الثلاثاء، 30 مايو 2017



مع الحلقة الخامسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتناول ما رآه البعض مشكلة في زيادة السيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم  عند قراءة التشهد  في الصلاة بأنه حكاية المناجاة بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في المعراج، ويُجاب عن ذلك:
بأن هذا أمر ذوقيٌّ لم يَرِد فيه حديث صحيح، والأحكام الشرعية منوطة بالأسباب والعلل لا بالأذواق والحِكَم؛ فإن المصلِّي إنما يقول التشهد على جهة الإنشاء من نفسه؛ مُحَيِّيًا اللهَ تعالى ومُسَلِّمًا على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم على نفسه وعلى عباد الله الصالحين وشاهدًا بوحدانية الله تعالى ورسالة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقصد بتشهده الإخبار والحكاية عما وقع في معراجه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم مِن خطابه لربه سبحانه وخطاب ربه له صلى الله عليه وآله وسلم على فرض ورود ذلك وصحته، وهذا المعنى الإنشائي يقتضي مِن المصلي تسويده أيضًا عليه الصلاة والسلام في الشهادة له بالرسالة كما قد نُصَّ عليه أيضًا، مع ملاحظة أن ذلك كله على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحَتم والإيجاب.
ومع ماتقدم فهناك من يتحفظ على الإتيان بلفظ السيادة في الآذان والإقامة، لأنه لم يثبت أن أحداً ممن أذن فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أتى بالسيادة فيهما، ولو كانت مشروعة ما تركها أحد منهم ولا أقروا تاركها على تركها، والثابت أن أول من أحدث هذا هو هشام بن عبد الملك. [على من أراد التوسع فليراجع ص 182 رقم 8868 ج 6 فيض القدير . ورقم 7 ص 8 الدين الخالص ج 1 ، الفتاوى الأمينية ج 1ص47].
 يقول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه: (ويلتفت إلى ضرورة توقير الرسول صلى الله عليه وسلم عند الاستئذان وفي كل الأحوال فلا يدعى باسمه يا محمد أو كنيته يا أبا القاسم كما يدعو المسلمون بعضهم بعضًا إنما يدعى بتشريف الله له وتكريمه يا نبي الله، يا رسول الله) [في ظلال القرآن: (4/2535)].
   ومن رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد عبدًا ورسولاً فليتبعه ويحبه فمن علامــــــات  محبته إتباعه قولاً وعملًا،  ظاهرًا  وباطنًا، والرضا بحكمه وإيثاره علي حكــــم غيره من البشــر وإن  تعارض، ولا يطيع أحدًا في الله إلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم  وأيضًا من علامات محبته تعظيمه عند سمــاع اسمه وذكره مع إظهار الخشوع والخضوع والإنكسار والإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم  فذكره يشفي الصـــدور،  ويجلي القلوب ويعطر الألسن ومن علامات محبته: نصرة دينه قولاً وفعلاً والتحلي بأخلاقــه ما أستطعت إلي ذلك سبيلًا، ومن علامات محبته: حب القرآن الذي أتي به واهتدي به وتخلق به ، ومحبة سنته وقراءة حديثه والعمل به، واتباع هديه الكريم.
    كما أن من واجب الحب والتأدب مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بعد أن علم كل مسلم أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند ذكره وفي مواضع أخرى ـ أن لايكتب اسمه صلى الله عليه في كتاب أو مؤلف أو رسالة أو مقال أو نحو ذلك إلا بذكر الصلاة والسلام عليه، فأهل العلم من قديم وحديث الزمان يقررون أن المشروع أن تكتب الصلاة والسلام كاملة تحقيقاً لما أمرنا الله تعالى به، وليتذكرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة على رسول الله على كلمة "ص" أو "صلعم" وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز بقوله: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ مع أنه لا يتم بها المقصود، وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة "صلى الله عليه وسلم" كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علمًا بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه.
    فقد قال ابن الصلاح في كتابه: "علوم الحديث" المعروف ما نصه: (أن يحافظ على كتابة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكراره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك فقد حرم حظاً عظيماً، وقد رأينا لأهل ذلك منامات صالحة، وما يكتبه من ذلك فهو دعاء يثبته لا كلام يرويه فلذلك لا يتقيد فيه بالرواية، ولا يقتصر فيه على ما في الأصل، وهكذا الأمر في الثناء على الله سبحانه عند ذكر اسمه نحو عز وجل وتبارك وتعالى، وما ضاهى ذلك)... إلى أن قال: (ثم ليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما: أن يكتبها منقوصة صورة رامزًا إليها بحرفين أو نحو ذلك، والثاني: أن يكتبها منقوصة معنى بألا يكتب "وسلم").
 وروي عن حمزة الكناني رحمه الله تعالى أنه كان يقول: (كنت أكتب الحديث وكنت أكتب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكتب "وسلم" فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: ما لك لا تتم الصلاة علي؟ قال: فما كتبت بعد ذلك صلى الله عليه إلا كتبت "وسلم")... إلى أن قال ابن الصلاح: قلت: ويكره أيضاً الاقتصار على قوله: "عليه السلام" . المقصود من كلامه رحمه الله تعالى ملخصًا.
وقال العلامة السخاوي رحمه الله تعالى ما نصه:  (واجتنب أيها الكاتب  "الرمز لها " أي الصلاة والسلام على رسول الله  صلى الله عليه وسلم في خطك بأن تقتصر منها على حرفين ونحو ذلك، فتكون منقوصة ــ صورة ــ كما يفعله "الكتاني" والجهلة من أبناء العجم غالباً وعوام الطلبة، فيكتبون بدلاً من صلى الله عليه وسلم "ص" أو "صم" أو "صلعم" فذلك لما فيه من نقص الأجر لنقص الكتابة خلاف الأولى)[ فتح المغيث شرح ألفية الحديث للعراقي].
وقال السيوطي رحمه الله تعالى: (ويكره الاقتصار على الصلاة أو التسليم هنا وفي كل موضع شرعت فيه الصلاة كما في شرح مسلم وغيره؛ لقوله عز من قائل: ﴿صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾)، إلى أن قال: (ويكره الرمز إليهما في الكتابة بحرف أو حرفين كمن يكتب "صلعم" بل يكتبهما بكمالها)[تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي].
 كما أن من علامات محبة النبي صلى الله عليه وسلم طاعته ، فقد قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
(هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ’’مَنْ عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد’’).
 وقال الإمام الطحاوي: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام).
ولقد قال ابن أبي العز : (أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين وينقاد إليها ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه).

روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: (من الله الرسالة ، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم .. فمن أحبّ سيد ولد آدم فليُعظّم أقواله وسُننه أكثر من تعظيمه لقول مَن سواه من البشر).

الاثنين، 29 مايو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ـ حلقة (4)...





مع الحلقة الرابعة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، ومع الإبحار في التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتناول بعض إجابات جمهور العلماء والفقهاء عمَّا احتجَّ به مَنْ رَجَّح ترك السيادة  للرسول صلى الله  عليه وسلم:
1- أن الأدلة الشرعية الدالَّة على وجوب تعظـيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوقيره، وتسـويده، والنهي عن مخاطبته، أو ذكره كما يخاطب أو يذكر بعضـنا بعضًا جاءت عـامة لا مخصِّصَ لها، فيُشرَع امتثالُها في كل موضعٍ جرى فيه ذكرُه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حملا للمطلَق على المقيَّد، ولم يرد في الشرع ما يُخرِج الأذانَ أو الإقامةَ أو الصلاةَ من ذلك، غاية ما في الأمر أنَّ تَرْك ذِكْرِها في ألفاظ الأذان والإقامة والتشهد في السنة النبوية الشريفة قولا وتقريرًا يدل على عدم وجوبها لا على عدم مشروعيتها؛ جمعًا بين الأدلة الشرعية؛ لأنه لا يُلجَأ إلى الترجيح إلا عند تعذُّر الجمع.
2 ـ أن كثيرًا من العبادات الشرعية تؤخَذ أحكامها من الأدلة الشرعية المتعددة، منها ما يدل عليها بخصوصه، ومنها ما يدل بعمومه، ومنها ما يدل بمنطوقه، ومنها ما يدل بمفهومه، ولا توجد أحكامها مجموعةً في دليل واحد، ولقد جاءت ألفاظ التشهد والأذان في موضع، والأمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتسويده اعتقادًا ونطقًا جاء في موضع آخر، وليس في كلا الأمرين ما ينافي الآخر أو يناقضه؛ لأن صاحب الشرع الذي علَّم الناس ألفاظ الأذان والتشهد هو الذي ندب إلى أن يُسوَّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ويُعظَّم في كل موضع، وهذه الألفاظ قيلت على سبيل التعليم، واستحباب التسويد خرج مخرج التعميم، فيُحمَل المطلَق على المقيَّد، والجمع بين الدليلين ليس زيادةً في الشرع بل هو مقدَّم على العمل بأحدهما وحدَه، فتعيَّن العمل بالأمرين معًا.
3 ـ أنه لا يصح الاحتجاج بمجرَّد الترك على التحريم أو الكراهة، لا سيما فيما له أصل صحيح متقررٌ في الشرع لا مخصِّصَ له كتعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان ذلك الترك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من صحابته الكرام، بل غايته أن يُستَدل به على عدم الوجوب؛ فليس كل ما ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فِعْله يكون حرامًا أو مكروهًا، ومن باب أوْلَى ليس كل ما تَرَكَه السلف حرامًا أو مكروهًا، بل قد يكون تَرْكهم لهم أمْرًا اتفاقيًّا لا مواطأة فيه، وقد يكون لأنه حرام، أو لأن غيره أفضل منه، أو لغير ذلك من الاحتمالات، وما تطرق إليه الاحتمال بَطَلَ به الاستدلال.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: (كل ما له مستند من الشرع فليس ببدعة ولو لم يعمل به السلف؛ لأن تَرْكهم للعمل به قد يكون لعذر قام لهم في الوقت، أو لِمَا هو أفضل منه، أو لعله لم يبلغ جميعَهم عِلْمٌ به).
4ـ أن ذِكْر السيادة عند اسم الشخص المشرَّف والموقَّر من تمامه وكماله عادةً وعرفًا، سواءٌ في ذلك مخاطبتُه في حضورِه وذكرُه في غيبته، كما أن ترك ألقاب التوقير مما يُلام عليه بحيث قد يتهم فاعل ذلك بمخالفة الأدب، وخاصة في هذه العصور المتأخرة التي صار ذكر السيادة في عُرْف أهلها من لوازم التقدير والاحترام، وقد جاء الشرع الشريف باعتبار العرْف فيما لا يخالف الشرع، فقال سبحانه وتعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [سورة الأعراف: (199)]، ومع كثرة ألقاب التفخيم في عصرنا هذا فليس من اللائق أن لا نذكر السيادة مع المصطفى سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو الحقيقُ بها في كل موطنٍ يُذكَر فيه صلى الله عليه وآله وسلم.
