الجمعة، 25 ديسمبر 2020

قراءة في ديوان: "عايشن حطب" للشاعر محمود السنوسي..





    صدر ديوان "عايشن حطب" للشاعر محمود السنوسي عن الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية، إقليم القناة وسيناء الثقافي، فرع ثقافة السويس في عام 2019م، وهو يضم تسع عشرة قصيدة كلها باللغة العامية المصرية.


  جاء عنوان الديوان مُحملا بالمفارقة اللفظية في إطار التضاد بين المفردة الإيجابية: "عايشين" والمفردة السلبية: "حطب"، وهي دلالة كافية لتنبئنا أن للشاعر رؤيته الفلسفية التي وعت اقتناص لقطة شمولية لواقع مرير آثر أن يؤطرها بجمال المفارقة التي تسمح بتعدد التفسيرات اللغوية أو الفكرية تبعًا لكل متلقي بين ظاهرها وخفيها، وقد عمد الشاعر السنوسي إلى استخدام المفارقة عبر العديد من كلمات في نصوص الديوان، ومنها:

ـ "صوت السكات نواح"، و"من حي عايش للممات"، من قصيدة "عايشين حطب".

ـ "قلب ميت م الحنين" من قصيدة "أنتي مين؟".

ـ "ودوامتك غرقها نجاه" من قصيدة "مفيش عناوين".

ـ "أسد خايب ما لوش أنياب" من قصيدة "قلبي اتعود".

ـ "هادي نورك.. مش دليل" من قصيدة "سرك في بير".

ـ "حَليت بمرار الأيام" من قصيدة "ذكرى".

تصبغ أغلب قصائد الديوان المرارة التي تحملها الكلمات المعبرة عن افتقاد الأمل، وذكر الموت ومترادفاته، وانتهاء بعض القصائد بسؤالٍ يفتقد هو الآخر الإجابة للتأكيد على أن انتظار الأمل هو انتظار ما لا يجيء، بل أن نزوع نفس الشاعر نحو الأمل يقتله بنفسه، أو تنزع نفسه نحو الأمل لكنها لا تنجح في اقتناصه، كما تشيع الألفاظ التي تدل على "الافتقاد"، ويتجلى هذا في المقاطع المختارة من بعض القصائد التي تعانق عناوينها ومضامينها في دلالاتها الإيحاء المُشع بالتضاد من عنوان الديوان، على أن القارئ قد يشعر أنها تشكل قصيدة واحدة:

ـ (هستنى إيه .. من حي عايش للممات
من غير أمل .. غير ف اللي فات)، من قصيدة "عايشين حطب".

ـ (إيه اللي ممكن أعمله؟
إنك تشوفني .. ولا تشوف
جنازة ماشية لوحدها من غير مدد)، من قصيدة "القهوة ساده".

ـ (حلمي وحلمك كانت فكرة
يمكن أصل الفكرة حكاية
تبقى نهاية من غير بكره)، من قصيدة "نفسي".

ـ (أنا المكتوب على شهادتك
ولون القمح مني قريب
بفتّح عيني متواربه
من الغربه من التعقيد
و باكتب إسمى وياهم
وفى بطاقتي مافيش عناوين)، من قصيدة "مفيش عناوين".

ـ (أنا العايش ف بطن الليل ما شفت نهار
ولا شمعه تنور لي ف ركن الدار
ولا ضحكه بتتعشم ... ألملم نفسي من نفسي
ومنهم والقدر ونصيب ... وميت ترعه بتتبخر
وأنا عطشان .. ودمعة عين.. مهيش قادره تبل الريق
وأرض تملي مش فاضيه.. بتتفضى وقالوا عمار)، من قصيدة "قلبي اتعود".

ـ (فين القمرة اللي بتنصفني
غفلت عني
وطلعت ضلمه)، من قصيدة "عمرك".

تقف القصيدة الأخيرة من حيث الترتيب في الديوان، بعنوان: "آذان الفجر" بمثابة مسك الختام له؛ لكونها تقف وحدها متفردة في موضوعها لا يسبقها مشابه لها من قصائد الديوان، كما أنها تتميز بوحدة موضوعية عضوية متماسكة كقطعة نسيج لم يستطع الشاعر محمود السنوسي أن يمارس هوايته في التمهيد لها قبل الولوج إلى ثناياها، خاصة وأن القصيدة تكمن فيها علاقات خفية لا تخرج عن الجو العام الغالب على نصوص الديوان في الانطلاق من نقطة الفشل نحةو اقتناص الفرصة السانحة.

يُنحي الشاعر باللائمة على القدر في أغلب قصائد الديوان، في محاولة حثيثة لتبرئته من الإدانة الذاتية، كما يكمن فيها افتقاد الأمل، فيما يبدو أن حضور الشاعر بالإصالة عن نفسه وبالنيابة عن كافة البشر المؤمنين الواقعين في المنطقة الحائرة بين النفس الأمارة والنفس اللوامة أي بين محاولة الإقدام على الطاعة وبين الإحجام عنها قدريا.

كما أن القصيدة تتميز بالوحدة العضوية والنزوع نحو الدرامية من خلال تعدد الأصوات التي تتمثل في صوت الشاعر وهو يتحدث عن تجربته للمتلقي، ثم الصوت الداخلي في حديث الشاعر مع نفسه وصراعه معها أو مع شيطانه، ثم الحوار داخل القصيدة بين الشاعر والرجل المجهول.. وهو ما يمكن تقطيع القصيدة تبعًا لكل حالة من الحالات المذكورة:

ـ حديث الشاعر للمتلقي في تجربته لخروجه إلى الصلاة، وقد أبدع في تصوير الأجواء من حوله من حيث ترتيب أحداثها دون تدخل منه، وذلك بدايةً من انطلاق الأذان مُعانقًا صوت "جرس المنبه" ثم الانتقال من داخل البيت إلى الشارع الذي تغلفه العتمة، وتتصايح فيه الديكة مع نباح الكلاب في عزف عشوائي، ثم عودة الشاعر مرة أخرى إلى لوم القدر:

ـ (وخدني قدري مشيت في سكه
وأنا كل حلمي أروح أصلي
دخل في صابعي وتحت ضافري
مسمار مِصدي
بقيت في دمي غرقان وبصرخ
وعنيه تبكي مُر ودموع).

يبدأ بعدها حديثه مع نفسه:

ـ (وشيء شيطاني بيوز فيا
أرُد نفسي ع البيت وارجع
و أقول دي رُخصه
مش راح أصلي)..

وليس هنا في الأمر رخصة شرعية وتعريفها عند بعض الأصوليين بأنها الحكم الشرعي الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لِعُذرٍ اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي، ثم إذا كان الدم يخرج أثناء الصلاة، وليس قبلها، مع بذل الجهد في منعه من الخروج، فيصلي المجروح على حاله وصلاته صحيحة، كما قال ابن قُدامة في المُغني.

في ختام القصيدة لا يدعو الشاعر بالشفاء أو يحمد الله على أنه صلى، بل هو على حاله بين اقتناص اللحظة أو فواتها منه، مَنوبًا عن كثير من المؤمنين بالرجاء في قبول الطاعة:

ـ (ربطت صابعي و قمت أصلي
وأنا بدعي ربي
يقبل صلاتي).

