحسَّنه ابن حجر والشوكاني، عن أسماء بنت عُميس - رضي الله عنها - أن فاطمة - رضي الله عنها - أوصَت أن يُغسِّلها علي - رضي الله عنه، قال الشوكاني: ولَم يقع من سائر الصحابة إنكارٌ على عليٍّ وأسماء، فكان إجماعًا، وأمَّا إنكار ابن مسعود فلا يَصِح، وعلى هذا جمهورُ أهل العلم، وذهب الحنفية في الأصح وأحمد في رواية إلى عدم جواز ذلك؛ لانقطاع الزوجيَّة، والأول أصحُّ؛ لأن الصحابة أفهمُ لدين الله - عز وجل - من غيرهم، وهذا الأثر الذي فيه وصيَّة فاطمة يُبطل ما قبله، فتعيَّن الأخذُ به، ولقد روى الإمام الذهبي قصة وفاتها في السِّيَر عن أم جعفر أن فاطمة قالت لأسماء بنت عميس: إني أستقبح ما يُصنَع بالنساء، يُطرح على المرأة الثوب، فيَصفها، قالت: يا ابنة رسول الله، ألا أُريك شيئًا رأيتُه بالحبشة؟ فدعَت بجرائد رَطبة، فحنَتْها، ثم طرَحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجملَه، إذا مِتُّ فغسِّليني أنت وعليٌّ، ولا يَدخُلنَّ أحدٌ علَيَّ، فكانت - رضي الله عنها - هي أوَّل مَن غُطِّي نَعْشها في الإسلام على تلك الصفة؛ كما قال ابن عبدالبر.

وأما أمرها ألا يُصلي عليها أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ولا أن يتولَّيا دفْنها، فهذا مَحض كذبٍ وافتراء.

وهكذا فقد توفِّيت فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين في زمانها، البضعة النبوية، والجهة المصطفوية، بنت سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - أبي القاسم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف، القرشية الهاشمية أم الحَسَنَيْنِ - رضي الله عنها وأرضاها - بعد وفاة أبيها بستة أشهر في ليلة الثلاثاء لثلاث خَلَونَ من رمضان سنة إحدى عشرة، فدُفِنت ليلاً كما أوصَت، بعد أن صلَّى عليها علي بن أبي طالب، ونزَل في قبرها زوجُها علي، والعباس، والفضل بن العباس - رضي الله عنهم أجمعين - قال ابن الأثير في أسد الغابة: هذا أصحُّ ما قيل، وقال الذهبي في السِّيَر: وعاشت أربعًا أو خمسًا وعشرين سنة، وأكثر ما قيل: إنها عاشَت تسعًا وعشرين سنة، والأول أصحُّ.


[1] البخاري برقْم (4433, 4434), ومسلم برقم (2450), واللفظ لمسلم.
[2] البخاري برقْم (4433, 4434), ومسلم (2450).
[3] صحيح مسلم، (1688).
[4] رواه البخاري (2753)، ومسلم (206).
[5] فتح الباري (7/ 373).
[6] رواه أبو داود في السنن.
[7] رواه الحاكم.
[8] تكلَّم الذهبي في السِّيَر على صحة هذا الحديث، وإن كان قد حسَّنه الترمذي، ورواه الحاكم وصحَّحه.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/47792/#ixzz2EwvYpNzW


الاثنين، 26 نوفمبر 2012

بوادر رحيل الرسول – صلى الله عليه وسلم - بين العامة والخاصة

بوادر رحيل الرسول – صلى الله عليه وسلم - بين العامة والخاصة - سيرة - موقع آفاق الشريعة - شبكة الألوكة


لم يزل المسلمون يتذكرون بكاء عمر - رضي الله عنه - عندما أُنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم عرفة الذي وافق يوم جمعة، قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [1]. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَا يُبْكِيكَ؟" قَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ! فَقَالَ: "صَدَقَتْ". وكأنه رضي الله عنه توقع موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قريبًا.


قال جابر رضي الله عنه: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: "لتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجتي هذه"[2]. وعن ابن عمر -رضي الله عنهما - قال: "وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر بين الجمرات... وقال: "هذا يوم الحج الأكبر" وطَفِق النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم اشهد" وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع[3].

وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجة الوداع ثلاث خطب:
خطبة يوم عرفة.
والخطبة الثانية يوم النحر في منى.
والخطبة الثالثة في منى يوم الثاني عشر من ذي الحجة. لم تزل تضمخ آذانهم، ولئن سرى في بعضهم الإحساس بدنو رحيل رسول الله إلا إنهم لم يكونوا يتوقعون حدوث هذا سريعًا، فليس بين حجة الوداع ووفاته إلا ثلاثة أشهر، وهي مدة لا تعطي إحساسًا صادقًا لمتوقع بقرب النهاية حتى أن عمر الذي سمع هذه الآية بل وسمع سورة النصر كذلك وعلم تفسيرها الصحيح هو وبعض من الصحابة المقربين من عمر - رضى الله عنه وأرضاهم - مثلما ابن عباس - رضى الله عنهما - إلا أنهمً كانوا في خبيئة نفوسهم مستبعدين سرعة تحقيقه، لأنهم فهموا من التفسير أن هذا وإن كان لابد حادثَا لرسول الله فإنهم لم يفترضوا له زمنًا ولم يكن يتمنون - لحبهم لرسول الله - حدوثه أبدًا، كما أن الصحابة أخذوا يفسرون آيات السورة تفسيرًا ظاهريًا، فقد كان الفرح والبشر والثقة تشيع في الزمان والمكان، وتملأ الأنفس حيوية وانبهارًا.

