الأحد، 23 ديسمبر 2018

دكتورة عزيزة الصيفي .. بنت العربية والأزهر




يحتفي العالم كل عام باليوم العالمي للغة العربية، لذا كان من الأنسب الاحتفاء بواحدة من علماء اللغة العربية التي أسهمت بنصيبٍ وافر في تدريس هذه اللغة التي اختارها الله لتنزيله الحكيم، وهي معالي الأستاذة الدكتورة عزيزة عبد الفتاح الصيفي أستاذ البلاغة والنقد بكلية الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر.

    إن الدكتورة عزيزة الصيفي أسهمت بدراسات كثيرة في توظيف اللغة العربية في خدمة دينها من جهة، وخدمة اللغة العربية ذاتها من خلال تفعيلها في الدراسات اللغوية والأدبية من جهة أخرى، ومن هذه الدراسات: الإعجاز البلاغي في سورة القمر، والإعجاز البلاغي في سورة يوسف، صورة الليل في سقط الزند لأبي العلاء المعري، دراسة بلاغية نقدية لمسرحية غروب الأندلس، كما أشرفت على العديد من الرسائل العلمية داخل مصر وخارجها، حيث عملت أستاذًا مشاركًا في كلية التربية بالمدينة المنورة.  

   كما تمثل "الصيفي" المرأة العربية خير تمثيل في انتمائها الصحيح لثقافتها العربية التي تحتفي بها على المستويين التراثي والمعاصر، وهي أيضًا خير من يمثل المرأة العربية في وقتنا الراهن بما تتحمله من مسئوليات جسام على الجانبين العائلي والمهني. وقد ضربت الدكتورة عزيزة المثال الصحيح، والقدوة التي تحتذى في نجاحها فيهما دون تفريط، وهو ما يضيف لرصيد المرأة العربية العصرية في مشوارها الذي يؤكد مواكبتها لأحداث أمتها، والتزامها بهموم قضاياها المعاصرة من حيث تفهمها والمشاركة في تحملها بالعلم والعمل معا.

   لا تدخر الدكتورة عزيزة الصيفي وسعًا بالتواجد الدائم في المشهد الثقافي والدعوي والتربوي سواء بالكتابة في الصحف أو بالحوار الصحفي معها أو باستضافتها في كثير من البرامج على القنوات الفضائية المختلفة لتلقي الضوء على كثير من القضايا الحياتية الهامة التي يمر بها مجتمعنا المصري والعربي على السواء، كما تحرص على حضور كافة الندوات التي تقام داخل كليات جامعة الأزهر، والمحافظات، والمؤتمرات الأدبية التي تساهم فيها بدراسات تأصيلية في مجال الثقافة والأدب.

    ولا تنس العالمة الجليلة، على الرغم من جدولها المشحون، مدينتها التي تربت ونشأت فيها حيث تساهم في حضور المنتديات الأدبية ومنها تلبيتها للدعوة  الكريمة من الشاعر عزت المتبولي  رئيس نادي أدب السويس في تقديم قراءة إبداعية لأعمال الشاعر وحيد عبد الله وهو واحد من رواد الثقافة في مدينة السويس في جانبيها العملي والإبداعي. 

   ولا أدل على أن العالمة الجليلة دكتورة عزيزة الصيفي بنتًا للأزهر الجامع والجامعة، من كونها تنتمي  إليه طالبة وأستاذة جامعية وهو ما يعني أن عمرها، في أغلبه، عاشته في ظل أروقته العامرة بالعلم والفكر، ولهذا كانت بحق خير من يتصدى، ومازالت، للدفاع عن أزهرها الذي تفخر به، وتشيد بدوره ودراسته أمام تلك الهجمة الشرسة التي تنطلق من بعض من لا يفهمون دوره في مصر ومنطقته العربية وعالمه الإسلامي؛ فلم تترك ندوة أو صالونًا ثقافيًا أو منتدى أو مؤتمرًا دوليًا أو حوارًا إلا بينت فيه دور الأزهر الحيوي والهام.    

   ترى الدكتورة عزيزة الصيفي أن الأزهر يشهد حراكًا ثقافيًا لم يشهده من عصور طويلة ليغير الكثير من الأفكار المغلوطة والتي تجذرت داخل مجتمعنا، وأن الأزهر سيظل الهيئة الدينية الداعمة لنشر مبادئ الإسلام الصحيحة وتوفير الحماية والتحصين العقائدي، وأن المسلمين مروا بحالة إضلال وتعمية إلى أن سخر الله لهم علماء الأزهر الشريف الأجلاء الذين ظهروا مع بداية عصر النهضة فى أواخر القرن التاسع عشر وعملوا، وما يزالون، على ترسيخ مبادئ الإسلام السمحة، وإعادة نشر الفكر الوسطي، وتجديد الفكر تبعًا لمتغيرات العصر، وتعديل المسار وتقويم اﻻنحرافات الفكرية، وأن الأزهر يضع الخطط المستقبلية التي تسهم  فى تأسيس بناء معرفي سليم للأجيال القادمة.

   إن المتابع للتاريخ العلمي والفكري لمنهج ومسار معالي الدكتورة عزيزة عبد الفتاح الصيفي يراه يدور داخل دوائر ثلاث، هي: اللغة العربية، والدين الحنيف، والأزهر الجامع والجامعة، ولقد أثبتت بكل جدارة أنها بحق خير من تمثل المرأة العربية العالمة العاملة في كل دائرة وميدان منهم بقلمها، وعلمها، وحضورها المكثف، ونشاطها الوافر، وذهنها الحاضر، وأن ما تقوم به صادر عن إيمانٍ بيقين لا تبغي فيه غير وجه الله تعالى والخير لأمتها، وهو ما جعلها ملاذًا لكل باحثٍ وسائل عن رأيها في القضايا المصيرية والمعقدة والشائكة التي تمر بها أمتنا ليجدوا عندها الرأي السديد، والإجابة المحكمة.


الثلاثاء، 30 أكتوبر 2018

ذكريات سويسية .. ما أحلاها!







  يحكي هذه الذكريات الكاتب فاروق متولي، الملقب بـ "جبرتي السويس المعاصر"، في كتابه الذي يحمل نفس العنوان في طبعته الثانية التي واكبت احتفالات أهل السويس بعيدهم القومي في ذكرى انتصارهم على جيش العدو الصهيوني المتسلل لمدينتهم فتصدوا له وردوه مهزوما.

   جاء الكتاب فريدًا في إخراجه إذ تأخر الإهداء إلى الصفحة العاشرة منه التي أعقبها صفحة وثيقة تعارف بسيرة الكاتب وهو الأمر الذي يأتي متسقا مع نسق الحكي للذكريات التي حاول فيها الكاتب كسر الحاجز الوهمي بينه وبين قارئه، وهو ما نجح فيه فعلا حيث جاء أسلوبه غير متكلفا، وبعيدا عن التصنع أو التأنق، وكأنه ومن يحادثه في جلسة هادئة في إحدى النوادي.

    كما جاء الكتاب فريدًا في كونه لم يكتب في صدر طبعته الثانية عبارة "طبعة مزيدة ومنقحة"، كما لم يضم مقدمة الطبعة الثانية أو الإشارة إلى تاريخ الطبعة الأولى، وهذا لأن مقدمة بنت السويس الأستاذة أمل محمود جاءت وافية كافية لكل طبعة تالية للكتاب، فتقول: (والكاتب لا يحاول أن يكتب تاريخا كاملا للسويس، ولكنه يحاول أن يرسم خطوطًا عريضة لمدينة السويس وأحداثها وأماكنها وشخصياتها في حقبة ماضية من تاريخ السويس، يأخذكم فيها المؤلف بين دهاليز المدينة وشوارعها وحاراتها وأزقتها، يحكي لكم عنها وعن هويتها وشهرتها وثقافتها والعلامات البارزة في تاريخها).

   إذن فمنهج الكتاب لا يدعي الشمولية والإحاطة تجاه من سيتهمونه بإسقاط هذا الرمز أو نسيان ذكر هذا المكان، بل حدد الكاتب الفترة التاريخية التي يتناولها، وهو منهج علمي أكاديمي في تحديد الفترة الزمنية التي يتناولها الكتاب، وهذه الفترة تبدأ من نهاية حكم الملك فاروق وحتى تاريخنا المعاصر بل حتى إلى الأيام الجارية من طبعة الكتاب الأولى والثانية بالطبع.

   لقد نجح جبرتي السويس في انتقاء بعض الأماكن والرموز وسلط الأضواء عليها، غير أن الرجل بحق أضفى الحيوية في كل صفحات الكتاب؛ إذ لم يأتِ مملًا مَتحفيًا أو كأنه مرشدًا سياحيًا حافظًا للمعلومات التاريخية يصبها فوق رأس مستمعيه ويمضي، بل تميز بثقافة موسوعية تسمح له بسرد تاريخ الأثر تاريخيا ومعماريا ومن بناه ومن سكنه ومن استأجره ومن باعه ومن اشتراه ومن هدمه ومن بناه أبراجًا شاهقة تطمس معالم، وتمحو ذكريات.

