الجمعة، 22 ديسمبر 2023

بعض قصائد السنوسي في ضوء "اللحظة الراهنة الممتدة" ...




   العَيش هو عيش اللحظة الحاضرة. لا نستطيع العيش في الماضي، ولا في المستقبل. لا نستطيع سوى التفكير بهما، تحليلهما، الشعور بالندم، بالخوف، أو الأمل تجاههما. وأثناء ذلك لن نكون موجودين بشكلٍ فعلي. أن نعيَ بشكلٍ مُتكرِّر غِنى اللحظة الحاضرة يعني أن نعيش أكثر. إنَّنا نعرف ذلك، هذا شيء أكيد، فقد قرأناه وسمعناه، حتى إننا فكَّرنا به. إن كلَّ هذا ليس سوى ثرثرة، يجب أن نقوم بذلك الآن، بشكلٍ فعلي. فلا شيء يحلُّ محلَّ عيش "اللحظة الحاضرة". هذا ما توصل إليه الطبيبٌ النَفْسيٌّ الفرنسيٌّ "كريستوف أندريه" في كتابه: "تأمَّل يومًا بعد يوم"، وكان هذا درسه الأول، غير أن هذا بالفعل هو فلسفة ونتاج إبداع الشاعر المصري محمود السنوسي.


    أحس السنوسي أن راهنية الحدث تسبق وتتوغل في معترك الأيام، لتتجاوز شعرية اللحظة، ولن يفيده أن يؤجل تفاعله الإبداعي حتى تهدأ الأحداث عن الدوران، فآثر أن يصادق الفوران في الاندماج بالدائر الحالي ويعانقه بل يندمج فيه، وينفعل به، ويترك أمر التفاعل معه إلى صدق إحساسه الإنساني الذي لن يتعب في استجلاب الصور الشعرية الخادمة لقطفة الشعور الباكرة والمستخلصة من الواقع المعيش.


  غير أن السنوسي يعلم أن اللحظة على الرغم من راهنيتها، إلا أنها ممتدة من الماضي ومتمددة في المستقبل، ولهذا فقد تعامل معها بمساحتها التاريخية في الذاكرة العربية، ومسافتها الجغرافية داخل حدودنا الفردانية الإنسانية، ولهذا فقد أحكم بملكته الشعرية على تفاصيلها في هدوء ودون ضجيج، معترفا بتعامله الفوري الساخن مع الحدث في تجدده وامتداده معا:


مشاهد حياتنا


 بتحيي اللي مات


في مشهد قديم


مكرر علينا


في كل الأماكن .. [من قصيدة: "للبيت رب يحميه"]..


نفس العناوين


مانشيت عريض


 الصفحة الأولى الغرقانه


بدم اخواتنا في كل مكان


من يوم ما وعيينا على الدنيا 


واحنا بنستنكر من يومها


قاعدين نتفرج ع الشاشه.. [من قصيدة: "طرف الخيط"]..


   لم تغب جماليات النص الشعري عن بال السنوسي في تميزها بالتكثيف والعمق، غير أن الجديد أنه لم يسرف في سوق الصور الشعرية التي ترهق ذهنية المتلقي، بل وتغرق النص في دوامات الغموض والتشتيت، وهو الذي كان حريصا منذ البداية على أن يكسب المتلقي عقلا وقلبا، لأنه عبر قصائده الثلاث: "للبيت رب يحميه"، و"طرف الخيط"، و"سينما العروبة" لا يمنح قارئه رفاهية التعمق في الأشياء التي تستدعي تفكيرا فلسفيا تأمليا في لحظة كونية، وإنما أراده مقاوما، ثوريا، غيورا على وطنه ودينه وعروبته، والخروج من وضع الثبات والبلاهة في تلقي أخبار الانكسار والهزيمة والحصار في اعتيادية كما كان وكنا ومازلنا ـ أحيانا ـ عليها.


