الجمعة، 18 مايو 2018

السويس: مدينة النضال والجمال..








مدينة السويس.. أشهر مدن مصر؛ فهي الضاربة في أعماق التاريخ منذ بواكير الحضارة الفرعونية، وهي التي عرفها العالم المعاصر لارتباطها بأزمة السويس وحرب السويس وما من حرب مرت على مصر إلا ولها فيها نصيب.

   تتوج السويس تاريخها في الحرب والسلام، وفي تاريخ الأديان؛ ففيها تم حفر شريان الخير لمصر والعالم عبر قناتي السويس القديمة والجديدة، وفوق جبل القطامية تم إنشاء ثالث مرصد للعالم في القرن العشرين، ومنها انطلقت شرارة ثورات الربيع العربي، وكانت المكان الأمين للمسيحيين في القرن الرابع الميلادي الذين فروا بدينهم فأواهم أول دير عرفه العالم "دير القديس انطوان"، وهي أول عتبة لزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم لكل أهل مصر وأفريقيا، ويقال إن المشهد الأخير لغرق فرعون مصر ونجاة  نبي الله موسى عليه السلام ومن معه جرت أحداثه على أرضها.

  سمى الفراعنة السويس "كليزما" كما سميت "هيروبوليس" أي مدينة الأبطال؛ لأنها التي وقفت عقبة أمام زحف الهكسوس على مصر فلم يدخلوها إلا عن طريق الدلتا، كما قاومت الاحتلال البريطاني وخرج منها الفدائيين في كل أزمنة المقاومة، وآخرها في وقت النكسة من سنة 1967م، وبزوغ فجر النصر في أكتوبر 1973م.

  عرفت السويس النضال والمقاومة والثورة عبر تاريخها كله، ولعل من أبلغ الكلمات التي توجز هذا التاريخ ما قال الرئيس السادات في خطابه في 24 أكتوبر عام 1975 في أول احتفال بعيد السويس القومي: (مدينة السويس لم تكن تدافع عن نفسها فقط ولكنها كانت تدرك أنها تدافع عن كل قرية ومدينة مصرية وعربية وكانت النموذج الرائع للعالم أجمع على مر العصور).

  لم تنسَ السويس في غمرة النضال أن تتغنى به فخرج من أتون المقاومة نموذج موازٍ للمقاومة بالكلمة واللحن ورفض الهزيمة والتبشير بالنصر وضخ الأمل في النفوس، ذلك أن السويس مشهورة بأغنياتها ورقصاتها وآلتها الشهيرة "السمسمية" التي يجتمع حولها السوايسة في جلساتهم وأفراحهم في أحياء السويس الخمسة.

    ويتبدى جمال السويس في احتضانها للعديد من المباني التي تحمل طرزًا معمارية مختلفة بعدد من احتلوها أو استوطنوها، وبها قصر محمد علي باشا الذي أدار منه معركته مع الوهابيين، كما يتمثل في صحرائها الزاخرة بالحيوانات البرية، كما عرفت السياحة طريقها إلى العين السخنة ومياهها الكبريتية وقراها السياحية العالمية.

   والسويس زاخرة بالعديد من شركات البترول العالمية، والعديد من المصانع التي تحتويها مناطقها الصناعية وأشهر منطقة شمال غرب خليج السويس والهدف الأول من إقامتها هو الاستفادة من الاستثمار الأجنبي، وتطوير الصناعات والتصدير ذات التكنولوجيا المتقدمة،  وإنشاء وتحسين بنية اقتصاد السوق في مصر.

   يوجز تاريخ السويس الرئيس جمال عبدالناصر في كلمته الشهيرة عنها: (ما من بلد ارتبط اسمه بالتاريخ والنضال المصري والحضارة العالمية مثل مدينة السويس التي قدمت أعظم صور الصمود والتحدى منذ آلاف السنين).


أعلام العرب في تقديم الثقافة "موجزة"..