   كما أضفى الكاتب الحيوية على موضوعاته في مقدماتها بما يحسب له ببراعة الاستهلال التي تجذب القارئ طواعية في التهام الكلمات دون ملل، ولم تفارق الحيوية ثنايا السطور داخل كل موضوع من السخرية الضاحكة أو المريرة، ومن الكلمات اللاذعات دون تسخيف أو تحقير أو ادعاء أو حشو  أو تكلف، بل يأتي كل هذا منسابا في نفس السياق، وكأنه ضم إلى كونه مؤرخا صفة الإصلاح الاجتماعي، كصوتٍ صارخ في قومه منذرًا من وبال محو الذكريات التاريخية الأثرية بهدمها، وعار نسيانهم للشخصيات السويسية المحترمة التي دفعت من مالها ومن دمها ولم تحظَ حتى بإطلاق شارع باسمها!

   لقد أهدى الكاتب للشباب قيمة من أهم القيم التي يحث عليها الدين والفكر السليم ألا وهي قيمة الوقت والحفاظ عليه حين حكى لهم عن وقته الذي أمضاه في جمع هذه المعلومات التاريخية والسهر عليها والسعي إليها من خلال المراجع التاريخية والتراكمات الذهنية في الوقت الذي يستمتع بمن هم في مثل سنه بالجلوس على المقاهي لكنه فعل الأجدى والأبقى، على أن الكتاب يحتوي العديد من القيم المتنوعة والهامة، والقضايا المتضمنة التي تصلح للنقاش والحوار.

إن هذا الكتاب لا يهم المواطن السويسي المعاصر فقط بل والأجيال القادمة من أبناء السويس وأبناء مصر أيضا، ذلك أن السويس مدينة كوزموبوليتانية "كونية" منذ نشأتها تضم كل أبناء مصر من الذين عملوا ويعملون فيها، ومن الذين يؤدون خدمتهم الوطنية في الجيش الثالث الميداني، ومن المهتمين بتاريخها الطويل والعريض ودراسته على مستويات عدة ولم لا وهي صانعة التاريخ وأرضها مسرحه في حقب تاريخية عديدة، وهنا تبرز أهمية الكتاب في معلوماته، وأسلوبه، وهو ما أطالب به الأستاذ فاروق متولي في نهاية مقالي أن لا تخرج الطبعة الثالثة إلا وقد زادها، أو يصدر كتبا على نفس المنوال، فالسويس تستحق.
    
   

الخميس، 11 أكتوبر 2018

كابتن غزالي.. شاعر المقاومة وذاكرة الوطن..


   

   
 


   صدر كتاب "كابتن غزالي.. شاعر المقاومة وذاكرة الوطن" للكاتب الصحفي والناقد الأدبي محمد حسن مصطفى في طبعته الثانية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر عام 2018م، وقد ضم ثلاثة فصول جاءت عناوينها متتالية على هذا النحو: "أوراق تجربة نضالية"، "الشعر والمقاومة"، "إحنا.. ولاد الأرض".

  جاء الكتاب في مجموع ما ضمه من فصول .. احتفالية احترافية مجدولة من الحب والفكر والموضوعية، لم ترتكز على مجرد لملمة أوراق مبعثرة من الذكريات والحكايا هنا وهناك، يبدو هذا جليًا منذ مفتتح الكتاب في تقدمة الدكتور علي السويسي أستاذ الفنون والعمارة الراحل والتي عنونها بـ "نِفْسي في وطن" وهي اقتباس من كلمات الشاعر الراحل كابتن غزالي والذي سرد من خلالها المسيرة الحياتية لغزالي الذي نزح والده القنائي الجذور إلى السويس ليسكن منطقة أقرب للبيئة الصعيدية في حي "الجناين" على أطراف المدينة، ثم حكى المشوار التعليمي والرياضي والعملي للكابتن وظروف تعرفه عليه، ثم عرج إلى اللحظة الفاصلة التي صنعت غزالي أو صنعها غزالي ليحفر في النهاية اسمه على صفحات النضال الوطني ومبدعي فنون المقاومة.  

  يقدم الأستاذ محمد حسن عبر المدخل أو الفصل الأول مبرراته ودوافعه التي قادته لدراسة تجربة "ولاد الأرض" من الناحيتين الذاتية والموضوعية، والتي من أهمها استعادة تلك المرحلة النضالية الفارقة في تاريخنا المصري الوطني المجيد، والتحام السوايسة مع منتوج هذه الفرقة بشكل صار يختزل التاريخ في لحظة امتدادية ماضية راهنة في آن تسمح باستدعائه في الغناء والترديد بحسب المواقف اليومية والموسمية في حياتهم وحياة السويس.

  كما أن المعايشة الحياتية للكاتب مع الكابتن غزالي، الراحل جسدًا والباقي ذكرًا، جعلت لزامًا عليه تخليد هذه التجربة تاريخًا يُعاش في عقول وقلوب القادمين، وهو دأبه ودأب أجيال من المثقفين الذين يتنافسون في نفس المضمار، حيث شَكَّلَ الموقع الجغرافي لهذه الفرقة أثره في نفوس متابعيها؛ فقد جسَّدت النضال فنًا ومكانا، لأنها لم تصدح بأغانيها خارج أسوار المدينة المحارِبة بل تحمل السلاح نهارًا ثم تعود إلى خندقها النضالي بزيها العسكري دلالة على معايشتها للوطن الذي تدافع عنه صباحًا وتغنيه مساءً، مما جعلها تصنع دائرة من ديمومة النضال الذي بدأ منها قاعدة له تتصل مع القمة "ناصر/ القائد"، ثم تنتشر أفقيًا مع الفرق الفنية الصديقة الناقلة لأغانيها في كل مصر، كما تتواصل مع أغلب المثقفين والفنانين والشعراء من مصر والوطن العربي.
     
   أبحر الكاتب في رحلة ماتعة بين الشعر والمقاومة ليضع كابتن غزالي وفرقة ولاد الأرض على خريطة الشعر المقاوم في العالم، حيث يرى أن تجربتها لا تقل عن تجارب مرت في تاريخ النضال الشعبي والثوري في دول أخرى توزعت بين قارات عديدة غير أنه تناول الثورة الفرنسية تحديدًا بإسهاب، خالقًا حالة من التوازي بين تجاوب الجنرال ديجول ومجموعة من الشعراء الفرنسيين مثل "بول إيلوار" الرائد السيريالي والإشتراكي "لويس أراغون"، وبين التجاوب الإيجابي بين الرئيس جمال عبد الناصر وفرقة ولاد الأرض، كما تعرَّض الكاتب للحركة النقدية تجاه شعر المقاومة عالميًا ومحليًا عبر دراسات نقدية وأدبية رصينة ضد من يرفضون وضع شعر المقاومة داخل النسق الإبداعي الشعري الراقي، غير أنه يحسم الجدل بانحيازه لهذا الشعر الذي يرى أن رسالته ووظيفته الفكرية والنضالية أهم وأرقى مليون مرة من الوظيفة الجمالية.

    حشد الكاتب في الفصل الثالث من كتابه موضوعات تجمع بين السياحة الأدبية والفنية الماتعة فيما أورده من نصوص، وبين القراءة التاريخية المتعمقة للأحداث التي دارت حولها؛ فقد سلط الضوء على الفرقة نفسها، وكيفية نشأتها فكرة انبثقت في عقل غزالي الذي أوجدها واقعا، ثم تاريخها الذي انشطر قسمين في مرحلة هامة وفاصلة في تاريخ مصر، والتواصل الإبداعي بين الفرقة وانعتاقها من تأليف كلماتها التي استدعتها من المخزون التراثي تارة، ومن محاولات الغزالي نفسه ومن معه من الشعراء تارة أخرى، إلى الإبداع الجديد لكبار الشعراء المصريين.

    كما تطرق الكاتب إلى أسلوب فرقة ولاد الأرض بكابتنها "غزالي" في اتخاذ المواقف الصادمة مع المتغيرات الاجتماعية التي شهدتها مصر بعد الحرب، ومحاولة شد المجتمع بأسره إلى اليقظة والانتباه والحذر ودق أجراس الخطر أن هناك على الناحية الأخرى من الوطن عدو ينتظر، كما جاءت لسعات السخرية من الفرقة في أغانيها متوازية مع البكاء المر على شهداء السويس.

   لقد أبدع الأستاذ محمد حسن مصطفى عملا أدبيا، تاريخيا، سياسيا، وطنيا، فكريا بامتياز.. على الرغم من عدد الصفحات التي لم تتجاوز المئة والأربعين صفحة من الحجم المتوسط، غير أنه عايش التجربة النضالية للفرقة الفارقة في تاريخ مصر والمقاومة في العالم، كما أن ما يشهد للرجل هو استيعابه أيضًا للحظة التاريخية التي حاول أن يستعيدها من بين أنياب الأيام حتى لا تفترسها من حاضرنا كما افترست لحظات مفصلية وألقتها في زاوية الإهمال فالنسيان، ولهذا حرص أن يضم كتابه نصوصًا لأغنياتٍ شدت بها فرقة ولاد الأرض مازالت تشع نورًا متوهجًا في ذاكرة الأجيال التي مضت والجيل الحالي آملا أن يسلموا شعلة "ولاد الأرض" التي توهجت من نور ونار كابتن غزالي فكرة انقدحت في ذهنه  ثم انطلقت في قلوب وعلى ألسنة الملايين .. ولن تموت..