لقد دأب الشاعر محمود السنوسي منذ أن أخرج ديوانه الأول: "عايشين حطب" في أن يبدع صياغة تركيبية تمزج بين ما هو كوني وما هو ذاتي في أغلب قصائده التي حرص فيها على تقديم صورة فنية تتميز بالتفرد وضَم الصور الجزئية في عناية، مثما يعمد إلى تضفير الصورة الذهنية بالصورة المجازية تاركا مساحة من الحرية والوقت لذهن القارئ في تمثل ما يقصد، وربما تنبئ عن قصد خفي من الشاعر لتحفيز ذهن القارئ ليلتقيا معا في نقطة من الجهد بين من أبدع تأليفًا ومن سيبدع تفسيرًا، وهو ما تنازل عنه في هذه القصائد، مختارا ومرغما، وواعيا بتفرد اللحظة الراهنة التي لم تغب فيها الجمالية فيما ساقه من نصوص عانق فيها الشكل المضمون، في عنفوان الصوت الصارخ بفداحة المشهد، ذلك أن للشاعر رؤيته الفلسفية التي وعت اقتناص لقطة شمولية لواقع عربي مرير راهني وممتد.


تأتي قصيدة: "للبيت رب يحميه"، خير شاهد على شمولية اللحظة التاريخية الممتدة في واقعنا العربي المحلي والإقليمي، والتي تتضمن تلك اللقطة البارعة من الشاعر تاريخا وجغرافية: (بريحة اللي ماتوا/ جوا السويس/ وبحر البقر/ وصبرا وشاتيلا/ وغزة وسينا/ من نهر نيلنا لحد الفرات).. هذا على المستوى الجغرافي الذي تبسط "الدولة المحتلة المارقة" عباءتها اغتصابا، واستلابا في مجاهرة، وفجور الفعل الفاضح الذي لا يخشى الملام، أو المؤاخذة ليقين زائف تكون في تاريخها المزور بأحقيتها في هذه الأرض العربية كلها بحسب النص التوراتي من سفر التكوين المأثور المشهور: "من النيل إلى الفرات"..


مشاهد حياتنا


بتحيي اللي مات


في مشهد قديم


مكرر علينا


في كل الأماكن


رفعوا راياتهم تهفهف علينا


بريحة اللي ماتوا


جوا السويس


وبحر البقر


وصبرا وشاتيلا 


وغزة وسينا


من نهر نيلنا لحد الفرات 


نسينا اللي خانهم


 ضحكنا معاه


وليْن عقولنا بكلمة "شالوم"..


فيه منا اللي طبَّع


وباس الأيادي


ومنا اللي مستني


دوره يبوس


باعوا القضيه


في سوق النخاسه


بحبة دراهم تعبي الكروش


وختم الصهاينة بنجمة داود


فرحوا بوسامهم


 كأنه نيشان


في أرض المعارك


يا عار العروبة اللي لطخ دماغكم


وخادكم في ديله ليوم الحساب


طبع الخيانة في نطفة جدودهم


لحد أما عيشنا ضيوف


 جوا بيتنا


 وواجب الضيافة


طلق الرصاص


واللي يفتح يلقى المشانق


في عيد الضحية كأنه خروف


لكنه هيلقي بدال بنت حوا


حورية هتاخده


لقصره الجديد


عشانك يا غاليه


يهون كل شيء


ولو خيرونا نفارق عنيكي


تبقى النهاية


ومهما يحاولوا يغموا عيونا


ربي بيقطع


 ويوصل ف ثانية


هو اللي قادر يسخَّر جنوده


جهنم بتفتح بيبانها وتطلب


(هل من مزيد؟)..