فإن الصحابة [4] لم يكونوا يعلمون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نُعيِ إلى نفسه.. فحتى الذين تليت عليهم سورة النصر، لم يفهموا منها ما فهمه أبو بكر، وعمر، والعباس - رضي الله عنهم - وعن الصحابة أجمعين - لم يكونوا يدرون إلا أنهم في مهرجان عظيم، يحتفلون فيه بانتهاء مناسك الحج كما ينعمون بنصر الله وفضله.

فقد روى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: (نزلت هذه السورة: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ﴾ في أوسط أيام التشريق فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع فأمر براحلته القصواء فرحلت ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم)[5].

نعم بكى عمر وهو يسمع آية الإكمال والإتمام وأحس بفراسته دنو أجل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لما تحقق نسىًّ، لأنه إنما نظر إلى سنة الله تعالى من نقص الشيء بعد كمال ازدياده، وعلم أن نقصان الدين هو موت خاتم النبيين، فبكى لذلك وازداد نحيبًا، ووقع ما علمه قريبًا، لكنه خَفى عليه لمَّا وقع بعد أيام، لينفرد الصديق بالتصديق قائمًا ذلك المقام[6].

المتأمل لسير الأحداث يرى أن علم عمر بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما جاءت به الآيات إنَّما هو العلم العام بأن نهاية الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتمًا الموت لأنها نهاية كل حي، وهو كذلك علم العامة من صحابة رسول الله التي أحسَّت بقرب الوفاة على وجه الإجمال من استقراء شواهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله، مثل: عرض جبريل القرآن عليه مرتين وكان يعرضه في كل عام مرة كما أسًّر بذلك لابنته فاطمة فقالت: فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن كل عام مرة وإنه عارضه به في العام مرتين "ولا أُراني إلا قد حضر أجلي فاتقي الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك". وكذلك توديعه للأحياء والأموات. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وآتاكم ما توعدون، غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد". وفي رواية أنه قال: "فإن جبريل أتاني.. فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم"، قالت عائشة: يا رسول الله، كيف أقول لهم؟ قال: "قولي: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"[7].

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يومًا فصلى على قتلى أُحُد صلاة الميت بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع علي المنبر، فقال: "إني بين أيديكم فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإن موعدكم الحوض، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها [وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم]، قال عقبة: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله [على المنبر]"[8].

وربما عَزّز حدسهم في أن مايفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو ولاشك الوداع، فماذا تعني صلاته على شهداء مضى على موتهم قرابة الثماني سنوات، وشهداء المعارك لايصلى عليهم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة، يعلق ابن حجر[9]على هذه الصلاة التى وردت بالحديث: (أما هذا الحديث فكأنه دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودعًا لهم بذلك، كما ودع أهل البقيع بالاستغفار لهم).

أما أبو بكر الصديق فقد علم بأن رسول الله وشيك الوفاة بالعلم الخاص، لأن عبارات الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت تدل على أن الأمر عُرِضَ على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأختار كما جاء في خطبته صلى الله عليه وسلم: "إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده".

وما يؤيد أنه علم الخاصة، أن العامة من الصحابة كبيرهم وصغيرهم غُمًّت عليهم وفهموا من مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله إنما عرض عليه الدنيا فاستبعدوا فكرة موته صلى الله عليه وسلم، بل لاموا الصدًيق حين بكى رضى الله عنه وعنهم أجمعين، فأصبح الصدَيق وحده هو المُصدِّق بوفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوشيكة دونهم، وهذا ليكون أبا بكرٍ أول من صدًّق برسالة محمد حين ابتعثه الله رسولًا، وليكون أول من َصدَّق وفهم مقالة رسول الله وأيقن بدنو أجله، لينفرد الصدَّيق بالتصديق على الدوام.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ خَطَبَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ، أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ :"إِنَّ أَمِنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا مِنَ النَّاسِ لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ لا يَبْقَيَّنَ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابُ أَبِي بَكْر"[10].

وربما الذي أعان الصديق على فهم مقالة رسول الله - وقد كان يفهم مراميه - هو ما كانت تعلمه بضعته وابنته السيدة عائشة رضى الله عنها، ولعله سمعه منها من جملة العلوم التي فقهتها من زوجها رسول الله حين قالت عند موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكريم : (كنت أسمع أنه لا يموت نبي حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه وأخذته بُحَّة [شديدة] يقول: ﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[11]. قالت: فظننته خير حينئذ)[12].

ولئن سأل سائل ألم يشهد رسول الله بالعلم لعمر وبأنه مُحدّث كما جاء في الحديث: قال رسول الله : "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر"[13].

فهذا الحديث كما جاء في فتح الباري شرح النووي[14]: "تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدَّث، فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة.. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلمًا في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس"، فقد قال ابن حجر[15]: (والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الموافقات التي نزل القرآن مطابقًا لها ووقع له بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة إصابات. وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه).