إن مشكلة ضعف الإقبال على القراءة عند العرب سواء من الكبار أو الصغار، ليس بالأمر الجديد ولهذا فلم تكل جهود الكتَّاب والمثقفين في محاولة كسب وجذب القارئ الذي تَعوَّد القراءة ثم هجرها لأسباب معيشية أو غيرها، أو خلق قارئ جديد، أو خلق مناخ جاذب للقراءة والثقافة، أو محاولة للقضاء على المغالاة في أسعار الكتب، أو طبع طبعات رخيصة الثمن وتفي بالغرض.  
لقد كان هناك من قدموا مشاريعًا أو آليات بشكل فردي لمحاولة جذب المواطن العربي نحو عادة القراءة، وبالتالي خدمة للثقافة، وهناك من قاموا بعمل كتب تتسم بالموسوعية من قديم ولكن ليس لهذا الغرض خصيصًا، ولعل من أول المحاولات التي وقعتُ عليها كتابيّ "المخلاه"، و"الكشكول"  لبهاء الدين العاملي، يقول الطاهر أحمد الزاوي محقق كتاب "الكشكول" عنه: (جمع العاملي فيه من شتى الفنون، واختار له من أمتع البحوث العلمية، وأغرب المسائل التي لا تنتمي إلى فن بعينه، ولا أسرة علمية واحدة، فكان جديرًا بهذه التسمية لما بينهما من المشابهة على الدلالة على جمع أشياء متفرقة).
  وقد جمع العاملي في الكشكول، أي الحقيبة بالفارسية، موضوعات تتعلق بالفقه، والتفسير، والحديث، والهندسة، والجبر، والحساب، والجغرافيا، والفلك، والسحر، والشعر الرقيق، والنثر البليغ، والأمثال، والفلسفة، وعلوم البلاغة، والصرف ، والنحو وغيرها من الفنون التي لم يجمعها غيره من الكتب السابقة عليه، مما يعني أنه نسيج وحده.
  فإذا انتقلنا إلى زمن الراحل عباس محمود العقاد في مطالع القرن العشرين، سنجد أنه في مدينته أسوان قد اختط لنفسه مشروعًا آخر لم يكن القصد من وراءه أن يجذب القارئ للقراءة أو غيرها، ذلك أنه عند إقامته في بلدته بعيدًا عن القاهرة كان يقرأ الكتب ثم يثبت ما يكتبه في كتاب طويل عنده ــ آنذاك ــ شمل العديد من الفصول التي تدور حول الشعر، والتاريخ، والدين، والاجتماع، والأخلاق كان قد أصدر منه كراساتٍ خمس، وعندما تولى الصفحة الأدبية عند عودته إلى القاهرة في صحيفة  "البلاغ" الأسبوعية بدأ في نشر ذلك الكتاب أو ما يرد إليه من كتب بعد أن يعرضها ثم ينقدها، بحسب الساعة أو الساعات التي عكف فيها على قراءتها.
عندما تصبح الروايات في الجيب:
    يعد عام 1936 هو البداية الكبيرة للقارئ المصري والعربي في التعرف على الروايات العالمية وذلك حين أسس المترجم والكاتب المصري الراحل عمر عبد العزيز أمين دار نشر أطلق عليها "روايات الجيب" تولت إصدار العديد من ترجمات للروائيين الكبار من أمثال فيكتور هوجو وألكسندر دوماس وأجاثا كريستي البوليسية. وما يعنينا هنا أن هذه الكتب كان يصدرها عمر أمين موجزة أي على هيئة روايات مختصرات من الأعمال العالمية مترجمة إلى العربية، وقد تتلمذ العديد من كبار الروائيين والأدباء المصريين والعرب على هذه السلسلة التي كانت سهلة الحمل، وخفيفة الثمن أيضًا، جاذبة للقراءة، ولقد قرأها نجيب محفوظ، وصنع الله إبراهيم، وعبد الرحمن منيف وغيرهم.