    قد يظن الظان أن الشاعر هنا ليس إلا راصدًا للأحداث التي جمعها ثم بسطها في نهر القصيدة دون عناء، وهو ما يخالف الواقع جملة وتفصيلا؛ فهذا أسلوب السنوسي المتسم بالمرارة الصادقة في تبنيه للقضايا الكونية والإنسانية، والقصيدة تضم عددًا من المقاطع، توضح كل منها قضية ظاهرة جلية، وقضية مضمرة خفية، ألبس السنوسي كثير من مفرداته غموضا تكتيكيا، نجح في تجنبه الوقوع في المباشرة، والخطابية المنبرية، ملتزما جماليات العرض في سلاسة، وقد أجمل ما يريد في كلمات ومقاطع وتراكيب، تاركا للقارئ أن يشاركه التجربة الإبداعية وتفصيل المجمل.


لجأ الشاعر إلى الشعر التمثيلي، في قصيدته "طرف الخيط" مستخدما القص في ثنايا القصيدة، فيما يعرف بالقصيدة ـ القصصية، أو القصة ـ القصيدة، وقد عرفها الشعر العربي القديم والحديث، ولم تكن هذه المرة الأولى له؛ فقد سبقت قصيدته هذه، قصيدة: "آذان الفجر" التي أتت وحدها متفردة في موضوعها لا يسبقها مشابه لها من قصائد ديوان: "عايشين حطب"، حيث تميزت بوحدة موضوعية عضوية متماسكة كقطعة نسيج لم يستطع الشاعر أن يمارس هوايته في التمهيد لها قبل الولوج إلى ثناياها، كما تميزت بالنزوع نحو الدرامية من خلال تعدد الأصوات التي تتمثل في صوت الشاعر وهو يتحدث عن تجربته للمتلقي، ثم الصوت الداخلي في حديث الشاعر مع نفسه وصراعه معها أو مع شيطانه، ثم الحوار داخل القصيدة بين الشاعر والرجل المجهول..


وخدني قدري مشيت في سكه


وأنا كل حلمي أروح أصلي


دخل في صابعي وتحت ضافري


مسمار مِصدي


بقيت في دمي غرقان وبصرخ


وعنيه تبكي مُر ودموع.


يبدأ بعدها حديثه مع نفسه:


وشيء شيطاني بيوز فيا


أرُد نفسي ع البيت وارجع


و أقول دي رُخصه


مش راح أصلي..


ثم اختتم القصيدة:


ربطت صابعي و قمت أصلي


وأنا بدعي ربي


يقبل صلاتي. 


لقد انتقل السنوسي إلى منطقة القصة الشعرية حيث وجدها تستطيع أن تحتضن رؤيته للحظة الراهنة الممتدة في القضية الفلسطينية ككل، وفيما يحدث في "غزة" الآن، وقبل، وربما بعد، من خلال عمليات عسكرية تتخذ إسرائيل لكل واحدة منها اسمًا، وتطلق "حماس" عليها أسماء من عندها فيما يعني أنها ترفض نطق اسم العمليات بحسب الرؤية القسرية من الصهاينة، وتضفي الطابع الإسلامي على هذه الأسماء إمعانا منها في تأكيد هويتها ووجودها على أرضها المحتلة، ومن أبرز أسماء هذه العمليات: عملية "الرصاص المصبوب" التي بدأت في 2008، فيما أسمتها حركة "حماس" "حرب الفرقان"، وعملية "عمود السحاب" في 2012 وأسمتها حركة حماس بـ"حجارة السجيل"، وعملية "الجرف الصامد" في 2014 فيما أطلقت عليها حماس اسم "العصف المأكول"، وعملية "حارس الأسوار" في2021 فيما أطلقت عليها حماس اسم "سيف القدس".


وأخيرا أطلقت إسرائيل اسم "السيوف الحديدية" ردا على عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها حماس، تلك العملية التي كانت سببا في تفجير الفورية الشعرية تجاه اللحظة الراهنة عند الشاعر محمود السنوسي والتي كانت بمثابة المحصلة النهائية لتاريخ ممتد من الصراع العربي ـ الفلسطيني الذي جاء بطعم النصر، وبطعم استشهاد الطفل "محمد الدرّة" أيقونة انتفاضة الأقصى الثانية في 28 سبتمبر 2000، والذي نجح الشاعر في أن يهدي نصر طوفان الأقصى الراهن إلى الدرة الذي تمدد في أجيال من الأطفال التي أتت بعده وثأروا له، بل ردوا الصاع صاعين، في دلالة لم يغب عنها التشكيل الجمالي في تكرارية الميلاد، والتواصل، وانتقال جينات المقاومة عبر الدم والفطام وطرح الأرض الولَّادة بملايين الأبطال القادمين.


