الاثنين، 21 يناير 2019

الشاعر أحمد رشاد أغا: المسيرة والإبداع..


     
      




يقف الشاعر أحمد رشاد أغا في أرض الزجل بالسويس ممثلا عن كل المبدعين في هذا الفن، حارسًا أمينا عليه، ضامنًا مسيرة بقائه، حيث ترأس رابطة الزجالين وكتَّاب الأغاني من أواخر ثمانينات القرن العشرين وحتى الآن دون أن ييأس من عدم وجود مكان ثابت له، فيسعى في التنقل بالرابطة ومبدعيها في رحلة تضمن التواصل والاستمرار متحديًا كافة الظروف حوله.

   عاش أغا في حالة من القتال المتوازن والمتفاعل بين الحرف والحرب لمدة أربع سنوات بعد أن  التحق بالقوات المسلحة المصرية منذ عام 1970م  إلى عام 1974 شارك خلالها في حرب أكتوبر 1973م وانتصاراتها المجيدة ولهذا فقد استحق أن يقلده الجيش "وسام الوطنية".
  
   لم ينس أغا خلال تلك السنوات الكلمة ودورها الفعال والمؤثر كتأثير الطلقة والصاروخ تماما بتمام حيث كان معجبًا بالدور الذي تؤديه "فرقة ولاد الأرض" وهي التي مازال يتغنى بأناشيدها وأغانيها أيام كان طالبا مما دعاه إلى تكوين فرقة على غرارها في فصيلة الإشارة باللواء التاسع مهندسين والتي نالت استحسان الجميع وكانت نقطة مضيئة في مسيرته الوطنية والإبداعية معا.   
  
   إن التلاحم بين الكلمة واللحن في فم أغا وقلبه طبع شعره بالميل إلى التغني كحالة يعيشها من الانسجام الدائم الذي لن تخطئه عين من يتابع مسيرته الشعرية عبر دواوينه، وهي التي تجمع الكثير من الأغنيات التي أذيع بعضها بالفعل أو شارك بها في الاحتفاليات المختلفة، خاصة وأنها تدور حول الوطنيات في معظمها وهي التيمة الغالبة على إنتاج أغا في مسيرته الشعرية الحافلة، ثم الإنسانيات والاجتماعيات.

  كما أن السمة الغالبة على الشاعر أحمد رشاد أغا هي نزوعه نحو الكلمات ذات الألوان الزاهية، والباعثة على الفرحة، والداعمة للتفاؤل وشيوع مفردات الأمل في النفوس؛ فهو من الذين يهجرون موانئ الحزن واجترار الذكريات المؤسفة والأليمة، ولو تعرض لواحدة منها غالبًا ما يضعها في قالب لا يجلب البكاء والشجن العميق، وإن أخذته القصيدة رغمًا عنه في بعض أبياتها نحو غيمات الحزن إلا أنه سرعان ما يسارع بالتحليق بعيدًا عنها، ذلك أن نفسه التي تسعى لخلق حالات من الفرحة التي  تشيع في أجواء المكان الذي يحل فيه يصعب عليه أن تغادر وجوه وعيون من يتابعه من المستمعين أو القراء فيعود إلى موطنه الشغوف بخلق السعادة والتفاؤل بالقادم ذلك أنه يعز عليه أن يثقل على قارئه بسوق المواجع إليه عبر كلماته.

  تتجلى براعة أغا في التعامل مع الحدث الواحد وإن كان وطنيا بالعديد من التعبيرات التي تحمل من الدلالة  على مصداقيته في التعامل مع نفس الموضوع بنفس الصدق والطزاجة والبعد عن الافتعال، وليس أدل على هذا من احتفائه بقناة السويس سواء القديمة أو الجديدة معا، وكذلك حين يستعيد ذكراها في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ذكرى تأميمها، وفي ذكرى افتتاحها، فيقول مخاطبا الرئيس ناصر:

 يسلم قرارك يا معلم
 تأميم قنالنا كان عيدنا
عدوان ثلاثي ولا نسلم
 مفتاح قرارنا بقى ف إيدنا
وخير بلدنا رجع لينا
 خمسين سنة عدوا علينا

وقد اعتبر أغا افتتاح قناة السويس الجديدة بما يوازي العبور الأول في أكتوبر 1973م فمنحها لقب العبور الثاني، وخاطب الشعب المصري مهنئًا:

