الخميس، 29 يونيو 2017

شهادة شكر وتقدير من صحيفة ذي المجاز للأديب السيد إبراهيم أحمد







تقديرا للمجهودات التي قدمها خلال شهر رمضان الكريم لسنة 1438 هجرية 

ضمن برنامج ( دراسات يسيرة في رحاب السيرة ) يسر إدارة صحيفة ذي 

المجاز أن تتقدم للأستاذ السيد إبراهيم أحمد بالشكر الجزيل 

على روح المثابرة الإبداعية والعطاء الفكري ... 


حزب حماة الوطن ــ أمانة السويس يكرم الأديب السيد إبراهيم أحمد


   



قام السيد اللواء أركان حرب سعيد عجمي أمين عام حزب حماة الوطن ــ أمانة محافظة السويس، والسيد أمين تنظيم الحزب السيد المحاسب محمد إبراهيم الفرماوي، بتقديم شهادة تقدير إلى الأديب السيد إبراهيم أحمد أحمد لإبداعاته المتميزة لإثراء الحياة الثقافية، وذلك  في حضور السيد الأستاذ عصام حسن رئيس مجلس إدارة جمعية أسوان للتنمية الاجتماعية، ولجنة الثقافة والفنون بحزب حماة الوطن بالسوبس، وأمناء الحزب للسياسات، والتثقيف والتدريب، الصندوق، والعضوية، والمحليات، والمراسم والاحتفالات، ولفيف من الشخصيات العامة بالمحافظة وغيرهم..

وسام شرف صحيفة ذي المجاز للأديب السيد إبراهيم أحمد






منح الشاعر الكبير الأستاذ محمد عبد الستار طكو رئيس مجلس إدارة ورئيس تحرير 

صحيفة ذي المجاز وسام شرف للأديب السيد إبراهيم أحمد وذلك ضمن فعاليات 

برنامج "ضيف الأسبوع" الذي يديره الشاعر الكبير الأستاذ ياسين عرعار، تقديرًا 

لما يقدمه من نتاج فكري وأدبي في غنى المكتبة العربية..

الأديب السيد إبراهيم رئيسًا لقسم الأدب العربي باتحاد الكتاب والمثقفين العرب...






أصدر العالم والمفكر الموسوعي العالمي سفير دكتور محمد حسن كامل رئيس اتحاد 

الكتاب والمثقفين العرب اليوم قرارًا بتكليف الأديب السيد إبراهيم أحمد محمد طه 


برئاسة قسم الأدب العربي في اتحاد الكتاب والمثقفين العرب وذلك لما يتمتع به 

الأديب من مهارة فائقة في الأدب ولأنه أديب بارع له مؤلفات كثيرة مطبوعة وله 

إسهامات كثيرة في إثراء الثقافة العربية...

المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني يمنح الدكتوراه الفخرية في الأدب للأديب السيد إبراهيم أحمد..






أصدر الأستاذ الشاعر الدكتور لطفي الياسيني رئيس ومؤسس المجلس الأعلى للإعلام 

الفلسطيني، بعد مداولات مع نائبه الأستاذ الدكتور سمير الأحمد، وعضوية الشاعر

 الأستاذ ياسين عرعار.. قرارًا بمنح الشاعر والأديب السيد إبراهيم أحمد  شهادة 

الدكتوراه الفخرية في الأدب العربي بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف وذلك تقديرًا 

لابداعاته الأدبية ولجهوده الجليلة في إثراء الثقافة العربية..


الجمعة، 23 يونيو 2017

معه صلى الله عليه وسلم في رمضان







فرض الله تعالى صوم شهر رمضان في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وعلى هذا فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صام تسع رمضانات، ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم توفي في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة، وهو ما أجمع العلماء عليه وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية  في مجموع الفتاوى.

   واستلهامًا من كون شهر رمضان شهرًا للتواصل الإيماني، فقد كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ليس كشأنه وحاله في أي من شهور العام،  غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل رمضان قبل دخوله وذلك بداية من شهر شعبان الذي كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام فيه باعتباره من السنن الرواتب التي ترافق الصلوات المكتوبة، بما يعني أن صوم شهر شعبان راتبة قبلية كتقدمة لفرض شهر رمضان مثلما جعل صيام الست من شهر شوال راتبة بعدية له.

    كان لشهر رمضان في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم موقعًا كبيرًا، وفرحة بقدومه، واستبشارًا به، ولهذا كان ينقل هذا البشر والسرور بمقدمه بما يشيعه صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضي الله عنهم وذلك من مثل قوله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ: "أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مِرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"[البخاري:1899].
   فإذا رأى صلى الله عليه وسلم هلال شهر رمضان، قال: "اللَّهُمَّ أَهْلِلْهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" [الترمذي: 3451].   

   ومع أول ليلة من أيام رمضان كان صلى الله عليه وسلم يقول محفزًا أصحابه وأهل بيته والمسلمين أجمعين: " إذا كان أَوَّلُ ليلة من شهر رمضان، صُفِّدَتِ الشياطينُ وَمَرَدَةُ الجنِّ، وَغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ فلم يُفْتَحْ منها بابٌ، وَفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ، وَيُنَادِى مُنَادٍ: يا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، ويا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وللهِ عُتَقَاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ" [رواه الترمذي]. 

   كان صلى الله عليه وسلم يتهيأ لشهر الصبر كما كان صلى الله عليه وسلم يسميه بالكثير من أن واع الطاعات والقربات من العبادات، ومنها مدارسته صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم مع أمين السماء جبريل عليه السلام، كما كان صلى الله عليه وسلم يكثر من إخراج الصدقات، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، كما كان صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود الناس وأجود ما يكون في هذا الشهر عن غيره من الشهور ليس في الصدقات فقط بل بكثرة الإحسان وتلاوة القرآن، والصلاة والذكر والاعتكاف.

  ربما يدل على خصوصية شهر رمضان من العبادة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم  دون غيره من شهور العام، لتلتقي خصوصية هذا الشهر مع خصوصية من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يواصل الصيام يومين أو ثلاثة حتى يتفرغ لعبادة الله تعالى، ناهيًا أصحابه رضي الله عنهم أن يحذوه حذوه لأنهم ليسوا بمنزلته ومكانته عند الله تعالى.

ففي الصحيحين وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ فِي رَمَضَانَ فَوَاصَلَ النَّاسُ فَنَهَاهُمْ. قِيلَ لَهُ أَنْتَ تُوَاصِلُ، قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى".  

   كان من هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان حثه على التعجيل بالإفطار بعد غروب الشمس وقبل أن يصلي المغرب ولو بشربة ماء، وتأخير السحور ولو تناول صلى الله عليه وسلم أقل القليل من الطعام.
 وأما في التعجيل بالفطور:
عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر" [رواه البخاري ومسلم].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رُطَبات، فإن لم تكن رُطَبات فتُميرات، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء" [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وأما بالتأخير في السحور:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تسحَّروا فإن في السحور بركة" [رواه البخاري ومسلم].

    كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن رمضان هو شهر الدعاء، وشهر الاستجابة والمغفرة، وأنه هو الذي بين لأمته فضل الدعاء في بعض الأوقات، وأن الدعاء عبادة عظيمة، وأن من أحب الأوقات في الدعاء للعبد وهو صائم ذلك لما فيه من صفاء النفس، والخضوع والانكسار لله تعالى، والإقبال عليه بالكلية والانقطاع عن الخلق وعن شواغل الدنيا  لحديثِ أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: "ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الصائم حتى يُفطِر، والإمامُ العادل، ودعوةُ المظلوم" [صحيح، رواه الترمذي وابن ماجه 1752].

   ولهذا كان يدعو صلى الله عليه وسلم عند الإفطار فيقول بما ثبت  في سنن أبي داوود وحسنه الألباني، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ".  

 قال الطيبي: (قوله صلى الله عليه وسلم "ثبت الأجر" بعد قوله "ذهب الظمأ" استبشارًا منه لأنه من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب وأراد اللذة بما أدركه ذكر له تلك المشقة ومن ثم حمد أهل الجنة في الجنة). 

  يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل للمسلمين في هديه في شهر رمضان حيث كان يُسافر فيه للغزو والجهاد في سبيل الله، كما كان في سَفَره يصوم ويفطر، ولكنه كان يخير الصَّحابة بين أن يصوموا أو يفطروا، ولكن يأمرهم بالفطر عندما يقتربون من مكان العدو؛ لما في الصوم مع السفر مشقةً عليهم وأخذ من قوتهم وعزمهم.   
ففي صحيح البخاري عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنِ رَوَاحَةَ".


   كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن لا تكون هناك جفوة أو مباعدة بين الرجل وزوجته، فكانت القبلة ممن لا يخشى على نفسه إنزال المني، ذلك أن القبلة في الصوم ليست محرمة.
كما جاء في باب الصوم عند البخاري، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ.

  والمباشرة المذكورة في الحديث بمعنى "الملامسة" والمراد هنا غير الجماع. ومعنى"أملككم لإربه" أي أنه أقوى منكم في التحكم في نفسه صلى الله عليه وسلم فلا يخشى منه من نتاج تلك المباشرة الإنزال أو بواعث الجماع.  

 لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم أمته دون أن يعلَّمها من هديه مع أهل بيته في رمضان لتتأسى به، ومن ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يصبح جُنُبًا من جماع، فيدركه الفجر وهو على حاله تلك، ثم يقوم بعد طلوع الفجر فيغتسل ويصوم.

كما كان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان أن يصب الماء على رأسه وهو صائم، ويتمضمض ويستنشق أثناء صومه مع نهيه عن المبالغة في الاستنشاق، وكان يتسوَّك حال صيامه.

  وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان الحث على قيامه والترغب فيه؛ قال ابن شهاب: عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرغِّب في قيام رمضان من غير أنْ يأمر بعزيمة، فيقول: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" [رواه البخاري 37 ومسلم].
  قال ابن شهاب: فتُوفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، وكان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر.

  وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل؛ يعيد إليه صلى الله عليه وسلم نفحات خلوته الأولى في غار حراء، مستقلًا بذاته عن الدنيا، ليس في قلبه سوى ربه عز وجل، الذي يتفرغ لذكره ومناجاته، غير أن الإسلام دين الجماعة، فجعل الله الاعتكاف خلوة كل معتكف مع نفسه وربه في إطار الجماعة، ذلك أن الإسلام دين الجماعة.

    وفي العام الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف عشرين يومًا. وكان إذا دخل العشر الأواخر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره، مجتهدًا ومثابرًا على العبادة والذكر كما حكت عن ذلك السيدة عائشة رضي الله عنه. كما كان صلى الله عليه وسلم يرغِّب بالاعتمار في رمضان ويعلم من حوله أنَّ عمرة في رمضان تعدل حجة معه، والترغيب في إطعام الصائمين، وتحري ليلة القدر

 هذا هو حال رمضان مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما عشناه معه صلى الله عليه وسلم ، وكيف كان رمضان شهر له مذاق خاص في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الطاعات المضاعفة المتصلة والتي ينتظرها بشغف، ويحييها بحب، ويدعو إليها من حوله كفرصة يغتنمونها، يعرف قدر هذا الشهر رسول له قدر مبعوث لأمة لها قدر، كرمها الله تعالى بصيام وقيام هذا الشهر، فكان التطبيق العملي لها في الاقتداء بنبيها الكريم صلى الله عليه وسلم.


http://www.alwan-group.com/report.php?pid=1682

تَأَمُّلَاَتٌ فِي رَمَضَانْ





الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعـد:

 فهذا الكتاب يتناول عددًا من التأملات التي تبلورت مقالات تدور كلها حول شهر رمضان المبارك، والتي جاءت استلهامًا من هذا الشهر المفعم بالدروس، والخبرات، والتجارب، والعطاءات الإيمانية الربانية بصنوفٍ شتى لا يستوعبها واحد فقط بل تتوزع بحسب الفهوم والعقول وجلاءات القلوب التي تتشرف باستقبالها.

 بقدري لا بقدر المعاني الجليلة المستمدة من هذا الشهر الذي ذكره الله في كتابه الكريم، وجاءت الأحاديث الكثيرة في السنة النبوية المطهرة القولية والفعلية اقتداءً بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لكي أتأمل فيها على مهلٍ وتؤدة، قراءة في من تناوله من السابقين، وإعمالًا للفكر فيه بالقلب والعقل معًا، في محاولة لاستخراج أهم ما فيه من درر وفوائد علمية وعملية.

 ولقد جاءت هذه التأملات في شهر رمضان كموضوع، وكتبتُها في شهر رمضان كتاريخ، وذلك كما كان يفعل سادتنا العلماء حين كانوا يشيرون لتاريخ بدايتهم في كتابة مصنفهم أو الانتهاء منه ويستبشرون إذا كان أوله ومنتهاه أو أوله أو منتهاه، كل على حدة، وقع في أحد أيام أو إحدى ليالي رمضان، ليعانق التاريخ شهر رمضان في لحظة زمنية فارقة في تاريخ المُصَنِّف، والمُصَنَّف.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وسيد الخلق أجمعين.

رابط الكتاب:


 http://www.alukah.net/library/0/117537/

الأربعاء، 21 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة – الحلقة 11








مع حلقتنا الحادية عشر نمضي على ضوء التمهيد الذي قدمناه بين يديها من حلقتين سابقتين استصحبت فيهما القارئ المسلم وغير المسلم ليرى بنفسه ويطالع مدى الحب الذي يكنه كل مسلم لنبيه صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال خواطر المسلم التي يرويها حين يكون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ومن شعوره بكونه حيًا مع يقينه بوفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك من خلال مسلمة وليدة حديثة عهد بالدين من غير جنس العرب وكيف آثرت الموت على أن ينطق لسانها كلامًا تقطع به عهدًا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياها، حتى أبين قوة رد الفعل عندما يتعرض نبيهم صلى الله عليه وسلم لأي أساءة ولو يسيرة.

وأتيت بما سبق تمهيدًا لرسالة وجهتها للرسام الدينماركي الذي أساء للرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حين أعلنت صحيفة “يلاندز بوستين” الدانمركية عزمها القيام بمسابقة لرسامي الكارتون الدانمركيين في رسم صور لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، كلٌ حسب ما يحلو ويعن له، وكان ذلك على إثر مقال نشرته صحيفة Politiken الدانمركية تحت عنوان: “الرهبة الشديدة من انتقاد الإسلام” المنشور في 17 سبتمبر سنة 2005م، والذي خصص للحديث عن الصعوبة التي لاقاها الصحفي الدنماركي “كارى بلوتكن” في إقناع الرسامين برسم صور للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بُغية تضمينها كتابه المزمع نشره، وعنوانه: “القرآن وحياة الرسول”، وهو كتاب موجه للأطفال وفي 30 سبتمبر سنة 2005م قامت الصحيفة المشار إليها بالتجرؤ بنشر (12) صورة كاريكاتيرية مهينة للرسول صلى الله عليه وسلم ضمن مقال عنوانه: “وجه محمد”، والذى دبجه وكتبه “كاري بلوتكن” وقد أعيد نشر هذه الصور تباعًا في الصحيفة النرويجية المسيحية Magazinet والصحيفة الألمانية Die Welt والفرنسيةFrance Soir وصحف أخرى في أوربا وأميركا لتعلن كل صحيفة صحيفتها في وقاحة من تهمة الخوف من انتقاد الإسلام.

وقامت الدنيا ولم تقعد لا شرقاً ولا غرباً، وكان رد الفعل صادم على جميع المستويات، فقد تصور الغرب أنه بمستطيع أن ينتقد شخصية كالنبى محمد صلى الله عليه وسلم ولا يلقي الشارع المسلم لتلك الإساءة بالاً خاصةً وأن معظم الشعوب الإسلامية تغوص حتى منبت رأسها فى زخمٍ هائل من المشاكل سواء الإجتماعية والسياسية والعسكرية ما هو كافٍ إلى جانب الفقر الجاثم على صدرها بأن يُلهيها تمامًا عن الالتفات إلى هذا الشأن وأنه سيمر مرورًا عابرًا، ولو خرجت بعض الاحتجاجات فربما ستكون على مستوى بعض الدوائر السياسية والدبلوماسية العربية والإسلامية هنا وهناك لبعض الدول وذلك حفاظًا على ماء وجهها أمام شعوبها، ومثل هذه الاحتجاجات يسهل التعامل معها ووأدها فى حينها، لتكون مثل هذه الرسومات بمثابة بالون اختبار لما سيحدث بعدها وما تتفتق عنه أذهان الحاقدين من تطوير الأداء الإنتقادى المنظم لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا ما دار بظنهم آنذاك.

ولمَّا نادت بعض الأصوات بأن مرد هذه الإساءة هو جهل الغرب بشخص ومقام رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ـ رغم اعتراضنا ـ إلا أننا تعاوننا مع أصحاب ذلك التوجه، ومن ثم كتبت رسالة خاطبت فيها ذلك الرسام الأحمق الهالك عسى الله أن يرده عن غيه وقد تُرْجِمت فى حينها وأرسلت إليه، ولا أعلم إن كان قد قرأها من عدمه والأغلب أنه لم يقرأها كما سنرى، وهذا نص الرسالة:

ـ إلى الذى آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصب عليه حقد قلبه:

لقد أعادت إساءتك لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ذكرى مؤلمة لي حينما كنت طالبًا بمدرسة الأقباط الإعدادية في فصل المتفوقين وهو يضم الطلاب علـــــى اختلاف ديانتهم، وكانت بيننا صداقة وتزاور وتعاون إلا أنه فى إمتحان الدين وقبيل تسليم ورقــة الإجابة بادرنى زميلى جرجس:
هل أنهيت إمتحان محمد الذى ليس عليه الصلاة و السلام؟
فعاجلته بقولى: وهل أنهيت امتحان المسيح الميت؟

نعم، لقد عوقبنـا فـــي مجلس تأديب عند مدير المدرسة وكان مسيحيًا لنظام المدرسة القبطية، في حضور معلمين مسلمين ومسيحيين، لكن حينما فكرتُ فى الأمر وجدتُ أن جرجس كان مشحونًا من خارجه، وأنا بحثتُ له عما يؤلمه في عقيدته مثلما آلمني في عقيدتي دون داع، وتجاوزنا الحدث العارض لأن أساس العلاقة بيننا ليست نفي الآخر أو تصفيته.

لقد تربينا في الشرق على المحبة؛ فلا تكاد تجد فى تاريخ كثير من الأسر إلا وله أصدقاء ليس من ديننا فقط بل أصدقاء من غير ديننا، ومنهم صموئيل صديقي الذي كان يشاركني صــوم رمضان، وآخر كنت مدعوًا على الغداء عنده وحان وقت الصلاة وصليتُ فـي غرفة والده على قطعة قماش نظيفة قدمها لى بديلًا عن سجادة الصلاة، وكم كنت قارئًا نهماَ للديانة المسيحية وغيرها من الديانات السماوية وغير السماوية، ولا تزال مكتبتى يقبع داخل ركن منها ظاهر مجموعة من الكتب الدينية قد يعزـ ربما ـ على المسيحي أن تكون فى متناول يده.