على الرغم من رصد الواقع المعيش يجب ألا يغيب عن الشاعر أنه يكتب شعرا من خلال تجربة جمالية، ذلك أن المحور الذي يدور حوله أي فهم سليم للتجربة الجمالية هو مفهوم الانتباه؛ فالتجربة الجمالية هي ـ قبل كل شيء ـ انتباه مستغرق في موضوع معين، ننصرف فيه إلى إدراك القيمة الكامنة في هذا الموضوع، ونتلقاها كاملة في حضورها المباشر. كما يقول دكتور فؤاد زكريا في كتابه: "آفاق الفلسفة". وهو عين ما فعله السنوسي، ولهذا لم تفقد الراهنية الشاعرية في تعاملها مع الحدث الجاري ثبات المرتكزات الفنية من التكثيف، والوجازة، والخيال، وكافة التكنيكات أو التقنيات البلاغية في الإحاطة بالحدث تاريخا والتعاطي معه شعرا وفنا.


والواقع أن الشعرية في أية قصيدة لا تبرز إلا من خلال فاعلية الصورة ومثيراتها النصية التي تحرك الرؤى والدلالات وموحياتها النصية، فالشاعر عندما يشكل الصور المؤثرة يخلق منها إيقاعات نفسية، وشعورية ودلالية تحرك الرؤى وتخلق إيقاعها الجمالي، ولا يمكن للشعرية أن تبرز كقيم جمالية تحفيزية دون فاعلية الرؤى وموحياتها النصية الخلاقة، وهذا يجعل النص الشعري بأكمله يقوم على أساس الصورة التي يحتاج إخراجها إلى غوص الفكر في خلجاتها وإحالة الذهن في كوامنها وخصائص نظمها وسياقها، وهذا كله يشي بروح الإيقاع الذي يتحقق من خلال الانسجام والتناسب بين الصور المتلاحقة. كما يذكر ذلك "خلود ترمانيني" في كتابه: "الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث".


أنا شوفت عيال لسه ف روضه


إدوني دروس


تلميذهم خايف طول عمره 


على عمره الجي


بيشيلوا أخوهم وكأنه 


محطوط في النعش


والزفه تلف ويتباهوا


ودماغهم فوق


ويعيدوا اللعبة من تاني 


تبديل أدوار


صغار في السن لكن أكبر


من كهل عجوز


بيشموا الموت وبيتشاهدوا 


رايحين جايين


طيور الجنة بتحلق 


مع حور العين 


ويا عالِم مين


هيوصل مين؟


الكفن الواحد بقى بيشيل


أشلاء عيلة جوا تابوت


هو احنا يا ناس


 مش بني آدمين 


الأم تشيل ابنها في شهور


وتشيله تاني لما يموت


طب مين هيشيلها لما تموت؟!


الموت مكتوب على كل جبين


ومسيرنا ندوق من نفس الكاس


ولسانا هيبقى شاهد إثبات


مع إن الدود راح يسرح فيه


الموت علشانك يبقى حياه


وحياتك أغلى شئ في الكون


لو تحت ترابك حاضنه ألوف 


ولَّاده بتولد بالملايين 


البحر بيعلى بعد المد


بيجدد دمه بدم جديد


طوفان الأقصى


أول ضربة حقيقي تسمَّع


جيل الدره


 بقى بيرد القلم اتنين.. [من قصيدة: "طرف الخيط"]..