أما ابن تيمية فقد قال[16]: (وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر أعلم الأمة بالباطن والظاهر، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد).

وأكد ابن القيم [17] قول من سبقوه حيث قال:
(ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير).كما قال[18]: (فإن اختلف أبوبكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر، وهذه جملة لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم).

وقد أسر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ابنته فاطمة بنبأ رحيله عن الدار الدنيا كما أسرَ إليها ثانية بعد حزنها على ما أنبأها به بخبر عرض القرآن عليه مرتين في العرضة الأخيرة من جبريل مما يعني ويؤكد رحيله، وبأنها ستكون أول أهله لحوقًا به فَسُرتْ بذلك. ويفهم ذلك من قولها: فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة"؟ قالت: فضحكت[19]. وفي رواية: "فأخبرني أني أول من يتبعه من أهله فضحكت"[20].

بداءةً نود أن نُلفت القارئ بمقصودنا من "مفاهيم العامة والخاصة وخاصة الخاصة".

أولًا: بأن تلك المفاهيم تفارق وتزايل ذلك المعنى المتصور الذي أورده الإمام أبي حامد الغزالي في حديثه عن درجات الصوم الواردة في الفصل الثاني من كتاب "أسرار الصوم" من موسوعته "إحياء علوم الدين" [21]، بينما تأتي في التصور أقرب لتقسيم العلماء "الرحمة المحمدية" إلى عامة وخاصة؛ حين عرَّفوا الرحمة العامة: "بأنها التي تشمل سائر الخلائق ويدخل تحتها رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوان، وعرَّفوا الرحمة الخاصة: بأنها الرحمة الخاصة بأمته ".

وإنما ما قصدتُ إليه من هذه المفاهيم من دلالة قرب علاقة صاحب الحدث بالرسول - صلى الله عليه وسلم - القلبية والمكانية - حيث مكان الحدث - فحديث عمر كان في الحج ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الأمة فالعمومية متوافرة جدًا، أما في موقف الصديق فكان الخطاب في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والحُضُور من المسلمين أقل، فالخصوصية متوافرة جدًا، أما من حيث العلاقة القلبية فعامة المسلمين عامتهم قبل خاصتهم يعلمون موقع أبا بكر في قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة نورد منها ما يلى:
 روى الطبراني في المعجم الكبير، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله قال:" لا تؤذوني في صاحبي؛ فإن الله - عز وجل - بعثني بالهدى ودين الحق؛ فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقتَ، ولولا أن الله - عز وجل - سمَّاه صاحباً لاتَّخذته خليلاً، ولكن أخوة الله، ألا فسُدُّوا كل خوخة إلا خوخة ابن أبي قحافة ".

 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي"، قال أبو بكر‏:‏ وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، قال‏:‏ "أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي"[22].‏

وحتى لا نغمط الفاروق حقه ومنزلته عند رسول الله نورد الحديث الذي رواه الخليفة الرابع علي رضى الله عنه، أن رسول الله قال: "أبوبكر وعمر سيِّدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، ما خلا النبيين والمرسلين"[23].

أما حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع السيدة فاطمة رضى الله عنها فهو حديث الأب الموَدِّع في مرضه الأخير وابنته الوحيدة والأثيرة؛ إذن فهو حديث "خاصة الخاصة" حيث الحديث بينهما في أعلى درجات السرية والكتمان حتى عن أقرب المقربين ولو أزواجه وإن تكن عائشة، فالحديث عائلي جدًا والأب المُغادر لا يُعلنها تلويحًا أو كناية عن رحيله بل يخبرها مصارحًا في جلاءٍ ويقين بأنه لامحالة ميت كما أنها لامحالة ستموت بعده.

إنها فاطمة ابنته الحبيبة التي بشرها وهو في مرض الموت بأنها ستكون أول أهل بيته الكريم لحوقًا به فتضحك، بعدما كانت قبلها تبكي عندما أعلمها بحضور أجله حتى تعجبت السيدة عائشة وقالت: (ما رأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن!!).

هل يستطيع أب أن يَزُف هذه البشارة لابنته الشابة البالغة من العمر ثمان ٍ وعشرين سنة ولها من الذرية الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وهم صغار من سيرعاهم بعدها؟! يبشرها والدها وتفرح ولم تجفل ولم تجزع ولم تراجعه وتستعطفه بأن يدعو لها بطول العمر حتى تربي أفراخها الزغب، وتسعد أيامًا بالعيش مع صنو روحها زوجها الحبيب علي رضى الله عنهما؛ ألاَّ يذكرنا هذا الموقف بأبي الأنبياء إبراهيم وابنه الذبيح سيدنا إسماعيل نفس الرضا والتسليم مع الفارق في سير الأحداث.

ولئن تعجبنا كيف أن الابنة لم يروَّعِها النبأ بل سُرّت به فيما يمكن أن نسمي علاقة البنوة بالأبوة المتشابكة بين الزهراء وأبيها بأنها معجزة تُضاف لسيد الخلق حين نجح في أن يُهذب ويؤدب ابنته إلى هذا الحد الفائق من الطاعة حين لم تَرُد عليه مقالته، بل وجعلت نعيها بشارة فلم تغتم ولكن سُرَّت؛ ليس زهدًا في الحياة ولكن فرحًا بالمرافقة والمجاورة لأبيها في رحلته الأخيرة عن الدنيا.