مبروك عليكو يا شعبنا
 خلاص هنفرح كلنا
إنجاز عظيم تم ف سنة
 ودي تبقى فرصة عمرنا

وتأتي رائعته "ح نكمل مسيرتنا" التي تتجلى في أصدائها أجواء أغنية مشهورة بلحن النجاح في الثانوية العامة وهو نوع من الاستصحاب للحدث، فيسرد للشباب قصص أمجاد الأجداد في الحفر والبناء مطالبًا إياهم باستكمال مسيرتهم والسير على خطاهم:

افرحوا يا شبابنا يا أحفادنا
الخير هيعم على بلادنا
بإيدين سواعدنا وولادنا  
محفورة قنالنا بإيدينا

 مما لا شك فيه أن وطنية الشاعر رشاد أغا موزعة بين إقليمه الذي يعيش فيه "السويس" ومنطقة القناة، وبين بلده التي ينتمي إليها "مصر"، وبين قوميته التي تنتمي لوطنه العربي الأكبر، ويتجلى هذا في الأغنيات التي تناولت السويس، ومنها: "السويس رمز البطولة" والتي نختار منها المستندات الدالة على كونها رمزًا للبطولة على سبيل الاستحقاق من وجهة نظره:

ولادها ضحوا بروح أبية
 حلفوا يوم ما ياخدوا دية
والعبور ع البر كان
 شمس نورت المكان
خلي ضي الفجر يرسم
 يومها أجمل ابتسامة

وتأتي أغنيته "مصر بلدنا بتدفينا" التي يرصد فيها معالم مصر التاريخية والأثرية والطبيعية ومعالم الوحدة الوطنية، ثم يتعامل مع رموز مصر الفرعونية بصفة الحضور والمعايشة على سبيل الامتداد المصري من الأجداد للأحفاد حول هدف واحد هو الحفاظ على مصر الوطن:

فيها الهرم الأكبر واقف
 للي هيغدر يوم ويخون
وابو الهول بيبص وعارف
 إن بلدنا سر الكون
حتشبسوت ع الناي بتغني
 واحنا وراها بنغنيلها
مصر بلدنا بتدفينا
 وبتسقينا مية نيلها

 يؤكد الشاعر اتجاهه القومي العروبي واهتمامه بالقضايا الوطنية من خلال أغنيته " يا قدسنا" ثم فرحته بما فعله الصحفي العراقي منتظر الزيدي الذي ألقى بحذائه في وجه الرئيس الأمريكي الأسبق  "بوش الابن" في عام 2008م، فأهداه قصيدته "تسلم إيديك يا بطل"، ومنها:
يا مهدي الأمة المنتظر
 تسلم خطاوي جزمتك
ويسلم فُراتك والشجر
 وكل خطوة ف سكتك

  يدخل أغا في إهاب ابن البلد الذي يحتفي بالصنايعية والشغيلة من أصحاب المهن التي لا تجد لها في أبيات الشعراء مكانا إلا نادرا، ومنهم "السباك" في أغنيته "الأسطى سعيد" ثم "السائق" في أغنيته "حبيبي واد سواق"، بل يثني كذلك على مساعد أو صبي الأسطى في قطعته الزجلية المأخوذة من الواقع وعنوانها "الواد بطاطا"، غير أنه من خلال تناوله لتلك المهن يعول على المهارة في الصنعة، والالتزام الأخلاقي والديني والرياضي، والاهتمام بالتعليم واستكمال مسيرته ابتداءً من محو الأمية ووصولا إلى الكلية ومرورًا بالمراحل التعليمية الأخرى:

ستة والتانية بقى متعلم
 كل زمايله عليه بتتكلم
واحتراماته علينا دا واجب
 حتى الأسطى بيه بيتعاجب
بيعامله على أنه معلم

تقف "رباعيات بسبسة" خير شاهد على خفة روح ودم الشاعر أحمد رشاد أغا الذي تعامل عبر الرمزية في القطة بسبسة التي تنوب عن الأنثى،  ولم يكن هناك ما يدعو لذلك من محاذير سياسية أو تقاليد مرعية لاستخدام الرمز سوى خطف الشاعر للقارئ ببراعة ليدخله في منطقة جذبه وانتشاله من القلق الحياتي اليومي والواقع المثقل بالهموم، وفي نفس الوقت استعراض مهارة أغا في الكتابة والفكاهة معا.  
 