 لقد شكلت الصور الواقعية المختارة من واقع الأحداث وصوغها في لغة كتابة السنوسي في تشكيل جماليات النص الذي استطاع من خلاله أن يوظف مفرداته بصدق، والتعامل معها بانفعال الإنسان قبل الشاعر وهو الأمر الذي منح جمله وتراكيبه الشعرية زخماً دلالياً يضيف لمعانيها المعجمية المألوفة معانٍ جديدة استخرجها من معجم أحاسيسه ومشاعره، أظهرت مدى وعيه، واتزانه، وتوازنه بين الإنسانية، وبين الفن، فاستطاع أن ينجو بنفسه وبالنص من براثن الانحياز للحدث على حساب جماليات السرد الشعري، الذي صبه في هذا القالب القصصي إمعانا في تأكيد المشهد في ذهنية المتلقي من خلال رؤية لفظية بصرية تجسد دراما المشهد.


وأرى أن هذا المقطع من القصيدة هو بمثابة قصيدة منفصلة بذاتها، ونقلة نوعية في تعامل السنوسي مع القصيدة عبر تاريخه الشعري، وتمنح لشعر العامية في لحظته الراهنة الانتقال من معرفة الذات أو كشف الذات إلى كشف العالم ومعرفة العالم، كما منحت للشعر أن يتعامل مع المكان؛ إذ لا مكان ظاهرا أو باطنا في الشعر مثلما يتعامل مع الزمن، "لقد بدأ الشعر بالانتقال من الذات إلى العالم، ومن الذهن إلى الأشياء، ومن اللا مكان إلى المكان، ومن المجرد إلى المادي... ومن النمط إلى الفرد المتعين"، كما يقول دكتور كمال أبو ديب في مقالته: "اللحظة الراهنة في الشعر".


نفس العناوين


مانشيت عريض


الصفحة الأولى الغرقانه


بدم اخواتنا في كل مكان


من يوم ما وعيينا على الدنيا 


واحنا بنستنكر من يومها


قاعدين نتفرج ع الشاشه


وان طال المشهد بندور


على حاجه تسر.. [من قصيدة: "طرف الخيط"]..


   من الفرجة على الشاشة في القصيدة السابقة دلالة على الثبات في وضعية الاستنكار دون المشاركة بأكثر من هذا، بينما ينقلنا الشاعر في قصيدة "سينما العروبة" إلى "الدرة" الذي يجده هو الجامع لأبناء العروبة على الرغم من تعدد وتباعد الأمكنة، إلا أن المشاعر التي تفجرت بالغضب والحزن والثورة وحدت الصفوف:


ولما مات الأبن بين 


أحضان أبوه 


صرخته لمت شتاتنا


كان صداها يرج فينا


لما لفت كل بيت


زلزلت فينا قيودنا


والبرود مش طبعنا


فينا قلب ولينا إيد


والدليل إن احنا كنا


لما كنا قلب واحد


يتعامل الشاعر بآليات السينما في الانتقال السريع بين الأمكنة في شريط يمر أمامنا بالمونتاج، والحركة الذاتية في قالب من الكلمات التي صورت للقارئ مشهدا حسيا بصريا حتى أحالته إلى متفرج، حين صور السنوسي مشاهد تلقي المصريين لاستشهاد الدرة الذي صلى عليه الجميع باختلاف عقائدهم، وتوحيد قلوبهم؛ لإنه ابن الجميع:


الجوامع يومها صلت


ما اللى مات ابن الجميع


والكنايس صوت جرسها


كان بيسرى لألف ميل


والعزا في القدس يمكن


بس كنا من الحسين


للحدود واقفين طابور


كلنا كنا بندعى


وانتوا عارفين يعنى إيه


لما مظلوم يشكى ربه


ينصره لو بعد حين..