السبت، 6 أكتوبر 2018

سَادَةُ السَّادَةْ ..






حين يستفزونك:

ـ أنت من عبيد البيادَةْ..

فلا تقل لهم:

ـ نعم، أنا من عبيد البيادَةْ!

بل قل:

ـ أنا عبد الله.. وهم عبادَهْ..

لكنهم حين..

يحمون الوطن..

ويبذلون الروح

قد صاروا سَادَةُ السَّادَةْ ..


الخميس، 4 أكتوبر 2018

قصة السويس كما رواها سادات غريب..








    صدر كتاب "قصة مدينة السويس" للكاتب سادات غريب في عام 2017م، وكان بمثابة الكتاب الأول الصادر عن جريدة "البيان السويسي" التي ترأسها وقدَّمت للكتاب الأستاذة نجاح محمد علي، والغلاف يوحي بأن الكتاب قراءة تاريخية بانورامية للسويس قبل النشأة وعبر العصور حتى اليوم، ولكن الكاتب كما أوضح الحدود المكانية لكتابه عن السويس حدد أيضًا الفترة الزمانية التي سيتناولها فأشار في الغلاف الداخلي إلى أنه سيتناول صفحات مجهولة من معركة 24 أكتوبر 1973م، على أنه بدأ من قبل تاريخ النكسة بأيام في الأول من يونيه 1967م كمدخل تأسيسي  يبني عليه الأحداث التي تلت بعد ذلك تباعا.

   يأخذ سادات غريب القارئ في جولة داخل مدينته وأثر النكسة عليها وعلى شعبها الذي عانى الويلات التي دعته لتفجير النكات الناقدة المريرة، ومع هذا لعق جراحه وقام بدوره الوطني تجاه الجنود الراجعة الجائعة وكيف وزع السوايسة عليهم الطعام والسجائر بل تنازل عمال المصانع عن وجباتهم لهم عن رضا، ثم ينقلنا الكاتب بسرعة داخل يوميات المحافظ ولقطة فلاش باك على الأيام التي سبقت النكسة ودوَّنها في أجندته من الأول من شهر يونيه وحتى الحادي عشر منه، وكيف تكاتف الشعب مع القيادة السياسية  إلى أن وقعت الهزيمة المُرة وتنحى رئيس الدولة وسانده الشعب رافضًا الموقف برمته ومطالبا باستعادة الأمل واستكمال المسيرة.

   كما تطور الموقف العسكري على جبهة القتال الذي بدأ تنفيذ مهمة واسعة تستهدف إنقاذ الجنود العالقين في صحراء سيناء خاصة وأن القوات الإسرائيلية تتقدم نحو شرق القناة، ويكون لهيئة قناة السويس برجالها ومعداتها شرف هذه المهمة التي تلتها على الفور مهمة تزامنت مع وقف القتال ألا وهي إعادة تنظيم وإعداد القوات المسلحة، وكانت البشائر في قيام حرب الاستنزاف واستعادة الثقة للجيش والشعب معا، وترويع العدو باستهداف مواقعه.

  يعود الكاتب بطريقة الفلاش باك الوثائقية والتي بدأها من زاوية رسمية مع محافظ المدينة، ليبدأها هذه المرة من مذكرات أحد أبطال منظمة سيناء العربية، وهي منظمة فدائية عربية أنشأتها مصر في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي، ألا وهو المرحوم الفدائي غريب محمد غريب الذي تعرَّض من خلال صفحات مذكراته لأحداث أول عملية فدائية ناجحة قام بها ونتج عنها أسر أول إسرائيليين وإفشال رفع علم العدو على القناة، وبعدها تم تكليفه بضم عناصر سويسية تصلح لمهمة الانخراط في العمل الفدائي، ثم ذكر بعض من عمليات حرب الاستنزاف التي قام بها أبطال المنظمة، وقسوة لحظات تهجير الأهالي عن السويس على من اضطرتهم ظروفهم لذلك ثم استدعتها الضرورة الملحة تحت وطأة الضربات الإسرائيلية على رؤوس المدنيين العزَّل.

   تصل أحداث الكتاب إلى النقطة الارتكازية المفصلية وهي انتصار السويس في الرابع والعشرين من أكتوبر التي أولاها الكاتب عناية خاصة منذ أن رصد دخول العدو والاستعداد للمواجهة معه، وحين عرض أحداث ذلك اليوم دقيقة بدقيقة، واستعرض كمائن أفراد منظمة سيناء في صباح ذلك اليوم أيضا، كما سجل يوميات السويس لمدة عام تبدأ من أكتوبر 1973 إلى أكتوبر عام 1974 وما فيها من أحداث هامة، ثم اختتم الكتاب بملحق يحوي سيرة ذاتية قصيرة ممعن الذين استشهدوا ومن رحلوا ومن بقوا على قيد الحياة من منظمة أبطال سيناء، وكذلك صورًا تذكارية لهم ولبعض الأحداث التي شهدتها السويس وهو ما أعطى زخمًا للكتاب.   

    تعود أهمية الكتاب لشخص الرواي "سادات غريب محمد" من كونه ليس فقط قد أرَّخ لهذه الفترة التاريخية المفصلية بأمانة ولكن لأنه نجل شيخ الفدائيين المرحوم غريب محمد غريب، ومن المهتمين برصد وتسجيل أحداث مدينة السويس، ومن وراء كتابه هدف أسمى يتجلى في تخليد ذكرى من قدموا حياتهم وأرواحهم وشبابهم فداءً للسويس مدينتهم، ولمصر وطنهم بل للعروبة كلها، وسجلا يحفظ تاريخهم المتصل بتاريخ مدينتهم في فترة تاريخية حاسمة وهامة، ورسالة إلى القادمين من أجيال قادمة من أبناء المدينة ومصر ليعرفوا ما قدمه أجدادهم من تضحيات كانت سببًا في استعادتهم لوطنهم وأن يعيشوا فيه أحرارًا بلا خوف من عدو، ويتخذونهم قدوة.. يتمثلون حياتهم وحماسهم وجهادهم ضد من يريدها بأذى أو مؤامرة أو حرب.

    كم أتمنى أن يواصل الكاتب والمؤرخ الوطني السويسي الغيور سادات غريب محمد غريب عرض مذكرات باقي أبطال نجمة سيناء، كما أتمنى أن يكون هناك آلية مصرية ترعي مثل هذه الكتابات وجمعها في مجلدات كالأعمال الكاملة عن السويس، وأن يقرر من خلالها مستخلصا عن تاريخ السويس يوزع على طلاب مدارس المدينة الصامدة من الأجيال الجديدة أو كقصة مقررة عليهم، لتترسخ في وجدانهم، وتعيها ذاكرتهم؛ فالوطنية والجهاد إرث وجينات تسري في الدم والروح، وهو ما انتقل إلى الكاتب من والده وسينتقل منه لأبنائه لتظل دائرة الوطنية متواصلة لا تعرف التوقف.  



الأربعاء، 3 أكتوبر 2018

“القراءة”.. المكون الفكري للشباب.. عبد الناصر أنموذجًا…

   



   قد تسأل لماذا جمال عبد الناصر أنموذجا؟!.. لأن الندوة التي دُعيت للحديث فيها كانت عن الرجل بمناسبة ذكراه في مجموعة من الناس كان أكثرها من الشباب، وقد رأيتني ألغي ما كنت أعددته لأوجه سؤالي لهم ـ أي للشباب ـ عن آخر ما قرأوه، فكان إجابتهم من الإناث والذكور يتمحور حول قراءة الرواية، وكانت إجاباتهم عن سؤالي: لماذا قام عبد الناصر بالثورة؟ لأنه رأى الظلم، وإجابات دلت على أن ولا واحد منهم قرأ سيرة الرجل، ولو قراءة عابرة، بديلا لهم عن قراءة رواية!