ثقافة الوعي العربي حين تستلهم "اقرأ":
   في أربعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية سلسلة "اقرأ" والتي قدم لها الدكتور طه حسين بكلمة موجزة أبان فيها السبب الحقيقي وراء إصدارها وهو نشر الثقافة من حيث هي ثقافة، والإيجاز هنا ليس له محل، بل هي ثقافة تستهدف نشر الوعي بين شعوب الأمة العربية قاطبة.
"كتابي" وثقافة الإيجاز:
 يبدأ الإنجاز الحقيقي للمشاريع التي تستهدف توسيع رقعة القراء، وتوسيع مداركهم، وثقافتهم المتنوعة المتباينة مع الدكتور حلمي مراد الذي كان قاصًا ومترجمًا وكان له مشروع عظيم، بتقديم ملخصات وافية لأبرز كتب التراث الإنساني في سلسلة "كتابي" التي أصدرها عام 1952 بشكل شهري، وظلت تصدر منتظمة حتي أواخر الستينات، وفي أواخر التسعينات قامت إحدي دور النشر الكبري، وهي المؤسسة العربية الحديثة بإعادة طبعها مرة أخري وتوزيعها، كما يقول الأستاذ محمود قاسم، في مقاله "المجهول في عالم المعرفة الثقافية أكثر من المعلوم".
غير أن الأستاذ محمود قاسم يُسقِط فترة تاريخية أخرى كانت قبل هذا التاريخ الذي ذكره، عندما عاود الدكتور حلمي مراد بنفسه إصدار سلسلة "كتابي" عن طريق دار المعارف في ثمانينات القرن العشرين، وكتب لها المقدمة التي خاطب فيها القارئ الذي كان يناشده بجمع كل نوعية من المواد التي سبق نشرها وإعادة نشرها مجتمعة في كتاب واحد أو عدة كتب، فلبى النداء وأصدر "مختارت كتابي" وأصدر أعدادًا جديدة من "مطبوعات كتابي" و "كتابي" التي كان يصدرها في سلسلة نجحت في إصدار الترجمات الكاملة لأكثر من مائة رواية عالمية، منها: "هل تحبين برامس، لفرانسوا ساجان"و"اعترافات جان جاك روسو" و"مرتفعات ويذرنج"، و"دكتور زيفاجو"  و"مدام بوفاري" و"الألياذة" و"الطريق إلي بئر سبع" و"المسبحة" أو قربان الحب"، و"مدموازيل جوفر" غير مجلة للصغار مع بعض الأعداد وغيرها.
الرغيف الثقافي في "كتابك":
 مع سبعينيات القرن العشرين أصدرت دار المعارف المصرية أيضًا سلسلة "كتابك" والذي قدم لها المستشار الثقافي للدار الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد مع أول كتاب يصدر عنها للأديب توفيق الحكيم، يذكر خورشيد السبب وراء إصدار هذه السلسلة التي لا تعتمد مثل سلسلة اقرأ على النقل والترجمة والإيجاز بل العناية بالثقافة، فيقول: (وقد أحست دار المعارف حاجة القارئ العربي الشديدة إلى الثقافة العامة التي لا غنى عنها لكل إنسان يعيش في القرن العشرين، فاستقر رأيها على أن تمده بهذا الرغيف الثقافي الذي لا يقل وزنًا ولا خطرًا عن رغيف العيش. بل هو أسمى منه وأرفع  وأقدر على تنمية الذوق. وإمتاع الفكر. وصقل الوجدان. وإفساح الرؤية).
مكتبة الأسرة وانطلاق قاطرة الثقافة:
مع منتصف تسعينيات القرن العشرين انطلق مشروع "مكتبة الأسرة" باقتراح  من اللجنة العليا لمهرجان القراءة للجميع برئاسة السيدة سوزان مبارك رئيس اللجنة وحرم الرئيس المصري الأسبق، وتكاتفت جهود الجهات المشتركة في المهرجان لتمويل هذا المشروع، وهم:المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وزارة التربية والتعليم، وزارة التنمية المحلية، جمعية الرعاية المتكاملة، وزارة الإعلام، وزارة الشباب. ليكون هدفه هو نشر روائع الأدب من أعمال إبداعية وفكرية وفلسفية، وتقديم الأعمال التي ساهمت في تشكيل مسيرة الحضارة الإنسانية، علي أن تطرح هذه الكتب للبيع بأسعار رمزية لتشجيع القراءة وحب الاطلاع بين الشباب والمواطنين، وغيرها من الأهداف التي تدور حول بث الروح الوطنية، وتمكين الشباب وغيرهم من قراءة الأعمال الأدبية والإبداعية والدينية والفكرية والثقافية والسياسية، ونشر أحدث مؤلفات العلماء التي تواكب التطور العلمي والتكنولوجي في العالم، والتواصل مع الحضارات الأخرى من خلال الترجمة التي تقدم للشباب، نشر الوعي بالتراثين العربي والإسلامي.
تراث الإنسانية من الوأد إلى البعث، من الستينيات إلى التسعينيات:
   لم يقم مشروع مكتبة الأسرة على الإيجاز مثل سابقيه "اقرأ" و"كتابك"، ولكنه اتصل بالإيجاز حين أصدر أعداد مجلة "تراث الإنسانية" في عام 1994م، تلك المجلة الشهيرة التي أصدرتها وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، وكانت تصدر شهرية منذ عام 1962م، وحتى عام 1971م، وهي تضم عددًا من خيرة الكتاب والعلماء، مثل: عباس محمود العقاد، والدكتور عبدالحليم منتصر، والدكتور زكي نجيب محمود، وعلي أدهم، والدكتور فؤاد زكريا، والدكتور أحمد أبو زيد، وإبراهيم زكي خورشيد، وإبراهيم الأبياري.
    أصدرت مكتبة الأسرة بعض المواد العلمية من مجلة تراث الإنسانية على هيئة كتيبات  تحمل نفس عنوانها، في موضوعات مختلفة حول الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة والفنون والعلوم وغيرها، وقد صدر منه في عام 1994م:
تحديد نهايات الأقاليم للبيروني بقلم الدكتور إمام إبراهيم أحمد، عيون الأخبار لابن قتيبة بقلم إبراهيم الأبياري، الانيادة لفرجيل بقلم الدكتور إبراهيم سكر، نكت الهميان في نكت العميان للصفدي بقلم الدكتور النعمان القاضي، روبنسون كروزو لدانيال ديفو بقلم الدكتورة انجيل بطرس سمعان، الكامل في التاريخ لابن الأثير بقلم الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، سقط الزند لأبي العلاء المعري بقلم أحمد إبراهيم الشريف، الديكاميرون لجيوفاني بوكاشيو بقلم فوزي شاهين، العالم إرادة وتمثلًا لشوبنهور بقلم الدكتور فؤاد زكريا، نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري أحمد بن عبد الوهاب بقلم إبراهيم الإبياري.