5 ـ أن دعوى عدم الورود ليست صحيحة؛ فقد وردت السيادة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: إذا صلَّيتُم علَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَأحْسِنُوا الصَّلاَةَ علَيه؛ فإنَّكم لا تدرُونَ لعلَّ ذلك يُعْرَضُ عليه "، فَقَالُوا لَهُ: فَعَلِّمْنَا، قال: "قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلاَتَكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ، إِمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ، اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَغْبِطُهُ بِهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. [رواه ابن ماجه في (السنن) وابن جرير الطبري في (تهذيب السنن والآثار)].
6ــ والجواب عَمَّن قَصَرَ الأفضلية على التشهد دون الأذان: أن الدليل الشرعي الخارجي الذي دل على استحباب ذِكْر السيادة في التشهد مع عدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيه دالٌّ أيضًا على استحباب ذكرها في الأذان والإقامة من غير فرْق، كما أن المقصود الأعظم من الأذان الإعلامُ بدخول وقت الصلاة، وهذا المقصود لا ينافيه التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه بذكر سيادته الدالَّة على تعظيمه وشرف قدره صلى الله عليه وآله وسلم، ومع تسليم أن ذِكْر السيادة في الأذان زيادة فيه فإن الشرع قد أذن بالزيادة في الأذان عند الحاجة، كما في نادى منادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في الأذان: "صَلُّوا فِي رِحَالِكُمْ"، وكما زاد سيدنا بلال رضي الله عنه التثويب في أذان الصبح وهو قوله: "الصَّلاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ"، وأقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال له: ’’مَا أَحْسَنَ هَذَا يَا بِلالُ! اجْعَلْهُ فِي أَذَانِك’’ رواه الطبراني في المعجم الكبير، ولو كانت مثل هذه الزيادة اليسيرة للحاجة غير جائزة في الأذان لأنكر عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزيادة من حيث هي، فلَمَّا استحسنها كان ذلك دليلا على أن مثل هذا مُغْتَفَرٌ في الأذان.
ولفظ "سيدنا" في الأذان أخف من ذلك كله، مع كون الحاجة إلى ذكره أدعَى وأولَى في هذه العصر الذي تعيَّنَتْ فيه الألقاب في ذكر الأسماء والتخاطب بين الناس عرفًا، خاصة لذوي المنزلة والمكانة بينهم، فصح بذلك استحبابُ ذكر السيادة في الأذان والإقامة.
ومما سبق ومِن النظر في كتب المذاهب الفقهية المعتمَدة يُعلَم أنه ذهب إلى استحباب تقديم لفظ (سيدنا) قبل اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة والأذان والإقامة وغيرها من العبادات جمهور فقهاء المذاهب الفقهية وغيرهم ممن يُعَدُّ اتهامُهم بالبدعة ومخالفة السنَّة نوعًا من الهوى والتعصب المقيت الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا هو المختار والراجح في مقام سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما عليه الفتوى؛ فالأدب مقدم دائمًا معه صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا عن الأفضلية، أما عن الجواز فكلا الأمرين جائز، والأمر في ذلك واسع، وليس لفريق أن ينكر على الآخر في الأمور الخلافية التي وَسِع مَن قَبلَنا الخلافُ فيها؛ لأنه لا يُنكَر المختلفُ فيه وإنما يُنكَر المتفق عليه، والتنازعُ مِن أجل ذلك لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فليس ذكره صلى الله عليه وآله وسلم في الأذان والإقامة والتشهد مقترنًا بالسيادة مخالفًا للشرع، بل فاعل ذلك محمود ومثاب على فعله هذا، ونحن أحوج إلى حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر مِن أي وقت آخر، فنحن في عصر تَمُوج فيه الآراء وتختلف المشارب، وقد كثرت الفتن في الظاهر والباطن، وليس مِن نجاة من كل ذلك إلا بحب سيد الخلق سيدنا محمَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، نعلمه أبناءنا وندعو إليه غيرَنا، ونَبقى عليه إلى أن نَلقى اللهَ سبحانه فيُشَفِّعَه فينا ويُدخِلَنا الجنةَ مِن غير حساب ولا سابقة عقاب ولا عتاب.

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ـ الحلقة (3)...