لقد أدرك عبد الناصر في نهايات الصبا وبواكير الشباب أن القراءة هي أهم ما يحرص عليه في سنوات تكوينه، غير أنه لم يقع فيما يقع فيه بعض شباب اليوم من الانكباب على لون واحد من الثقافة يتعمقها ويهمل غيرها، وربما كانت هذه وتيرة أكثر أبناء جيله فيما قرأناه من سيرتهم الذاتية.
بمراجعة بسيطة للكتب التي انكب عليها عبد الناصر قارئا وأخذت اهتمامه سواء قبل التحاقه بالكلية الحربية أو بعدها، أو قبل قيامه بالثورة أو بعدها، نجد أنها تدور حول الدراسات الدينية والأدبية والتاريخية وسير المشاهير، والدراسات الاستراتيجية فيما بعد؛ فقد قرأ مبكرًا الكتاب الذي نشره وقدم له الزعيم مصطفى كامل “المدافعون عن الإسلام”، وكتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، وقرأ ما كتب الأستاذ أحمد أمين عن زعماء الإصلاح في العصر الحديث، وقرأ عن الثورة الفرنسية ورجالها وعن فولتير وجان جاك روسو في مرحلة التعليم الثانوي، ولم يحرم نفسه من القراءة في الرواية وخاصة المترجمة ومنها رواية “البؤساء” لفكتور هوجو ولم تكن عاطفية بقدر ما كانت تصب في أفكار ناصر عما يراه من ظلم اجتماعي واقع في مصر يتطلب التغيير وهو عين ما تحكيه الرواية عن الظلم الاجتماعي الحادث في فرنسا في الفترة التاريخية ما بين سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب.
كما قرأ الطالب عبد الناصر لتشارلز ديكنز “قصة مدينتين” التي تتناول أيضا الفترة التاريخية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية من خلال الظلم الاجتماعي الواقع من علية القوم الأرستقراطي الفرنسي على الطبقة العاملة المطحونة من الفرنسيين أيضا، وهي الرواية التي كان لها أكبر الأثر في تكوينه النفسي الداخلي وتصوره المستقبلي من حيث رفضه لإراقة للدماء طريقا لأنه يصعب حقنها، كما ذكر فيما بعد.
لم تكن فقط الرواية هي الجنس الأدبي الذي جذبه في عالم الأدب بل قرأ دواوين أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، مثلما قرأ كتب توفيق الحكيم وكتب عباس محمود العقاد بالتبادل بين كتبهما مع صديق له، وقد كان إنتاج الحكيم موزعا بين المسرح والرواية ومنها “عودة الروح” التي أثرت تأثيرا كبيرا في البنية الفكرية والرؤية الوطنية لعبد الناصر من حيث إثارتها للفكرة القومية، وضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم وقيادتهم للنضال، وهي الفكرة التي أخذت تنمو في داخله بحثا في نفسه أو مجتمعه عن ذلك القائد الشعبي العادل.
على أن المتتبع لقراءات ناصر سيرى أن العشوائية تغيب عنها، كما يغيب عنها استقطاب فكر واحد لعقله ونهمه الثقافي؛ فقد بات منفتحًا حتى في قراءة الجرائد على الصحف باختلاف نزعاتها ومشاربها في فترة كانت تموج الحياة السياسية في مصر بالحراك الحزبي النشط، وهي القراءات التي كانت تصب في نهر واحد ثائر داخله يتمحور حول الوطنية، والأفكار الراقية ذات القيمة التي ترتبط بالأعمال المجيدة، وهي الفترة التي كان ناصر لم يزل بعد في مرحلة ما قبل التحاقه بالكلية التي سيتطور فيها تكوينه الثقافي تبعا للتطور العمري والفكر والتعليمي والعقلي له، والخبرة التي اكتسبها من تعرفه على الجماعات السياسية، واشتراكه في المظاهرات، وتكوينه الثوري الوليد الذي رغم فورانه إلا أنه كان ينضجه على نار هادئة.

إن كل ما رأيناه وسمعناه وقرأناه وعايشناه عن الفترة الناصرية والتحولات التي أحدثتها في المجتمع المصري والمحيط العربي والأفريقي والعالمي أيضا، جاءت كلها انعكاسًا لما قرأه عبد الناصر في سنوات تكوينه، والتي لولا المساحة لأسهبنا في تناول ما قرأه في فترة الكلية الحربية وما بعدها، والتي تعطي انطباعًا للشباب الحاضر والقادم من أهمية القراءة أولا في بناء تكوينه الفكري، وأهمية التنوع الفكري والثقافي، وأهمية التخطيط الجيد لما يقرأ حفاظًا على الوقت والمجهود، والقراءة الواعية بالعقل والفهم ومناقشة الأفكار من رفض أو قبول، وهو ما يجب أن يعلمه ويفعله عند قراءة هذا المقال أنه ليس تمجيدًا لشخص عبد الناصر؛ فله ما له وعليه وما عليه، وسواءٌ اختلفتَ مع الرجل أو اتفقتَ معه فليس هناك ما يمنعك من استلهام تجربته في سنوات تكوينه الفكري فقد ثبت جدواها ونفعها في أمور كثيرة.

الخميس، 27 سبتمبر 2018

مصر إلى أين؟








تسأل هذا السؤال الكاتبة والإعلامية سميحة المناسترلي في كتابها الذي جعلت نفس السؤال عنوانًا له، وقد ضم أربعة أبواب حملت عناوين شكلت رؤية الكاتبة تجاه القضايا التي تمحورت حول: "مخاض الثورات العربية" و"الوضع الداخلي مصريا وعربيا" و"الإسلام السياسي والأنظمة العربية" و"يونيو ميلاد وطن".

  ترى الكاتبة أن عام 2011م كان عام "الثورات العربية" وهي تعدد الأسباب التي رأت فيها استحقاقًا لشعوب ربضت على صدرها أنظمة شاخت، وحقوقًا أهدرتها، وفرصا فوتتها على تلك الشعوب من شيوع العدالة الاجتماعية، وإعلاء الكرامة الإنسانية، وترسيخ مبادئ العيش الكريم، وتعزيز الحرية التي هي حق مشروع في الأساس، كما أن المناسترلي ترفض توصيف "العالم الثالث" لمنطقتها وتطالب بالبحث عن توصيف آخر يليق بعراقة وحضارة شعوب تلك المنطقة.

   لم تكتفِ الكاتبة بالتنظير والتأصيل لرؤيتها ولكنها قدمت الحلول لتطبيق العيش الكريم من خلال إنشاء هيئة وطنية لتشغيل من يسكنون العشوائيات بحسب قدراتهم ومؤهلاتهم وخبراتهم، على أن تُشَكَّل لجنة تتولى المسح والبحث عنهم وتصنيفهم، ولجان أخرى تتولى توزيعهم على العمل المناسب لهم والمتابعة وتسويق منتجاتهم والمحاسبة، على أن تقوم بتمويل المشروعات الصغيرة لهم الجمعيات الأهلية والحكومة معا. وتستشهد الكاتبة بالتاريخ من خلال تجربة محمد علي الذي جمع العشوائيين لتدريبهم على الأعمال المختلفة في مناطق خاصة بهم، لتنعم مصر بعد ذلك  بظهور أجيال من الحرفيين المهرة ساهموا في نهضتها ومازالت أعمالهم باقية شاهدة على جودة ما قاموا به.

  ترى الكاتبة أن المؤمرات التي تحاك ضد مصر من أعداء كُثُر لا تتوقف ولا تهدأ، وبوصفها إعلامية تطالب بوجود كيان إعلامي ضخم يقف حائطا ضد تلك المخططات التي يطلقها المغرضون عبر أبواقهم المسمومة التي يقذفونها في قنواتهم المأجورة والموجهة، غير أن الإعلام المصري لن يقف دوره عند هذا بل ببث الوعي واستيعاب المشهد عند المواطن المصري الذي يجب أن يتخلى عن دور المتفرج أو المندد بل عليه أن يشارك أيضا.

  تتناول المناسترلي ما أسفرت عنه ثورة يناير في مصر من نتيجة تمثلت في مشهد الحرية المطلقة الذي أساء إلى البنيان والإنسان؛ فطال مؤسسات حكومية بالتخريب، كما ساهم في زرع الخوف بقلب النخبة التي آثرت السلامة على تقديم يد العون بالنصيحة والمشورة حتى لا تشير إليها أصابع الاتهام بالانسلاخ من الثورة أو العمل لحساب نظام رحل أو غيره.

  تعطي الكاتبة الشرعية والحق للثورتين معا يناير ويونيو حين ترى الأخيرة مكملة للأولى كما تراها أيضا ضرورة لجأ إليها الشعب محتميًا بالجيش والشرطة معًا ليدافعان عنه والوطن من حرب أهلية وشيكة الاشتعال، ويطالبون الرجل الذي يريدون أن يتولى سفينة مصر بالقيادة نحو المستقبل الزاهر الذي يرجون فكان لهم ما أرادوا.

  تختم الكاتبة سميحة المناسترلي كتابها برؤيتها حول ثورة يونيو التي كانت هي الميلاد الجديد للوطن، بديلا عن الفوضى التي ارتدت ثوب الثورة فهدمت بلدان مجاورة لمصر، وبديلا عن حكم الأخوان الذي فشل فشلا ذريعا في قيادتها واحتواء شعبها بأماله وآلامه، غير أنها تدق أجراس الخطر ضد أولئك الذين ينادون بتصنيف مصر "الدولة" تحت أي مسمى سياسي: مصر العلمانية أو الدينية أو المدنية لتخرج الكاتبة بتصنيف واقعي توفيقي: (مصر المدنية العسكرية).