[1] (المائدة: 3).
[2] (مسلم برقم 1297).
[3] (البخاري برقم 1742).
[4] خالد محمد خالد: عشرة أيام في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص 183.
[5] أخرجه البزار، والبيهقي في السنن الكبرى وفي دلائل النبوة، وعبد بن حميد في مسنده...
[6] ناصر الدين الدمشقي: سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم ص 92.
[7] (أخرجه مسلم برقم:974).
[8] (البخاري من الألفاظ في جميع المواضع، برقم: 1344، 3596، 4042، 4085، 6426، 6590، ومسلم برقم: 2296، وما بين الهلالين من صحيح مسلم).
[9] فتح الباري 7/349.
[10] (‏أخرجه البخاري كتاب فضائل الصحابة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب ‏(‏5/4‏)‏.
[11] (النساء: 69).
[12] (البخاري برقم 4436، 4437، 4463، 4586، 6348، 6509، ومسلم برقم 2444).
[13] (البخاري رقم 3689، مسلم رقم 2398).
[14] فتح الباري (7/50)، شرح النووي (15/166).
[15] ابن حجر: فتح الباري (7/51).
[16] مجموع الفتاوى (13/ 237).
[17] مفتاح دار السعادة (1/255).
[18] أعلام الموقعين (4/ 119).
[19] [البخاري برقم 4433، 4434، ومسلم برقم 2450، واللفظ لمسلم ].
[20] [ البخاري برقم 4433، 4434، ومسلم 2450]
[21] إحياء علوم الدين ج- 1 ص- 306.
[22] أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم.
[23] (حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد وغيره) [للاستزادة: انظر الغرر في فضائل عمر للسيوطي].


السبت، 24 نوفمبر 2012

" رحمته " صلى الله عليه وسلم.. معجزته

السيد إبراهيم أحمد - شبكة الألوك

" رحمته " صلى الله عليه وسلم.. معجزته


إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقف وحدها معجزة.. وليس أدل على ذلك من ذهابه ماشياً على قدميه إلى الطائف التى تبعد عن مكة حوالى تسعين كيلو متراً بعد وفاة عمه فى شوال من السنة العاشرة من البعثة ومعه مولاه زيد بن حارثة ليدعو قبائلها إلى الإسلام وهم لايستجيبون له، وما كان من موقف سادة ثقيف وأشرافهم معه من رفضهم دعوته ويأسه صلى الله عليه وسلم من خبرهم.

أقام صلى الله عليه وسلم بالطائف عشرة أيام يدعو أشرافها وأهلها إلى الاسلام حتى جابهوه قائلين : أخرج من بلادنا.. وأغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به وقد قعدوا له صفين على طريق خروجه فأخذوا بأيديهم الحجارة، فجعل لايرفع رجلهً ولايضعها إلا رضخوها بالحجارة حتى سالت منها الدماء... وماكان من انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى بستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة الذى استظل رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرة من العنب لهما فصلى ركعتين وأخذ يدعو ربه دعاء المستجير بالدعاء الشهير: "اللهم إليك اشكو ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس ياأرحم الراحمين أنت رب المستضعفين، وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهمنى، أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك علىَّ غضب فلا أبالى، غير أن عافيتك هى أوسع لى، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بى غضبك، أو يحل علىَّ سخطك،لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك "... فتحركت لعتبة وشيبة رحمهما له صلى الله عليه وسلم فدعوا غلامهما عداساً النصرانى ليناوله قطف من عنب فى طبق بعد أن تعرف عليه عداس وعلم أنه نبى مثل يونس بن متى، وانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرن المنازل فبعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة.

وتروى كتب السنة القصة ومنها البخارى بسنده عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضى الله عنها حدثته أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال : " لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضتُ نفسى على ابن عبد ياليل بن عبد كُلاَل، فلم يجبنى إلى ما أردت، فانطلقت - وأنا مهموم - على وجهى، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب - وهو المسمى بقرن المنازل -فرفعت رأسى فإذا أنا بسحابة قد أظلتنى، فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادانى، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فنادانى ملك الجبال، فسلم علىّ ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليه الأخشبين - أى لفعلت، والأخشبان : هما جبلا مكة : أبو قُبَيْس والذى يقابله، وهو قُعَيْقِعَان - قال النبى صلى الله عليه وسلم :"بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا " [1].

نعم.. إن رحمته صلى الله عليه وسلم تمثل معجزة، ولكن الدكتور إبراهيم على السيد [2] يراها أعظم من المعجزة حيث يقول : (إن المعجزة الأعظم من إطباق الأخشبين أن يقف الرسول صلى الله عليه وسلم لايقبل العرض ؛ ولما تزل الدماء تنزف من قدميه، ولا يصدر الأمر لملك الجبال، ولاتزال كلمات بنى ياليل يرن صداها فى أعماقه الجريحة [ أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟.. إلى آخر ما قالوا، أن يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئا، اللهم اهد ثقيفا وأت بهم ". وهذا الموقف موافق لقوله تعالى:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾ [3]، وقوله تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين ﴾ [4].