مع الحلقة الثالثة نستكمل التأدب الواجب مع سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أما بالنسبة للألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع كالأذان والإقامة وتشهد الصلاة: فمذهب جمهور العلماء والمحققين من أتباع المذاهب الفقهية المعتمَدة وغيرهم أنه يُستحَبُّ اقترانُ الاسم الشريف بالسيادة أيضًا في الأذان والإقامة والصلاة؛ بناءً على أن الجمع بين الأدب والاتباع أوْلَى من الاقتصار على الاتباع؛ لأن الجمع أوْلَى من الترجيح، وفي الأدب اتِّباعٌ للأمر بتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تُخَصَّ منه صلاةٌ ولا أذانٌ ولا إقامةٌ، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُمَّتَه الأدبَ معه حيث أخبر بالسيادة عن نفسه الشريفة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ’’، وقال لمن خاطبوه بقولهم: أنْتَ سَيِّدُنَا: ’’السَّيِّدُ اللهُ’’، ثم قال: ’’قُولُوا قَوْلَكُمْ، وَلاَ يَسْتَجِرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، فأقرَّ ذِكْر السيادة ونبَّه على صحة المعنى بالتحذير من إهمال الفرق بين سيادة المخلوق والسيادة المطلَقة للخالق سبحانه.
قال الإمام الخَطّابي: قَوْلُه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ ’’السَّيِّدُ اللهُ’’ أَيْ السُّؤْدُد كُلّه حَقِيقَة للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ الْخَلْق كُلّهمْ عَبِيد الله، وَإِنَّمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ سَيِّدًا مَعَ قَوْله: ’’أَنَا سَيِّد وَلَد آدَم’’ لأَنَّهُمْ قَوْمٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ، وَكَانُوا يَحْسِبُونَ أَنَّ السِّيَادَة بِالنُّبُوَّةِ كَما هِيَ بِأَسْبَابِ الدُّنْيَا وَكَانَ لَهُمْ رُؤَسَاء يُعَظِّمُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لأَمْرِهِمْ، وَقَوْله: ’’قُولُوا بِقَوْلِكُمْ’’ أَيْ قُولُوا بِقَوْلِ أَهْل دِينكُمْ وَمِلَّتكُمْ وَادْعُونِي نَبِيًّا وَرَسُولاً كَمَا سَمَّانِي الله تَعَالَى فِي كِتَابه وَلا تُسَمُّونِي سَيِّدًا كَمَا تُسَمُّونَ رُؤَسَاءَكُمْ وَعُظَمَاءَكُمْ وَلا تَجْعَلُونِي مِثْلهمْ؛ فَإِنِّي لَسْت كَأَحَدِهِمْ؛ إِذْ كَانُوا لَيْسُوا دُونكُمْ فِي أَسْبَاب الدُّنْيَا وَأَنَا أَسودكُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَة فَسَمُّونِي نَبِيًّا وَرَسُولًا.
وخُوطِب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بـ"يا سَيِّدِي" فأقرَّ ذلك ولم ينكره؛ فعن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ رضي الله عنه قال: مَرَرْنَا بِسَيْلٍ، فَدَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ فِيهِ، فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا، فَنُمِيَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَقَالَ: ’’مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوَّذ’’، فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي! وَالرُّقَى صَالِحَةٌ؟ فَقَالَ: ’’لاَ رُقْيَةَ إِلاَّ فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ لَدْغَةٍ’’. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي في (عمل اليوم والليلة) والحاكم في (المستدرك) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وفي إقراره صلى الله عليه وآله وسلم لذلك إِذْنٌ منه في خطابه وذِكْرِه بذلك وأنه أمر مشروع، ولا فرْق في ذلك بين أن يكون داخل الصلاة أو خارجها، بل ذلك في الصلاة أوْلَى؛ لأن الشرع راعى الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة بصورة مؤكَّدة؛ فشرع للمصَلِّي مخاطبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم داخلَ الصلاة وجعلها تبطل بمخاطبة غيره، وأوجب الله تعالى على المصلِّي أن يجيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطبه أثناءها ولا تبطل بذلك صلاتُه؛ مبالغةً في الأدب معه صلى الله عليه وآله وسلم ومراعاةً لحرمته وجنابه الشريف، وهذا جارٍ أيضًا في الأذان والإقامة فتخصيصُهما من ذلك لا دليل عليه بل هو على عمومه. بل أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأمر بتسويده عند ذكر اسمه الشريف حيث راجع مَن ذكَرَه مجرَّدًا عن السيادة؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صَعِد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ’’مَنْ أَنَا؟’’ قلنا : رسول الله، قال: ’’نَعَمْ، وَلَكِنْ مَنْ أَنَا؟’’ قلنا: أنت محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قال: ’’أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ’’. [رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه].
وإذا قيل بالترجيح بينهما فالأدب مقدَّم على الاتباع، كما ظهر ذلك في موقف سيدنا علي رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية حيث رفض أن يمحو كلمة "رسول الله" عندما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحوها، تقديمًا للأدب على الاتباع، وظهر ذلك أيضًا في تقهقر سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة بعد أمْرِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يبقَى مكانه وقال له بعد الصلاة: "ما كانَ لابنِ أبي قُحافةَ أنْ يُصَلِّيَ بينَ يَدَي رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّم"، وكذلك فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه حيث أخَّر الطوافَ لـمَّا دخل مكَّة في قضية صلح الحديبية مع علمه بوجوب الطواف على مَن دخل مكة؛ أدبًا معه عليه الصلاة والسلام أن يطوف قبله وقال: "ما كُنتُ لأَفعَلَ حتَّى يَطُوفَ بِه رسولُ اللهِ"، وأقره النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وجَعَلَه مِن مفاخره ومناقبه؛ فإنه لَمَّا قال الناس: "هنيئًا لأبي عبد الله! يطوف بالبيت آمنًا"، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ’’لَوْ مَكَثَ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مَا طَافَ حَتَّى أَطُوفَ’’. [رواه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وابن أبي حاتم في "التفسير"].
وهذا هو المعتمد عند الشافعية كما نصَّ عليه العلامة المحقق الجلال المحلي [ت864هـ]، والشيخان: ابن حجر الهيتمي [ت973هـ] والشهاب الرملي [ت957هـ]، وعند الحنفية كما أفتى به العلامة القحفازي [ت745هـ]، واعتمده البرهان الحلبي [ت956هـ]، والإمام علاء الدين الحَصْكَفي [ت1088هـ]، والعلامة الطحطاوي [ت1231هـ] ، وعند المالكية -كما قال الإمام العارف بالله تعالى أبو الفتح ابن عطاء الله السكندري [ت709هـ] وجزم به القاضي ابن عبد السلام [ت749هـ] قاضي الجماعة في تونس، وشيخ الإسلام أبو القاسم البرزلي [ت844هـ]، والشهاب الحِمْيَرِي القُسَنْطيني الجزائري [ت878هـ]، واعتمده الإمام الحطَّاب [ت954هـ]، والإمام الأُبِّي [ت827هـ] وغيرهم-، ونقله الإمام أبو بكر بن المنذر النيسابوري [ت319هـ] عن الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه [ت238هـ] في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الجنازة، ورجحه العلاّمة محمد بن علي الشوكاني [ت1250هـ].