في أحد أيام شهر رمضان المعظم وبعد انتهائنا من قيام الليل وجدتُ حارسًا شاباً لإحــدى المحلات التي يمتلكها أحد المسلمين يقرأ في كتيب صغير ظننته يختم القرآن الكريم، فإذا هو مسيحي يقرأ في الإنجيل فتناولته منه وكان يضم الأناجيل الأربعة فقط، وقلت له:

إن كتاب الحياة الذي عندي يضم إلى جانب ذلك أعمال الرسل.
وتصافحنا وشجعته. كم كان جوًا روحانيًا جميلاَ أن يقرأ المسلم في مصحفه، والمسيحي فــى إنجيله تضم هذا وذاك عباءة رمضان الحنون الرحيم التي منحـت لياليه لكليهما السكينة والرحمة، والإيمان للعالمين مثلما كان نبي الاسلام صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين.

تربيتُ منذ الصغر على حب الآداب والفنون والقراءة عن الأديان في الشرق كما في الغرب، وطالعت أديان الهند الكبرى وفلسفات اليونان وأفكارهم، وقرأت شكسبير، وسومرست موم، ومسرح راسين، ويونسكو، وشعر بودلـير، وجيته، ودانتى الليجيرى، وفولتير، وبول فاليرى، وسارتر، وتولستـوي، ودستويفسكي، وإميل زولا ويوجين أونيل، وويليامز، وأوزبون، ودورنيمات، وطاغور، ولا أجد غضاضة في أن أتجول في كل حدائق العلم فهذا مما حضني ديني عليه.

وبقدر إعجابى بفولتير بقدر تألمي منه حين كتب مسرحية عن سيدنا محمـد صلى الله عليه وسلم مملؤة بالمغالطات ليسترضي البابا الغاضب عليه، كما غضبت من دانتى الليجيرى الذي صدمني فى “الكوميديا الإلهيـة” حين وضع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وابن عمه الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه فـــــى الخندق التاسع من الجحيم وعذبـــهما بطريقة إجرامية، وللأسف كنــا نقرأها مترجمة دون هذا المقطع الذي كانت دور النشر تحذفه حتى لا تثير مشاعرنا.

ولم نعدم أن نجد على الطرف الآخـر ثلة رائعة من أمثال: برنارد شو، وجوته، واليكس كارليل، وجارودي، وبوكاي، وهونكه، وآن ماري شيمل، وبيرل باك وغيرهم كثير من علماء وعقلاء المسيحيـة الذين اعتنقوا الإسلام والذين لم يعتنقوه وهم يكتبون بحب وبوعي، وفى مصر أيضًا، مثل الأستاذ خليـل اسكندر قبرص في كتابه: “دعوة نصارى العرب إلى الدخول في الإسلام”، وهو مسيحي عربي، والمنصف المحايد الدكتور نظمي لوقا وكتبه، ومنها: “محمد الرسالة والرسول”، و”محمد فى حياته الخاصة” وغيرهما، وهو مفكر مسيحي، وكذلك المفكر المسيحي المعاصر دكتور نبيـل لوقا بباوي فـــي كتابه: “محمد والخناجر المسمومة الموجهة إليه”، وغيره من كتبه عن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، غير أن كتاب بباوي عن الخناجر المسمومة لم يضـم بين دفتيه آخر تلك الخناجر وهو خنجرك أيها الدنماركي المتجاهل، ومع هذا كنا نتقبل تلك الطعنات من مستشرقين ومستغربين فنردها إمَّا إلى حرية التعبير التي تحظي بها أوربا وأمريكا، وأحياناَ إلى السطحية العلمية والجهل المصحوب بالحقد، كما كنا نشيد بكل من أضاف إلى فهمنا مفاهيم جديدة غابت عننا من ديننا وتاريخنا، وأولئك هم المنصفون من العلماء والمفكرين بحق.

غيـر أن الذي رأيناه فى الآونة الأخيرة مـن تدنيس للقرآن عن عمد والبصق والتبول عليه وتمزيقه وحرقه، وتعذيب المسلمين وقتلهم وهتك أعراضهم رجالًا ونساءَ واستباحة أراضيهـم، وتسفيه دينهم، وتأليف قرآنًا جديدًا لهم، والضغط على الحكومات المسلمة بالمعونات لتقليل حصص مادة الدين الإسلامى خاصةً وتغيير منهج تلك المادة لتحذف منه آيات وقصص الجهاد، ومنح العفو لليهود فلا نسميهم أخوة القردة والخنازير على سبيل الكناية، وحتى الدعاء لله عليهم لما اقترفوه ومازالوا يقترفونه من آثام في حق أهلينا بفلسطين وغيرها، حرمونا منه ولو في صلاتنا، وما نراه كذلك من سياسة الكيل بمعيارين، وأيضًا استقواء بعض من يشاركوننا الوطن أقباط الداخل برئيس أمريكا وأعوانـه علينا نحن المسلمين من أبناء وطنهم، لـم نجد فى هذا حرية تعبير، ولن أحدثك عن الهولوكست تلك الدائرة الحمراء التي لا تقوى أنت ولا غيرك على الاقتراب منها.

وبهذا القدر أكتفي من رسالتي لذلك الرسام الدنيماركي، ونستكملها معًا في حلقة الغد، أترككم على أمل اللقاء بكم مجددًا على خير..

http://www.zelmajaz.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85- 

دراسات يسيرة في رحاب السيرة – الحلقة 10







مع حلقتنا العاشرةنمضي تمهيدًا لحلقات قادمات .. سأروي لكم فيها قصة لم تشملها  تلك الكتب المعنونة بمثل: (هؤلاء أسلموا) أو (لماذا أسلم هؤلاء؟)، ذلك لأنها مبثوثة فى صفحات كتاب لا يوحي عنوانه بأنه سيسرد قصة مهتدية إلى الإسلام، وثانيًا لأن زمنها، أي زمن القصة، كان أثناء العهد الملكي في مصر العربية.
أمَّا الكتاب فعنوانه: (قطوف من أدب النبوة) للشيخ الراحل أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف المصري الأسبق رحمة الله عليه، الذي لم يكن هدفه سرد تلك القصة لذاتها، ولكن لأنها جاءت تدليلاً على شرحه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في صحيح البخاري، كتاب التعبير، باب المبشرات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات”، قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟، قال: “الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو تُرى له”.
والقصة لم تعنِ له أكثر من هذا فَلَم يُعلِّق حتى عليها، يقول الشيخ الباقوري: (ومن أعجب الرؤى الصادقة، وأحقها بالتدوين في معرض التعليق على هذا الحديث الشريف، رؤيا فتاة أسبانية دوَّن الحديث عنها وعن رؤياها وعن أحوالها الأستاذ المرحوم عبدالله عفيفي، وكان أديبًا ومؤرخا، ويعمل محررًا بالديوان الملكي في عهد الملك فؤاد وإمامًا له، نَضَّرَ الله وجهه، وأجزل في دار الخلد مثوبته، فقال:
(في أصيل يوم من صيف سنة1914 كنتُ واقفًا في جمهور الواقفين في محطة طنطا أرقب القطار القادم من الإسكندرية لأتخذه إلى القاهرة.
لقد كان كُلٌّ في شغل بتلك الدقائق المعدودات يقضيها في توديع وإشفاق وترقُّبٍ وانتظار، وكنت في شُغُلٍ بصديق يجاذبني حديثًا شائقًا ممتعًا، في تلك اللحظة، وبين ذلك الجمع المحتشد، راع الناس صياح وإعوال وتهدج واضطراب، ومشادة ومدافعة، ثم أبصروا فإذا فتاة في السابعةِ عشرةَ من سنيها يقودها إلى موقف القطار شرطيٌّ عاتٍ شديد، وساعٍ من سعاة معتمدي الدول قويٌ عتيد، ومن خلفها شيخ أوروبيٌّ جاوز الستين مكتئب مهزول، وهي تدافع الرُّجلينِ حولها بيدين لاحول لهما.
أقبل القطار ثم وقف، فكاد كلٌّ ينسى بذلك الموقفِ موقفَهُ وما قصد له، ثم أُصعدت الفتاةُ وصعد معها من حولها. وعجلتُ أنا وصاحبي فأخذنا مقاعدنا حيث أخذوا مقاعدهم. كل ذلك والفتاة على حالٍ من الحزن والكرب لا يَجْمُلُ معها الصبر ولا يُحمَدُ دونها الصمتُ – سألتُ الشيخَ ما خطبُهُ، وما أمرُ الفتاة؟، فقال، وقد أشرقَهُ الدمع وقطع صوتَه الأسى: “أني رجل أسبانيٌّ وتلك ابنتي، عرض لها منذ حين ما لم أعلمه، فصحوتُ ذات صباحٍ على صوتِها تصلي صلاة المرأة المسلمة، ومنذ ذلك اليوم احتجزتْ ثيابَها لتتولى أمر غسلها بنفسها، وأرسلت خمارها الأبيض على صفحتي وجهها ومكشوف صدرها، ثم أخذت تنفق وقتها في صلاة وصيام، وسجود وهجود، وكانت تدعى “روز” فأبت إلا أن تُسمى (فاطمة) وما لبثت أن تبعتها أختها الصغرى. فصارت أشبهَ بها من القطرة بالقطرة، والزهرة بالزهرة.
ففزعتُ لهول ذلك وقصدتُ أحد أساقفتنا، فأخذ يعاني رياضتها، فلم يُجدِ ذلك شيئًا، وعَزَّت على الرجل خيبتُه، فكتب إلى معتمد الدولة الأسبانية بأمر الأسرة الخارجة على دينها.. وهنالك أمر المعتمدُ حكومةَ مصرَ فساقت إليه الفتاة كما ترى برغمها ورغم ذويها ليُقذف بها بين جوانب دير تسترد فيه دينها القديم”.
قلتُ: “أو أرضاك أن تساق ابنتُك سَوقَ الآثمات المجرمات على غير إثم ولا جريمة؟”.
فزفر الرجل زفرةً كاد يتصدع لها قلبه وتتكسر ضلوعه، ثم قال: “أما لقد خدعتُ ودُوهمتُ فماذا عساني أفعل؟”.