لا تستبين وجه المعجزة فى هذا الموقف حتى تعلم أن جبال مكة كانت تنتظر أمر النبى صلى الله عليه وسلم وقد كان كل هؤلاء المكذبين له صلى الله عليه وسلم أمامه كالنمل المتسلق جذوع الأشجاروقد جعل الله مصيرهم ومصير أولادهم رهن اشارة منه، كما لايستبين وجه الإعجازإلا حين نقارنه بما فعل الأنبياء الكرام عليهم السلام حين جأروا لله بالدعاء لربهم أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق، وانتصر لهم ربهم سبحانه فقال : ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [5].

بل إن عمر بن الخطاب نفسه يعجب من فعل رسول الله حيث أنه لم يدعو عليهم كما فعل نوح بقومه، رغم ردىء أعمالهم برسول الله ولو دعا صلى الله عليه وسلم لهلكوا.

قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه :
( بأبى أنت وأمى يارسول الله لقد دعا نوحٍ على قومه فقال : ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾ [6]، ولو دعوتَ بمثلها لهلكنا من عند آخرنا، ولقد وُطِّىء ظهرُك، وأُدمِّى وجهُك..!! فأبيت أن تقول إلا خيراً، فقلت: " اللهم اغفر لقومى فإنهم لايعلمون " [7] [8].

إن قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الطائف وأهلها لم تتم فصولا وبالتالى لم تنته عند هذا المشهد فبعد أن زحف المسلمون علَى الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها فأطالوا حصارها؛ واستعصى عليهم حصنها الحصين الَّذِي قُتِل فيه كثيرٌ منهم؛ فهَمّ الرسول أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلَّا الفتح، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو علَى أهل الطائف؛ فرفع يديه إلَى السماء يدعو فقال: "اللهمّ اهْد أهل الطائف، اللهمّ ألِن قلوبهم للإسلام ومَكّنه فيها".. ثم إن عبد ياليل الذى جبه الرسولَ صلى الله عليه وسلم هو وعشيرته بالمكروه وآذَوه أذًى شديدًا، لما نزل مع قومه علَى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة - بعد ذلك - ؛ أنزله صلى الله عليه وسلم في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كل عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقَى وهو في مكة من عَناء وجهد، وهو الَّذِي استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف بالأذَى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخَسف.. فشتان بين استقبال واستقبال.. كما هو شتان بين عبد ياليل ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أن وجه المعجزة لن يستبين إلا حين يقيس انسان اليوم نفسه عليها إذا ما تعرض لضيم وكان له شبكة من الاتصالات بذوى النفوذ وفى مقدوره العصف بمن ظلمه ليشفى غليله، هل كان سيعفو والدماء لازالت تسيل منه واستهزاؤهم به مازال يدوى بأذنيه؟

أما أن رحمته صلى الله عليه وسلم معجزة.. فهذا حق، وتبدو أكثر فأكثر كلما قرأنا سيرته أكثر واقتربنا من مواقفه أكثر.. فربه عز وجل الرحمن الرحيم، ورسالته رحمة للعالمين، وهو صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة هكذا وصفه مولاه وأرسله وسَمّاه.

كما أن رحمته صلى الله عليه وسلم يوم الفتح العظيم لمكة والنصر المبين على أهل الشرك تبدو وتتأكد لأن البشرية هنا غالبة والزهو قائم والرجال جاهزون والكفار صاغرون ينتظرون، فالمشهد كله فى بقعة واحدة، المؤمنون المشرئبون للإنتقام متأهبون لمن وقر فى صدره أنه يوم الملحمة، وأهل الطاغوت عيونهم حائرة تتنقل كالنحلة الضالة تقف تارة عند شفتى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مخافة اصدار أمر الإبادة والتنكيل وفى صدورهم يعلنون أنه لو فعل لكان حقه المُدَّخر وجزاؤهم الحق العادل، وتنتقل نظراتهم سريعاً على صفوف قواته المنتصرة وسيوفهم المُشْرعة تنتظر إصدار الأمر وهم يعلمون عن أصحاب محمد سرعتهم فى تلبية أمره وطاعته، لتستقر أنظارهم أخيراً على فلذات أكبادهم وزوجاتهم ودورهم ويتخيلون مصارعهم وجندلتهم، فلا شك أن المشهد هنا أقسى من مشهد حضور جبريل وملك الجبال للنبى صلى الله عليه وسلم بقرن المنازل بعد عودته من الطائف، لأن هذا المشهد كان يغيب عن بال من سيحل بهم العذاب المفاجىء، فوقعه عليهم آنذاك سيكون أخف فهم لايترقبونه ولا يخافونه ولو عاد إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحكى لهم أنه رحمهم من عذاب سماوى عظيم لما صدقوه ؛ فدخوله عليهم وحاله يُنبىء عن مقاله وحال زيد معه، وفى رجوعه إليهم مستجيراً بجوار مطعم بن عدى، لبانت أمامهم الرحمة باهتة.. أما يوم الفتح فالعفو ناصع مُعجز والرحمة جلية.. وهنا الرحمة معجزة كما يراها خالد محمد خالد [9] فيقول : (فى وهج هذا الانتصار الساحق المبين، تطل علينا المعجزة بضياء جديد يبهرالألباب.. فهذا هو الرسول المنتصر تواتيه الفرصة لكى يفرض دينه وتعاليمه، فإذا هو لايصنع ذلك أبدا..إنه كان معنياً بأمرٍ واحد، هو إزاحة مظاهر الوثنية والشرك ونسف ماوراء هذه المظاهرمن باطل وضلال.. من أجل هذا لم يكد يطمئن بمكة، ويطمئن على أهلها وعلى استقرار الهدوء والأمن فيها حتى قصد البيت الحرام فطاف سبعاً).