الأحد، 28 مايو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة ــ حلقة (2)...







هذه حلقتنا الثانية من حيث الترتيب، وهي الأولى من حيث الموضوع والتناول، ولقد آثرت أن يكون المفتتح فيها تحت عنوان: 


[التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم]



تحرز علماء السلف الصالحين من المناهضين للتوسل ونفي السيادة عن الرسول في الصلاة مخافة جلب الشرك إلى الدين الحنيف، وعدم مشروعية تخصيص قبره بالزيارة بل قصر نية الزيارة على مسجده بما فيه تضعيف حديث عرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا جرأ على جناب رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من تجرأ، وبات أحيانًا يذكرون اسمه بلا سيادة مما ينافي التوقير له، بل أحيانًا ماينظرون شذرًا لمن ينطق لفظة سيدنا مقرونة باسمه مخافة الظن أنه من الصوفية، وهذا مما يؤاخذهم عليه الصوفية أنفسهم بأنهم يوقرون علمائهم ويضفون عليهم من الألقاب الشئ الكثير بينما عند ذكر سيد ورسول الأمة ينادونه بلا لقب مع ماله من سيادة صلى الله عليه وسلم، حتى عاب عليهم بعض المتصوفة انتهاجهم مثل هذا المسلك بقولهم: (...يسمون النبى بلفظ محمد ـ أي السلفيون ـ هكذا مجردًا بحجة أنه قال: ’’لاتطرونى إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله’’، بينما نجدهم يطرون ابن تيمية ويأتون بألقاب كثيرة تسبق اسمه) [سلسلة الفتوحات العزمية.. دراسة نقدية لتوحيد السلفية ص116ـ117 ].



أن جمهور الفقهاء ذهبوا أخذًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأذان الذي تعلمه الرسول من جبريل عليه السلام جاء فيه: " أشهد أن محمدًا رسول الله" وعلى ذلك ذهب مالك وأحمد وأبو حنيفة، ولكن الشافعية أجازوا تسييد الرسول في الأذان . لأن الأدب مع رسول الله واجب فإذا كنا نُسيد من يعلمنا علمًا من العلوم الشرعية والقرآن الكريم فكيف لا نُسيد ــ عقلاً ونقلاً وتأدبًا ــ من نزل على قلبه القرآن وهدانا إلى الإسلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟! 



إن السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على كل مؤمن، وإذا كان الحديث الذي أخذ به الأئمة الثلاثة، يؤخذ من منطوقه عدم سيادة الرسول في الأذان، فأن مفهوم اللفظة وإن كان يُفهم منه لا يُسيد وهو حاضر، إلا أنه حال غيابه صلى الله عليه وسلم له الفضل والسيادة وزيادة.
وقد بحث قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية مسألة تسويد النبى استعرض فيه المسألة من كافة جوانبها بعلمية وحيادية أنقل منه بتصرف أهم ما جاء فيها:



(فإن سيدنا محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو جوهرة النفوس، وتاج الرؤوس، وسيد ولد آدم أجمعين، ولا يدخل الإنسان دائرة الإيمان إلا بحبه وتعظيمه وتوقيره والشهادة برسالته؛ فهو أحد ركنَي الشهادة؛ إذ لا يقبل الله تعالى من أحد الوحدانية حتى يَشفَعَها بأنه صلى الله عليه وآله وسلم رسوله إلى العالمين. 