    لهذا فقد جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي ليحقق تلك المعادلة المدنية العسكرية معا حين اكتسب حب واحترام الشعب المصري وملايين المواطنين العرب، وحين قاد مصر بعسكريته التي أفادت مدنيتها حين حافظ عليها بفرض الضبط والربط لوقف نزيف الدماء وشيوع الأمن والأمان في ربوعها، ولهذا أعاد الرجل لمصر مكانتها العربية والعالمية حين حقق الكثير من النجاحات على المستويين معا عبر مجالات عديدة.
 
  توجه الكاتبة الكبيرة سميحة المناسترلي في آخر سطورها صرخة تحذيرية، مشفوعة بالأمل، ونداء تدعو فيه العرب للاتحاد مع المصريين، فتقول:
(فهلم بنا يا عرب إلى اتحاد عربي قوي يثمر عن ثورة ربيع مصري أفريقي عربي تقودنا إلى بناء حضارة عربية أفريقية حديثة، تزرع الخير والمحبة للأجيال القادمة والبشر ككل، وتكون ساحقة لكل معتدٍ إرهابي ومحرض يحاول أن يهدم أو يبتلع أرضنا وهويتنا الثقافية ووجودنا "مُزوِّرًا التاريخ" في ثورة ربيع حقيقية وليس خريف ثورات غربية مزعومة).

السبت، 22 سبتمبر 2018

“حراء” في الشعر الهندي باللغة العربية...



    تتميز ولاية كيرالا بمليبار الواقعة على الساحل الجنوبي لشبه القارة الهندية، بأنها من أوائل من عرفت الإسلام في عهده الأول، أي في زمن النبوة، ولهذا فقد أجاد شعراؤها التحدث باللغة العربية بمنتهى الطلاقة والإتقان، كما أجادوا الكتابة في العديد من أبواب الشعر العربي، وأكثر ما أجادوا فيه المديح النبوي، وليس عجبًا أن يأتي بين هذه القصائد ذكرٌ لغار حراء، وهذا ما استطعت الوقوف عليه ليس في شعر قارة الهند كلها، وإنما في تلك الولاية التي لها شأن بالنسبة للإسلام، كما سنرى هذا عبر شعرائها، غير أن هذا لا ينفي أن بعض شعراء شبه القارة الهندية من المسلمين قد أضافوا الكثير من القصائد والمطولات الرائعة في فن المديح باللغة العربية وغيرها، وسأكتفي بذكر شاعرين من تلك الولاية، هما:

ــ الشاعر عبد الرحمن محمد أحمد الاريكالي المليباري:

جاء ذكر غار حراء ضمن حولية الشاعر عبد الرحمن محمد أحمد الاريكالي المليباري التي بلغت ستمائة بيت من البحر الطويل، فيما يشبه الشجرة الشعرية، حيث بدأت أبياتها بذكر بداية تنزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ذكرت جميع مراحل الدعوة إلى الإسلام منذ كانت سرية، كما تناولت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم ومالاقوه من قريش من تعذيب واضطهاد وتحمل وصبر، ثم تتعرض لبعض المعجزات النبوية.

غير أن هذه الأبيات التي تتناول لحظة حراء بتاريخيتها وامتدادها تذكر عمر الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك، وتاريخ اليوم من شهر رمضان كما لو كان قصد الشاعر عبد الرحمن المليباري إصدار شهادة ميلاد موثقة لتلك اللحظة التاريخية الفارقة في ذهن المتلقي، وكأنها أشبه ما يكون بقصيدة تعليمية، فيقول في قصيدته “الجوهر المنظم في سيرة النبي المكرم”:
وأعْظِم بيومٍ فيه بدء ابتعاثه وإشراقُ شمسٍ أذهبت كلَّ غَيْهَمِ
وذلك في سن الكمال بلوغه من العمرِ فوق الأربعين المُتَمِّمِ
ففي رمضان منهُ سابع عشرِهِ أتاهُ حِراءً صاحبُ الوحيِ فاعلمِ
فبلَّغَ اقرأْ باسم ربك فهو قد تلقَّاهُ عنهُ في عناءٍ عَرَمْرَمِ
فعادَ بها والقلبُ يرجُفُ داخلً على زوجها تُسْليهِ عن كُلِّ مؤلِمِ
فَزَمَّلهُ من منهُ تَزميلهُ ابتغى فأقلَعَ عنهُ الرَّوعُ غيرَ مروِّمِ
ــ الشاعر بشير الفيضي الجيكوني:

يتخيل الشاعر بشير الفيضي الجيكوني في قصيدته “في ذكرى حراء”، ويبدو أنه ممن صعدوا إلى غار حراء، فصور المعاني التي استلهمها من وقفته التأملية تلك الأبيات:
ذكرتُ حين دخلتُ الغارَ مُبتهلا ذاك الحبيب وجبريل الذي نزلا
وقفت انظر نور الوحي ينزل من أفق السماء كغيثٍ هادئٍ هطلا
رأيتُ موقف جبريل عليه سلا مُ الله فوقَ هواِ الغارَ مُمْتَثِلا
لم يدري غير إلهي ما تغمَّدني ممَّا رأيت وما شاهدته وجلا
وتنتهي وقفة الشاعر بشير الجيكوني متأملًا حافيًا، ثم ساجدًا، وهو يذكر تلك الحادثة التي تتعلق بموقف السيدة خديجة رضي الله عنها التي غالبًا ما يذكرها بعض الشعراء في نهاية تناولهم لنفس الحدث بعد نزول الرسول صلى الله عليه وسلم من الغار ولقائه جبريل عليه السلام، وهذه الحادثة تتعلق بمؤازرة الزوجة لزوجها حين تمده بالطعام أحيانًا، فيقول:
هَذي خديجةُ وهي ترقىَ حاملة زادَ الحبيبِ ولا تشكو له مللا
يومًا تنزَّلَ جبريل وقال له بشِر خديجة بالمأوى غدًا نُزُلا

الأربعاء، 12 سبتمبر 2018

قراءة في رواية سيدة الضياء للروائي السيد حنفي..

   





كتب الروائي المصري السيد حنفي شحاتة محمد الشهير بـ "السيد حنفي" رواية "سيدة الضياء" عام 2000م ونشرها في شبكة روايتي الثقافية عام 2009م بعنوان "اللعنة"، وقد صدرت في طبعتها الأولى بالمملكة المغربية عام 2017م، ثم صدرت في طبعتها الثانية عام 2018م عن دار غراب للنشر والتوزيع بالقاهرة في (240) صفحة من القطع المتوسط، وقد فازت الرواية بجائزة ملتقى الرواية العربية الثالث الذي أقيم في مدينة وجدة بالمغرب.

نبوءة إيبور "الثاني":

اختار الكاتب مقولة الحكيم المصري إيبور ليصدر بها روايته والتي تضمها مخطوطة من البردي يحتفظ بها متحف ليدن بهولندا وعنوانها: "بردية إيبور" ويسميها البعض "تحذيرات إيبور" كما تُعرف بـ "نبوءات إيبور"، ولا يهم إن كان إيبور قد وجد في عصر بيبي الثاني آخر ملوك الأسرة السادسة الذى حدث فى عهده أول ثورة شعبية مصرية أو في عصر غيره.

إن ما يهمنا بالفعل أن هذه الصيحة أو الرسالة التحذيرية التي أعاد إطلاقها السيد حنفي في عام 2000م وانطلقت بعدها ثورات ما يسمى بـ "الربيع العربي" بعدها بسنوات وكأنه كان يرى ما لا يراه كل "بيبي" في زمنه ولا يسمعه من أعوانه، ومثلما لم يستمع الفرعون القديم لتحذير إيبور "الأول"، لم يستمع الفرعون الحديث لتحذير إيبور "الثاني" فوقعت الواقعة.

يقول إيبور: (الكل آيل إلى الدمار.. إن ما يروى لك هو الباطل؛ فالبلاد تشتعل، والناس قد هلكوا، لديكَ وحيٌ وبصيرة، وأسباب العدالة، لكنك بعثتَ الفوضى في البلاد .. مع الفتن، وليتك تذوقت هذه المصائب، إذن لقصصت خبرها بنفسك).

رؤية كونية إنسانية:

لا يكتب السيد حنفي رواية فهو من غير المؤمنين بأحادية الإبداع وتصنيفه، ومعه الحق في هذا؛ فالرواية دون غيرها من الأجناس الأدبية التي يتسع صدرها لاحتضان كافة الأنواع الأخرى بكل أريحية ورحابة دون افتئات أو اقتحام لخصوصيتها، فإذا كانت مادتها النثر اتساقًا مع السرد فالشعر كذلك أولى بأن يحتل مكانته وخاصة الشعر المنثور ـ إن جاز التعبير ـ ولهذا لا يأبه حنفي في التنقل بين الحوار وطوله في مخاطبة "سيد الضياء" من نهاية الصفحة (54) إلى نهاية الصفحة (58).

إن الكاتب السيد حنفي يكتب نفسه، يبوح بعنفوان تمرده واعتراضه على عصره ومنطقته وعلى نوع الكتابة التي التزمها جيل يتعاقب سيرًا على أقدام محفوظ وغيره من القدامى الذين قرأهم ولا يرفض منتوجهم الإبداعي، بل هو الباحث عن وسيلة سردية مغايرة تتكئ على مفاهيم فكرية وثقافية صاحبته رحلة حياته وليس استنادًا على الواقعية السحرية المستلهمة من الأدب الألماني أو أدب أمريكا الجنوبية وأقطاب روائييها المشاهير؛ فقد كانت له رؤيته الخاصة به، ومشروعه الإبداعي الذي عكف عليه جاهدا.