على إثر ذلك انثنيتُ إلى الفتاة وهي تعالج من أهوال الحزن وأثقاله، ما تخشع الراسيات دون احتماله، فقلت: “ما بالك يا فاطمة؟”.
وكأنها أنِست مني ما لم تأنسه ممن حولها، فأجابتني بصوت يتعثر من الضنى:
“لنا جيرة مسلمون أغدو إليهم فأستمع أمر دينهن، حتى إذا أخذني النوم ذات ليلة رأيتُ النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم في هالة من النور يخطف سناها الأبصار، يقول وهو يلوح إليَّ بيده: تعالي يا فاطمة”…

ولو أنك أبصرتها وهيَ تنطق باسم النبي محمد لرأيت رعدةً تتمشى بين أعطافها وأطرافها حتى تنتهي إلى أسنانها فتخالف بينها، وإلى لسانها فتعقله وإلى وجهها فتحيل لونه، فلم تكد تستتِمّ كلامها حتى أخذتها رجفةٌ فهوت على مقعدِها كأنها بناء منتفض… إلى هذا الحد غشيَ الناس ما غشيهم من الحزن، فاندفع إليها رجل يؤذِّن في أُذُنِهَا. فلما انتهى إلى قوله:”أشهد أن محمدًا رسول الله” تنفسَّت الصُّعداء، وأمعنت في البكاء، وعاودتها سيرتها الأولى، فلما أفاقت قلت لها: “وممَّ نخافين وتفزعين؟”، قالت: “أنه سيؤمر بي إلى دير حيث ينهلون بالسياط من دمي، ولستُ من ذلك أخاف. ألا إن أخوف ما أخاف منه أن يُحالُ بين صلاتي ونسكي”.
قلت لها: “يا فاطمة ألا أدلكِ على خير من ذلك؟”.
قالت: أجل.
قلت: “إن حكم الإسلام على القلوب.. فما عليك لو أقررت بين يدي المعتمد بدينك القديم. وأودعت الإسلام بين شغاف قلبك حتى لا يفوتك أن تقيمي شعائره حيث تشائين؟”.. هنالك نظرت إليَّ نظرةً تضاءلتُ دونها حتى خفتُ على نفسي، ثم قالت: “دون ذلك حز الأعناق وتفصيل المفاصل.. دعني.. فإنني إن أطعتُ نفسِي عصاني لساني”.. وكان ضلالاً ما توسلتُ به أنا وأبوها ومن حولها.
كان ذلك حتى أوفينا على القاهرة، فحيل دونها.. لم أعلم بعد ذلك شيئًا من أمر فاطمة لأني لم أستطع أن أعلم، رحمة الله وبركاته عليك يا فاطمة، فما أنتِ أولى شهيدات الرأي الحر والإيمان الوثيق).
وأقول: نعم.. أستاذ عبدالله لن تكون فاطمة أولى شهيدات الرأي، كما لن تكون آخرهنَّ…
كما لن يكون آخر لقاء بيننا .. ومع حلقة قادمة ألقاكم، وألقاكنَّ على خير في سياحة يسيرة في رحاب السيرة على صاحبها الصلاة والسلام..
http://www.zelmajaz.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D9%86%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-% 

الثلاثاء، 20 يونيو 2017

رمضان بين التواحيش والقبول

  











سأل أحد المسلمين الشيخ: هل عُرِفَ التوحيش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأجابه الشيخ: لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يسمى بالتوحيش، وإذا لم يكن الأمر تعبديًا، ولم يعتقد من يمارسون التواحيش إنه  ليس عبادة بل هو على سبيل الإنشاد وكانت النية فيه على ذلك فهذا جائز، من باب وإنما الأعمال بالنيات، ويتشدد البعض فيرى أن النشيد على المآذن وَغَيرهَا بتوديع رَمَضَان والمقصود به التوحيش بِدعَة قبيحة يجب أَن تتْرك. 

                        

 وتبدأ أيام التواحيش مع بدايات العشر الأواخر من رمضان المبارك، والتواحيش غير التواشيح ويصوب البعض نطقها فيردها إلى أصلها "تواشيح" وهي تلك الأناشيد والأغنيات والقصائد التي تتسم كلماتها بوداع  شهر رمضان وخاصة في الجمعة الأخيرة من رمضان تلك التي تسمى بالجمعة اليتيمة، وغالبًا ما يحرص من يؤديها على إظهار مدى الحزن والتفجع على اقتراب رحيل أيام هذا الشهر الذي تفر أيامه سراعًا، سواء أكان من يؤديها من المغنين، أو المنشدين، أو حتى المسحراتي:  لا أوحش الله منك يا شهر رمضان.. يا شهر القرآن.. يا شهر المصابيح.. يا شهر التراويح.. يا شهر المفاتيح لا أوحش الله منك يا شهر الصيام، لا أوحش الله منك يا شهر القيام، لا أوحش الله منك يا شهر العزايم، لا أوحش الله منك يا شهر الولائم.

  و"لا أوحش الله منك"، أي لا أذهبك الله، فتوحش أحباءك من جانبك بالفراق، كما قال الخوارزمي في معناها، ومبناها عند كل مسلم وإن لم يملك بلاغة الشعراء الذين ملأت أبياتهم الغارقة النائحة على حرقة فراق الشهر الحبيب عشرات الدواوين، أو من الأدباء الذين يملكون ناصية الكلم المنثور في بث لواعج الأسى ما كتبوه في مقالاتهم وحفظت الدنيا مقولاتهم، وهذا ما يعني أن التواحيش وإن كانت بدعة من ارتباطها بعبادة لو ظن صاحبها ذلك مرفوض أو بدعة تدور بين السيئة والحسنة كما يذهب في ذلك من ينتصر لها أو يهاجمها، إلا أن التواحيش والشوق إلى لقاء رمضان، وحر البكاء  الثخينات من المآقي، كلها تأتي من انفعال إنساني لا يستطيع أن يمنعه أحد بفتوى هنا وهناك، وإذا قيل أنها ـ أي التواحيش ـ معروفة منذ القرن السادس الهجري، إلا أن هذا لا يمنع أن وداع رمضان كان له مذاق آخر عند من سبق من الصحابة رضوان الله عليهم.  

    رُوي عن علي رضي الله عنه أنَّه كان يُنادي في آخِر ليلة من شهر رمضان: "يا ليتَ شِعري! مَن هذا المقبول فنهنيَه، ومَن هذا المحروم فنعزيَه".

وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول عندَ رحيل الشهر: "مَن هذا المقبولُ منَّا فنهنيَه، ومَن هذا المحروم منا فنعزيَه، أيُّها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبَر الله مصيبتَك".

 كانوا يعلمون أن الرحيلَ سنة من سنن الله الكونية، ولهذا كانوا يجتهدون في إتْمام العمل وإكماله وإتْقانه، ثم يهتمُّون بعدَ ذلك بقَبوله، ويخافون مِن ردِّه، وهؤلاء الذين قال الله عنهم: ﴿يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]"، كما يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي.

  مدار الأمر على الاستيحاش من رمضان ومرور أيامه سراعًا لم يكن التعويل فيها على وداعه فحسب، وعلى العمل الذي عمله المسلم الصائم القائم فحسب، بل كان مدارُ الوحشة بين الرجاء من الله أن يقبل العمل، والخوف كل الخوف أن يرد على العاملين عملهم،  حال الوداع نابع من فهم عميق لقول الله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، فكانوا يدعون الله تعالى ستة أشهر حتى يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه اجتهدوا في العبادة فيه، ودعوا الله سبحانه ستة أشهر أخرى أن يتقبَّل منهم رمضان؛ خوفًا من ردِّه.

ولقد كان الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوصي من حوله بقوله: "كونوا لقَبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمَل"، ألم تسمعوا الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].

  تقول أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: سألتُ رسولَ الله  صلَّى الله عليه وسلَّم عن هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60]، قالت عائشةُ: أَهُمُ الذين يَشربون الخمر ويسرِقون؟ قال: "لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولكنَّهم الذين يصومون ويصلُّون ويتصدَّقون وهم يخافون ألاَّ يُقبَل منهم، أولئك الذين يُسارعون في الخيراتِ وهُم لها سابقون".

  وكانوا يحرصون على الاستغفار حرصهم على قبول العمل مع رحيل رمضان، ذلك أن الإستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة والحج وقيام الليل ويختم به المجالس فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها وإن كانت لغوا كان كفارة لها فكذلك ينبغي أن تختم صيام رمضان بالاستغفار، كما يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف.

   ولما تقدم علمه كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز يكتب آمرًا الأمصار أن يختموا شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر فإن الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ فالاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث.