وقد عَلَّمَنا الله تعالى الأدب مع سيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم حين خاطَب جميع النبيين بأسمائهم، أما هو فلم يخاطبه باسمه مجرَّدًا بل قال له: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، وأمَرَنا بالأدب معه وتوقيره فقال: ﴿إنَّا أَرْسَلناكَ شَاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا * لِتُؤمِنُوا بِاللهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلا﴾ [سورة الفتح: (8-9)].



ومِن توقيره تَسوِيدُه عليه الصلاة والسلام كما قال السديُّ:’’وتوقروه’’: أي تُسَوِّدُوه، ذكره القرطبي في تفسيره، وقال قتادةُ: أمَرَ الله بتسويده وتفخيمه وتشريفه وتعظيمه . أخرجه عبد بن حميد وابن جرير الطبري في التفسير، ونهانا عن التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحذَّرنا مِن رفع الصوت فوق صوته الشريف صلى الله عليه وآله وسلم أو الجهر له بالقول، فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة الحجرات: (1 ــ 3)]. 



 كما نهانا أن نخاطبه صلى الله عليه وآله وسلم كما يُخاطب بعضُـنا بعضًا فقال سبحانه: ﴿لا تَجعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ سورة النور: (63).



قال قتادة: "أَمَرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُبَجَّلَ وَأَنْ يُعَظَّمَ وَأَنْ يُسَوَّدَ". أخرجه ابن أبي حاتم وغيره في التفسير. فكان حقًّا علينا أن نمتثل لأمر الله، وأن نتعلم مع حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأدبَ معه، ومن الأدب معه أن نُسَوِّدَه كلما ذُكِرَ، وأن نصلي عليه كلما ذُكِر، وأن لا نخاطبه باسمه مجرَّدًا عن الإجلال والتبجيل). 



ولا فرق بين النداء والذِّكْر في ذلك؛ فكما يُشرَع استعمالُ الأدب والتوقير والتعظيم عند دعائه صلى الله عليه وآله وسلم يُشرَع كذلك عند ذكر اسمه صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة عليه من غير فرق؛ لوجود العلة في كلا الأمرين، وهي النهي عن مساواته بغيره من المخلوقين، وذلك حاصل في الذكر كما هو حاصل في الخطاب والنداء، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا. 



أجمعت الأمَّة على ثبوت السيادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى عَلَمِيَّته في السيادة، قال الشرقاوي: "فلفظ "سيدنا" عَلَمٌ عليه صلى الله عليه وآله وسلم"، وأما ما شذَّ به بعضُ مَن تمسَّك بظاهر بعض الأحاديث متوهِّمين تعارضها مع هذا الحكم فلا يُعتَدُّ به، ولذلك اتفق العلماء على استحباب اقتران اسمه الشريف صلى الله عليه وآله وسلم بالسيادة في غير الألفاظ الواردة المتعبَّد بها من قِبَل الشرع.



كما اتفقوا على عدم زيادتها في التلاوة والرواية:



أما التـلاوة: فإن القرآن كلام الله تعالى لا يجوز أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه، ولا يقاس كلام الله تعالى على كلام خلقه.
وأما الروايـة: فإنها حكايةٌ للمَرْوِيِّ وشهادةٌ عليه؛ فلابُدَّ من نقلها كما هي، على أن بعض العلماء نصُّوا على أن هذا بحسب الوضع في الخط، وأما مِن حيث الأداء ــ حيث يُؤمَن اللبس وإيهامُ الزيادة ــ فالأَوْلَى أن لا تَعرَى عنها في المرْوِيِّ وغيره، كما قال الإمام العارف بالله أبو عبد الله الهاروشي المالكي وغيره.


دراسات يسيرة في رحاب السيرة ــ حلقة (1)...






الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعـد:


فقد هيأ الله تعالى لصحيفة ذي المجاز رجل يعلم قيمة الثقافة في شمولها، ومنها بالطبع الثقافة الدينية وهو الشاعر القدير الأستاذ محمد عبد الستار طكو، ولذا فقد اغتنم الرجل أيام هذا الشهر الكريم لنطوف بسياحة يسيرة في رحاب السيرة العطرة على صاحبها الصلاة والتسليم، برعاية كريمة من الشاعر القدير الأستاذ ياسين عرعار.



الأصل أنها كانت دراسات يحويها كتاب مذيلة بالهوامش والمراجع، وهي حين تنتقل إلى عالم المقال فسيحس القارئ أنها سياحة يسيرة، واليسيرة هنا من استرواح النفوس لمطالعتها والسير في دروبها، ولكنها عسيرة من حيث الجهد المبذول فيها، غير أنه لن يكون عسيرًا على الفهم، ومن خلال هذه السياحة سأتناول بعضًا من المقالات الهامة في تأصيل مسائل يتشابك فيها الفقه مع العقيدة مع السيرة المطهرة في إطار الالتزام بالنقل الصحيح وشيء من إعمال الفكر من أجل الخروج بقيم جديدة، ورؤى دقيقة من هذا الالتباس المصطنع أحيانًا في مسألة زيارة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.



كما سأتعرض خلال تلك السياحة إلى الإرهاصات التي سبقت رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم وأثر ذلك على العامة والصحابة وعلى ابنته رضوان الله عليهم أجمعين، لنقدم بتحليل ـ غير مسبوق ربما ـ صورة جديدة غير الذي دأب الفكر الإسلامي على طرحها وبثها بشكل يكاد يكون محفوظًا من كثرة استهلاكه.