 إن علاقة الشعرية باللحظة هي بامتياز علاقة تداخل وتفاعل، قائمة على كثافة الرموز والدلالات والإيحاءات، المتعددة... وعلى هذا الأساس تصبح التجربة الشعرية قائمة على اختزال الزمن وتكثيفه.. وتصبح الصورة الشعرية عملية تفاعل متبادل بين الشاعر والمتلقي للأفكار والحواس، من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعرية تستهدف استثارة إحساس المتلقي واستجابته. كما جاء في كتاب: "الشعرية التأويلية في اللحظة الشعرية" لأسامة غانم.


منذ ديوانه الأول وحتى كتابة هذه الدراسة يحاول الشاعر محمود السنوسي خلق بناء جديد لقصيدة تعتمد التكثيف، لما يتبناه من فلسفة، وثقافة، ورؤية إنسانية ووجدانية عميقة استطاع أن يخلق من خلالها معجمه الدال عليه، وقد نجح في أن يتعامل مع لحظة راهنة انفجرت في صورة مختلفة عن سابقاتها في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، شهد من خلالها الشاعر والعالم أمارات الانتصار للمقاومة.


تلك اللحظة التي لم يستطع الشاعر أن يتعامل معها باختمار الفكرة ونضوجها وإشراقها عبر مراحل الخلق الفني المعهودة، مستثمرا في هذا امتداد تلك اللحظة تاريخا وجغرافية في الانفعال بها بنفَس هادئ، واعتماد تقنيات القص وآليات السينما ليقدم دليلا على إمكانية سكب الحدث في النص الشعري الخاضع للتشكيل الجمالي، وعدم الاتكاء على واقعية التعبير بالتنازل عن أبجديات القصيدة الشعرية وذلك بالغرق في براثن التقريرية، والمباشرة، والتساهل برصف الألفاظ فيما يشبه الشعر، مما يعني أن السنوسي قد نجح في اجتياز كل هذه المهلكات والانتصار للحظة الراهنة دون أن ينسى كونه شاعرًا يقدم حدثا معاصرا وتاريخيا من خلال قصائد طازجة، متفاعلة، راصدة، رفضت الانتظار حتى ينقشع غبار المعارك، وهو ما يُحسَب ل

السبت، 16 ديسمبر 2023

رتوش "هزاع" على وجه الدين والوطن..

   




لا ينتقل الكاتب "محمد جاد هزاع" نائب رئيس تحرير ورئيس قسم الشؤون الدولية بجريدة المساء المصرية الأسبق، من كتاب لكتاب بشكلٍ جديدٍ وإهاب مختلف، ونمط من أفكار تولدت فيه عبر خروجه من سرداب كل عمل على سبيل التطور الفكري، أو من خلال مترادفات لمفردات تأخذ بالألباب أراد أن يرشرش بها عمله الجديد، ليقول للكافة: "أنا أتيتُ". إنه الكاتب الذي ينطلق وليس "انطلق" ـ لكونه يواصل المسير، ويحاول الوصول ـ من خلال مشروع متكونٌ في قلبه وعقله وأوردته وشرايينه، هائمٌ فيه، نائمٌ به، مستيقظٌ عليه، وليس هناك أخطر من "كاتب" يعيش من أجل فكرة واحدة.


     ينطلق الكاتب من مقولة جمعها ووعاها فأرساها في مقدمات كتبه عن وعي وليس ادعاء: "الجسد ـ النفس ـ القلب ـ العقل ـ الروح" وهي مكونات الإنسان كما رآها الحسني الإدريسي في "نحو القلب"، زادها الكاتب واحدة وهي "القلب"، نجدها منثورة في عناوين بعض مؤلفاته ظاهرة، مثل: وجودك ذنب "قصة عقل"، وجودك حب "قصة روح"، نصوص من الوادي المقدس "قصة قلب"، وتأتي مضمرات مكنونات في البعض الآخر من عناوين مؤلفاته، غير أنها ظاهرات بينات عبر مشروع الكاتب الفكري الواحد، لكونه صاحب رسالة تتقسمها المكونات الإنسانية، لكنها عنده هدف واحد وإن استخدم معها أدواء متعددة، ومثلما نجد مفردات: الدين والوطن، والحب والحرب وما يتصل بها من العشق والدراويش، والتقييد والإطلاق، والحضور والغياب، والشاهد والشهيد، والنصوص المقدسة.