لقد نجح الشاعر محمود السنوسي في إبداع صياغة تركيبية تمزج بين ما هو كوني وما هو ذاتي في موضوعات نصوصه التي تسعى نحو تقديم صورة فنية تتميز بالتفرد، يقوم فيها بالحضور لا عن ذاته فقط بل بالنيابة عن قطاعات عريضة من البشر استبطن تجاربها وخيباتها ومراوغات القدر لها، ويبدو هذا محسوسًا عبر قطاعات من بناء قصائده التي ضَم صورها الجزئية في عناية، كما عمد إلى تضفير الصورة الذهنية بالصورة المجازية في كثير من المواضع تاركا مساحة من الحرية والوقت لذهن القارئ في تمثل ما يقصد، وربما تنبئ عن قصد خفي من الشاعر لتحفيز ذهن القارئ ليلتقيا معا في نقطة من الجهد بين من أبدع تأليفًا ومن سيبدع تفسيرًا.

إن هذه الطريقة من أكثر المرتكزات التي صنعها الشاعر في بعض قصائده؛ فهو لا يميط عنها اللثام في قراءتِها الأولى، غير أن عليه السفر إلى مرافئ شعرية أخرى تحتضن طاقته الإبداعية المتوهجة، محاولا خلق بناء جديد لقصيدة تعتمد التكثيف، ذلك أن وراء إبداع السنوسي فلسفة، وثقافة، ورؤية إنسانية ووجدانية عميقة استطاع أن يخلق من خلالها معجمه الدال عليه، وحالة من التفرد في تناول موضوعات تحوي مضامين يعيشها بوقائعها وشخوصها وأجاد التعبير عنها.


الاثنين، 21 ديسمبر 2020

القضايا الوجودية ومصائر البشر وحياتهم المعيشية في نصوص السيد إبراهيم المسرحية للناقدة الكبيرة الأستاذة عزة أبو العز

 



 المسرح .. ذلك العالم المدهش، المغري والجاذب لكثير من الكتاب، يمثل منطقة إبداعية شائكة، فبالرغم من دخول الكاتب إليه طواعية، وبكامل إرادته وبذائقته الإبداعية الخاصة طمعًا في التحقق الإبداعي، نظراً لأنه على خشبة المسرح تتعانق الفنون لتصنع لمشاهده تلك الحالة الممزوجة بالمتعة والخيال والرسائل المتنوعة، ولكن تظل مقولة كثير من نقاد المسرح الكبار أنه ليس بالضرورة كل كاتب بارع خارجه يكون على نفس قدرته الإبداعية في الكتابة المسرحية، وأن من استطاعوا أن يثبتوا جدارتهم هم هؤلاء الذين يعلمون جيداً كيفية التعامل مع مساحات الممثل المسرحي، الذي يصفه بعض حكماء اليونان بأن الممثل  المسرحي العظيم هو ذلك الذي يعتمد على صوت مرن وذاكرة ممتازة، وكما اتفق كثير من النقاد أنه لن يخلد المسرح سوى كاتب ملم بماهية (الحبكة الدرامية، وأبعاد الشخصية، وجودة الفكرة، وإجادته للغة المستخدمة، مع علمه التام بالمنظورات المسرحية).
  
  • ومع قراءتي لنصيِّ الكاتب (المنعطف الأخير)، و (العائد الذي ما عاد) أدركتُ أن كاتبنا الدكتور السيد إبراهيم لم يدخل إلى تلك المنطقة الشائكة في الكتابة وهي “الكتابة للمسرح” إلا بعد علم بخفاياها، ولا سيما أن نص “المنعطف الأخير” بدا لي نص جامع بين مفهومين للكتابة المسرحية، مفهوم ” الواقعية السيكولوجية” أو المسرح الواقعي، الذي يستقي مصادره من أحداث لها صلة بالواقع وليس بالخيال، وبين مفهوم مسرح العبث أو اللا معقول؛ فالحرامي الذي دلف إلى المنزل  من أجل السرقة في غياب أصحاب البيت، ولم يجد ما يسرقه، وفجأة دخل صاحب الشقة عليه هنا تحدث نقطة البداية لتصور عبثي ما، فالحرامي يتحول في سياق السرد المسرحي إلى عذرائيل، ويبدأ طبقاً لنظرية الفرد في المسرح العبثي بأنه البطل الذي يحمل في يده الحل لإسعاد البشرية أو تدميرها، يبدأ الحوار الثنائي بينه وبين صاحب المنزل، فيحاول الأول أن يُعِّدل من سلوك الثاني، ويدور بينهما حوار كاشف يحمل من الدوال والشارات الكثير لإدانة مجتمع غير عادل في توزيع ثرواته، مجتمع تفشت فيه الرشوة والمحسوبية لدرجة فجة، ويتضح ذلك من قول صاحب الشقة: “بأنه موظف في الدرجة الرابعة، وأن الرشوة عنده مثل وجبة الإفطار، والسمسرة كوجبة الغذاء بالمنزل، والعمولات هي العَشاء” مما يدل على انغماسه في الفساد، وهو أيضًا صورة فجة للشخص الوصولي وقد نجح في نسج خيوطه للاستيلاء على ثروة حماه بالزواج من ابنته الوحيدة.
 
  • وفي نقلة نوعية نجد هذا الفاسد عندما يتيقن من وقوفه على عتبة الموت، طلب المهلة يومًا أو ثلاثة أيام حتى يقابل الله بعد أن يُكَفِّر عن ذنوبه، وهنا نجد الكاتب مشترك مع مسرح العبث بمناقشة فكرة الموت، وهي فكرة رئيسة في نصوص مسرح العبث بشكل عام، وفي النص نجد معالجة تتوائم مع ما تكنه النفس البشرية من تناقض؛ فالمذنب عندما يأتيه الموت يود مهلة للتكفير عن ذنوبه ليقابل الله متخففًا من تلك الذنوب، كما جاء في الحوار بين اللص “عذرائيل” وصاحب الشقة “مشروع الميت المنتظر” نجد خلاصة لتنازع النفس البشرية بين فكرة الصراع من أجل البقاء أو الصراع من أجل المادة، فصاحب الشقة “مشروع الميت” يطلب يومًا أو ثلاثة ليُكَفِّر عن ذنوبه، ولكن حينما عرض عليه اللص “عذرائيل ” فرصة أخرى للحياة مقابل التنازل عن ماله، يدخل في صراع نفسي جديد، حيث تتنامى الحبكة الدرامية في الصعود، ويمثل له المال ضرورة وجود، كما يمثل له الموت الحرمان من المال والحياة معا، فينسى فكرة الموت ويستبدلها بالتصديق لما قرأه لبرنارد شو الذي قال أنه لن يموت إذ ليس هناك ما يبرر موته.

  • يقفز بنا الكاتب من فكرة الصراع النفسي بين صاحب الشقة ورغبته في رؤية مولوده الجديد، وهي رغبة مرتبطة بغريزة حب البقاء، إلى الصراع الطبقي بين الغني والفقير باقتراحه على عذرائيل أو الحرامي بتقسيم نصف المدة مع نصف الثروة، فيأتي رد الحرامي المباغت بأنه لن ينفع التطهير مع أمثاله لأن تفكيره قائم على النفعية والمصلحة حتى في الزواج.

  • الثنائية الفارقة في نص المنعطف الأخير:

  يلعب الكاتب لعبة الثنائية الفارقة بوضوح، فالنص يقوم على البطولة الثنائية بين اللص “عذرائيل” وصاحب الشقة “مشروع الميت” ، والثنائية الثانية نجدها في الصراع الدرامي القائم على فكرة الحياة والموت، والثنائية الثالثة نجدها في الحديث عن الحي الغني والحي الفقير، وتتبلور الثنائية في طبيعة دور البطل في مسرح العبث بشكل عام، وهي تخليص العالم من الشرور أو وقوع العالم في الشرور ونجد ذلك على لسان اللص، حينا تمني بأن يكون مَلكًا للموت ليخلص العالم من الأشرار أو من الفقراء لرؤيته أن حالهم أكثر بؤسًا من الأشرار، كما يختم النص بنهاية فارقة أيضًا؛ فاللص ينصرف ولكن كلماته عن ملك الموت تتمكن من صاحب الشقة كما يتملكه الخوف وهو ينظر إلى الستارة المتحركة متخيلاَ ملك الموت خلفها فيزداد خوفه وصراخه، ولا تكف الحركة ولا يصمت الصراخ إلا بسقوطه على الأرض في نهاية مفتوحة جيدة.