كما ستتعرض المقالات في سياحتنا اليسيرة تلك إلى ذلك الاقتتال الحادث بين المتصوفة والسلف حول الحياة البرزخية لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما تأتي المقالات منتصرة فيه لجانب السلف بشيء من الحياد العلمي.



وستتناول المقالات كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الحيٌ في قلوبنا بدراسة المحبة والفداء بين من أحبه من الصحابة رضوان الله عليهم وبين آخر وأصغر مسلم تظاهر دفاعًا عن سيده ونبيه صلى الله عليه وسلم ويفتديه بنفسه وروحه وبأمه وأبيه.



 كما ستتناول الدراسات ضرورة التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أولئك الذين ظنوا أن قدره الكريم مثل قدر أي أحد من البشر، بل فاقوا في تعظيمهم أناسٍ ما يساوون قلامة ظفره صلى الله عليه وسلم، فأغرقوهم بالألقاب والتفخيم، وأزالوا عن اسمه الكريم لقب السيادة، واستسهلوا فلم يكتبوا الصلاة والسلام عليه بعد اسمه الكريم صلى الله عليه وسلم.
إذن فهذه السياحة في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها تحتاج قراءة جادة بالقلب والعقل معًا وليس بالعاطفة وحدها؛ فربما تصور متصور من قراءة العنوان أنه كلام تقليدي لا يحتاج منه غير قراءة عابرة ثم يصلي ويسلم على سيد الخلق أجمعين ثم يمضي إلى نومه أو عمله أو صلاته، وقد تصور أنه فعل ما عليه، بل هي تحتاج أكثر من ذلك، وهذا ليس للتشويق، أو لبيان الجهد، بقدر ما هو للاستعداد والمثابرة. وقد تدعو الحاجة لتناول الموضوع الواحد لطوله وأهميته فسنفرده في مقالين متتاليين أو أكثر، وسيكون هناك التزام بذكر المراجع، وعزو الآيات والأحاديث والأقوال لأصحابها من باب الأمانة العلمية، على أننا سنضمنها في ثنايا المقال لتناسب الحال.



إن المسلم الحق هو الذي لا يمل من تكرار الإبحار فيها والتزود من أنوارها، وعلى كثرة ما تناولتها في كتب ودراسات، ولي عظيم الشرف، عديدة إلا أني مازلت أكرر منذ أول كتاب إلى كتابي الأخير الذي لم يأتِ بعد، أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ستظل ماثلة في القلوب والأذهان إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ، سواء في ذلك عقل وقلب من أحبوه وأتبعوه أو من خالفوه فاحترموه أو من غيرهم، ولهذا ستظل نبعًا متجددًا لا يقف عند حد الإشباع والارتواء بل سيجد فيها كل قارئ فضلاً جديـــدًا، ورؤية تدعو للتفكير والتأمل وربط الأحداث والتعمق فيها، واستكناه الأسرار، والتعرض للأنوار، وقد تفتح أمام القارئ مساقات يحب أن يزيد فيها تعمقًا وفهمًا.



والله أرجو بعد كل ما تقدم أن تنجح هذه المقالات في التواصل مع السيرة العطرة على الدوام، ورفقة صاحبها نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، وهو شرف عظيم، وأمل يضرب في جنبات النفس، وأمنية تتردد مع دقات القلب، واللهج بالدعاء بها في كل حين، وهذا حالي غالبًا وحال كل المسلمين، ومن المقالة القادمة سنبدأ الإبحار والرفقة.. وبالله أستعين.




الاثنين، 15 مايو 2017

طفلة الرؤيا في المسجد













لاأدري لماذا حلَّ عليَّ الاكتئابُ في هذه الليلةِ، مع أنها كانت ليلةٌ قمراء، وجاءت في نهاية الأسبوع والجمعة وقت راحتي، وتمادَى الحزنُ حتى انحدرَتِ الدموعُ على وَجْنَتي، دخلَتْ أمي غرفتي تُخبِرني بموعد طعام العشاء، فأذهلها وأفزعها ما رأَتْ مِن حالي، وأخذَتِ الأسئلةُ تنهمِرُ مِن فمِها، بينما كسا الهولُ والجزع وجهَها، وقرأتُ في عينَيْها أسئلةً تبحثُ عن إجابات، والمصيبة أنه لا إجابات عندي ولا تفسير!

ولكني وجدت تفسيرًا ربما راح عن خاطري، غير أنه ولا شك مستقرٌّ في رأسي، وذلك مَرَدُّه لمتابعتي للأحداث السياسية التي تصبُّها فوق رؤوسِنا نشراتُ الأخبار التي لا تَغِيب عن مشاهدها غالبًا صورُ الأطفال المشرَّدين أو المقتولينَ في بلادنا العربية والإسلامية فقط - دون بلاد وديانات الدنيا - مِن تشريد، وتهجير، ودكٍّ بالطائرات، وبألوان من المدفعية والرشاشات والبنادق في سوريا، والعراق، واليمن، وفلسطين، وليبيا، وأفغانستان، ربما كان هذا هو السببَ!