    أما ما صدر منها في عام 1995م، بحسب ما وصلني:
الضفادع لأرستوفانيس بقلم دكتور محمد صقر خفاجة، الفرس لإيسخيلوس بقلم دكتور محمد سليم سالم، الإدارة العلمية لفردريك تايلور بقلم دكتور أحمد الرشيد، البحث عن اليقين لجون ديوي بقلم دكتور أحمد فؤاد الأهواني، عجائب المخلوقات للقزويني بقلم دكتور عبد الحليم منتصر، القانون المسعودي للبيروني بقلم دكتور إمام إبراهيم أحمد، الأساطير الإغريقية بقلم الدكتور إبراهيم سكر، الكتب الخمسة لكنفوشيوس بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، القلق لسيجموند فرويد بقلم الدكتور محمد عثمان نجاتي، الحكايات للافونتين بقلم الدكتور علي درويش، مخطط تاريخي لتقدم العقل البشري لكوندرسيه بقلم الدكتور السيد محمد بدوي،العقد الاجتماعي لجان جاك روسو بقلم الدكتور حسن سعفان، روح القوانين لمونتسكيو بقلم الدكتور حسن شحاتة سعفان، رحلات جليفر لسويفت بقلم صوفي عبدالله، سيرة بني هلال بقلم الدكتور عبد الحميد يونس، الاستاتيقا لكروتشة بقم أحمد حمدي محمود، تاريخ الأمم والملوك للطبري بقلم محمد خليفة التونسي، الإفادة والاعتبار لعبد اللطيف البغدادي بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الجامع لمفردات الأدوية والأغذية لابن البيطار بقلم الدكتور عبد الحليم منتصر، الوسيلة الأدبية، للحسين المرصفي بقلم محمد عبد الغني حسن، نقد العقل الخالص لكانط بقلم الدكتور عثمان أمين.
  ثم صدر المجلد الأول في التسعينيات، وهو يضم الموضوعات التالية: أبو الطيب المتنبى بقلم عباس محمود العقاد، الأبطال لتوماس كارلايل بقلم على أدهم، النظرية النسبية بقلم الدكتور محمود أحمد الشربينى، ثروة الأمم لآدم سميث بقلم الدكتور عبد المنعم الطناملى، تشريح القانون لابن النفيس بقلم الدكتور بول غليونجى، التأملات لديكارت بقلم الدكتور عثمان أمين، الموسيقى الكبير للفارابي بقلم الدكتور محمود أحمد الحفني.
تتفق المجلة في منهجها حول الإيجاز وحول ترتيب الموضوعات على غير اتفاق مع منهج  العاملي في الكشكول والعقاد في ساعات بين الكتب، وهو ما أثبته الدكتور عبد القادر حاتم في مقدمته للمجلد الأول الصادر في الستينات حين قال: (تظهر في الغرب من حين إلى حين مجموعات وسلاسل كثيرة مختلفة المنهج تدرس روائع الكتب العالمية التي أثرت في الحضارة وتلخصها، كما تُترجم لكتابها في إيجاز، وتعرض من هذه الكتب نماذج  مختارة تساعد على فهمهما وتبين خصائصها. ولم نخضع هذه المجموعات لترتيب تاريخي، أو منهج تصنيفي، ذلك أن أذواق القراء وميولهم تختلف، فما يثير خيال قارئٍ قد لا يثير خيال آخر، ومن ثمَّ لم يُراعَ فيها إلا أن يصدر كل عدد منها حاويًا لألوانٍ مختلفةٍ من المعرفة الإنسانية).
ــ أنور الجندي ومحاولة اقتحام العلاقة بين الشباب والقراءة:
 فطن المفكر الإسلامي الراحل الأستاذ أنور الجندي إلى الحالة التي كان عليها الشباب من عدم الإقبال على القراءة، والقراءة الجادة بشكل خاص، فآثر أن يصدر بعض الكتيبات التي تحمل قضايا هامة معاصرة تخص الإسلام والمسلمين، وتلفت انتباههم إلى ما يحيط بهم من مؤمرات تحاك ضدهم فكان أن أصدر هذه الكتيبات التي تتفاوت في أوراقها التي لا تكاد تصل للثلاثين ورقة تحت عنوان واحد في مجموعة واحدة من مثل "في دائرة الضوء" وكان لكل كتيب عنوان وموضوع مختلف، وكذلك مجموعة أخرى له أسماها "على طريق الأصالة الإسلامية" وكل كتيب يحمل عنوانًا وموضوعًا جديدًا يستمده من العنوان الأكبر للمجموعة، كما يحمل رقمًا متسلسلًا يساعد القارئ على تتبع ما يقوله الجندي، ومنها كتيبات "أحاديث إلى الشباب المسلم" وتتميز بعدد صفحاتها الذي قد يزيد إلى ضعف الكتيبات الأخرى، ويتغلب الجندي على ملل القارئ بتقسيم الموضوعات وتباينها وقصرها وانفصالها عن بعضها غير أنها مشمولة بالموضوع العام الذي يختاره لكتابه من مثل "شبهات في الفكر الإسلامي".
محمد عبد الغني حسن وتقديم الرواد:
حاول الأستاذ محمد عبد الغني حسن محاولة رائعة حين أوجز خمسة كتب لمؤلفين رواد من المؤلفين العرب، وهو يرى أن الرواد من العلماء العرب من الكثرة بمكان، وأن الرائد في تعريفه ما كان الأول في ميدانه الذي اشتهر به وفيه، ثم جاء بعده من استكمل العلم وعمقه وزاد عليه، غير أن الريادة تبقى محفوظة مصونة، لا يحجب فضله من جاءوا بعده، وساروا على دربه.
    لا يدَّعي الرجل إحصاء الرواد ومؤلفاتهم فهذا عمل ينوء بحمله الرجال، وأن كل ما استطاع أن يقوم به هو اختياره لخمسة من الرواد يمثلون عصورًا مختلفة من تاريخ العرب والإسلام، ويمثلون ألوانًا مختلفة من الثقافة والفكر في مجالات الأمثال، واللغة، والأدب، وتاريخ الأدب العربي، وهؤلاء الخمسة هم:
الميداني صاحب كتاب "مجمع الأمثال"، والفيروز آبادي صاحب كتاب "القاموس المحيط"، والشيخ حسين المرصفي صاحب كتاب "الوسيلة الأدبية"، وجرجي زيدان صاحب كتاب "تاريخ أداب اللغة العربية"، وعبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب "طبائع الاستبداد".
  حاول المخلصون من الذين يريدون لهذه الأمة الخير أن تتوثق عرى الصداقة والألفة بينهم وبين القراءة، والمعرفة، وحب الكتاب، فلم يقفوا عند حدود بحث الأسباب، وتشخيص الدواء، بل سارعوا كلٌ بحسب ما استطاع أن يمد يد العون للأخذ بأيديهم، فأوجزوا الكتب المسهبة، وقربوا المسائل البعيدة، وأضافوا، وَيسروا، فبارك الله ما قدموا وجعله في ميزانهم، وأعان من سيأتي بعدهم في استكمال مسيرتهم والبناء عليها، والتجديد فيها خدمة للقارئ العربي وللثقافة.