    جميلٌ أن نقرأ كتاب هزاع المعنون: "رتوش على وجه الدين والوطن: تجليات ما بين التسبيح والسجود" الصادر عن شركة مدبولي بالقاهرة 2022م ـ إن شئنا ـ "فردًا"، وما أجمل لو قرأناه "مجموعا" كفرع فريد يتدلى من شجرة الكاتب المعرفية الفكرية المتوحدة من حيث المنطلق والرؤية والغاية، أي مع ما كتب وأبدع من أعمال سابقة عليه.


    يأتي الكتاب فريدًا في نقلته المختلفة من حيث تقسيماته التي تبدو في الوهلة الأولى للقارئ أنها مُنبتة الصلة عن بعضها أو تدور تائهات في السديم الإبداعي، لكن بنظرة متفحصة سيجد الروابط الظاهرة والخفية ليست بعيدة عن الإطار العام الكلي لفكر الكاتب، أو عن الإطار الخاص الجزئي بالكتاب ذاته.


     استطاع "هزاع" أن يجمع كل خبراته المهنية والمعرفية والمحلية والدولية والواقعية والخيالية في بوتقة واحدة؛ فهو: الكاتب الصحفي، والمحلل السياسي للشئون الدولية، والمفكر المتدين، الذي فارق مكانه العلي وليس برجه العاجي؛ فأديبنا ليس منعزلا عن واقعه بل هو فقط يتخذ عند كل عمل مكانًا جديدا للولوج في الواقع من رؤية وزاوية مختلفة، وفي مؤلفاته السابقة ـ أغلبها ـ يصوب سهامه الطويلة نحو أهداف بعيدة يخاطب فيها النخبة المثقفة لمشاركتها في تأسيس طرحه الفكري التاريخي، بينما في سرده القصصي من خلال هذا العمل يفارق مكانه ليسير في شوارع وأفكار وحوار الناس، فيختلط بهم وينقل عنهم وإليهم، ويغزو مناطق لم يتطرق لها في أدبه سلفا، ويذكر أسماء لم تخترق عالمه من قبل أبدا.. وليس أدل على ذلك من معاينة لبعض عناوين قصصه:


(البانجو والأستروكس، حمو بيكا وأورتيجا، الأستيكة والدليت، العجول والعقول، السلخانة والمسمط ووجه أمي، الجزارون والسلخانة)..


     وللدلالة على جماع خبرته وصبها في سردياته وتأكيد رؤيته المهنية والفكرية في العملين التاليين: "زنقة ايكولوجية وابستمولوجية وبيولوجية"، والثاني: "البانجو والأستروكس"، وهو من خلال العملين يحشد رتلاً من الأسماء لبعض العلوم بمصطلحاتها في لغتها المتداولة بين الأكاديميين والأدباء والعلماء والنقاد دلالة على معرفته بهم، وسوْقًا في قصتيه لما يريد أن يقوله في ختامهما، واتصالهما بالواقع الأدبي التأسيسي في حياتنا الفكرية والثقافية والإبداعية طيلة نصف قرن أو أولئك الذين تزدحم بهم بعض الندوات الأدبية التي تجمع العديد من أهل كل فن قولي وإبداع، ليفرز سخطا غص به قلبه زمنا حتى استطاع أن يتخلص منه في النهاية على سبيل السخرية والسخط والتبرؤ، ليذكرنا بالأديب البريطاني "سومرست موم" في رائعته: "القمر وستة بنسات" واصفا ندوة أدبية بشكل ساخر انعكس تأثيرها عليَّ حتى قاطعتُ الندوات زمنا، وسأقاطعها من وصف كاتبنا تارة أخرى.