  واستيحاش رمضان وانتظاره أمر جبلي إنساني، نرجو بلوغه في العام القادم، ونرجو من الله أن يتقبل أعمالنا في العام الذي نحن فيه، وأقول كما قال ابن الجوزي في "التبصرة": (عباد الله إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، فمن منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقى من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودعوه عند فراقه بأزكى تحية وسلام).


http://www.alwan-group.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/1679

الجمعة، 16 يونيو 2017

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 9




في الحلقة التاسعة أدعوكم لتعيشوا خواطري وخواطر كل مسلم فى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، والتي ستكون مقدمة ضرورية لحلقات قادمات، ومنها أيضًا استرواحًا لنفوسكم من عناء الحلقات السابقة، واستقبالًا لنفحاته صلى الله عليه وسلم، فهيا بنا:
والسيارة تدخل متهادية مدار مدينة الحبيب، كأنها تدلف براكبها حدود كوكب درى مبتور عن جغرافية كل العالم كجزيرة لا يحدها إلا طهو رالنور .. يُعَبِّر المسجد النبوى الشريف عن وجوده قبل أن نراه بمئذنتيه الشهيرتين كذراعين من ضياء تناجيان السماء، فإذا بالروح تسبح في الملأ القدسي تعلو بالجسد حيث لا جسد ولا كينونة .الزمن البشري بكل عقارب ساعاته قد توقف داخلي، واشرأبت كل خلجة مني وكل لمحة فيَّ لتسجل بانبهارٍ حبيب عظمة تلك اللحظات.
ما كدتُ أعبر عتبة حرمه الشريف صلى الله عليه وسلم من باب عبد المجيد حتى وقع نظري على القبة الخضراء الشهيرة التي صارت علمًا على المسجد والقبر وساكنه، فيخفق قلبي خفقانًا يعلو وجيبه ليصم الأذنين فلا أكاد أسمع شيئا، وحولي زرافات من محبيه وتابعيه وزائريه يرفلون كالملائك فى أزيائهم البيضاء يهرولون للقائه في شوق محموم.
يملؤنى إحساس غريب بوجوده صلى الله عليه وسلم .. بأنه فى انتظارنا ببسمته الوضاءة .. يفرش لنا رداءه كيما نتحلق حوله صلى الله عليه وسلم، وخبر السماء ما زال يتنزل عليه وكأن جبريل لم تنقطع زيارته له ..
أحس بأنه صلى الله عليه وسلم حيٌ فى المدينة مازال دربه موصولاً بين بيته وأحبته ساكني البقيع يصاحبه غلامه أبا مويهية رحلة العودة بعد أن يسلم ويترحم عليهم .. جميعنا من مختلف الجنسيات ومن شتى البقاع لم نأتِ لزيارة غائب بل حاضرٌ يشتاقنا كما نشتاقه، والشوق لا يكون أعظمه وأوج حرارته إلا بين أحياء وأحياء.
أقف أمام قبره وصوتٌ داخلي يسري يصاحب خُطُواتي إليه: هنا يرقد حبيبك وشفيعك الذي طالما قرأت عنه وقرأت له أحاديث شريفة غاية في الإعجاز والبيان والفصاحة ودقة اللفظ دون إبهام أو غموض مع بلوغ الهدف من مراميها بأيسر السبل .. هنا يرقد معلم البشرية الخير، من تحاول جاهدًا أن تتبع سنته وتتأسى بخطاه. هنا قبر الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
أقف .. وكل هذه السنحات تمر برأسى . أقف.. وقفة المتهيب في حضرته صلى الله عليه وسلم، أنظر خلف تلك المشرفيات . لكأنه رآنى .. أرتعش أكثر . أتهيب أكثر .. أُلقي عليه السلام بحبٍ عميق وخشوع ٍ جم .. وكأني سمعته يرد عليَّ السلام الذي عَبَرَ مسامعى وأطرافي وغزا قلبي كسريان النسيم البارد الناعم .. مُرحبّاً بى فى رحابه وحرمه ومسجده وبيته صلى الله عليه وسلم ..
يتحول نظري يمينه صلى الله عليه وسلم ـ ولا يتحول قلبي عنه أبدًا ـ فألقي السلام على صاحبيه اللذين آثرا أن لا يصاحباه رحلة الحياة وحسب بل ورحلة الممات أيضًا ليظل الحب موصولاً والأنس غير مجدود، فلقد كانا ـ رضى الله عنهما وعن سادتنا الصحابة ـ للرسول صلى الله عليه وسلم بمثابة السمع والبصر وأنىَ لبشر أن يستغني عن سمعه وبصره؟!
لم تكن وقفتي عند قبر رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وقفة للتحية وتمضي بل كلها دروس وعبر مستفادة يتوجها هذا الإخلاص من رجال تدربوا وتلقوا ونهلوا وشربوا وتضوعوا من أريج شجرة ومدرسة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقفة تردك للماضي قبيل زمن البعثة المباركة لنستطلع فيه حال الخليفتين وما كانا عليه، ثم حالهما فى زمن الهجرة ومقامهما بالمدينة، والعودة مع فتح الفتوح لمكة المكرمة وصحبتهما للرسول القائد صلى الله عليه وسلم في الغزوات والمواقف الحرجة التي مرت بها الرسالة، ليتفجر من كل هذه المواقف تساؤل: ومن لنا بمثل الرجلين، بل ومثل الصحابة الكرام أجمعين رضوان الله عليهم؟!
لقد مضوا مع زمن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكأنهم خُلقوا له لزمنه هو ثم آثروا الرحيل .. فهم رجال عشقوا الرجولة حياةً كما عشقوها مماتا .. وعندما تنظر أمامك ووراءك وتستطلع محيط الكون كله لتبحث عن مثلهم .. فلا والذى سمك السماء لن تجد؛ فقد كانت أهدافهم عالية، ومحبتهم سامية لله عز وجل وللعقيدة السمحة ولرسولهم ومعلمهم صلى الله عليه وسلم ، حب لم يشكله اللفظ وحده من خطب رنانة وأقوال جوفاء، بقدر ما كان نهجه كل ما هو عملي وفهم عميق لمعنى ومبنى الرسالة التي دانوا بها؛ فإن نادى المنادي بالهجرة لم يتأخروا عنها فهاجروا بحرًا وبرا، أو دعاهم داعي الجهاد في سبيل الله كانوا أول من شارك، أو دعت الحاجة للمال بذلوه هينًا رخيصًا حبًا وكرامة لقاء الأجر من الله تعالى، يفتدون نبيهم وسيدهم بأرواحهم وأبنائهم وأهليهم إن طلب وإن لم يطلب فكلهم رهن الإشارة ورهن الأمر لا الطلب وحسب ..إنهم العترة المحمدية .. التلاميذ النجباء الأوفياء السابحون السائحون في النهر المحمدى الصافى الفياض الطاهر، نهلوا من ينابيعه، وأُشرِبوا تعاليمه، ووعت عيونهم وجوارحهم وأرواحهم وشغاف قلوبهم أقواله وأفعاله وسكناته وحركاته، فتحلقوا حوله صامتين خاشعين كأن على رؤوسهم الطير ليسري فيهم وبينهم نورُ محمد صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون والنور النبوي يصاحبهم حتى لتكاد تصافحهم الملائك في الطرقات.
يقطع عبق وقفتي الألسن اللهجى بشتى اللغات واللهجات من شعوب مختلفة عُرب وعجم كلهم جاءوا من فِجاج الأرض يقرؤنك يا سيدى السلام، ويستظلون بروضتك الهنية، ويتنسمون روائحك الطاهرة الزكية، ويستشرفون آفاق تلك الروح العالية .. ومقامك يا سيدى يا رسول الله صلى الله عليك وسلم بينهم لا تمل منهم ولا يملون منك، يستعذبون وجودك، ويرفضون مغادرة حضرتك الندية. فإذا فارقوا فالدمع الثخين ينثال لاهبًا الخدود مخافة ألاَّ يكون اللقاء بك مرة أخرى .. فيناشدونك أن تطلبهم وتدعوهم إلى مدينتك مرات ومرات.
 ......................

ويغلق مسجدك يا سيدي أبوابه بعد التسليم من العشاء بوقتٍ قصير، فنمضي وملء جوانحنا وتحت جنوبنا ومضاجعنا نار الشوق تلهبنا .. فأطل على مآذنك السامقات لا أقطع ما بيننا من حديث ووجد، وأحيانًا ألف وأدور ماشيًا حول الأبواب كالطير روحًا خفاقة لا تمل ولا تكل .. وهل إلى مزارك ومسجدك جئتُ لكي أنم؟! وهل قطعت تلك الأميال الطوال لتكون مدينتك مضجعي؟! بل حرَّمت على عينيَّ الكرى كي تقر برؤياك يا حبيبى.
 ........................

لم يكد يسري آذان الفجر منسابًا كالنور في أنحاء المدينة المنورة حتى دبت الحياة في الشوارع تقطع سكون الليل حركة دبيب الأقدام المهرولة إلى المسجد النبوي العامر لتؤدي فرض الله ثم تتواصل مع الحبيب صلى الله عليه وسلم حتى تباشير الصبح لتصل ما انقطع من حديث ووجد ما انقطع أبدًا .. فأنت يا رسول الله فينا قائما، حيًا داخلنا، فو الذى نفس محمدٍ بيده لم تغب عنا حتى ونحن في بلادنا وبين ظهرانينا وداخل ديارنا وبين الأهل نتعطر بذكرك، ونتذكر مآثرك، وندعو بدعائك المأثور، ونتدثر بنورك، ونستشفع بك صلى الله عليه وسلم في دعائنا لربنا سبحانه وتعالى.
وها قد دعا داعي الرحيل وعليَّ أن ألملم شتاتي لرحلة العودة، فاسْتثقلتْ الخطوات التي كانت تهرول إليك مسرعة وما لها لا تفعل فقد أتت تحمل صاحبها مودعة، ولستُ أحسن حالاً منها فالدمع يذيبني، والحسرة تملك مجامع قلبي خوفًا ويأسا كي لا ألقاك بعدها ولكم تمنيتُ الموت بالمدينة وأنا فيها إعمالاً للحديث الصحيح، والذي قلت فيه سيدي صلى الله عليك وسلم: "مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا؛ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا"، حتى لا أفارق ديارك أو أبرح مدينتك، ولكن وجب الرحيل فوجب الوداع ووجب أن أقول بملء القلب:
السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته .. السلام عليك يا سيدى يارسول الله .. السلام عليك يا خير خلق الله .. السلام عليك يا من أرسله ربه عز وجل رحمة للعالمين .. السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين .. السلام عليك يا من وصفه الله بقوله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ و ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .. السلام عليك وأسألك الصحبة، وأسألك مرافقتك في الجنة .. فاللهم عودًا إليك .. حبًا وكرامة واقتداء .. عليك يا رسول الله ومن مجامع قلبي الذي ينبض بحبك وحدبك عليك الصلاة وأزكى السلام.
والسلام عليكم أيها الأحبة أيضًا إلى حلقة جديدة من حلقات لا تنقطع بيننا بصحبة نبينا وفي نوره نسيح سياحة يسيرة إن شاء الله تعالى.. وصلى الله عليه وسلم .. فإلى لقاء...