الاثنين، 7 مايو 2018

استرشاد المرأة العصرية بحياة أمهات المؤمنين.


    





    قد يتعجب البعض من الاسترشاد وليس الاقتداء مع أن الشوكاني في نيل الأوطار وغيره يكتبونهما معًا بالترادف، وذلك لأني أرى الاسترشاد كمعنى إجرائي في مقالتي وقعه أخف على عموم المرأة العصرية مسلمة وغير مسلمة، مؤمنة وغير مؤمنة، حيث أن مرام الموضوع يقع في الشق الاجتماعي لا في الشق الديني، ويقع في الثقافة الإنسانية أكثر من الثقافة الإسلامية وإن كانت نفس الثقافة إنسانية الطابع حتى في حضارتها، والشواهد على ذلك كثيرة. 

    والثابت أنه لا غضاضة في نقل الخبرات الإنسانية والتي دائما ما نسمعها ونكتبها عن بلاد وأناس لا يرتبطون بنا بجغرافية ولا تاريخ سوى الجنس البشري فقط، وهو ما يجعل المهمة أيسر على المرأة العربية العصرية حين تسترشد بالمواقف الإنسانية التي عاشتها المرأة في كنف بيت النبوة وقبل النبوة مع السيدة خديجة رضي الله عنها، وتَعلمتْ من تجربتها ـ وهي لا شك مفيدة ـ في نجاح الحياة الزوجية.

    وكيف لا تسترشد بهذه التجربة امرأة ثرية إذا وجدت شابًا يصغرها في السن ولكنه من ذوي الأخلاق الحسنة أن ترسل له من يعرض عليه أمر زواجها منه، خاصة إذا علمت أن ما يحول بينه وبين الزواج منها أو من غيرها هو الحاجز المادي فقط؟!

    ألا يكون هذا علاج لكل من فاتها قطار الزواج أو كانت متزوجة ثم ترملت أن تعيش حياتها مع من يصغرها سنًا، إن أرادت، وهذا الأمر ينطبق على المرأة العصرية من كل دين كما ذكرت، ولقد كانت السيدة خديجة ذات نسب طاهر، وجمال باهر، ومال وافر، سيدة قرشية لبيبة، جليلة، حازمة رشيدة، ولدت ونبتت في بيت مجد وسؤدد من نسل طيب الأعراق.

     لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم  مع السيدة خديجة رضي الله عنها قصة رائعة من الحب والوفاء والسعادة والامتنان، فسار بهما قارب الحياة في سعادة غامرة، وحزن عميق موجع؛ فليس هناك حزن في الدنيا يضارع حزن فقد الأولاد في حياة والديهم، غير أنه صلى الله عليه وسلم لم يقترن بغيرها فى حياتها.

    ألا تستطيع المرأة العصرية أن تسترشد بالسيدة خديجة حين كانت تستقبل زوجها عند عودته من غار حراء بمودة وحنان وعطف الأم الرءوم، وإيمان بما يفعله، فتستقبل الزوجة في عصرنا زوجها بعد حضور ندوة علمية أو دينية أو أدبية أو بعد ممارسة هوايته المفضلة ـ مع الفارق في القياس ـ بنفس المودة وإيمان بما يفعل دون أن تحيل وقته الطيب الذي قضاه إلى نكدٍ دائم، وشكوى للقريب والبعيد؟!