   إن إنتاج الشاعر أحمد أغا بما حواه من قصائد وأغنيات تدور حول موضوعات عديدة تمثل الخطوط العريضة للموقف الفكري الذي يتبناه، والذي يمثل انحيازه ككاتب لهذا النوع من الشعر والزجل النابع من انحيازه للشعب الذي جاء منه ويحبه، ووطنيته التي تتبدى في مواقفه وأعماله، كما تأتي أبيات قصائده محملة بروحه التي تحلق في أجواء الأمل والفرحة والبهجة والألوان الزاهية المشرقة، والعين التي تبصر النور في نهاية النفق، والروح المرحة التي تتخلل ألفاظه وموضوعاته والتي تحمل دوما خلاصات تجاربه في عالم الشعر والزجل وبضعة من نفسه.

     ولهذا فهو لا يغامر بالتجديد في البناء وإن تجددت قصائده في المضمون وهو ما جعل له مكانته في قلوب من تعودوا إبداعه، فلم ينحُ نحو بعض الشعراء الذين يميلون إلى إرهاق القارئ بالرمزيات والغموض، غير أن أبيات قصائده حافلة بالدهشة خاصة فيما يتعلق بالقصائد السياسية ومنها "ألطف بينا" من ديوان أحلام إنسان بسيط وغيرها من قصائد دواوينه.
    
     أصدر الشاعر أحمد أغا خلال مسيرته الإبداعية عددًا من الدواوين التي بلغت ستة، بدأها بديوان: "السويس في عيوني" عام 1993م، وفي عام 1997م أصدر الديوان الثاني: "ياما في الجراب"، تلاهما ديوانه الثالث: "الناس قلوبها اتغيرت" في عام 2001م، وفي عام 2005م كان ديوانه الرابع: "بستان الأرانب" وهو عمل مسرحي موجه للأطفال،  وفي عام 2006م أصدر ديوانه الخامس: "أحلام إنسان بسيط"، واختتمها بديوانه السادس: "ليلة الرؤية عمل درامي" في عام 2012م، وله أعمال مخطوطة لم تصدر بعد.

   إن مسيرة وإبداع الشاعر الكبير أحمد رشاد أغا مثال جيد للشاب المصري والعربي في كل مكان فحواها ومبناها ومعناها: أنه رجل حمل السلاح دفاعًا عن الوطن غير أنه لم يكفر بالكلمة التي جعل منها سلاحا موازيا للزود عنه، كما أن الوطنية تنبت محلية وتترعرع قومية عربية، وأن الكلمة سلاح فعال لا ينتهي دوره في حرب أو سلم كأداة من أدوات البناء وبث الأمل في ربوع النفوس المشرئبة لغدٍ أفضل تتحرر فيه الأرض، ويندحر العدو الغاصب عنها، ليعم الفرح.


الخميس، 17 يناير 2019

بَرَاَءَةُ العَامِّيَّةِ مِنْ هَدْمِ الْفُصْحَىَ..



    لم تراوح قضية العامية كلهجة مكانها؛ ففي أدبيات علماء العربية الفصيحة وكذلك الذين ينافحون عن الإسلام اتهامًا ثابتًا رسَّخوه في أذهاننا منذ مطالع الصبا أنه ليس هناك من خطرٍ أكبر وأقدر على اللغة العربية ودين الإسلام من تلك العامية اللعينة، فعشنا ونحن نحس بالذنب يوميًا من اعتياد الحديث بها، فجعلنا جُل اجتهادنا في التحدث بالفصحى إلى درجة الدخول في حوارات يومية بالفصيحة البليغة بيني وبين أصدقائي بالساعات ونحن نتهارش باللفظ الحوشي المستغرب المستهجن، وكلما أغرقنا كلما أثبتنا جدارة الاصطفاء بشرف الانتساب إلى أهل تلك اللغة.

غير أن الأيام مرت ولم يثبت لنا أن العامية أو العاميات العربية في أساسها كانت وحدها هيَ الخطر الداهم في وقف زحف الفصحى والتسبب في ضعفها، كما عرفنا على طول البلاد العربية وعرضها أدباء وشعراء يكتبون العامية مع اتصالهم الوثيق بالعربية الفصيحة سواء في مكاتباتهم أو أعمالهم، وهم يملكون ناصية الإبداع باللغتين دون غضاضة أو تضاد، أو تنطوي في نفوسهم الرغبة الملحة في القضاء عليها، ولم يلجأوا إلى العامية استسهالاً أو هروبًا من معجمية الفصحى وقواعدها، والشعر الخليلي وعروضه، والدواوين خير شاهد على صدق ما أقول، والمجموعات القصصية التي تجد مبدعها واحدًا على الرغم من اختلاف الأجناس الأدبية واللغة واللهجة المستخدمة.