كانت "سيدة الضياء" استقراءً للتاريخ الإنساني بشرقه وغربه، قديمه وحديثه، معتقداته وعولمته، طهره ونجاسته، ملائكيته التي يعلنها، وشيطنته التي يخفيها، أوهمنا في أول روايته بشيطنة بعض النسوة ومنهن: أم بطل الرواية لنكتشف أن العاهرة "سعدية" كان في داخلها ضياء، وكان لها قلب يبحث عن الحب، ثم اقتلعت من الجذور لينصبوها عاهرة "مجتمعيا"، كما كانت زوجة الشيخ الطيالسي هو من شيطنها وكان لها ضياء وقلب يحب، وعاشقها من أمهر صناع الدمى وهي نفس مهارة بطل الرواية حتى اختطفت من أحلامها ودنسوها.

كانت أم البطل مثله صانعة للدمى، ولها حبيبها من أبناء الجيران، ثم عصفت بأحلامها نزوة أب سكير فيما عرفناه فيما بعد بـ "زنا المحارم" الذي صور الكاتب ذلك المشهد الإنساني بالغ القسوة بذكاءٍ وتكثيف للحظة قديمة جديدة للمجتمع الإنساني الذي يغتال الطهر ثم بعد اغتياله يتبرأ منه حتى من اعتدى، لتصبح المرأة طوال تاريخها الإنساني هي "أم الشرور"، وأصل "الفتن"، وهي "الغواية"، قد يكون بعضها كذلك، وليس كلهن.

لا يحاكم بطل الرواية من حوله باعتباره أُس الفضيلة وجذرها الوحيد كما اعتدنا في أدبنا الأحادي في تركيز الالخير والجمال والفداء والتضحية في البطل دومًا على المستويين الأدبي والدرامي، بل أن إشكاليته التي ينثرها عبر الصفحات هو استلاب براءته ـ أي البطل ـ حين عرف الجنس في سن التاسعة من عمره حين عانقته زوجة الطيالسي، غير أن الانفجار الحقيقي لتلك الرواية/الرؤية تنطلق من فعل رومانتيكي حين أحب ابنة امرأة وافدة على القرية وظنها تخالف نساء قريته ليتضح له فيما بعد أن الشيخ يضاجعها وأمها، وانطلاقًا من نظرية البطل المأساوي القدري على النسق الإغريقي ينفجر السؤال: (أهناك حقًا ما يسمى بالحب؟ فإن لم يوجد سأشكله .. نعم سأشكله .. نعم أستطيع أن أشكل حبًا طاهرًا، أستظل بظله، أستأنس بوجوده، يهبني الدفء الذي أشتاق إليه.. فشكلت بالطهر والنقاء فتاة، واختزنت في جوفها كل آهات المحبين، وكل هوى احتواه الكون).

سيد "سيدة الضياء":

كان بطل الرواية هو سيد سيدة الضياء لأنه هو الذي شكلها وهو الذي صار فيها وهي التي حلَّت فيه استدعاءً للتصوف اللاهوتي ونظرية الحلول والاتحاد، فيقول: (كنتُ أنا وتوهمتُك أنتِ.. سأشكلك من خيال يمتزج برهافة الناي، وضوء القمر، وإيقاع الطبل، وألوان الطيف، وزخرفة أجنحة الفراشات، سأخلق لكِ وجودًا، أشكله على أرض معلقة وسط فضاء غير محدود، وسننطلق وسط الأرجاء نعبث بالنسائم ونغني الهوى تراتيل).

وفي موقف آخر تخاطبه سيدة الضياء: (يا صانع الدمى، اعزفك نايك.. أيها الراقد في زمني البعيد، هل تأتي يومًا لتصبح سيدي؟

الواقعية الغرائبية: 

لا يستطيع الكاتب أن يتجرد من واقعه الذي يرفضه غير أن السيد حنفي يستدعيه ليحاكمه بما كان، ويجرده من ملابسه الموهومة التي يتستر بها باسم الدين والإله والأنبياء والفِرق والمذاهب والعادات والعبادات والطقوس والقيم، بل هو يصنع واقعًا موازيًا في اللا مكان بالمطلق واللا زمان من حيث تحديده بالمعنى اللغوي والاصطلاحي، بل هو يتناول الإنسان في واقعه المأزوم فيحاكم الإنسان/الرجل والمرأة/الأنثى ثم يدمجهم جميعًا فيجعلهم واحدًا وهو منهم.

إن الواقع فيه من الغرائب ما يجعل تخييل الروائي له ضربًا أقل من الخيال حين يتناوله، كما أن الكاتب بحسب تيار الوعي أو اللجوء إلى مفهوم الرواية الجديدة أو الحداثية لا يستطيع بحال من الأحوال أن يتنصل من واقعه تمامًا ـ ولو رفضه ـ أو الانسلاخ منه، وهذا ما يؤكد عليه "بيير زيما" من خلال ربط الإبداع بالسياق الاجتماعي عبر مؤلفاته التي تهتم بالأدب من خلال علم الاجتماع، وهذا ما فعله الكاتب حين استخدم حقه كمبدع في عرض نصه أو رؤيته الإبداعية بالطريقة التي يرى أنها الأليق والأنسب لشخصياته، وحبكته، وسرده، ووصفه الزماني والمكاني، وكل ما ينثره من فنون عبر تقنيات يرى أنها توفر له عنصر القص والتشويق والإثارة، والوصول لقارئه ومناطق جذبه، وبلوغ هدفه من طرحه.

يقول الكاتب الأمريكي ديفيد هاكيت فيشر: (لا ترتبط حقيقة الفن بالواقع الخارجي؛ فالفن يخلق واقعه الخاص)، كما يقول جيمس هيجنز: (ويبسط الروائيون الجدد كذلك من "مدى" الواقعية بمنح العالم الذهني المكانة ذاتها التي يحتلها العالم "الفيزيقي" أو الاجتماعي. فالواقع الذاتي، يعالج بوصفه لا يقل "حقيقة" عما يمكن بـ "الواقع الموضوعي"، وما يتم التوصل إليه على المستوى الفكري، أو الشعوري، أو التخيلي يسجل باعتباره "حقيقة واقعة").

المزج بين المكان والزمان والواقع والمتخيل:

صنع الكاتب مكان رؤيته بين الجبل والبحر وقذف فيه بكل شخوص عمله الأدبي الذين أتوا من بلاد أخرى لا يدرون مكانها، ويجهلون الوصول إليها، فكانت تيمة الاغتراب هي اللحن الرئيس في سرد مواجعهم المتشوقة إلى زمن البراءة والضياء، وواقعهم الذي يرتكسون فيه جبرًا تحت سطوة القهر والدنس.

ولقد نجح السيد حنفي في مزج الواقع بالأسطوري، والمتخيل بالحقيقي، والتاريخ القديم بالتاريخ المعاصر من خلال استدعاء الشخصيات الغابرة ودمج أحداثها مع الأحداث العابرة في إسقاط تاريخي على الواقع المعاصر للحدث الماضي في جديلة تكشف جهل وغباء الإنسان الذي لم يرحل عن ذاته وإن سكن تجاويف أزمنة وأمكنة متباينة، لكن يبقى هو الثابت الذي لم يكسر بعد بيضة ظلمته في رحلة الانعتاق نحو الضياء، ومن مثل هذه العبارات:

(كانت أشعة الوهم تتسلل من نوافذ الجاهلية الأولى.. يضحك اللات، ويسخر العزي، وينهض هبل، يستجمع ما بقي من ذاكرة سوق عكاظ، يتساءل عن المعلقات.. امرؤ القيس يمتطي رنات الدفوف، يتصاعد مع غيوم البخار، يصارع أنفاس الراقصين، وأنا أراقص طيفك مع صيحات حرية الرأي، فتشرعين رماح الدجى، تبرزين أنيابك، تفتحين أبواب السجون، وأنا من زمنك الأول أخاف ظلامك).

(أندس بين خلايا نعال الغزاة، الصديد يصبغ المفاصل والرقاب ما زالت معلقة على مشانق دنشواي.. أبكي شهيد كربلاء، ألملم أحجار الكعبة من تحت أقدام نساء الخليفة، يطالعني وجه الحجاج الثقفي وقميص عثمان والمصاحف على أسنة الرماح).

(لأي شئ أريقت دماء أهل البلدة، كما أريقت من قبل دماء أهل الكوفة والبصرة ومكة، ودم الحسين والكثير والكثير، لماذا زهقت تلك الأرواح؟).

(ينتظرون المنقذ أيًا كان اسمه، المهدي، الشاطر حسن؛ إماما غائبا في دهاليز الغيب، أو أميرًا يمتطي صهوة جواده الأبيض).