“مسرحية: العائد الذي ما عاد”..

   في هذا النص نجد قدرة الكاتب في الجمع بين أكثر من شكل مسرحي؛ ففيه يجمع بين قسوة وقوة المسرح التسجيلي، وثراء لغة المسرح الشعري بالإضافة لروح الكوميديا الساخرة، وحسب قول “مارجوري بولتون” في كتابها الشهير “تشريح الدراما”، بأن المسرحية ليست في الحقيقة قطعة من الأدب للقراءة وإنما المسرحية الحقيقية أدب يمشي ويتكلم أمام أبصارنا، وهذا كان انطباعي لحظة قراءة هذا النص الماتع، فهو نص سياسي اجتماعي بامتياز، لا يخلو من روح الدعابة الساخرة، رغم جدية الفكرة كونها فكرة تسجيلية لانعكاسات ثورة 25 يناير وتداعياتها في مدينة السويس وتحديدًا في حي الأربعين، إلا أن تمكن الكاتب من عرض عناصر النص المسرحي من (رسم جيد للشخصيات، وتنامي الحبكة الدرامية بمنطقية تتوائم وتتوازى مع إجادته للغة المستخدمة التي وردت على لسان الشخصيات موحية ومعبرة، غير مركزة لدرجة الإلغاز والإبهام، وغير فضفاضة لدرجة الترهل والملل، بل جاءت معبرة بلسان شخصيات العمل غير مفصحة عن شخصية الكاتب، وهنا وجدت قدرة الكاتب في استخدام اللغة فلم أشعر بفكره الشخصي بقدر ما كانت اللغة سلاح ولسان حال أفكار شخصياته داخل العمل، الذين عكسوا الكثير من الرؤى والأفكار المطروحة دون مباشرة متعمدة ، ولكن في دلالات وإشارات من داخل السياق السردي حيث عبر النص عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية داخل سياقه السردي منها قضايا (الفساد، إغراق مصر في الديون، الخصخصة، قضية خضوع الصحافة والإعلام للقيادة السياسية في كل مرحلة من مراحل الحكم، كما نجد فكرة تحميل الرئيس السادات مسؤلية اختيار نائبه، وفكرة معاناة أهالي السويس وقت التهجير، وإدانة كثير من الشخصيات التي ظهرت على الفضائيات وقت وبعد أحداث ثورة يناير تحت مسميات الناشط السياسي والمحلل الاستراتيجي والفاهم في الدستور) والمدهش هو طريقة طرح كل هذه القضايا المهمة من خلال السياق المسرحي على ألسنة شخصيات العمل، حيث أجاد الكاتب في رسم ملامحهم الشكلية وبيان تنوعهم الثقافي واختلاف مستويات الحوار على ألسنتهم وتنوع حالاتهم الشعورية وانفعالاتهم النفسية، كما طرح النص المسرحي بذكاء قضية عدم تحديد المسؤوليات وتشعبها وقت الثورة، ونستدل على ذلك من سؤال سناء الأم الحائرة الملهوفة على غياب ابنها بقولها: (ابني عند مين؟! الشرطة، الجيش، الإخوان، البلطجية!”، كما يطرح النص قضية فكرية من أهم القضايا وهي الفجوة الواسعة بين ما يقدمه شيوخ الجوامع على المنابرمن خطب وما يحتاجه الناس من مناقشة أمور دنياهم ، وبصفة عامة من سيطلع علي نص العائد الذي ما عاد سيكتشف الكثير من النقد اللاذع لفترات الحكم في مصر منذ ثورة 52 حتى ثورة 25، سيجد حضورا فاعلاً للشباب داخل العمل، سيجد أربعة من القصائد الشعرية الموظفة توظيفاً جيداً داخل النص، سيجد تحقق وتوفيق من الكاتب واهتمام بفكرة العدالة الاجتماعية أكثر حتي من مسألة الرصد السياسي للقضايا السياسية، سيجد تحقق مدهش لمبدأ مسرحي مهم وهو أن الدراما في وجهها المتكامل لابد أن تتضمن على الفعل والمشاهدة، وقد تحقق لهذا النص تلك الميزة بدرجة كبيرة ليختم بختام موحي ومفتوح أترك  للقارئ العزيز فرصة التعرف عليه من خلال قراءة النص المسرحي.

برنامج طرب شعبى مع د / السيد إبراهيم أحمد عن المطرب محمد العزبى | إعداد ...

الأحد، 20 ديسمبر 2020

نظرات نقدية في خمسة دواوين شعرية..

 



 

  

  إن أهم ما يميز إقليم القناة وسيناء الثقافي عن بقية أقاليم مصر هو التنوع الثقافي؛ فهو يضم ثقافة البحر وثقافة النهر وثقافة الصحراء، يتعانق فيه الريف مع الحضر مع البداوة، والزراعة والرعي والصناعة، وحدود هذا الإقليم وأهله من الثغور المرابطة التي تحول بين مصر وأعدائها، ولذا فهم يتميزون بحضور دم الشهداء الطازج الذي يتفجر في أوردة القصيدة التي تنتفض كلماتها بالمقاومة والعزم على النصر أو الشهادة.

  لهذا كان التنوع الثقافي مصدرا للتنوع  الإبداعي الخلاق الذي يتجلى عبر خمسة دواوين شعرية تحتفظ بالخصوصية والتفرد لكل شاعر من الشعراء، يجمعهم جماليات النص الشعري العامي الذي سأستعرضه لاحقا، غير أن جماليات التنوع تتألق حين يبزغ من بين أصحاب الدواوين صوت نسوي يؤكد حضور للذات بالأصالة عن الشاعرة وبالنيابة عن شاعرات الإقليم.

 أما الدواوين التي شرفت بقراءتها وسأتناولها بالحديث، فهي:

1ـ "حدود البعد"،  للشاعرة صابحة أبو زيد.

2ـ  "مطب سيناوي"، للشاعر رأفت يوسف.

3ـ "عايشين حطب"، للشاعر محمود السنوسي.

 4ـ "أغاني من أرشيف الأمجاد"،  للشاعرعبد الله علي نظير.

 5ـ "تلفزيون قديم بيعرض فيلم بالألوان"، للشاعر أيمن سالم.


·       الديوان الأول: "حدود البعد"،  للشاعرة صابحة أبو زيد:


   تترك الشاعرة صابحة زايد للقارئ في ديوانها استشفاف عنوان ديوانها الذي لم تنسبه أو تستمده من قصيدة بعينها لها في ديوانها، وإن كان موجودًا بشكل ما في إحدى مقطوعاتها المرقمة، تلك المقطوعات الوجدانية في أغلبها والإنسانية في ثلاثٍ منها تعطي دلالة على كم البوح العاطفي المتنوع الذي تمتلكه طاقة الشاعرة بلا تصنع؛ فينتقل القارئ من المقطوعة إلى الأخرى ليكتشف صورة المرأة في عين الرجل، وصورته في وعيها وتكوينها، وقد صنعت الشاعرة ببراعة تنويعًا للحظة وتنوعًا في حالات الحبيب الذي تخاطبه، بداية من العتاب، ثم الشكوى من البعد، ثم غدر الحبيب، وانتقام الأنثى التي رمت بقفاز الحب في وجهه بالهجران، والشوق إلى الحبيب  يقظة وحلما،  والتدلل عليه.