  يجب أن تتعلم المرأة العصرية من موقف دخول السيدة خديجة في حصار قريش على بني هاشم وبني المطلب في شِعب أبي طالب، فالتحقت بزوجها وعانت ما عاناه من جوع ومرض لمدة ثلاث سنوات، مع كون الحصار لم يكن مفروضًا عليها معهم ولكنها لم تترك زوجها وحده يواجه محنته ونفضت يدها منه وآثرت السلامة، كما تفعل بعض النساء في عصرنا، وهو موقف يلزم كل امرأة أن تسترشد به حين يواجه زوجها محنة العزل من وظيفته، أو الإفلاس، أو كساد تجارته، أو الدخول في سجن المرض، أو السجن بتهمة حقيقية أو ملفقة ضده وتستطيع أن تسانده فلتفعل ولا تتخلى عنه.

    لماذا لا تتعلم المرأة العصرية الشابة عندما تتزوج من رجل هو أسن منها وكان يحب زوجته السابقة التي رحلت بالوفاة، هذا الموقف الذي قد تقع فيه بعضهن عندما تُظهِر غيرتها فتتفوه ببعض العبارات التي قد تجرح ذكراها في نفسه، وتوغر قلب زوجها عليها، وكيف تمت معالجته من قبل الزوجة الصغيرة لتسير سفينة الحياة الزوجية بينهما من جديد، وتستلب بواعث الغضب وجذوره من قلب وصدر زوجها التي أحدثتها بألفاظها؟

    إن هذا الموقف قد ضم الزوجة الثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم وهي السيدة عائشة رضيَّ الله عنها التى عانت كثيرًا، وصبرت كثيرًا من ذكره صلى الله عليه وسلم  لزوجه الراحلة السيدة خديجة رضيَّ الله عنها، بل وأفعاله أيضًا التى تؤكد عن مدى حبه وتعلقه بأيام ذلك الزواج الأول حتى غارت، وغيرتها مشروعة فقد كانت البكر الوحيد التي تزوجهــاـ، وهي الصبيحة المليحة، الصغيرة، تحيا مع زوج تحبه ويكبرها، ويذكر زوجة راحلة كانت أكبر منه وبالتبعية تكبرها بكثير فضاق صدرها حتى قالت: "مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، وفي رواية قالت: "أَبْدَلَك اللَّه بِكَبِيرَةِ السِّنّ حَدِيثَة السِّنّ". 

   فغضب صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وقال :’’مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ’’.

      لم تكن تعلم عائشة أنه وفاء نادر معجز من رجل نادر معجز لم تسمع بمثله فى عالم مكة ولا دنيا المدينة، ولا رأت مثيلاً له فيما حكته أشعار العرب وأقاصيصهم، لكنها حين خبرته وعرفته من هول غضبه صلى الله عليه وسلم أقسمت في نفسها : "اللهم إن أذهبت غضب رسولك عني لم أعد أذكرها بسوء".. بل وصرحت بهذا تائبةً نادمة بين يديه: "وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لا أَذْكُرهَا بَعْد هَذَا إِلا بِخَيْرٍ"، ولم تعد تستغرب أي مواقف تصدر عنه إزاء خديجة أبدًا، إنه الوفاء.. تلك الفضيلة الهامة والراسخة والبارزة فى سيرته صلى الله عليه وسلم.

   وهذا موقف أحكيه لا بنصه ولكن بمعناه لكن فيه الكياسة، وحسن السياسة من الزوج والزوجة عندما يتعاليانِ على الصغائر، ويترفعانِ عن السفاسف، ويتجاوزانِ الأمور المكدرة لصفو العلاقة، وذلك لتسير بهم سفينة الحياة الزوجية دون أن تتخبط ثم تتحطم على صخرة العناد والندية والغضب، والكرامة الزائفة من قبل المرأة، والخشونة المبالغ فيها مع الكبر من قبل الزوج.  
      
   أما الموقف فتحكيه السيدة عائشة عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مبيته عندها ولما هم أن ينام بعدما علم بأنها نامت فقام فلبس الرداء والنعل دون أن يحدث صوتًا وخرج، فلبست لتوها خمارها وإزارها وتبعته حتى بلغ مقابر الصحابة رضوان الله عليهم بالبقيع وأطال القيام عندهم، ولما عاد عادت أمامه وهي تسرع حتى دخلت سريرها وصوتها يعلو حتى سألها أن كان بها مرض مما يعرفونه في وقتهم والذي يسبب ارتفاع صوت النفس مع تسارعه، فأخبرته، ولم يغفر لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر غيرتها فدفعها بجميع كفه في صدرها، لأنها ظنت أن يظلمها الله ورسوله في ليلتها.

  لم يرد الرسول (الزوج) أن يتحول الأمر إلى قطيعة فحكى لها عن السبب الذي من أجله خرج دون أن يحدث جلبة، من أن جبريل ناداه فأخفاه عنها ثم أجابه فأخفاها عنه، ولم يكن ليدخل البيت ـ أي جبريل ـ وقد وضعت عائشة ثيابها، وخاف الرسول صلى الله عليه وسلم  أن تكون قد نامت فيوقظها، أو يوقظها بعد نومها فتستوحش غيابه، ذلك أن جبريل أخبره: "إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُم". هنا التقطت عائشة (الزوجة) طرف الحديث ققَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم (الزوج)  قَالَ: ’’قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ’’.