(كل آلهتهم ثلاثة؟ سخمت وبتاح ونفرتم كانوا ثالوثا مقدسًا، خنوم وساتت وعنقت كانوا ثالوثًا مقدسًا، إيزيس وأوزوريس وحورس كانوا ثالوثًا مقدسًا.. عنت الوجوه لكل أشكال الصلبان المعقوفة والمقلوبة والقائمة، ركعوا لكل أشكال التثليث، إلا ثالوث الحب والخير والجمال!).

الإنسان واحد/فاسد .. وإن اختلفت عقائده:

لا يحاكم النص الإنسان باعتقاده، ولكن يحاكمه بسلوكه الواحد الذي لم يعرف التغيير إلا من خلال المعتقد، لكن ظلت أفعاله على ثباتها، وقد تبدى هذا من خلال تلك العبارات الموحية المخزية في آن:

(ما حارق الكعبة وهادم القدس إلا سواء، وكلهم يأتزرون باسم الإله).

(هيا دعهم يمارسون عليك الوهم وألعابهم المزيفة باسم السماء تارة، وباسم كل المعتقدات المنبثقة من أساطير الوهم البشري تارة أخرى).

(أبحث عن خير أمة، أجدها في رحم السماء لم تخرج بعد إلى الناس).

شعرية القص تنير النص:

ازدهى النص الذي غطى (36) لوحة تشكيلية فنية تعانق فيها الحوار مع المونولوج الداخلي مع الوصف بباقة من المفردات المتفردة التي شكلت العبارات الطويلة والقصيرة، ولم تكن مقحمة عليه بل هي من أهم أركانه التي يتفرد بها في عالم الرواية العربية، والتي أولاها الكاتب بحق عناية خاصة كتلك التي أولاها لشخوصه والأحداث التي صنعت حبكة فيها الكثير من البناء المحكم في تقديم وتأخير الكشف عن مضمون العمل ككل وتاريخ كل شخصية، والأجمل أن تأتي هذه الأشطر من القصائد المنثورة داخل النص وعلى حوافه جديدة كل الجدة، مجدولة بالطرافة، مزدانة بكل قشيب من اللفظ، وجمال العبارة، وتناغمها، وسلاستها، وموسيقيتها، ورصفها داخل العمل كأنها منه بل هى كذلك بالفعل لا يستطيع القارئ انتزاعها أو استبدالها أو التجاوز عنها، كما لا يستطيع أحد أن يَدعي أن السرد الشعري أخذه أو شغله عن سير الأحداث لجماله بل دَعمه وعززه.

وفي الختام أقول:

لقد لجأ الكاتب إلى الأسلوب البريختي حين كسر الحاجز الوهمي بين القارئ والعمل، كما أكد أن عمر الفضيلة على الأرض قصير ومن هنا كان لابد أن يموت القارئ، ويموت كل الأنقياء مثلما ماتت هناء النقية حبيبة بطل الرواية، وكما مات أخوه، وكما ماتت نجلاء والضياء لم يفارق وجهها، وماتت سيدة الضياء ومن صنعها، فانحسر الضوء وبَقيتْ العتمة وهي السائدة طوال العمل، ولم يتبقَ إلا الكاتب الذي لم يستطع أن ينقذ أحدًا ممن صاغ حياتهم، ولاذ بالفرار إلى الظلام والعتمة أيضًا في إطار ديمومة الواقع المتردي، ويبقى الخلاص في قول أم البطل حين خاطبته: (ما حكيته لك يا ولدي صيغة مبسطة لزمن القهر الذي لن ينتهي إلا بتدمير هذه البلدة، وجفاف هذا الوادي، وضياع كل شئ.. كل شئ)..

لقد قدم الكاتب أو العازف ـ كما ينعت نفسه ـ السيد حنفي عملًا أدبيًا يستحق الفوز بالجوائز، كما يستحق القراءة بعمق، كما يحتمل أيضًا أن يتناوله أكثر من ناقد، ومن خلال أكثر من مذهبٍ نقدي؛ ففيه من الفكر ما يستدعي الدرس والفحص، وفيه من القراءة الواعية لعالمنا المعاصر، وفيه من النقد وكشف الزيف الذي يغطي الإنسان والمجتمعات، وفيه من الإدانة أكثر مما فيه من البراءة، وفيه من التقنيات العالية التي تحاكي أرقى الأعمال الأدبية في الغرب دون الأخذ عنها أو الخروج من دائرة الإبداع في أدبنا العربي الذي يشهد بزوغ أعمال من المحيط إلى الخليج لم يغب عنها الجودة والاعتزاز بالتراث والعودة إليه والنهل منه.

الجمعة، 7 سبتمبر 2018

حوار مع الروائي المصري السيد حنفي..

   



 استهوته الرواية منذ كتب قصصه القصيرة التي رأى في كل واحدة منها نبتةً تصلح لأن تكون مشروع رواية، إنه الروائي المصري السيد حنفي ابن المدينة الأكثر شهرة في العالم القديم والحديث على السواء، إنها مدينة "السويس" الذي أهلَ فيها صارخًا معلنًا ميلاده في نهاية السنة ما قبل الأخيرة في العقد الستيني من القرن العشرين أي في نوفمبر 1959م، وكأنه تَوافُق مع شخصه وبدايات الأشياء الباكرة الطازجة وإعراضه عن كل مستساغ ومعروف ومتوقع؛ فقد كانت له رؤيته في المعروض من الفن الروائي على الساحة في قديمها وحديثها.

ضرب كاتبنا في فيافي الكتابة الروائية باحثًا عن أسلوب ينمو في أعماقه دون معرفة كنهه، حتى استطاع أن يعثر على ضالته وهدفه من وراء مشروعه الإبداعي القادم، فرفض الكاتب في نفسه وعثر على الفنان في جنباته؛ فالفنان هو وحده القادر على التجديد من خلال تأليف موسيقى لا تحاكي الطبيعة ومن هنا عزف السيد حنفي رواياته التي حصدت الجوائز، وحظيت بالاهتمام النقدي في مصر، والمغرب، والعراق، فأبدع روايته: "سيدة الضياء"، "زينة.. ترنيمات للوجع"، "أناشيد الإنشطار، رؤيا يعزفها السيد حنفي"، "ذاك الذي هو".

من خلال هذه الحوارية التي امتدت لساعات مع الروائي السيد حنفي يسعدني تقديمه خلال الصفحات التالية:

ـ أنتم ابن مؤسسة الأزهر طالبا، والمنتمي لبعض الجماعات الإسلامية التي أسلمتك للمعتقل لمدة عام، ما أثر هذا على حياتك الشخصية أولا، ثم الإبداعية ثانيا؟ 

ــ تلك الفترة من حياتي هي التي كونت الوعي لدي بالحياة.. أن تكون سجينا بين فكر وقضبان.. أن تكون سجينا لفكر يجاهد الحياة وسجين خلف قضبان المعتقل .. أكيد أمر يدعو لإعادة التفكير في نمط حياتي مغاير لما انتهجته في بداية الحياة.. خاصة حين تكتشف زيف الشعارات التي كنت تجاهد في سبيلها.. أما على المستوى الفني.. أعتقد أن على كاهلي مسؤولية كشف حقيقة الزيف الذي تبثه تلك الجماعات..

ـ كانت القصة القصيرة من الممهدات في بداية كل كاتب قبل أن يدخل أجواء الرواية.. فما الذي أبدعته فيها؟ وما نقلته منها لعالمك الروائي وما تخليت عنه منها؟

ــ القصة القصيرة عالم يزخر بكثير من الحيل الفنية القوية.. القصة استقيتها من الفذ الخطير محمد حافظ رجب.. وأعتقد أنه أفضل من كتب القصة في العالم العربي على الأقل.. أنتجت مجموعات من عام 1985م: "لحظات مكبلة"، ثم "إشراقة الموت الأول" ثم "مشاعر ورقية".. لكني لست متحمسا لكتابة القصة.. ويؤرقني دائمًا أن أكون قاصًا كل ما ينتجه مجموعة من الحواديت..

كنت دائم البحث عن النغم بين الحروف والكلمات.. لذا أنتجت "سيدة الضياء" ولم أصنفها كرواية.. بل معزوفة من الحروف لتنتج حالة جمالية في صورة حكي روائي.. ثم خرجت على هذا النمط بمعزوفة "زينة".. ثم تحررت من كل ما كتبت وبعد كل عمل أبحث عن طريقة أخرى للعزف على أوتار الحروف دون التقييد بأي قوانين أو أي مسميات..

ــ تم رفض رواية "زينة" في محيطك الإقليمي من روائي معروف، ثم عرفت طريقها للجوائز والنقد والشهرة فيما بعد، فكيف كان ذلك؟

للأسف حدث هذا في السويس.. كانت اللجنة مكونة من: محمد الراوي وصالح السيد وعلي المنجي.. لجنة للنشر الإقليمي تتبع نادي الأدب.. وبعد رفضها المفاجئ لي بأسبوع واحد فازت رواية "زينة" بجائزة جريدة الجمهورية في احتفالية ضخمة!