وحين سألني أحد الأدباء الذين يمارسون العامية والفصحى والكتابة: لماذا تنتصر للفصحى وتكتب بالعامية؟!
فأجبته: ليس ثمة تناقض؛ إذ كنا في مصر نستقبل الجزائرية عبر غناء رابح درياسة، والمغربية عبر عبد الوهاب الدوكالي، واللبنانية عبر صوت فيروز وكذلك الفن الخليجي، واستمتعنا بكل تلك اللهجات كما استمتع العرب باللهجة المصرية، وكانت لها السيادة لأنها امتلكت المواد الناقلة والحاملة لها عبر الأدب والفن والإعلام، وصرنا نميز بين اللهجة السعودية والتونسية.

لقد التقت لهجات العرب في إذاعة صوت العرب المصرية، لكن كان هناك اتفاق ضمني مبدئي أننا نتكلم العامية لكن في كتبنا وصلواتنا تجمعنا العربية الفصحى، فليس ثمة تناقض ولو حتى من باب العرف، والعرف عند العرب أقوى من القانون. وكتبتُ بالعامية ــ وقت كنت أكتب شعرًا بالعامية ـ لأنها نادتني تغلبتُ عليها تارة لكنها غالبتني في الزجل والقصيدة العامية والأغنية، كنت معها مثل الطفل الأعسر كلما حاول التيامُن لم يستطع، مع كوني لا أجد غضاضة في التعاطي مع القصيدة الفصحى قراءةً وكتابة، ووافقني أحد أصدقائي ممن يكتبون القصيدة العمودية الرأي الذي ذكرته وأنا في رابطة الأدب الإسلامي العالمي: عندما يكون المعنى أقوى في النص الشعري العامي، فهو أفضل من شعر موزون بالفصحى ولكنه خواء!

لقد شَكَّلت الثورة الفضائية في الاتصالات أحد روافد الوسائل الحمائية لتلاقح الأفكار بالعامية، فقد نقل جناح الدراما بأنواعه عامية كل قطر عربي إلى شقيقه من شعوب الأقطار الأخرى، وبعد أن كان عندنا إذاعة واحدة تضم العرب، صار عندنا قنوات لكل قطر وهذه القنوات على كثرتها لم تفرق العرب بل جمعتهم.

ليس هناك خوف على الفصحى من العامية، مثلما ليس ثمة خوف على العامية من جور الفصحى، بل أفادت الفصحى العامية حين هذَّبتها ورفعتها قريبًا منها، ودخلت العامية على الفصحى فأنَّستها وحببَّتها إلى المتلقي الذي كان ينفر منها، وبهذا أصبح لدينا لغة وسطى “ثالثة” يجتمع عليها الكل، ومن استطعم وتذوق اللغة في كل أحوالها وامتلك ناصية أكثر من جنس شاء له أن يُعبَّر بأقواها، والفكرة هيَ التي تختار قالبها لا المبدع.

يقول اللغوي خليل كلفت في دراسته حول الازدواج اللغوي بين الفصحى والعامية: (وهكذا نلتقى بفكرة أن التجاور بين اللغتين المسماتين بالفصحى والعامية كان قائمًا منذ البداية، منذ الجاهلية، وبفكرة أن التجاور الطويل أثبت عجز “الفصحى” عن القضاء على تلك “العامية”، وبفكرة أنه أثبت عجز “العامية” عن القضاء على “الفصحى”، وبفكرة ضرورة القضاء على هذه لصالح تلك، وبفكرة ضرورة القضاء على تلك لصالح هذه، وبفكرة أن التجاور سيظل قائما إلى ما شاء الله، وبفكرة أنه تجاور سعيد لا ينبغى أن يثير ضيق أحد).

يرى الشاعر والباحث كريم موزة الأسدي أن الفصحى وهى الأم ما عادت لغة يومية لأىِّ من الشعوب العربية لذا فإن تراثها من العصر الجاهلي وحتى الآن هو تراث عربي أصيل لكنه يقع خارج دائرة الفلكلور ليستقر ضمن التراث الرسمي بحكم أنها لغة القراءة والكتابة وليست لغة المشافهة، ولقد ميز الأدباء والمفكرين المعاصرين بين أدب الخاصة وأدب العامة.