   قد يبدو أن الموضوعات معادة في التصور الوجداني سواء للشاعر أو المتلقي غير أن الشاعرة تقنص الصور المتفردة الطازجة التي تعطي اليقين بامتلاكها ناصية اللحظة، ووعيها بالمفردة التي تنوي أن ترصع بها جِيد قصيد الديوان للدلالة على موهبتها، وما أشرتُ إليه من الاتكاء على جمالية الصورة الشعرية التي تكوِّن المعنى محسوسا تارة والمحسوس معانٍ تارة، ومن ذلك:

ـ (آهات العمر ليه طويلة؟!

سنين بتعدي في الليله

مخاض قلبي بيتقطع)...... مقطوعة رقم (1)...............ص10.

لما تسبح تحت جلدي

لما جوه الروح تندي).....مقطوعة رقم (4)...............ص14.

(غريب الليل وأنا بسكن

تحت جناحه في الآخر

يقوم الليل يطير بدري

ويكشفني على الآخر

وتيجي الشمس تخبطني

تسويني على الجنبين

وتحدفني نهار بارد).....مقطوعة رقم (6)...............ص19.

 

  صورة كلية بل لقطة جانبية من لوحة إنسانية تخلق علاقات تتصل بالليل/ الستر واستكانتها له أمنًا ودعة، ثم يفاجئها بالتحليق "كشف الستر"، وعلاقة الشمس بضربات القدر القوية التي تملأها حرارة المعاناة، وتلقيها بلا رحمة في معنى يختزل كل التصورات الأنثوية الممكنة "نهار بارد"..

(وييجي الليل بيتمرجح

وشكله غريب

بلون أسمر وشعر ابيض

بدون تجاعيد

بيتنفس وجع تنهيد

بيشبه طير كان سارح

في مُلك الله... وفجأه أتاه

يقين ينزل على غصني

ف يتحكم في أقداري

وانا فكري أنه جايلي نجاه).....مقطوعة رقم (6)...............ص21.

  تستكمل الشاعرة ختام اللوحة بهذه الفانتازيا التي صورت فيها غرابة الليل في مبتدأ القصيد مستمكلا الغرابة حتى نهايته من الشكل والمضمون والهدف عبر مفردات من الفصحى غير مقحمة على النص فأضافت له، ثم توجت الختام بالمفارقة الشعرية القدرية في وجه القارئ، وجاء استهلالها رائعا ينم عما بعده، وذلك حين تبدأه بالإجمال في البيت الأول، ثم تأتي بالتفاصيل متتابعة على نفس السياق، والحفاظ على الجو العام للنص، حين تقول:

(يتيم قلبي ومن غيرَك صبح عاجز

لا دمع العين بقى يقدر يسيب عيني

ولا صبري على الأيام صبح جايز

وبشحت بسمة من سني تداويني

تصدق قلبي بقى شايب من التعذيب

 حقيقي غريب)....................................."يا حب عجيب".......ص5.

    ننتظر من الشاعرة صابحة أبو زيد في دواوينها القادمة تنوعا أكثر في الموضوعات، خاصة وأنها ـ كما ذكرت ـ لديها الطاقة التي تستطيع أن توزعها بنفس القوة والجمال، ولا تختزلها ـ في أغلبها ـ في الجانب العاطفي ـ وإن كان لا يعيبها ـ وهو شهادة لها بالتمكن من الولوج إلى أبواب شعرية تناسب طاقتها الإبداعية، وذلك خشية التكرار.

 

·       الديوان الثاني: "مطب سيناوي"، للشاعر رأفت يوسف:

   تكمن جماليات هذا الديوان في تنوعه وانتقالاته التي لا تتجافى بل تتوازى بين القصائد التي تهيم في حب الوطن والقيم النبيلة المبثوثة في الوفاء للأم والأخ الكبير والأستاذ الذي يتأسى بإنتاجه الشعري. كما لم ينسَ الشاعر في غمرة هذا القصيدة الدينية والقصيدة الوجدانية، وتكمن جمالياته كذلك في النفس الطويل الذي يشيع في كل القصائد على تفاوت في الطول والقصر بينها دون افتعال، وذلك من خلال قافية طيعة، وانتقالات مقصودة، وإن كنت أتمنى لو لمس النفس القصير بعض القصائد، ومنها: "حصة إملاء"؛ فهي قائمة على النصيحة للجيل الجديد ويفضل فيها تركيز الفكرة مع تكثيف اللغة لبلوغ الغاية، كما كانت الفكرة غائة بعض الشيء في قصيدة: "صباح الخير يا مولانا"؛ فهي قائمة على إظهار الفارق بين مولانا في الكُتَاب ومولانا العصري بصورته التي شاعت عبر الميديا، وأيضا كنت أفضل التركيز والتكثيف لعرض الفكرة.

  يقف هذا الديوان دليلا شامخا على أن للعامية مكانها في إرساء القيم وخاصة الوطنية عبر الكلمة الموحية في سياقها الدلالي، وهو ما يتجلى في قصيدة "روح الحب"  التي نجح الشاعر من خلالها في امتطاء صهوة النص باحترافية تبدأ من المباغتة التي لا تعرف التمهيد، والمراوغة في تحديد المتكلم، والكر على أذن ومشاعر المتلقي واحتوائه في عرض تاريخ مصر عبر حديثها عن نفسها، في سياق يتماهي مع التكنيك السردي الذي يعرف التقديم والتأخير في تناول الأحداث التاريخية على غير ترتيب في بعضها.

    يشير هذا النص إلى براعة الشاعر في إبراز وعيه التاريخي بالحدث والحكي معا من خلال سرد عملية التواصل الحضاري لمصر الفرعونية/المسيحية/الإسلامية، كما فيها ذكر الموقع الجغرافي، والخصائص الديموغرافية والبشرية للمصري التي لا تعرف التحول، وفيها الاستلهام من آيات الذكر الحكيم، وفيها الالتزام بالفكر العروبي القومي، وفيها روح مصر حاملة قيم التسامح والإخاء بين أهل الأديان، وفيها حقق الشاعر عنوان القصيدة في مضمونها الذي يحكي عن روح الحب روح مصر المسالمة والمناضلة، المتسامحة والأبية عبر موسيقى ظاهرية وداخلية تعانق اللفظة المناسبة، ولا يفارقها حسن التقسيم الجمالي والسياقي والموضوعي:

ـ (بروح الحب بهديكم سلام دايم لكل الناس

أنا مصر اللي خطاها خليل الله على ترابها بقدمه داس)......... قصيدة "روح الحب".

  لا يضارع قصيدة "روح الحب" سوى قصيدة: "صباح الفل يا سينا"، وينطبق عليها ما سبق ما قلت من قبل حول أدوات الشاعر وتقنيته السردية يضاف عليها أن الشاعر يؤكد على فكرة التواصل الجغرافي والتاريخي والبشري بين مصر وسيناء كما جاء في قوله:

ـ (صباحك لون  زيتون مزروع بإيد فلاح شجر تفاح على خدك

ومن بحرك إيدين صياد تغدينا)........ قصيدة "صباح الفل يا سينا"، وفي قوله:

ـ (ولا فارق أكون فلاح ولا بدوي ولا صعيدي

دا حبك ميه في وريدي

على أرضك تلمينا).... قصيدة "صباح الفل يا سينا".