    لقد كانت السيدة عائشة (الزوجة) ذكية، واعية بأحوال زوجها، لم تُرد أن ينتهي الموقف بينها وبينه بغضب، فغيرت الموقف من المعاتبة بين زوجين إلى استفسار من طالبة علم إلى أستاذها، إذ كان الثابت من فعلها أنها لم تكن تترك رسول الله يغضب منها مدة من الزمن حتى تتحين الوقت الذي تصفو فيه نفسه صلى الله عليه وسلم وتطيب فتطلب منه علمًا أو دعاء. فسألته كيف تدعو لأهل البقيع؟، فكان من أدبه ورحمته صلى الله عليه وسلم أن أجابها ولم ينهرها كما يفعل بعض الرجال الغُشُوم في عصرنا بدعوى الكرامة وذلك إيثارًا منه لتتواصل المودة بينهما. 

    لماذا لا تتعلم المرأة العصرية الأكبر سنًا من زوجها والمتزوج من زوجتين أصغر منهما سنًا، إنني أحكي عن الصحابية الجليلة، والسيدة النبيلة سودة بنت زمعة، ذات المكانة المرموقة في مجتمع نساء قريش، العاقلة الحصيفة اللبيبة، يبدو هذا في موقفها المتوازن بين شرف الاصطفاء لها بأن تكون زوجًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كونها ذات عيال، وتخشى أن يتسبب هذا في تفويت فرص الراحة والمودة والسكن الذي يجب أن يسود البيت النبوي، فأعانها هو على ذلك.

      لقد كانت سودة بنت زمعة الأم الحانية، الراعية لبنات النبي وخديجة، ولم تكن أمًا لبنتيه وحسب بل أيضًا أمًا لزوجتيه الصغيرتين عائشة بنت الصديق وحفصة بنت الفاروق، لحرصها الشديد على إسعاده  صلى الله عليه وسلم  لم تفتعل المشاكل من غيرة بعد اقترانه بعائشة قبل حفصة، بل عاش بينهما فى مودةٍ خلقاها حوله كزوجتين صالحتين على الرغم من فرق العمر الكبير بينهما وتكاد أن تكون أمًا له أيضًا؛ فلم تكدر للرسول  صلى الله عليه وسلم  صفو عيشه، إذ كانت حريصة أن ترضيه كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً، فقد كانت تحبه حبًا جمًا، وكانت إحدى أحب زوجاته إلى قلبه، لصلاحها وتقواها، ومسيرة إيمانها، ولعلمه بسعيها لإدخال السرور على قلبه بما تختاره من كلمات تشيع في أرجاء نفسه البهجة.

       لقد جاء الموقف الذي يجب أن تتعلم منه المرأة العصرية إذا تقدم بها السن وعجزت عن القيام بواجب الزوجية وخشيت أن يطلقها زوجها لفارق السن بينهما؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصغرها بخمسة أعوام، لقد ظلت السيدة سودة تحمد الله كثيرًا على أن الرسول  تلطَّفَ بها وبحالها حين اختارها زوجًا له وهي أسن منه وصاحبة عيال، ولهذا لما تقدم بها السن لم تكن الخروج من معيته وصحبته كزوجة، كما كانت تعلم أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عادلاً، ويحب أن يقيم شرع الله في بيته وبين أزواجه، فخشيت أن يطلقها صلى الله عليه وسلم فصارحتُه بما في نفسها لكي تحمل من فوق كاهله مخافة ومظنة التقصير في حقها: "يارسول الله، لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة"، وذلك لغرض نبيل أخروي، من حقها أن تتمسك به: "أود أن أحشر في زمرة أزواجك".
   
   لقد قلت استرشادًا واستئناسًا ونقلًا لهذه التجارب واستلهامها، يجب أن تستفيد المرأة العربية العصرية منها؛ فحالات الطلاق شاعت بين أفراد المجتمع المسلم، كما شاعت المشاكل والانشقاقات والتصدعات في بيوت غير المسلمين داخل المجتمع العربي، ومن هنا كنا ننبه بإلحاق الفتيات قبل الزواج بدورات تأهيلية تعلمهن أصول التعامل الزوجي، وكيف تكون زوجة ماهرة ناصحة مؤهلة لكل ما تجلبه الحياة من مفاجآت، وهذه سيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن فيها من التجارب التي تثري عقل وقلب وخبرة الزوجة العربية العصرية.

الأربعاء، 2 مايو 2018

لقاء في "ساحة النور" بدندرة..


  



   

 تَعجَّب صديقي حين ذكرتُ في نهاية مقالي "أيامٌ في دندرة" أن الضياء والنور قد مَلأَ جنباتي وأعماقي، واحتضن اليقين كلماتي وسكناتي وحركاتي.. ولم أشأ أن أدلل على شعوري بأدلة لن يستطيع أن يصل لمداها؛ فقد قلتُ في نهاية المقال نفسه، أن من ذاق ليس كمن عرف، تحسبًا لمن سيتعجبون مثله.