ومن العجب أن يحضر الاحتفالية محمد الراوي ليشاهدني أستلم الجائزة من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني.. ثم تلقاها من تونس الناقد دكتور طارق الطوزي ليرسلها لى دكتور ثائر العذاري في العراق ليقرر الأخير تدريسها على طلبة الدراسات العليا في جامعة واسط بالعراق لمدة أربع سنوات.. ثم يضمنها دكتور كريم ناجي في رسالته: "تجانس الأشكال الأدبية" لينال بها رسالة الماجستير..

ـ ألم يستلفت انتباهك أن أفكارك حول الرواية من رفض للواقعية والابتعاد عن السارد العليم، واللجوء إلى المونولوج الداخلي والحوار تلتقي مع الرواية "الأمريلاتينية" من حيث توظيف الأسطورة وغيرها.. فدعنا نتعرف على أفكارك؟

ــ الرواية الأمريلاتينية تعتمد على السحر نفيا أو إيجابا.. فهي ترنو إلى عالم مغاير لكنها تنشيء عَالمًا آخر واقعيًا في موطنه.. أرفض الواقعية؟ وكيف لا أرفضها وقد رفضها قبلي كل ذي فكر حر.. حتى رائدها الأول "موباسان" رفضها منذ القرن الماضي بعد أن كتب على نهجها الكثير لكنها لم ترض طموحه الفني حيث أنها لا تقدم جديدا على الإطلاق, فما هي إلا تصوير لما تراه وتعلمه.. مجرد تدوين لما نعلمه كلنا..

ــ على الرغم من فوز بعض رواياتك بالجوائز والتكريمات وطالتها يد النقد، إلا أن يد الدراما التليفزيونية والسينمائية لم تمتد لها.. فما تفسيرك لذلك؟

ــ فقط لأن الأفلام والدراما التليفزيونية لها طريقة تخصهم في إنتاج الدراما.. فما عادوا يعتمدون على أعمال روائية.. يكفيهم بعض الراقصات وبعض المخنثين لينتجوا شيئا بدون طعم وله رائحة خبيثة..

ـ قدمت لعالم الرواية العديد من الروايات التي أشرنا إليها. ما الذي يميز كل رواية عن الأخرى من حيث الحبكة، واللغة؟

ــ حريصٌ أنا على أن أتنوع في طرح معزوفاتي.. وحريصٌ على نفي أي تشابه في اللغة أو الطرح بين أعمالي.. كل معزوفة لها روح ولغة وتناول مغاير للعمل الذي سبقه..

ـ لماذا صارت رواية "سيدة الضياء" سيدة رواياتك؟ لماذا كانت طبعتها الأولى في المملكة المغربية2016م؟ وما ملابسات فوزها بجائزة ملتقى الرواية العربية الثالث بـ "وجدة" بالمغرب؟

ــ "سيدة الضياء" هي أول معزوفة لي.. أنتجتها عام 2000م، بحثت عن لغة لصياغتها على مدار خمس سنوات.. حتى تفجرتْ حين أرادت هي أن تتفجر أو حين اكتملتْ لها الظروف المناخية لإبداعها.. طُبِعَتْ بالمملكة المغربية حين فازت بجائزة مؤتمر الرواية العربية بالمقهى الثقافي لمدينة وجدة بالمغرب وهي جائزة واحدة تمنح لأفضل رواية عربية.. ثم طُبِعَتْ مرة ثانية في دار غراب للنشر والتوزيع بمصر وعرضت في معرض القاهرة للكتاب العام الماضي 2017م.

ـ تناول أعمالك العديد من النقاد العرب. فما الذي استفدته من النقد أو ما ستستفيده في أعمالك القادمة، وتقييمك لكل ناقدٍ منهم؟

ــ بداية أشكر كل من تناول عمل لي بالنقد.. أخص بالذكر أكيد دكتور ثائر العذاري ود. كريم ناجي, ود. طارق الطوزي, ود.محمد الدخيسي، والأديبة الكبيرة أمنة برواضي، والأديبة الرائعة أمينة بلهاشمي، والأديبة بثينة لزعر، والناقدة الدكتورة زينب لوت...

أترى أن ليس بينهم ناقد مصري! رغم أن لي أصدقاء كُثر نقاد مصريين وقد أهديت الكثير منهم أعمالي لكنهم للأسف لا يقرؤون إلا حين يُدعون للمناقشة.. العمل الفني صار مجرد سبوبة فقط لا غير.. أما عن مقدار استفادتي .. فأنا حريص فقط على معرفة ما استشفه القارئ من الحالة الجمالية التي أردت توصيلها.. أكون ناجحا حين أدرك أن الجمال الذي أصبو إليه وصل إلى القارئ..

ـ تعرفت على الكثير من الروائيين المصريين والعرب سواءٌ في المشرق والمغرب. ماذا لو استعرضت لنا أهم ما توقفت عنده وأعجبك من نتاجهم الروائي؟

ــ هناك عمالقة أنتجوا من الجمال ما هو جدير بصياغة حياة أكثر إشراقا.. العظيم فتحي امبابي في رائعته "نهر السماء"، وطارق إمام وكل ما أنتجه من روائع، ومحسن يونس وسيد الوكيل وأمنة برواضي وأمينة بلهاشمي والكثير مبدعون وأصحاب نهج جمالي رائع ولا أنسى شهدان الغرباوي الشاعرة الأخطر وأحمد حنفي وحسني منصور.. كثير وكثير جدا..

ــ يرى البعض أن الرواية صارت ديوان العرب الأكبر في زماننا. فهل ترى أن هذا الإقبال على كتابتها أضر بالفن الروائي أم نفعه؟ ولماذا؟

ــ الرواية ديوان العرب.. الرواية لغة العصر.. الرواية..... ! مجرد مسميات تجارية فقط.. ثم أنا أعترض على المسميات .. رواية، قصة، شعر.. لماذا لا ينطوي الكل تحت مسمى "إبداع"؟ لماذا نحدد ونقيد الإبداع بمسميات باطلة؟! حين نطلق على شيء اسم فهذا يحدد له مواصفات تقيد انطلاقه وتحديثه.. العمل الفني "أصداء السيرة الذاتية" للأديب العالمي نجيب محفوظ.. بالمفهوم السائد عن اسم الرواية هل تستطيع أن تطلق عليه اسم رواية؟ مستحيل.. "أصداء السيرة الذاتية" عمل فني فائق الجمال ولا نستطيع أن نصنفه.. غير أن التاجر/الناشر يصنفه لغرض تجاري بحت.. الفن تمرد ولا يعقل أبدًا أن نقيد الإبداع بقوانين وأصفاد بائسة.

ـ باعتباركم كاتبا روائيا له أسلوبه الخاص في تناول أعماله. لو عددتم لنا الأخطاء التي رصدتها عند من استسهلوا فن الرواية فكتبوا فيه، وبماذا تنصحهم؟

ــ لأنهم أسموها "رواية" فيروي من يشاء ما شاء.. وبهذا تجد هذا الغثاء الذي يملأ أرفف المكتبات.. أنصحهم أن يكفوا عن هذا الذي يفعلونه برؤوسنا.. من لا يملك مشروعا إبداعيا ورؤية خاصة للجمال عليه أن يضع القلم ويقرأ ويتعلم صياغة الجمال.. الفن نظرية جمالية أولا وأخيرا..

ـ هل ترى أن الفجوة الإبداعية بيننا ـ نحن العرب ـ وبين الغرب في الرواية كبيرة، وكيف تضيق بحسب فهمكم لو كانت موجودة؟

ــ أعتقد أن مصر خاصة أفضل من صاغ الفن الروائي برؤية مغايرة للغرب وأفضل.. لو ألقينا الضوء على مبدعينا لأذهلنا الغرب والشرق بمبدعينا الأفاضل..

ـ من هو الروائي الذي كنت تتمنى أن تعيش عصره وتلتقيه، والكاتب الذي تتمنى أن تكونه؟

ــ أحمد الله أني عشتُ عصر نجيب محفوظ عبقري الفن الروائي.. أحب أن أكون عازفا للجمال بالحروف وأتمنى أن أكون وفقت إلى ذلك من خلال ما طرحته من إبداع,,

ـ أين يقف الروائي السيد حنفي على خريطة الإبداع الروائي العربي المعاصر؟ وما الذي يميزه؟

ــ أعتقد أن لي مكاني الخاص الذي صنعته بنفسي لنفسي.. مدى جودة وارتفاع أو سفول هذا المكان يحدده القارئ.. أتمنى أن أكون مميزًا بحالة جمالية لم يطرحها أحد من قبل..

ـ وأخيرًا، فيما يشبه المحاكمة: الروائي السيد حنفي، هل أنت راضٍ عمَّا أنجزت؟ وما الذي تود إنجازه؟ ومتى تعلن التوقف عن كتابة الرواية؟

ــ لو ارتضيت ما أنجزته ما كتبت ثانية.. أتمنى أن أنجز "قدم واحدة لا تكفي لاحتلال العالم" عمل فني جديد مرهق جدا.. سأكف عن العزف بالحروف حين يكف القلب عن النبض..