  وتأكيدا على ثقافة الشاعرالمهموم بقضايا أمته العربية وليس مصر فقط تركيزه على فكرة القومية العربية، والحفاظ على الهوية، والخصوصية الثقافية، والتحذير من الغزو الفكري، واستلهام فكرة "الرباط" الدينية  التي تتماشى مع جماليات العرض في قصيدته: "بيسألوني عن وطن" التي تستعرض هذه الجماليات في الانتقالات المحسوبة عبر كل فكرة.

   وقد استخدم الشاعر تقنية المزج المرئي في تضفير النقلات الخاطفة بين تكبيرات العيد  والنظرات بين الحبيبين التي يؤطرها دعوة شفيفة تتردد في القلبين وتنقلها الألسنة لرب الكون لتحقيقها، ويعمد الشاعر إلى كسر البديهية التقليدية في استجابة السماء بعد تمهيد هيأ خلاله القارئ لتلك النهاية السعيدة غير أنها تنتهي بفراقهما، لتصبح ذكرى يستعيدها في كل عيد:

(لسه باقيه الذكرى دايما ... رغم إني في كل يوم ..

 وكل ركعة دعيت لربي .. وكل مره مع الآدان ..

إني أنسى كل شيء بنا كان ... بس لسه القلب فاكرك .. كل عيد شايف ملامحك..

واجري في بعادك واقولك: كل عام وانتي بخير)... قصيدة "صباح الفل يا سينا".

 

    لم يلجأ الشاعر رأفت يوسف، في كل قصائد ديوانه، إلى التقنيات التي ترتبط بشكل النص بل حافظ في توصيل رسالته بهدوء،  وصدق انفعال، وبساطة في الطرح؛ فهو بالاستشفاف من عموم الديوان يرى أن الغموض الفني وتعقيد الفكرة، وسوْق الآلفاظ المتعالية، والأفكار الملغزة سيشتت القارئ منه، ويصرفه عن متابعة القصيدة فآثر أن يبسط قصائده رداءً للناس يدثرون به أحلامهم، وجسرًا يعبرون عليه، دون جلبة، نحو تحقيق آمالهم عبر قصائد مجدولة بالفكر، ترصع بعض أبياتها كلمات فصيحة غير مقحمة، كما لا ينقصها الانسيابية والسيولة في النطق والفهم، بيد أنه كان ينقصها الاهتمام بوضع الهمزات لا إهمالها، والتفرقة بين الهاء المفتوحة والتاء المربوطة مما كان سيزيد في جمالها، غير أن هذا لم يقلل من رونقها في العموم.

 

·       الديوان الثالث: "عايشين حطب"، للشاعر محمود السنوسي:


     جاء عنوان الديوان محملا بالمفارقة اللفظية في إطار التضاد بين المفردة الإيجابية:  "عايشين" والمفردة السلبية: "حطب"، وهي دلالة كافية لتنبئنا أن الشاعر له رؤيته الفلسفية التي وعت اقتناص لقطة شمولية لواقع مرير آثر أن يؤطرها بجمال المفارقة التي تسمح بتعدد التفسيرات اللغوية أو الفكرية  تبعا لكل متلقي بين ظاهرها وخفيها، وقد عمد الشاعر السنوسي إلى استخدام المفارقة عبر العديد من كلمات في نصوص الديوان، ومنها:

ـ "صوت السكات نواح"، و"من حي عايش للممات"....قصيدة "عايشين حطب"... ص17.

ـ "قلب ميت م الحنين"....قصيدة "أنتي مين؟"............................... ص8.

ـ "ودوامتك غرقها نجاه"....قصيدة "مفيش عناوين"......................... ص41.

ـ "أسد خايب ما لوش أنياب"....قصيدة "قلبي اتعود"........................ ص46.

ـ "هادي نورك.. مش دليل"....قصيدة "سرك في بير"...................... ص66.

ـ "حليت بمرار الأيام"....قصيدة "ذكرى".................................... ص70.

   تصبغ أغلب قصائد الديوان المرارة التي تحملها الكلمات المعبرة عن افتقاد الأمل، وذكر الموت ومترادفاته، وانتهاء بعض القصائد بسؤال يفتقد هو الآخر الإجابة للتأكيد على أن انتظار الأمل هو انتظار ما لا يجيء، بل أن نزوع نفس الشاعر نحو الأمل يقتله بنفسه، أو ينزع نحو الأمل لكنه لا ينجح في اقتناصه، كما تشيع الألفاظ التي تدل على "الافتقاد"، ويتجلى هذا في المقاطع المختارة من بعض القصائد التي تعانق عناوينها ومضامينها في دلالاتها الإيحاء المشع بالتضاد من عنوان الديوان،  على أن القارئ قد يشعر أنها تشكل قصيدة واحدة:

ـ (هستنى إيه .. من حي عايش للممات

من غير أمل .. غير ف اللي فات)....قصيدة "عايشين حطب"............. ص18.

ـ (إيه اللي ممكن أعمله؟

إنك تشوفني .. ولا تشوف

جنازة ماشية لوحدها من غير مدد)....قصيدة "القهوة ساده".................. ص22.

ـ (حلمي وحلمك كانت فكرة

يمكن أصل الفكرة حكاية

تبقى نهاية من غير بكره)...........قصيدة "نفسي"............................ ص25.

ـ (أنا المكتوب على شهادتك

ولون القمح منى قريب

بفتّح عينى متواربه

من الغربه من التعقيد

و باكتب إسمى وياهم

وفى بطاقتى

مافيش عناوين)....قصيدة "مفيش عناوين".................................... ص41.

ـ (أنا العايش ف بطن اليل ما شفت نهار

ولا شمعه تنورلي ف ركن الدار

ولا ضحكه بتتعشم ... ألملم نفسى من نفسى

ومنهم والقدر ونصيب ... وميت ترعه بتتبخر

وأنا عطشان .. ودمعة عين.. مهيش قادره تبل الريق

وأرض تملي مش فاضيه.. بتتفضى وقالوا عمار)....قصيدة "قلبي اتعود"..... ص47

 ـ (فين القمرة اللي بتنصفني

غفلت عني

وطلعت ضلمه)..............قصيدة "عمرك"..................................... ص57

   تقف  قصيدة: آذان الفجر" والتي أتت في نهاية الديوان كمسك الختام وأنها وحدها لا يسبقها موضوع مشابه لها، ولا وحدة موضوعية متماسكة كقطعة نسيج لم يستطع الشاعر محمود السنوسي أن يمارس هوايته في التمهيد لها قبل الولوج إلى ثناياها، خاصة وأن القصيدة تكمن فيها علاقات خفية لا تخرج عن الجو العام الغالب على نصوص الديوان من الفشل في اقتناص الفرصة السانحة، وغالبا ينحي الشاعر باللائمة على القدر، في تبرئة من الإدانة الذاتية، ويكمن فيها افتقاد الأمل، كما أن الشاعر يأتي فيها منوبا عن كافة البشر المؤمنين الواقعين في منطقة النفس الأمارة والنفس اللوامة أي في المنطقة المحيرة بين الإقدام على الطاعة وبين الإحجام عنها قدريا، كما أن القصيدة تتميز بالوحدة العضوية والنزوع نحو الدرامية من خلال تعدد الأصوات التي تتمثل في صوت الشاعر وهو يتحدث عن تجربته للمتلقي، ثم الصوت الداخلي في حديث الشاعر مع نفسه وصراعه معها أو مع شيطانه، ثم الحوار داخل القصيدة بين الشاعر والرجل المجهول.. وهو ما يمكن تقطيع القصيدة تبعا لكل حالة من الحالات المذكورة:

ـ حديث الشاعر للمتلقي في تجربته لخروجه إلى الصلاة، وقد أبدع في تصوير الأجواء من حوله في ترتيب أحداثها دون تدخل منه، بداية من انطلاق الأذان معانقا صوت المنبه ثم الانتقال من داخل البيت للشارع الذي تغلفه العتمة وتتصايح فيه الديكة مع نباح الكلاب، ثم عودة اللوم على القدر:

ـ (وخدنى قدرى مشيت فى سكه

وأنا كل حلمى أروح أصلى

دخل فى صابعى وتحت ضافرى

مسمار مصدى

بقيت فى دمى غرقان و بصرخ

وعنيه تبكى مر و دموع)..