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 8





مع الحلقة الثامنة نعاود إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، ولك عزيزي القارئ، أن تسأل: ألم يكن يسأل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أسئلة افتراضية، ولن أتعرض للفتاوى الافتراضية المعاصرة في حياتنا وكيف وصفها العلماء في  عصور سبقت:
يوضح الإمام القرطبي المقصود بالأسئلة الافتراضية بأنها تلك الأسئلة التي يبعد وقوعها في الحياة والتي لا ينبغي الاشتغال بها؛ وهذا منهج كثير من السلف؛ كانوا يكرهون الأسئلة عن الأمور التي لم تقع بعد، فقد أخرج الدارمي بسنده أن عمر بن الخطاب كان يلعن من سأل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت الأنصاري يقول: إذا سُئل عن الأمر أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدَّث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا لم يكن، قال: فذروه حتى يكون.
كما أجاب الإمامان أبو إبراهيم يحي ابن إسماعيل المزني، والخطيب البغدادي عن سبب كراهية الصحابة الإجلاء والسلف الصالح للأسئلة الافتراضية، أي التي لم تقع، فذكرا أن المنع يحتمل أن يكون قُصد به السؤال على سبيل التعنت والمغالطة، لا على سبيل التفقه وابتغاء الفائدة.
يقول الإمام البيهقي: "كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتابٌ ولا سنة؛ وإنما يسأل السائل عن مسألةٍ مبنيةٍ عن الاجتهاد لا نص فيها".
لم تكن الأمور كلها تجري في منع السؤال الافتراضي على إطلاقه أو الفتوى الافتراضية التي لم تقع، وإنما كان هذا مباحًا للمتفقهة؛ ليرشدوا إلى طريق النظر والرأي، وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها، كما ذكر البيهقي.
والجواب عن أن الصحابة كانت كل أسئلتهم تدور في سياق الواقعية لا الافتراضية فقط، وإن بدا أنها افتراضية بمعنى أنها لم تقع، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد أجاب عن أسئلةٍ من هذا النوع، وستبدو لمن يطالعها أنها ممكنة الوقوع وليست مستحيلة، وأن حرص الصحابي أن يكون معه الحكم والعلم بها قبله مخافة أن تقع ولا يحسن التصرف فيها، مثلما جاء في الصحيحين:
عن المقداد ابن الأسود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، فقاتلني، فضرب إحدى يديّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرةٍ، فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله"، قال: فقلت: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال".
ولقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجلٌ يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "هو في النار".
والحديث يدور حول أسئلة أربع ولكنها تدور حول حدث واحد قد يبدو لقارئه افتراضيًا، ولكنه في الواقع قائم وقد يحدث بين الفينة والأخرى في البيئة التي يعيش فيها الصحابي، وهو مهموم بذلك بدلالة ترتيب الأسئلة في ذهنه وسردها في مباشرة وروية وثبات، على عكس من يخمنون ويفترضون ويتخيلون أمورًا قد لا تحدث في زمانهم ولا الأزمنة التي تليهم بقرون، وهذا هو الفارق بين أسئلة الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم بدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضق بأسئلته ذرعًا أو نهاه عنها.
يؤكد هذا ما قاله ابن رجب الحنبلي: (وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها؛ لكن للعمل بها عند وقوعها؛ كما قالوا له: إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ وسألوه عن الأمراء الذين أخبر عنهم بعده وعن طاعتهم وقتالهم وسأله حذيفة عن الفتن وما يصنع فيها؟).
مثلما سأل الصحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم، عن الدجال، وعن مدة إقامته في الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "أربعون يومًا؛ يومٌ كسنة، ويومٌ كشهر، ويومٌ كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"؛ قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: (لا، أقدروا له قدره).
ولقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ظهور الدجال كان محتمل أن يقع في زمن النبوة أو بعده، ولكنه ليس سؤالًا افتراضيًا بل يتعلق بأصل، ولم ينههم عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
والأسئلة الافتراضية ليست شرًا كلها، ولكن كان لها من النفع في كثير من الأحيان في عصرنا الحالي وإن كان زمان طرحها سابقًا وعلى سبيل "أرأيت"، ولكن مع المستجدات التي طرأت على واقع المسلم في كثير من مناحي الحياة كان لها وجاهتها، خاصة إذا كان لتلك المسألة حكم خفي ــ كما يوضح الإمام المُزني ــ حتى لا يوصل إليه إلا بالنظر والاستنباط، أو لا يكون لها حكم؛ فإن لم يكن لها حكم، فلا وجه لذلك، وإن كان لها حكمٌ لا يوصل إليه إلا بالمناظرة والاستنباط، فالتقدم يكشف الخفي، ومعرفته، وإعداده للمسألة قبل نزولها أولى؛ فإذا نزلت، كان حكمها معروفًا، فوصل بذلك الحق إلى أهله، ومُنِعَ به الظالم من ظلمه، وكان خيرًا وأفضل من أن يتوقفوا إلى أن يصح النظر في المسألة عند المناظرة.
ولهذا كله فقد أحسن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية حين سُئِلَ عن مكة هل هي أفضل من المدينة؟ أم بالعكس؟
فأجاب: الحمد لله، مكة أفضل لما ثبت عن عبد الله بن عدي بن الحمراء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمكة وهو واقف بالحزورة: ’’والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أن قومي أخرجوني منك ما خرجت’’ [قال الترمذي حديث صحيح].
وفي رواية: ’’إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله’’. فقد ثبت أنها خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله وإلى رسوله. وهذا صريح في فضلها. وأما الحديث الذي يروى: ’’أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكنى أحب البقاع إليك ’’. فهذا حديث موضوع كذب لم يروه أحد من أهل العلم.
وعندما سئل رحمه الله عن رجلين تجادلا ، فقال أحدهما : إن تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السماوات والأرض. وقال الآخر: الكعبة أفضل ، فمع من الصواب؟
 فأجاب: الحمد لله، أما نفس محمد صلى الله عليه وسلم فما خلق الله خلقا أكرم عليه منه ، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام ، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه [(الفتاوى الكبرى) (4/411) و(مجموع الفتاوى) ( 27/38)].
ولما سئل رحمه الله عن التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم هل هي أفضل من المسجد الحرام ؟
قال: وأما التربة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعاً وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولاحجة عليه، بل بدن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المساجد. [مجموع فتاوى ابن تيمية مسألة تربة النبي أفضل من السموات والأرض أم الكعبة أفضل؟ (27/37)].
وفي الختام: كل ما أرجوه هو الاقتصاد في الأسئلة وعدم التفريع، والسؤال فيما يهم، فقد كثرت برامج الفتاوي والتي أصبحت تشكل برنامجًا إعلانيًا دعائيًا للقنوات الخاصة وغيرها، حتى في إذاعات القرآن الكريم لانجد إلا الأسئلة المعروفة،وصدق من قال: (أدركت قومًا ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم، وفي ذلك كلّه كانوا يلتزمون الأدب الذي أدبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم به)..فيا ليتنا نتأسى بأدب وفقه الصحابة في سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
 ومع حلقة قادمة نبحر معًا في سياحة يسيرة في دراسة السيرة... فإلى لقاء...

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 7





بانتهاء الحلقة السابقة، السادسة نكون قد أنهينا موضوع "التأدب الواجب مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ومع الحلقة السابعة سنبدأ إن شاء الله تعالى الإبحار في موضوع "فقه السؤال"، وقد يراه البعض مناقضًا لما تناولناه من أننا نادينا سابقًا بالتأدب مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والآن ننهي عن المغالاة في حبه صلى الله عليه وسلم، وليس في الأمر مناقضة لمن قرأ فوعى وتدبر؛ فقد صار من دأب بعض ممن غالوا في حب الرسول صلى الله عليه وسلم أن أتوا من البدع التي قد تلامس حد الشركيات، ومن ذلك مغالاة بعضهم في طرح الأسئلة التى لا جدوى منها ولا نفع ولا تفيد المسلمين فى شيء سوى الظن أنها قربة لله ولرسوله، مع كونها تفت فى عضد الأمة وتفرقها أكثر مما تجمعها، وذلك بمن يسأل مثل هذه الأسئلة التى قتلت بحثًا وصدرت فى شأنها الأحكام القاطعة الباهرة:
هل مكة أفضل من المدينة؟ أو هل تربة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من السموات والأرض؟ أو هل التربة التي دفن فيها الرسول أفضل من المسجد الحرام؟
استنادًا لأقوال علماء أجلاء قامت أجوبتهم على الاجتهاد الشخصي والنزوع نحو عاطفة العامة أكثر مما قامت على العلم الشرعي فى هذا الشأن تحديدًا، ولئن جارى العلماءُ العامةَ فى مرحلة كانت الأمة ناهضة قوية مترامية الأطراف لايُخشى عليها من بأس عدو أو تربص متربص، فاليوم حال الأمة لا يخفى على لبيب أو شاهد، فالاستهداف على أشده من تنصير وتشيع وغزو فكرى بالفن الهابط والمخدرات الرخيصة السهلة التناول، والدس على الدين، وظهور الفرق المارقة الضالة التي تشوش على الناس عقائدها، والطعن على الصحابة الكرام من أوشاب الناس الذين تمترسوا بالصحافة، وأكل لحوم العلماء بالتطاول على أقوالهم، وفض الناس عن الدين فيما يفيد ليشغلوهم بعلم لا ينفع وجهل لا يضر، يبدأ بهل مكة أفضل من المدينة؟ فينتصر فريق لمكة والآخر للمدينة ثم يهون شأن الاثنان فلا حرمة ولا أفضلية لا لمكة أو مدينة.