طمأنتُ أمي، وهدَّأَتْني ونصحَتْني أن أذهب غدًا لصلاة الجمعة معها في المسجد القريب في منطقتنا؛ فالصلاة والمساجد كثيرًا ما تفرِّج الهموم.
قابَلني والدي على العَشاء بابتسامتِه اللطيفة، وغالبًا ما يناديني: "طفلتي"، طمأنَتْه أمي عن سرِّ تأخيرنا، وفهِم ولم يشَأْ أن يسألني، فقد أدرك أن أمي قد قامَت بالواجبِ وزيادة، فلم يشَأْ أن يُثقِل عليَّ.

تناوَلْنا العَشاءَ الذي كان أشهى ما فيه مسامراتُ أبي ودعاباته التي أذهَبَت الحزن عن نفسي، وأنسَتْني ما كنت فيه، واستأذنتُهما في النوم مبكرًا لأصلِّيَ الجمعة مع والدتي ووالدي في المسجدِ، وقد أسعد هذا الخبرُ السارُّ والدي، الذي فاجأني بأن يكون الغداءُ أيضًا خارج المنزل، فليس لديه أعمالٌ أو مقابلات بعد صلاة الجمعة.

حاولتُ أن أنامَ دون أن أُفكِّر في أي موضوع من شأنِه أن يُعكِّر صَفْوي بعد هذا العَشاء الطيِّب، وممازحاتِ أبي التي أضحكَتْني، ومفاجأةِ الخروج معًا بعد صلاة الجمعة التي أسعدَتْني.
تسلَّل النُّعاس إلى عيني وئيدًا، فاستسلمتُ له في سرورٍ، ورأيتُ كأن سحاباتٍ بيضاءَ تطوفُ حولِي، وأنا لا أدري مكانَها، ولا ماذا تريد مني أو بي؟ وأنا في هذا المكان منزويةٌ في ركنٍ مِن أركانه، ممسكة بمِنْديلٍ أبكي كثيرًا ولا أدري من أي شيء أبكي، أو سر هذا الحزن بداخلي؟

وينقشعُ السحاب، ثم يدخل نور فِضيٌّ ينساحُ في المكان، وغلالةٌ رقيقة بيضاء تدورُ وحدَها في المكان، ولكني تبيَّنت أن طرفها في كف طفلةٍ مُمسكةٍ به، تقترب الطفلة مني شيئًا فشيئًا وكأننا يعرف بعضُنا بعضًا منذ زمن بعيد، وقد رقَّت لحالي وما أنا عليه، تقدَّمَت مني وهي تمسحُ بكفَّيها الصغيرتينِ دموعي وتمسحُها، وتتوسل إليَّ بنظراتها أن أكف عن البكاء، وأن أبتسم، ثم همسَتْ في أذني:
لا تبكي؛ فحالُك أحسنُ من حالي، وعلى الرغم مما حل بي فإني ما زلت أبتسمُ.

لم أستطِعْ أن أردَّ عليها، فقد انسحَبَت من المكان أو تلاشَتْ، لا أدري، وقد أيقظني صوتُ أمي لنتهيَّأ للخروج إلى الصلاة، وفي المسجد كانت هناك مجموعةٌ من المتَّشِحات بالسواد يبكين، وقد تبيَّن لي أنهن جِئن ليصلين على والدِهن صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة، فقد تُوفِّي ساجدًا أثناء صلاة الضحى، وبينما أنا أجيلُ النظرَ فيهن، نهضَتْ من بينهن طفلةٌ، أخذت تنظر إليَّ طويلًا، وأنا أنظر إليها كأنما أسيرُ في حُلمي الذي راودني بالأمس، ولم أَلْمَح في عينيها حزنًا أو بكاءً، بل سعادة غامرة، ثم تقدَّمت نحوي، وأخبرتني بأن والدها هو مَن سيُصلَّى عليه بعد قليل، فلمحت في عيني دموعًا فكفكفتها بكفَّيها، وهي تتوسل إليَّ ألا أبكي، وقبل أن أسألها: لِمَ لا تبكي والدها؟ أجابتني بأنها سعيدة أن الله حقَّق لأبيها ما كان يتمنَّاه دومًا في دعواته بأن يقبضه ساجدًا، كما أن وصيتَه لي بألا أبكيه، ثم التفتت إليَّ قائلة:
احمَدي الله، وداوِمي على الصلاة، وكُونِي رهنَ إشارةِ والديك، ألم أقل لك: إن حالك أحسنُ مِن حالي؟!

ثم انسلَّت من بين يدي، وأخذتُ أبحث عنها بين النائحات فلم أجِدْها، قيل لي: إنها نزلت لتُودِّع والدَها المسجَّى وتُصلِّي قريبة منه، فقد كانت كثيرًا ما تصلي خلفه في المنزل؛ ولذا فهي أولُ مَن أخبرت عائلتها بوفاته، وربما كنت معها على موعد لكي أفهم معنى أن تموتَ ساجدًا لله، ومعنى أن تنعَمَ بالحياة في مرضاة الله، ومعنى أن ترضى بقضاءِ الله، وتحمَده على ما أصابك في السرَّاء والضراء، ولا تتسخَّط منه.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/116177/#ixzz4hAJMW0zk