يبدأ بعدها حديثه مع نفسه: 

ـ (وشيء شيطانى بيوز فيا

أرد نفسى ع البيت و أرجع

و أقول دى رخصه

مش راح أصلي)..

  وليس هنا في الأمر رخصة شرعية وتعريفها عند بعض الأصوليين بأنها الحكم الشرعي الذي غير من صعوبة إلى سهولة لعذر اقتضى ذلك، مع قيام سبب الحكم الأصلي، ثم إذا كان الدم يخرج أثناء الصلاة، وليس قبلها، مع بذل الجهد في منعه من الخروج، فيصلي المجروح على حاله وصلاته صحيحة، كما قال ابن قدامة في المُغني.

  في ختام القصيدة لا يدعو الشاعر بالشفاء أو يحمد الله على أنه صلى، بل هو على حاله بين اقتناص اللحظة أو فواتها منه، منوبا عن كثير من المؤمنين بالرجاء في قبول الطاعة:

ـ (ربطت صابعى و قمت أصلى

وأنا بدعى ربى

يقبل صلاتي)..

  لقد نجح الشاعر محمود السنوسي في إبداع صياغة تركيبية تمزج بين ما هو كوني وذاتي في موضوعات نصوصه التي تسعى نحو تقديم صورة فنية تتميز بالتفرد، يقوم فيها بالحضور لا عن ذاته فقط بل بالنيابة عن قطاعات عريضة من البشر استبطن تجاربها وخيباتها ومراوغات القدر لها، ويبدو هذا محسوسا عبر قطاعات من بناء قصائده التي ضَم صورها الجزئية في عناية، كما عمد إلى تضفير الصورة الذهنية بالصورة المجازية في كثير من المواضع تاركا مساحة من الحرية والوقت لذهن القارئ في تمثل ما يقصد، وربما تنبئ عن قصد خفي من الشاعر لتحفيز ذهن القارئ ليلتقيا معا في نقطة من الجهد بين من أبدع تأليفا ومن سيبدع تفسيرا، وهذه من أكثر المرتكزات التي صنعها الشاعر في بعض قصائده التي لا تميط عنها اللثام في قراءتها الأولى، غير أني أطالبه بالولوج إلى أبواب شعرية أخرى تستفرغ طاقته الشعرية الكبيرة، والتدقيق اللغوي في بعض الألفاظ، وأن يعمد إلى التكثيف دون تشتيت القارئ، وهذا لا ينفي أن وراء قصائده فلسفة، وثقافة، ورؤية إنسانية ووجدانية عميقة.


·       الديوان الرابع: "أغاني من أرشيف الأمجاد"،  للشاعر عبد الله علي نظير:


    على الرغم من دلالة كلمة "الأرشيف" في الذهنية العربية بمعنى أنه المكان الذي يحوي كل قديم محفوظ من الوثائق أيًا كان نوعها، إلا أننا لن نستطرد في معناها اللغوي والاصطلاحي غير بإضافة معلومة أنها كلمة يونانيـة الأصل، وقد لجأ الشاعر عبد الله نظير لها في استدعائه للأغاني من أرشيف ليس الأجداد وهنا يتسع الحيز الزماني والمكاني من حيث التراث المتصل بالهزائم والانتصارات معًا، ولذا فقد اقتصر على ذكر الأمجاد فقط.

   والحق أن العنوان جاء متحققًا في قصائد الديوان غير أنه لم يعتمد على أرشيف الأجداد من أمجادهم بل عمد إلى أن يضيف إليه من أمجاد الأبناء أيضا للدلالة على قيمة التواصل والاقتداء، كما يُحسب للشاعر نظير ترتيبه الجيد لقصائد الديوان التي نظمها كحبات العقد في سيمترية وتناغم تشهد اتساقا في سرد الموضوعات دون أن يشتت القارئ يمنة ويسارا سوى من بعض القصائد التي كان يزج بها أحيانا خروجا عن السياق لدفع للملل بالتنويع، كما يحسب له أن جعل الديوان نهرا حافتاه: قصيدته الأولى "الأم الكبيرة" مصر واختتم بآخر قصائده عن الأم بالميلاد والنسب في الحديث عنها انطلاقا من خصوصية التجربة وصولا إلى عموميتها.

   يعيدنا الديوان إلى الغنائية في قصائده، وإلى الشعر العمودي العامي المتمثل في الزجل في بعضها، وعلى الرغم من غلبة التقريرية والمباشرة التي تلازم النصوص المغناة في عمومها وليس في نصوص الديوان إلا أن الشاعر عبد الله نظير تغلب على ذلك بالعديد من الأدوات التي ساهمت في ترصيع بعض الأبيات بالجماليات التي تستند إلى الطرافة في التركيب اللفظي والمعنوي، ورسم صور يغلب عليها التشخيص في نقل المعنوي إلى المحسوس وإضفاء الصفات الإنسانية فيما ليس هو بإنسان، كذلك أدخل الكلمات الفصيحة بوعي على النص دون إقحام أو افتعال أو تهجين تمجه الذائقة العربية، على النحو التالي:

ـ "ناسك ليهم مناسك ...  ف الصبر وف الصمود

لو على اللي علا راسك ... كل ولادك أسود

نلقى البحر اللي ماسك ... إيدك عاوز شهود

علشان لو هاج وباسك .. يثبت حسن النوايا"........... "إسكندرية"............. ص19.

ـ "كل الطرق غرقت دموع

والقلب مصلوب ع الضلوع"...................... "حبة سنين".................. ص26.

ـ "طول ما نهر النيل وريدها

والهرم خاتم في إيدها"........................... "بريئة"......................... ص48.

  عمل الشاعر عبد الله نظير على تضمين أغاني الديوان قيما استخلصها عبر تجاربه وعاشها واعتنقها ولهذا فقد تكررت بعبارات مختلفة بحسب الموضوع، ومنها قيمة الوحدة الوطنية، وقيمة التواصل الحضاري والبشري، وقيمة الالتفاف حول العروبة ممثلة في أمته العربية:

ـ "وأحمد وحنا مع قناوي"......... "مسيو ديلسبس"......................... ص14.

ـ "مصري مسلم حاضنه ذمي"....... "سلموني اللبس الكاكي.............. ص30.

ـ "يلا بينا يا عم مرقص .. وانده احمد من وراك

يلا بينا وقول لجرجس .... إن مؤمن جي معاك

كل يوم بيقيدوا فتنة...لجل نتفرق ما كنشي"......... "الميدان"............ ص51

ـ "صامد يا شعب المنصورة

حامل جينات رمسيس وإيزيس"......... "المنصورة"...................... ص25.

ـ "كلهم حاملين جيناتك

يفدوا بحياتهم حياتك"................ "سلموني اللبس الكاكي".............. ص31

ـ "محروسة أسم على مسمى ... من ربنا ف عيون الناس

فارده جنحاتك ع الأمة... ألفين سنة بحب وإخلاص

خضتي الحروب يا ما بدالهم ...وسعيتي ليهم ف الصالح

وإن ضيقتي يوم من أفعالهم.. روحك كبيرة وبتسامح"..... "علمت ولادي"... ص28.