ولو سرت وراء قلمي مطيعاً فأدون مظاهر الرحمة المحمدية دون سبر أغوارها، لاحتجت من الصفحات والسنوات ما يفوق عمري وجهدي، وما بلغت غايتي.. وماسردته فى هذا الموضع من رحمته صلى الله عليه وسلم ماينبىء عن بقيته.. غير أنني مارأيت رحيماً من البشر يطاول قامة رحمته، ولاسمعت أن قائداً عسكرياً تحلى بأخلاق الرحمة مثله حين يأمر جنوده الخارجين للقتال أن لايتعرضوا حتى للذين يتعبدون على غير دينه وملته.. فيقول صلى الله عليه وسلم :"اغزوا بسم الله، فى سبيل الله، مَنْ كفر بالله، لا تغدروا، ولاتغلوا، ولاتقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة، ولا تهدموا بناء " [10].


[1] [( صحيح البخارى: كتاب بدء الخلق ح ( 1323، 9837 )].
[2] الدكتور إبراهيم على السيد،نظرات تربوية فى السيرة النبوية [العهد المكى] ص 277
[3] سورة آل عمران: من الآية:159.
[4] سورة الأنبياء: من الآية: 107.
[5] سورة العنكبوت: 40.
[6] سورة نوح: من الآية: 26
[7] حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون رواه البيهقي في دلائل النبوة والحديث في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم حكاه عن نبي من الأنبياء ضربه قومه
[8] ذكره القاضى عياض فى الشفا ج-1ص-81.
[9] خالد محمد خالد، عشرة أيام فى حياة الرسول ص 139.
[10] جامع الترمذي مع التحفة ( ( 5 / 27 ح 1666).

رابط الموضوع: http://www.majles.alukah.net/Spotlight/0/46155/#ixzz2DB0emV2xBZة - الكتاب والمفكرون

كانت الأخلاق معجزته صلى الله عليه وسلم

السيد إبراهيم أحمد - شبكة الألوك



لم يغب عن بال من تناولوا سيرة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الملامح الإعجازية في شخصه - صلى الله عليه وسلم - فإذا بهم يوردون تلك الملامح شذرات تضيء مؤلفاتهم إلا أنهم لم يفردوا لها كتباً مستقلة، فمنهم من رأى خلقه وصفاته النفسية وكمالاته - صلى الله عليه وسلم - يقوم كل منها معجزة وحده، بينما رأى آخر أن صدقه كان معجزته الأولى - صلى الله عليه وسلم -، ورأى أحدهم أن شخصيته وأفكاره - صلى الله عليه وسلم - كانت المعجزة، ويؤكد آخر أن سيرته - صلى الله عليه وسلم - تبقى المعجزة، والذى رأى في تربيته - صلى الله عليه وسلم - للصحابة رضوان الله عليهم في حد ذاته معجزة، والمعجزة المقابلة لها هو حب الصحابة له - صلى الله عليه وسلم -، وينبري أحدهم بأن ما فعله - صلى الله عليه وسلم - في دنيا الناس هو المعجزة، بينما انتشار الإسلام كدين يدين به الناس بهذه السرعة وهذا الحب هو المعجزة.

يلفت مصطفى لطفى المنفلوطي أنظارنا التي تسير سيراً خاطئاً في إثبات معجزة الرسول بالدلالة على أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -؛ بينما هو يعكس ذلك المفهوم المتجذر فينا حيث يرى أن صفات الرسول النفسية وكمالاته هي المعجزة الدالة على تصديق الناس ما أوتي على يديه من خوارق المعجزات، بل أن ما كانت قريش لتصدق دلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - إلا لأنها تصدقه هو بشخصه وجوامع خلقه الكريم فما كان لمثل محمد احتياج لكل هاتيكَ الخوارق مهما كان قدرها.

إذ يقول[1]:
إن في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه، وحلمه، وصبره، واحتماله، وتواضعه، وإيثاره، وصدقه، وإخلاصه أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشي الشجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى، من الشبه بينها، وبين عرافة العرافين، وكهانة الكهنة، وسحر السحرة، فلولا صفاته النفسية، وغرائزه، وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر الذي تركته؛ ذلك هو معنى قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [2].

يؤيد ما ذهب إليه المنفلوطي ما قاله سعد الدين التفتازاني [3]: وأما الاستدلال على نبوة محمد بما شاع من أخلاقه وأحواله فهو عائد إلى المعجزة.