لذا فقد كان نهج الصحابة رضوان ربي عليهم النهج العملي فلم ينشغلوا عن الصلاة والصيام وكثير القيام، ولم يلتفتوا عن الجهاد يذبون عن الأمة من حاول اقتحام بيضتها وعزها، فما ألقوا بالاً إلى مثل هذه الأسئلة التى يعلمون أنها لا من الشرع ولا من العقيدة بل سفسطة وشنشنة يعرفونها من أخزم.
ولهذا فمن الفوائد التي يغنمها المطالع لأحداث السيرة النبوية المطهرة هو ذلك التعامل اليومي بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين الصحابة رضوان الله عليهم في إطار تعليمهم وتفقههم في دينهم، من دلائل ذلك المنهج في نهيه أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم في طرح الأسئلة التي لا غناء من ورائها فتوردهم المهالك والفتن كسؤال النصارى في المائدة فأصبحوا بها كافرين، ودلت الأحاديث المطهرة على النهي عن القاء الاسئلة عما لا يحتاج إليه أو على وجه التعنت والعبث والاستهزاء كما كان يفعله كثير من المنافقين وغيرهم من المشركين وأهل الكتاب من اليهود خاصة في المدينة.
كما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن الافراط في السؤال عن كثير من الحلال والحرام مما يخشى أن يكون السؤال سببًا لنزول التشديد فيه، وقد أثمر في الصحابة ذلك الهدي النبوي حتى بات عندهم أن من أعظم الجُرم من سأل عن شيء لم يحرِّم فحرِّم من أجل مسألته.

وبدا من تورعهم الإعراض عن القيل والقال، وكثرة السؤال، وإضاعة الأموال، وكلها مسائل تصب في دائرة الاقتصاد في الأقوال والأفعال مما تشربوه من أقوال رسولهم الكريم، حتى أصبحوا ينتظرون قدوم الأعراب من الوافدين على المدينة المنورة لما كان من نهجه صلى الله عليه وسلم معهم من الترخص لهم في المسائل تأليفًا لهم، يستشف هذا من قول البراء بن عازب:
(إن كان لتأتي عليَّ السنة أريد أن أسأل رسول الله عن شيء فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الأعراب)‏.‏

وضع الرسول لصحابته وأمته من بعده القاعدة الذهبية الحياتية الدائمة الباقية ببقائه، والباقية بعد رحيله لينتهجونها ويسيرون عليها لا يزيغون عنها :
’’مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ’’[(رواه البخاري ومسلم خرجه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة (6/2658) الحديث رقم (6858) باب الإقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الله تعالى والإمام مسلم في صحيحه (2/975) الحديث رقم (1337) باب فرض الحج مرة في العمر واللفظ لمسلم، وصححه الألباني في إرواء الغليل (556 ، 559 ، 562 ، 705)].

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله، فقال: ’’يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوقلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه’’.
ولقد خرجه الدارقطني من وجه آخر مختصرًا وقال فيه: "فنزل قوله تعالى: ‏﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [سورة المائدة‏: (101)].
فالتزم بهذه القاعدة الصحابة، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال : (يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله فيذهبكم هاهنا وهاهنا فإنكم إن لم تعجلوا بالبلاء قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد أو قال وفق) وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’’لا تَعْجَلُوا بِالْبَلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا قَالَ سُدِّدَ أَوْ وُفِّقَ، وَإِنَّكُمْ إِنْ عَجَّلْتُمْ تَشَتَّتَ بِكُمُ السُّبُلُ هَا هُنَا وَهَا هُنَا’’.
وانتقل المعنى والالتزام من الصحابة إلى التابعين بالتبعية فكانوا يكرهون السؤال عن الحوادث قبل وقوعها ولا يجيبون عن ذلك، قال عمرو بن مرة خرج عمر على الناس فقال: (أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْأَلُونَا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ لَنَا فِيمَا كَانَ شُغُلًا (، بل وصل الأمر إلى أنه لعن السائل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت إذا سئل عن شيء، يقول: كان هذا[أي حدث هذا] فإن قالوا: لا، قال: دعوه حتى يكون[أي حتى يقع أو يحدث]. 
قال الحسن: (مَا عَبَدَ الْعَابِدُونَ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِ مَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ) ، ففي الأمر، قال: ’’مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ’’، ’’فَأْتُوا’’ [فَافْعَلُوا- فَأْتَمِرُوا - فَخُذُوا – فَاتَّبِعُوهُ]،وقوله: ’’مَا اسْتَطَعْتُمْ’’ أدخل الإستطاعة في الأمر، فكلٌّ يأتي منه ما يقدر عليه، مستعينا بالله، ويجتهد. أما في النهي، فقد قال: ’’فَاجْتَنِبُوهُ’’ [فَدَعُوهُ - فَانْتَهُوا – ذَرُوهُ]، ولم يذكر الاستطاعة ليُعلم أن ما نهى عنه يجب أن يُجتنب في جملته وتفصيله فلا يُركب منه شيء، قل أو كثر، صغر أو كبر. إنه الفرار من المرديات ـ فتوعد الله تعالى المخالفين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالفتنة وهي الزيغ ، أو بالعذاب الأليم، ولا يتوعد بذلك إلا على ترك واجب، فدل على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المطلق يقتضي الوجوب[(شرح الورقات) للفوزان (ص 59)].

وهكذا كان الإمام أحمد ابن حنبل، فقد سأله رجل عن مسألةٍ من هذا النوع، فقال أحمد له: أحكمت العلم حتى تسأل عن ذا؟، وقال لرجلٍ آخر سأله أيضًا عن مثل تلك المسائل، فقال له: سل رحمك الله عما ابتليت به، وقال لآخر: دعنا من هذه المسائل الـمُحدثة خذ ويحك فيما تنتفع به، وإياك وهذه المحدثة!
فالذي يتعين على المسلم الاعتناء به والاهتمام به هو البحث عمَّا جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يجتهد في فهم ذلك والوقوف على معانيه ثم يشتغل بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية وإن كان من الأمور العملية بذل وسعه في الاجتهاد في فعل ما يستطيعه من الأوامر واجتناب ما ينهى عنه فيكون همته مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره وهكذا كان حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان في طلب العلم النافع من الكتاب والسنة فأما إن كانت همة السامع مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع فإن هذا مما يدخل في النهي ويثبط عن الجد في متابعة الأمر فلا حاجة إلى فرض العجز عن ذلك أو تعسره قبل وقوعه فإنه يفتر العزم على التصميم عن المتابعة فإن التفقه في الدين والسؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمان فقال له عمر متى ذلك يا علي قال إذا تفقه لغير الدين وتعلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة.
ومما تقدم نستخلص أن من امتثل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وانتهي عما نهى عنه ، وكان مشتغلاً بذلك عن غيره حصل له النجاة في الدنيا والآخرة ومن خالف ذلك واشتغل بخواطره وما يستحسنه وقع فيما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من حال أهل الكتاب الذين هلكوا بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وعدم انقيادهم وطاعتهم لرسلهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ’’إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم’’ .. قال بعض العلماء هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والأمر قيد بحسب الاستطاعة وروى هذا عن الإمام أحمد رحمه الله.
وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ’’اتق المحارم تكن أعبد الناس’’، وقالت عائشة رضي الله عنها : (من سره أن يسبق الدائب المجتهد فليكف عن الذنوب) وروي مرفوعًا.
LikeShow more reactions
Comment

دراسات يسيرة في رحاب السيرة 6




مع الحلقة السادسة من حلقات دراسات يسيرة في رحاب السيرة، وهي الحلقة الأخيرة في موضوع التأدب الواجب مع سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبدأها بالسؤال الذى يجب أن نسأله لأنفسنا:
هل وقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما كان يوقره الصحابة رضوان الله عليهم؟ هل تأدبنا معه صلى الله عليه وسلم بمثل أدبهم معه؟ ولرب داهمنا من يتساءل: وكيف كان توقيرهم له وتأدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟
والإجابة: لقد كان من توقير الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، أنهم ما فتئوا يلتزمون الأدب بحضرته، ولا يتكلمون إلا بإذنه.
وفى ذلك قال البراء بن عازب رضي الله عنه يصف حضورهم جنازة يجهز لحدها: ( فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير)[رواه أبو داود(4753) وأحمد(4/287)] .