 ـ "ادعوا لجيشنا الله يحميه

شايل بلده ف نني عنيه

رافع راسها عزيزة قوية

وبيحمي الأمة العربية"..... "ادعوا لجيشنا الله يحميه"......................... ص32

  جمع الشاعر أغنياته في مسرحية "قناة السويس" في الديوان على غير ترتيبها في المسرحية، وهي: قومي يا مصر، طلعت حرب، مسيو دليسبس أو يا عم دليسبس، بلدي يا بلدي أو السخرة ولهذا فقد جاءت الأغنيات مترابطة الأحداث ومتتابعة لأنها إنما تتناول قصة كفاح وطنية دامية تشق قلب الإنسانية، كما أن ارتباط هذه الأغنيات بعمل درامي استلزم العناية بالمكان والزمان وهما من عناصر البناء المسرحي والمكونان للحدث  باعتبار أحدهما دلالة على المدرك الحسي وهو المكان بينما الزمان يعتمد على المدرك النفسي الذي يستشعره المتلقي معنويا، ومن هنا فقد نجح الشاعر نظير إلى حد كبير في احتواء الامتداد التاريخي لقصة حفر قناة السويس وجمع أطراف الصراع داخليا وخارجيا مستخدما تيمة شعبية أفلح في توظيفها في استدرار مخزون الشجن المصري المعهود وهي تشكل ليس فقط لوحة مسرحية درامية بل أيضا لوحة تشكيلية ترسم الفرشاة خطوطها بألون القهر والطغيان على ملامح الوجوه المتعبة التي تنوب عن القلوب المشقوقة من لوعة الفراق، والمصير المجهول، وانقطاع الأمل في عودة المفارق ولو ميتا، ولهذا عمد الشاعر إلى أن تكون المرأة والأم خاصة هي النائحة الثكلى اتكاءً على رصيدنا في الندب والعويل وشق الجيوب وما شابه في تراثنا الممتد تاريخيا وبشريا وهو ما يحتفظ به الفلكلور الشعبي وبعضه مازال قائما في الجنوب والأطراف، واستمدادا من المناحة التي أضافها أرسطو إلى المسرحية التراجيديا الإغريقية حيث يتآلف أفراد الجوقة والممثلين في إنشادها:

"بلدى يا بلدى .. السُخره خدت ولدى .. ياعزيز عينى .. يا فلذه من كبدى

قصاد عينى بحبال جروك .. وواخدينك على السخره

يا حرقة قلبى ويا أبوك.. ومين عالم بأيه يجرى" ... "بلدي يا بلدي"......ص22.

   لا تقف اللوحة الشعرية الدرامية عند لحظة الفراق بل استفاد الشاعر من وجود الأم في الأغنية لتقوم بدور "النائحة" وكذلك "الراوية العليمة"  على المشاهد التي تحكيها كأنها رأتها ومن المعلوم أنها لم تنتقل إلى تلك المواقع، وإنما زج بها الشاعر في تكديس الصور الملحمية تأجيجا للمشاعر، وتجسيدا للأحداث، وتجسيما للثمن الذي دفعه الأجداد في حفر القناة.

   جاءت أغنية "سلم على مصر" رائعة من حيث البناء والصور وتقسيم المقاطع والموسيقى السلسة الممتدة ظاهريا وداخليا، ومقاطع تتكون من شطرات ثلاث متحدات في القافية ينتهين بشطرة رابعة ثابتة القافية عبر مقاطع الأغنية مما أحكمت البنيان.

    أفلتت من الشاعر بعض الألفاظ التي خلط فيها بين الحركة الإعرابية والحرف، ويقع فيها غيره، بإضافة الواو بديلا عن الضم، وإبدال الزاي ذالا في فلذة، والإتيان بلفظة "يا مه"، ويقصدها "يا ما" دلالة على الكثرة وقد استخدمها الشاعر المصري ابن سناء الملك في بعض شطرات قصائده، بينما تفيد "يا مه" النداء على الأم، وهناك ملاحظة شكلية تتمثل في أن أرقام صفحات الفهرس لا تتوافق مع صفحات الكتاب، غير أن هناك من الأغاني والمعاني ما لم أتطرق له وقد وفاها الشاعر حقها حين تطرق لرسم معالم الشخصية المصرية، وتكلم عن اللحظات الآنية في تاريخنا المعاصر، وبث دفقات الأمل في روح اليائسين، وبعض اللحظات الوجدانية، وهو ما يعني أنه يطوع الغنائية في كافة موضوعاته بنفس البراعة والإجادة.


·       الديوان الخامس: "تلفزيون قديم بيعرض فيلم بالألوان"، للشاعر أيمن سالم:


   إن أهم ما يميز قصائد الشاعر أيمن سالم التي يضمها هذا الديوان دلالتها على أنه يعيش الشعر في زمن الاغتراب على أعتاب الحياة، وهوامش التفاصيل، مغرم بالتشبيه لإحساس يخامره بالعجز عن التفسير، ويبحر من مختتم القصيدة نحو بدايتها فتطرح أسئلة جديدة لا إجابات..

    على الرغم من كون عنوان الديوان لا يحمل معنى جامع مانع لمقصوده "تليفزيون قديم" اعتمادًا على خلق حالة من المفارقة بين التليفزيون القديم وعرض فيلم بالألوان؛ فقد يكون التليفزيون قديما في نوع طرازه أو سنة صنعه ولكنه يعرض المادة الإعلامية بالألوان، ولكنه راهن على فهم القارئ عندما يطالع القصيدة التي تحمل عنوان الديوان ليصله ما يقصد..

  عبر أربعة تقسيمات جاء محتوى الديوان الذي يبدأ من "هروب" ثم "غريب" ثم بـ "من وحي حيطان الأوضة" ثم يختمه بـ "ما تيسر من كل شيء" من خلال قصائد ومقطوعات تطول وتقصر بحسب رغبتها في الانتهاء، مدللا بمفتتح لكل جزء منها بمقولة لكاتب تعبر عن وعي الشاعر بمضمون عنوانه وتنبيها للقارئ بأن يستعد لدخول مغامرته الإبداعية لا على سبيل المجازفة ولكن باليقين، وربما جاء الإهداء ليعلن فيه الشاعر عن مفهومه للشعر وتكنيك كتابته التي لا تعرف الاستسهال في البناء أو في المضمون على حد سواء، فيقول:

ـ "لـ أبويا: اللي وَزَّع علينا من ريشه جنحاته .. عشان نطير فوق سطر المستحيل

اللي علمنا نرسم م السحاب بيوت.. والسما جنينه..

لـ أمي: اللي فَصَّلِتْ من ضحكتها ابتسامتي.. ورسمتني لوحة كاملة التفاصيل..

لـ***: اللي علمتني ... أكتب شعر بجد"

  يجمع الديوان بين دفتيه واحدا وعشرين قصيدة ومقطوعة مارس فيها الشاعر أيمن سالم محاولاته في الانعتاق من جغرافية المعتاد والتقليدي مهاجرا إلى منطقة جغرافية نائية يحاول فيها أن ينفرد بالنص وبنفسه وبالقارئ معا، عبر استخدام السينمائية في أكثر من نص، وعبر استدعاء الفصحى إلى أكثر من نص، والدخول في عالم الصوفية ورموزها وبعض مصطلحاتها وإسقاطها على النفس والواقع والمشهد، وعبر استخدام أكثر من لفظ أجنبي لم يجد لها بديلا ولا بالكتابة العربية غير أنه في كل محاولاته تلك لم يغب عن النصوص الصورة الشعرية المبتكرة والتي أكثر فيها من التشبيه الضمني والصريح المتمثل في "زي" التي غزت أكثر من نص.