    لكنه وهو يأخذنا إلى عالم الواقع زمنا يسيرًا يقابله شيخه عند الباب وكأنه ينتظره مواسيًا لعلمه بحاله، فيردَّه لعالمه من جديد .. عالم الكلمة: ( قل كلمتك، وامضِ إلى حال سبيلك)، ويمضي الكاتب ليردنا ثانية إلى عالمه الإبداعي الذي يستقبل فيه التجليات التي يعايشها عن حرقة القلب، وتلذذ بالوجد، وألم الفقد، والانفراد بالتفرد، والاعتزاز بالتميز، والرضا بالمفارقة عن المجموع والقرب من النور، بين "الكلمة" المقروءة والمكتوبة.. فهذا هو عالمه: (اقرأ أو اكتبْ، فالقراءة سرداب سري يخرجك من أي زنزانة أوقعتك ظروفك فيها، بحق أو بغير حق، والكتابة نوع من الخلق تكسبك قدرة على إعادة ترتيب العالم، داخليًا أو خارجيًا، فالأولي منفذ للنور، والثانية مصدر للضوء).. [من قصة: "قرص الأسبرين والنون والقلم ومايسطرون"].


    لا تفارق التجليات الكاتب في سردياته التي لا يفارق فيها الشيخ مريده إلا لِماما، لنكتشف أن الشيخ سيقابله حتمًا، وسينتظره لزامًا؛ فالشيخ "داخله" يسمعه، ويخاطبه، ويسأله: ما العمل؟ ما الحل؟ والشيخ يجيب، والمريد يطيع وينفذ، لينقلنا إلى سردية أطول، وهو يعلم ما معنى السرد حين قال: (سردية بلا تعريف .. ونصوص بلا تصنيف) في العنوان الفرعي لكتابه: "دينُ الحب في زمن الحرب"، وهو ما يمتد معنىً عبر هذه السرديات القصصية بتصنيفه المعهود، لينقلنا عبر كل تجلية منها لعالمه المخصوص، برحابة صدر وسخاوة نفس، لنعيش معه هذا الفيض الجلالي والجمالي الذي عاينه في صحبة الكبار من أعلام التصوف..


     "في الوقت الضائع".. نعيش مع الكاتب محاولة الانعتاق الثوري الجذري ليرده الشيخ في سردِ طويل إلى حالة التغيير الليبرالي الهادئ، كما نعيش حالة من التوفيق المؤقت عبر التصالح بين الطين والنفخة الإلهية في: "بقدر ما في العالم من ماء"، لينقلنا إلى قصته ودرة تاج أقاصيص المجموعة: "حال ما بين الاعتزال والمواجهة"، ولن أفصح أكثر.. عن تجليات ما بين السجود والتسبيح، وما فيها من زمن قصير.. وإخلاص كثير.. ودعاء بالدمع ثخين.. بما فتح الله به على عبده فألهمه ما يقول.. تاركًا له طرق باب الرجاء.. ولربه الإجابة والقبول.


    إن هذا الكتاب تتردد فيه أنفاس وإبداع ونبض كاتبنا الكبير محمد جاد هزاع الساري في كتبه السابقة والمنعكس فيه صدى لصوت، وهو الكاتب الواحد الذي يأتينا عبر نصوص متفاوتة ومتعددة السرد المتفرد للحالة الخاصة بصاحبها حين يحاول إزالة الرتوش التي لا تليق بوجهيِّ الدين والوطن ليضع هو رتوشه الأخيرة لكي يُسفر الوجه الصحيح للدين والوطن، وهذا ديدنه، في كتاباته، وتجلياته، ولو تركتُ للقلم العنان سأصيرُ مُريدًا في هذا الملكوت الروحاني المصوغ بعبارات الوجد والحب بلا تكلف أو تَصنُع أنْ سردًا أو شعرًا تنتظمه فكرة واحدة عاش ويعيش لها وفيها "هزاع" بمنتهى الإخلاص، والتجرد، والحب الخالص.