وقال أسامة بن شريك رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسنا الرَخَم، ما يتكلم منا متكلم إذ جاءه ناس من الأعراب فقالوا: يا رسول الله أفتنا في كذا،أفتنا في كذا)[رواه ابن ماجه(3436) وأحمد(4/278) وصححه ابن حبان(486)] ، ورواه الطبراني: “كأن على رؤوسنا الطير”.
ولم يكن رضوان الله عليهم يتهيبونه ويهابونه حال حياته أو حال حضوره فقط بل الشاهد أنهم كانوا على مثل تلك الحالة من الهيبة والتوقير حتى بعد أن غادر دنياهم مُختارًا رفيق ربه صلى الله عليه وسلم.
كما روى عمرو بن ميمون فقال: ما أخطأني عشية خميس إلا آتي عبد الله بن مسعود فيها، فما سمعته بشئ قط يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ذات عشية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نكس فرفع رأسه، فرأيته محلول أزرار قميصه، قد انتفخت أوداجه، واغرورقت عيناه، فقال: “أو فوق ذلك أو دون ذلك أو قريبًا من ذلك أو شبه ذلك”) [رواه مسلم في التمييز(7) والطبراني في الكبير(8617)] .
وما كانوا يقرعون بابه صلى الله عليه وسلم إن أرادوه بالأظافير، بل وما كانوا يرفعون أصواتهم رضى الله عنهم بحضرته صلى الله عليه وسلم، وخفضوه أكثر بعد نزول آية الحجرات:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [سورة الحجرات: (2)] .
فقد قال ابن الزبير رضي الله عنهما : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه خشية حبوط العمل [رواه البخاري (4564)] .
وواقع الأمر أن تأدبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يكون نابعًا من المحبة الإيجابية له صلى الله عليه وسلم والتي يجب أن تستلهم نموذجها من فعل الصحابة المتمثل فى تمام الطاعة والانقياد والتسليم كما يحددها بحق ابن القيم حين ينقل مفهوم الأدب والتأدب من إطاره النظرى القلبي واللساني إلى منطقته الحقيقية العملية، فيقول:

(فرأس الأدب معه صلى الله عليه وسلم كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً أو يحمله شبهة أو شكًا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزُبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل ــ سبحانه وتعالى ــ بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه [مدارج السالكين: (2/387)] .
فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى مبينًا وجوب النزول على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في كل خلاف:
﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [سورة النساء: (65)] ،في هذه الآية يقسم رب العالمين بربوبيته لرسوله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا له في ذلك خطاب التكريم، وقد بينت الآية أن الإيمان لا يكون صحيحًا إلا بثلاثة أمور لا بد من تحقيقها:
الأول: تحكيمه صلى الله عليه وسلم في كل قضية وقع فيها شجار أو خلاف.
والثاني: عدم وجود حرج أو ضيق من حكمه صلى الله عليه وسلم.
والثالث: التسليم والإذعان والانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام.
وهذه الآية تدل على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى أوجب الانقياد لحكمه وبالغ في ذلك الإيجاب، وبين أنه لا بد من حصول ذلك الانقياد في الظاهر وفي القلب، وذلك ينفي صدور الخطأ عنه صلى الله عليه وسلم.

قال الشيخ محمد رشيد رضا: (واستدلوا بالآية أيضًا على أن النص لا يعارض ولا يخصص بالقياس، فمن بلغه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بمخالفة قياسه له فهو غير مطيع للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا ممن تصدق عليه الخصال الثلاثة المشروطة في صحة الإيمان بنص الآية، ومخالفة نص القرآن بالقياس أعظم جرمًا وأضل سبيلاً، وتدل الآية بالأولى على بطلان التقليد فمن ظهر له حكم الله أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم في شيء وتركه إلى قول الفقهاء الذين يتقلد مذهبهم كان غير مطيع لله ولرسوله كما أمر الله عز وجل، وإذا قلنا: إن للعامي أن يتبع العلماء فليس المعنى أنه يتخذهم شارعين ويقدم أقوالهم على أحكام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم المنصوصة، وإنما يتبعهم بتلقي هذه النصوص عنهم والاستعانة بهم على فهمها، لا في آرائهم وأقيستهم المعارضة للنص) [تفسير القرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار ج5/238] .
واتكاءً على تفسير المنار ومدلول الآية قال الدكتور عبدالله شاكر: (إن كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه جامعوا الصحاح، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث تعيَّن على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهرًا وباطنًا، وأن لا يلتمس مخارج لرده أو تأويله، ليخرج به عن ظاهره، لمذهب تقلده، أو عصبية نشأ عليها) [مجلة التوحيد العدد 74 لسنة 2008] .
فمن ادعى المحبة ولم يقم ببواطنها وظواهرها من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم بالقلب واللسان واتباع سنته بتنفيذ أوامره صلى الله عليه وسلم والانتهاء مما نهانا عنه، أو تغليب عقولنا فيما كان صحيحاً عنه ، أو ترك ما أمر به صلى الله عليه وسلم لقول قائل فليحذر وليرجع لأن حرمة النبى صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول ابن العربي ـ ميتًا كحرمته حيًا وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يعرض عنه كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به، وقد نبّه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا﴾ [سورة الأعراف: (204)] .
ويراعى هذا الأدب وهو عدم رفع الصوت أيضًا في مسجده صلى الله عليه وسلم لما أخرجه البخاري بسنده عنْ السائب بن يزيد قال: كنت قائمًا في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم [صحيح البخاري، كتاب الصلاة، باب رفع الصوت في المسجد (1/93)] .
ومن الأدب عند قبره صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عند تفسيره هذه الآية: (ومعلوم أنّ حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في أيام حياته وبه تعلم أنّ ما جرت به العادة من اجتماع الناس قرب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في صخب ولغط وأصواتهم مرتفعة ارتفاعاً مزعجاً كله لا يجوز ولا يليق وإقرارهم عليه من المنكر) [أضواء البيان: (7/617)] .
يُجْمِل الشيخ أبى بكر الجزائري الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى أن يكون:
1ـ بطاعته واقتفاء أثره، وتَرَسُّمِ خُطاهُ في جميع مسالك الدنيا والدين.
2ـ ألا يُقدِّمَ المسلم على حُبِّهِ وتوقيرهِ وتعظيمه حُبَّ مخلوق أو توقيره أو تعظيمه كائنًا من كان.
3 ـ موالاة من كان يوالي، ومعاداة من كان يعادي، والرضا بما كان يرضى به، والغضب لما كان يغضب له.
4 ـ إجلال اسمه وتوقيرهُ عند ذكره، والصلاةُ والسلامُ عليه، واستعظامه وتقديرُ شمائلِهِ وفضائلِهِ.
5 ـ تصديقُهُ في كل ما أخبر به من أمر الدنيا والدين وشأنِ الغيب فى الحياة الدنيا وفي الآخرة.
6 ـ إحياءُ سُنتِهِ وإظهارُ شَرِيعَتِهِ، وإبلاغُ دَعوَتِهِ، وإنفاذِ وصاياهُ.
7 ـ خفضُ الصوتِ عند قبره، وفى مسجده لمن أكرمه الله بزيارته، وشَرَّفَهُ بالوقوفِ على قبره صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا.
8 ـ حُبُّ الصالحين وموالاتهم بحُبه، وبغض الفاسقين ومعاداتُهُم بُبُغْضِه[منهاج المسلم ص 67] .

فليتأمل كل مسلم نفسه ويعرض نفسه على شروط التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما ظن أنه يحسن الأدب دائمًا وهو في الغالب يحسن في ناحية ويسئ في أخرى دون أن يدري، فقد أساء الأدب من يسب الصحابة رضوان الله عليهم أو على الأقل يذكرهم بما لا يليق دون علم أو سند، أساء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سب أو تناول أمهات المؤمنين بما يُشين ولو حتى تحت ستار البحث العلمي وباطنه ممتلئ حقدًا وسمًا مثل تلك الأقلام المأجورة التي غزت بعض الصحف والتي تتبنى أو تتبناها مذاهب على غير مذهب أهل السنة والجماعة.
أساء الأدب من لم يتدبر سيرته أو قرأها ثم أشاعها في نفسه وأسرته وعمله خُلقًا ومنهاجًا وسلوكًا، أساء الأدب ممن تمذهب بالمذاهب المادية والإلحادية وروَّجَ لها، أساء الأدب من أنكر سنته واتخذ القرآن الكريم حكمًا وحاكمًا وسمى نفسه “القرآني” ووسم باقى المسلمين المتمسكين بسنة وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ “البخاريين” وقصدهم التنقيص من قدر الإمام البخاري ومن قدر الحديث الشريف، أساء الأدب من أشاع الفاحشة، ومن أفتى بغير علم، ومن فرَّق على المسلمين صفوفهم وكلمتهم، أساء الأدب من أنكر الحجاب وكل فرض واجب في الإسلام، أساء الأدب ممن سخر من الذين يعضون على دينهم بالنواجذ ويتمسكون بأمر السنة النبوية في مظهرهم سواء في الجلباب أو النقاب ومع هذا لا تطرف له عين على الحرمات المنتهكات فلا تسمع له صوت بالإدانة أو الشجب وكأن المألوف هو الباطل.
فالواجب على كل من رضي بمحمدٍ رسولًا واتبعه وآمن به صلى الله عليه وسلم أن يحبه حبًا صادقًا أعظم من حب النفس والولد والوالد والناس أجمعين، وتصديق ما أخبر به، وامتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، والاهتداء بهديه والاقتداء بسنته والرضا بحكمه والحرص على متابعته، وتوقير حديثه والصلاة والسلام عليه إذا ذُكِرَ اسمه صلى الله عليه وسلم، وعدم رفع الصوت عند ذكره وذكر حديثه، وعدم الضحك وقت تلاوة أخباره وكلامه وآثاره، والخشوع عند ذكر شيء من سنته، والتأدب عند الاستشهاد بقوله، والتسليم عند أمره ونهيه، والإيمان بمعجزاته والذب عن جنابه الشريف وأهل بيته وأصحابه، فالأدب معه صلى الله عليه وسلم شريعة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها، والأدب مع شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم بإجلاله وإعزازه وتوقيره وتقديره واحترامه وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها: لا غلوّ ولا جفاء.

فيا من أساء الأدب .. ويا من أحسن التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزيد من الأدب .. مزيد من المحبة.. مزيد من الطاعة والاتباع .. فالأمر يستحق .. فمبتدأ معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ومنتهى معرفتنا بالله ’’سيدنا محمد’’ ..ولن يبقى لنا في النهاية غير’’سيدنا محمد’’ و ’’رب محمد’’..