   ومن إيمان قابع في نفس الناقد بأنه ليس من السهولة القول بأن الناقد يبلغ من النص منتهاه؛ فالنص بناء ومضمون مفتوح  يسمح بتجديد العطاء للمتلقي عبر قراءات متعددة وتفسيرات متجددة تدعو إلى التفاعل النصي، وهو ما تسمح به معظم قصائد الديوان، غير أن الخط الدرامي للشاعر يرتكز على الوحدة والغربة وهي تدور بين المقدمة والنتائج عبر حوار خفي دائم بين الذات الظاهرة والباطنة، بما ينبئ عن قلق وجودي يتمثله الشاعر بشخصه أو باكتشافه عبر رحلة الإنسان في حياته التي تخرج عبر صور تبرز "الخوف من الآخر" و"المحاولات الفاشلة في العثور على الممكنات والأسباب" التي تصل إلى "عدمية ذات الإنسان" من خلال :

ـ "بقيت لوحدي ومنطوي/ بفتح بيبان مبتتفتحش/ والاقيني رحلة متنتهيش/ صدقت إني لوحدي أحسن".......................... ص14.

ـ "بيروح السينما لوحده/ ويشوف الفيلم لوحده/ ويروّح بيته لوحده/ ولوحده ... بيبقى لوحده/ متساب وبدون أسباب/ قام قفل العمر وغاب"..................... ص23.

ـ "وحيد/ زي طوق النجاه اللي غرق مع سفينة/ عشان ملقتش بر/ زي عقب سيجارة ... حضن الأرض على أمل إنه ينبت من جديد/ فـ اتهرس فيها/ لوحدي/ زي دخان الشبورة يشوفوني ويهربوا"....................."غريب"............ ص24

ـ "بيشد كل الذكريات... تسحبه للبر/ ولا مفر من الغرق.. وحيد"..."تذاكر"........ ص29.  

ـ "قل للذي/ خلاك كدا بتقدس الوحدة/ وتبارك الضلمة وتسبح الجدران/ أربع حيطان ... وحدة/ أربع حيطان وجدار"........................"حيطة1"............ ص44

ـ "كما الدرويش.. بلف فـ دايرتي لوحدي"......"ما بين السبحة والدرويش"....... ص72

    هذا عن الوحدة التي جسدها وقد أضفى على كلماته فيها وفي غيرها دوما الحركة، والصور الشعرية الجمالية ونحتها بعيدا عن الكلاسيكيات المقولبة، وهو ما أضفى عليها جمالا نابعا من مروق الشاعر إلى ساحات تعطيه حرية البحث عن دلالات تركيبية ذاتية صاغها من واقع تجربته التي شكلت معظم نصوص الديوان صوتا واحدا وأصوات تردد صوته في بوليفونية اتحاد الكلمة مع حالته النفسية، ونظرته إلى العالم والإنسان وذاته بصياغته هو وليس نقلا عن غيره، وهو ما يبدو جليا في البحث عن الأسباب الواقعة والكامنة فيه ومن خارجه والمسئولة وجوديا عن وحدته، ومحاولاته التي تحاول مصارعة الأقدار التي فُرِضت عليه أو فرضها على نفسه، وهي تسري في شطرات كثيرة من قصائده دون افتعال؛ فقد كان منهمكا في الاستكشاف الذي أرجعه إلى الخوف، والخجل:

ـ "علشان الخوف ... غلبني" و"يمكن عشان البقاء وحيدًا.. هي السٌنة المخالفة للحياة..فحد سابني ومشي" و"يمكن ارتباطه بالبحر/ وريحة اليود فـ الشتا/ وشراعات البيوت الخشب القديمة/ اللي بتخبي وراها م المشاعر براءة الدنيا/ خَلَّوه خجول م الاعتراف للبشر/ فيكلفت نفسه بقلبه ويزوره/  ويفضفض" و"إني بخاف لتبان/ أنا روحي من جوه/ وأشوفني أقول.. هو!/ واحضني ملقنيش" و"فارس بقلب خجول" و"الشتا حببك فـ الانطواء/ والبعد الكامل عن دنيا/ تسابيحها..أنين" و"زهد الهوى عمدا/ لأنه كان خايف". 

   ثم تبدأ المحاولات الفاشلة التي يكمن في إحداها الأسباب الداعية للوحدة والاغتراب مع كونه يتماهى في دنيا الناس باحتراس:

ـ "بيحاول يفضل ديما/ وديما محاولاته كتير/جرب يكتب من تاني/ فكتبها فـ فصل أخير/ كان ليه الخوف م الغير؟!" و"يمكن علشان محاولتش/ قررت أحاول .. بس من برا/ ففشلت كل المحاولات".

ـ "وحيد/ زي طوق النجاه اللي غرق مع سفينة/ عشان ملقتش بر/ زي عقب سيجارة ... حضن الأرض على أمل إنه ينبت من جديد/ فـ اتهرس فيها/ لوحدي/ زي دخان الشبورة يشوفوني ويهربوا"....................."غريب"............ ص24.

ـ "بيشد كل الذكريات... تسحبه للبر/ ولا مفر من الغرق.. وحيد"..."تذاكر"........ ص29.

ـ "قل للذي/ خلاك كدا بتقدس الوحدة/ وتبارك الضلمة وتسبح الجدران/ أربع حيطان ... وحدة/ أربع حيطان وجدار"........................"حيطة1"............ ص44.

ـ "كما الدرويش.. بلف فـ دايرتي لوحدي"......"ما بين السبحة والدرويش"....... ص72. 

 لقد حدد الشاعر من خلال تكنيكاته وموضوعاته في بناء القصيدة شكلا ومضمونا جمهوره المستهدف، وأنه لا يراهن على مخاطبة كافة الطبقات وإنما شريحة واحدة مجتمعية من أقرانه وبعض النخب المثقفة التي تهيم شوقا في الصياغات الفلسفية، والبنى الغامضة التي تنمو في أوردة وشرايين القصيدة الجموح لا تعطي قيادها طواعية دون شروط ، وربما يرى الشاعر في هذا تفرده وأن عليه أن يخلق جمهورا مكافئا لإبداعه، غير أنه يشكل إضافة للأجواء الإبداعية في إقليمنا الثقافي ولا شك..


خاتمة:

   أثبتت الأعمال المقدمة، على الرغم من عدد صفحاتها القليلة ـ أن إقليمنا الثقافي يملك قياد الإبداع في شعر العامية عبر زوايا مختلفة، وأن هذا التنوع يخلق حالة من التميز الفريد في اتساع رؤية الإبداع للمتلقي من أبناء هذا الإقليم، وأن بين شعراء الدواوين نقاط من التشابه في بعض الموضوعات سواء الاجتماعية أو الإنسانية أو الوطنية أو الوجدانية، ولقد تعاملوا مع "الأم" كل من زاويته وتصوره إلا أن الشاعر أيمن سالم تفرد بالحديث عن "الأب"، وبينما غطت بعض الدواوين مساحة من رفض الواقع واليأس منه، كان في المقابل دواوينا في المقابل ترشرش بذور الأمل فوق مساحات اليأس لتنبت من جديد، كما أنه من الإنصاف أن أثبت أن في الدواوين الخمسة من القصائد التي تستحق أن يفرد لها مساحة نقدية، غير أن المتاح من المساحة في استعراض تلك الدواوين كان كافيا للدلالة على أنها تستحق النشر وتستحق النقاش على مستوى نوادي الأدب، وأن هذه رؤيتي النقدية أوجزتها في نظرات ليست إلزامية أو حتمية بل تسمح في ضوء ما أفردته لنظرات نقدية أخرى تجلي المشهد الإبداعي أكثر وفي كل خير للمبدع والمتلقي على السواء وهذا ما أرجوه.