يناجى الدكتور أحمد محمد الحوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[4] قائلاً:
حبيبي يا رسول الله.. يا لها من حديقة فَيْحاءَ غَنَّاءَ، كل ما فيها طيب المظهر والمخبر، عَبِقُ الشَّذى، حلو الجنىَ، شهىٌ إلى كل نفس.. إنها أخلاقك الفُضْلى التي تتسامى عن الأنظار فلا يُدرك أحد أيُها أعلى مكاناً، وتتسابق إلى القلوب فلا يعرف أحد أيها أسرع جرياناً، ولا أيها أعظم في النفوس آثارا وأرسخ بنياناً.. لقد قضيتُ أسعد أيام العمر سادناً في هذه الحديقة، وكلما أمضيت في ظل فضيلة من فضائلك زمناً خُيل إلىَّ أنها أبرز فضائلك، فإذا أويتُ إلى ظل أخرى تراءت لي أعظم شمائلك، ثم أتفيأ ثالثة فتبدو كأنها أعظم خمائلك، فلا سبيل إلى مفاضلة أو موازنة أو ترجيح.

بينما يرى الدكتور محمد سيد أحمد المسير [5]: إن الصدق - يقصد صدق الرسول عليه الصلاة والسلام - هو المعجزة الأولى التي دفعت الناس إلى الإيمان بالرسالة لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -...

يقول الإمام أبو حامد الغزالي [6]:
اعلم أن من شاهد أحواله - صلى الله عليه وسلم - وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه، وسياسته لأصناف الخلق، وهدايته إلى ضبطهم، وتألفه أصناف الخلق، وقودهم إياهم إلى طاعته مع ما يُحكَى من عجائب أجوبته في مضايق الأسئلة، وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق، ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذى يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم، لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية، وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا مُلَبِسْ، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القح كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب، فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله، فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره؟!، فأَعْظِمْ بغباوة من ينظر في أحواله، ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في معجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه، ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه.

نعم إنه الصدق وهو ماتنبه له بعقله الأديب البريطانى هـ.جـ.ويلز: إن من أرفعِ الأدلةِ على صدقِ محمدٍ كونَ أهلِه وأقربِ الناسِ إليه يؤمنون به. فقد كانوا مطَّلعينَ على أسرارِه، ولو شكّوا في صدقِه لما آمنوا به.

يجد بلاشير معجزة محمد في صدقه أيضاً حين كان أسلوبه الخاص في أحاديثه النبوية مفارقاً تماماً لإعجاز القرآن حتى صار هذا إعجازه - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول [7]: الإعجاز هو المعجزة المصدقة لدعوة محمد الذي لم يرتفع في أحاديثه الدنيوية إلى مستوى الجلال القرآني

ليس هناك ما ينفي اقتران الإعجاز بالبشرية في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند الدكتور منصور رحمانـي [8]، إذ يقول:
وأما الإعجاز في حياته - صلى الله عليه وسلم - فنعني به أنه حقق بجانبه البشري في وقت وجيز ما عجز عنه غيره من البشر سواء كانوا أنبياء أو قادة أو زعماء، وهذا يشير بوضوح إلى تفضله على غيره، وأنه الأولى بالتقليد والاتباع، وهذا الجانب لا نستدل به على صدقه بقدر ما نستدل به على عظمته، وهذه العظمة تقود فئات من الناس إلى اتباعه في كل أقواله مطمئنين إلى أنه أفضل قدوة، وأفضل من يتبع، فأقواله هي أصح وأصدق الأقوال، وأفعاله وأحكامه هي أعدل الأحكام، وتشريعه أفضل تشريع، ودينه أفضل الأديان.

يقول الدكتور سعد الدين السيد صالح [9]معلقاً ومؤكداً وشارحاً: كانت أخلاق محمد ضرباً من خوارق العادات. إذ كيف يخرج على أخلاق قومه وعاداتهم وتقاليدهم؟ فلم يسجد لصنم قط، ولم يشرب خمراً قط، ولم يكذب أبداً وهو الذى نشأ في بيئة انطبعت بهذه الصفات، إذاً فأخلاقه كانت ضرباً من الخوارق. إذ المعهود أن تأتى أخلاق الفرد وصفاته صورة لبيئته أو كما قالوا إن الإنسان هو ابن بيئته، فكون أخلاق الرسول تأتى مناقضة لأخلاق بيئته، هو أمرٌ خارق للعادة.

ويؤكد أحمد بهجت [10]:
أن معجزته الأولى - صلى الله عليه وسلم - هي شخصيته وأفكاره.. صارت معجزته الكبرى بعد القرآن.. هي هذا البناء الروحي الشامخ الذى احتمل في الله ما احتمل، وقاسى في الحق ما قاسى، وأدى أمانته بكمال لا يطاول...

ومنهم من يرى أن سيرته العطرة وصحائفه الناصعة - صلى الله عليه وسلم - لخير دليل على صدق دعوته وثبوت نبوته، بما لا يحتاج معه لمعجزة فيقول ابن حزم[11]: فإن سيرة محمد - صلى الله عليه وسلم - لِمَن تدبرَهَا تقتضي تصديقَه ضرورةً، وتشهد له بأنه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حقا فلو لم تكن له معجزة ٌ سوى سيرته - صلى الله عليه وسلم - لكفى...

كما أن ابن حزم هو القائل: من أراد خير الآخرة، وعدل السيرة، والاحتواء على محاسن الأخلاق كلها، واستحقاق الفضائل بأسرها، فليقتد بمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليستعمل أخلاقه وسِيِره ما أمكنه.