   كان من الأفضل أن أقدم لمحبي الإمام الفضل الدندراوي أمير قبائل وعائلات الأسر الدندراوية، والدكتور الطاهر أحمد مكي أستاذ الدراسات الأدبية بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، وعضو المجمع اللغوي بمصر ـ رحمة الله عليهما ـ وجذورهما من قنا، اللقاء الذي تم بينهما.

     لعل هذا اللقاء كان غائبًا عمَّن يتابع تاريخ الرجلين الأعلام في حياتنا المعاصرة على المستويين الديني والأدبي، إلا عَمَّن نقله لنا كقراء وهو معالي الدكتور محمد أبو الفضل بدران الذي شغل الكثير من الوظائف الهامة وآخرها نائب رئيس جامعة جنوب الوادي لشئون التعليم والطلاب والذي شَرُفتُ بلقائه في منتدى دندرة الثقافي الرابع، وهو قنائي الميلاد والجذور أيضا كالرجلين، وهو المحب للأمير الفضل وللأسرة الدندراوية وتلميذ الدكتور مكي، وقد ذكر اللقاء في مقالته: "الطاهر مكي كما عرفتُه".


     يقول الدكتور أبو الفضل بدران: (يدعونا الأمير الفضل بن العباس الدندراوي للحوار والغداء علي ضفاف النيل ببيته "ساحة النور" بدندرة، يتحول الطاهر مكي في حواره من زعيم في حزب التجمع إلي صوفي حتي النخاع، كنتُ معيدا آنذاك، رأيته يناقش في الأحوال والمقامات، ورأيت علي وجهه سيم ـ أي علامة ـ  الرضا، تحدث الأمير الفضل عن أحوال المسلمين في العالم؛ وعمَّا ينبغي أن يكونوا عليه، كان الأكل شهيا لكن الحوار أشهي وألذ).

  إن دليلي الأول في اقتران الحالة الشعورية التي انتابتني والتي عكسها وجودي في دندرة وأهلها، هو نفس ما نقله الدكتور بدران عن الحالة الشعورية التي مَسَّت وجه أستاذنا الدكتور الطاهر مكي وهي علامة الرضا في حديثه مع الإمام الفضل الدندراوي في هذا الجو الذي تظلله سحائب المحبة وأهلها وأحوالها ومقاماتها.

  إنها الحالة التي تكون مع صاحبها حال وجوده في محيط دندرة، والتي تصاحبه بعد رحيله عنها ببدنه لا بوجدانه، وهو ما يصفه الدكتور بدران، فيقول: (في أثناء عودتنا ترجّل مكي فوق كوبري دندرة الذي يربط بين قنا الشرق ودندرة والترامسة الغرب، مشينا في معيته وكأننا المريدون في إثر شيخهم، أو الحلاج وأتباعه علي نهر الفرات مُرددًا:

و اللهِ ما شرقتْ شمسٌ ولا غربتْ  
إلاَّ  وذكركَ  مقرونًا  بأنفاسي
 و ما خلوتُ إلي قومٍ أحدِّثهم      
إلاَّ وأنتَ حديثي بين جُلاَّسي
و ما هممتُ لشربِ الكأْس مِنْ ظمأ  
إلاَّ رأيتُ خيالاً منكَ في كاسي).

    من الدلالات الهامة التي نستشفها من هذا اللقاء أن الأمير أبو الفضل الدندراوي كان حريصًا على أن يلتقي الدكتور الطاهر مكي وهو علَّامة في الأدب المقارن بل هو عميد دراساته، وله من الكتب والدراسات الكثير الذي مازلنا نتتلمذ فيها عليه، وهو المترجم والناقد والذي زار العديد من الدول الغربية والعربية والإسلامية، وكان حديث الأمير عن أحوال المسلمين في العالم؛ وعمَّا ينبغي أن يكونوا عليه، هذا ما يشغل الأمير ولعله أراد أن ينقل رسالة وفكر الأسرة الدندراوية إلى الدكتور مكي، وفي ذات الوقت يستنير برأيه ومشاهداته عن العالم الإسلامي وأحواله.

    من المؤكد أن الأمير الفضل كان يعلم أن الدكتور الطاهر على الرغم من نشأته الأزهرية، إلا أنه قطب من أقطاب اليسار في مصر وفي حزب التجمع اليساري المعارض، غير أن من يعرفون الدكتور الطاهر مكي الأستاذ الأكاديمي يعلمون أنه لم يكن ليسمح أن يتسرب مذهبه السياسي إلى منهجه الفكري والعلمي أو إلى أيٍّ من مؤلفاته.

    غير أن الأمير بهذا اللقاء كان ينطلق من أهم مرتكزات الفكر الدندراوي في إعلاء ثقافات مفقودة في عالمنا العربي المعاصر، غير أنها مركوزة في ذلك الفكر، وأهمها ثقافة الاختلاف، والتنوع الثقافي، وقيمة وثقافة التسامح، ولهذا كان بيت الأمير الفضل وقلبه وعقله يتسع للدكتور مكي في "ساحة النور".. اسمًا ومعنىً، وينتقل من القلب للقلب.