ومع أن الشيخ على الطنطاوي يذهب نفس مذهب من يرى أن سيرة رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - تكفي وحدها لتكون معجزته، لكنه آثر أن يدلل على ما يقول ففصل المجمل[12]:
كانت سيرة حياته - صلى الله عليه وسلم - كلها معجزة، عجز عظماء العالم جميعاً عن أن يتركوا لهم سيرةُ مثلها... في كل ناحية منه عزة وعظمة، في قوة جسده، وتكوينه الرياضي. في روحه الرياضية، لا يستخفه النصر حتى يبطره، ولا تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه، أو تذهب بعزمه، في ثباته في المعامع الحُمر حتى كان أبطاله الصحابة يحتمون به، وفى شجاعته التي تَضعْضَعَ أمامها صناديد الرجال، وفى تواضعه للمسكين والفقير، ووقوفه للأرملة والعجوز، في إقراره الحق، في صدق التبليغ عن الله، حتى أنه بلغ الآيات التي نزلت في تخطئته وفى عتابه، في احترامه العهود وحفاظاً على كلمته، مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة ونصب، سواء عنده في ذلك معاملاته الشخصية وشؤون الدولة، وفى ذوقه وحسه المرهف، وأنه هو الذي سن آداب الطعام، وقرر قواعد النظافة في وضعه مع أصحابه إذ يعلمهم ويعمل معهم، ويعيش مثلما يعيشون، ويستشيرهم ويسمع منهم، ويجلس حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كأن القادم عليه ليراه، ينظر في وجوه القوم فيقول أيكم محمداً؟..

ولعل ما قاله المستشرق الإنجليزي يورسورث سميث (1815 – 1892)[13]يُعد فهماً حقيقياً للمعجزات التي أتاها اللهُ محمداً، فقد اعترف سميث بأن لمحمدٍ معجزات غير القرآن، وعنده يكمن ما هو أعظم من المعجزة هو صدقه - صلى الله عليه وسلم -: أن المعجزة الخالدة التي أداها محمد هي القرآن والحقيقة إنها كذلك... وإن أعظم ما هو معجزة في محمد نبي الإسلام أنه لم يّدع القدرة على الإتيان بالمعجزات وما قال شيئاً إلا فعله وشاهد منه في الحال أتباعه، ولم ينسب إليه الصحابة معجزات لم يأتها أو أنكروا مبدأ صدورها منه، فأي برهان أقطع من ذلك؟

يرى الشيخ محمد الخضر حسين [14] أن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان راجح العقل، غزير العلم، عظيم الخلق شديد الإخلاص، صادق العزم، جليل العمل رائع البيان، وأن من يبتغي عظمة رجل فليبحث عنها في ناحية عقله، وعلمه، وخلقه، وإخلاصه، وعزمه، وعمله، وحسن بيانه إلى أن يقول عن عظمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها: عَظَمَةٌ انتظمت من هذه المعاني العالية؛ وكل درة في عقد حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة.

كما يقول أيضاً[15]: إن الباحث في السيرة على بصيرة ليجد في كل حلقة من سلسلة حياته معجزة، ولو استطعت - ولا إخالك تستطيع - أن تضعها في كِفة، ثم تعمد إلى سيرة أعظم رجل تحدث عنه التاريخ، فتضعها في الكِفة الأخرى، لعرفتَ الفرق بين من وقف في كماله عند حد هو أقصى ما يبلغه الناس بذكائهم وحزمهم، وبين من تجاوز ذلك الحد بمواهبه الفطرية، وبما خصه الله به من معارف غيبية، وحكم قدسية.

هكذا شهدوا له - صلى الله عليه وسلم -، وما كان في حاجة - صلى الله عليه وسلم - لشهادة أحد، ولكنهم شهدوا لأنفسهم وشهدوا لنا شهادة الصدق والحق، في نبي الله بحق.. في منحى واحد من مناحيه الرائعة والفاضلة والنبيلة.. وشهد غيرهم بالإعجاز له - صلى الله عليه وسلم - في مناحي أخرى.. سنعرفها في حينها.


[1] مصطفى لطفي المنفلوطي، الأعمال الكاملة لمؤلفاته ص131-133.
[2] سورة آل عمران: من الآية:159
[3] سعد التفتازاني، شرح المقاصد جـ 2 صـ 133
[4] الدكتور أحمد الحوفي، من أخلاق النبي ص 6، 7.
[5] الدكتور محمد أحمد المسير، النبوة المحمدية ص23.
[6] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين جـ 3 صـ 479، 484.
[7]بلاشير، ترجمة للقرآن الكريم للفرنسية ص 105.
[8] الدكتور منصور رحماني، الإعجاز في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
[9] الدكتور سعد الدين صالح، المعجزة والإعجاز في القرآن الكريم صـ 22.
[10] أحمد بهجت، أنبياء الله ص 380ـ 381.
[11] ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل ج1ص342.
[12] على الطنطاوي، تعريف عام بدين الإسلام حيث يقول ص 184.
[13] يورسورث سميث، الأدب في آسيا ص 346.
[14] محمد الخضر حسين، محمد رسول الله وخاتم النبيين ص206.
[15] محمد الخضر حسين، هدى ونور ص 45.

رابط الموضوع: http://www.majles.alukah.net/Sharia/0/45417/#ixzz2DAz9gbBZة - الكتاب والمفكرون