كما يرى أن “اللغة العامية الدارجة” هي الوعاء الأكبر لفنون مثل الشعر الشعبي والأغاني الشعبية بجميع ألوانها وبما يرافقها من ألحان وموسيقى وحكايات وأمثال ونكت وطرائف وكل أشكال القولي الشفاهي، ولقد ظل هذا النوع حيّاً رغم تقلبات الأحوال والعصور وذلك لأن دورانه على الألسن والشفاه وليس على الورق يكون بمثابة دوران الدم في عروق الكائن الحي لذا فهو يرفض أن يجمد لكنه يتغير ويتنوع ويتطور باستمرار لأن ما يشكله هو ذاكرات وأناس في مواقف معينة وفقاً لمواهبهم المبدعة وتلبيةً فوريةً لاحتياجاتهم.

ينبه الأسدي إلى نقطة هامة يراها مرتبطة بعملية التنوير حيث يأتي دور الأدب العامي أكثر أثرًا من أدب الفصحى، وذلك لأن أدب الفصحى بماله من خصائص ومميزات يظل فوق مـدارك العامة مما يقلل أو يضعف تفاعلهم معه ويضعف بالتالي تأثيره فيهم بخلاف الأدب العامي الذى واسطته في مجتمعه عامة الشعب، فهو بحكم عفويته وبساطته ومجاراته لأحـداث الساعة وانتقاله السريع مشافهة يكون له النفوذ الطبيعي على جميع طبقات المجتمع.

وتأتي نظرة الأسدي مؤيدة لما قلته من نفي الخوف الموهوم والمهول من خطر العامية على العربية، فيقول: (وبالنظر إلى الشعر الشعبي أو العامي تحديدًا سنجده يرتبط بتقاليد الشعر العربي الفصيح ليس بتقاليده فقط وإنما أيضًا أغراضه وهذا الارتباط أسَّسَ للتشابه والتجانس بين جملة ما أُنتج في أدبنا العربي من شعر على اختلاف البيئات والعصور فهما في نظري مرتبطان دائمًا ببعضها البعض ولا أتخوف من أحدهما على الآخر .. وقد أدركت المؤسسات الثقافية والأدبية في عصرنا الأنى ما للأدب العامي من أهمية وفعالية في توجهـات الشعوب وقيادتها فاعتنت به).

يستند الرأي لما ذهب إليه الأسدي لمقولة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين التي أوردها في كتابه “الحياة الأدبية في جزيرة العرب”، حيث قال:
(لسوء الحظ لا يُعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما لأن لغته بعيدة عن القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها، وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين … وهذا الأدب الشعبي ــ وإن فسدت لغته ــ حي، قوي، له قيمته الممتازة من حيث أنه مرآة صافية لحياة منتجيه).

يدحض الأسدي خوف من يدافعون عن الفصحى من أن تلقى نفس مصير اللغة اللاتينية، الأمر الذي دفع المثقفين العرب لأن يُعْرِضُوا لوقت طويل عن دراسة الآداب العامية وجمع تراثها والعناية بها خشيةً من مداهمة العامية للفصحى، بحيث تحل العامية مع تطاول الزمن محل الفصحى وتزيحها نهائياً فتضيع الفصحى وبالتالي القرآن والدين والتراث العربي وتفقد الأمة بذلك أهم عناصر ومقومات وحدتها .. ولكن هذا التخوف الآن قد عفا عليه الدهر ولم يعد ذا بال بعد أن تأكد للجميع أن القرآن ولغة القرآن أقوى وأرسخ من أن يزعزعها أو يهدمها أي اهتمام بلهجة عامية.

ومن هنا وبعد ما تقدم أقول وكلي ثقة وإيمان أنه لم يثبت أن العامية كانت العائق الأكبر في تعلم الفصحى بطلاقة، أو أنها كانت الخطر الذي يجب أن يتحمل اللوم والوزر كله في تعثر الألسنة في النطق الصحيح بالفصحى، خاصة وأن عالم جليل مثل الراحل الدكتور أحمد مختار عمر هو الذي دعا إلى إنشاء قسم لدراسة الأدب الشعبي في جامعة الكويت وهو من هو في حرصه على الفصحى تدريسًا وتأليفا.

فالرجاء من سدنة الفصحى المنوط بهم تدريس اللغة العربية وتيسيرها وإفشائها في المعاهد التعليمية والعلمية ثم المجتمع بالضرورة: لا تشيطنوا العامية، ولا تعلقوا عليها فشلكم في إخراج أجيال جديدة تتحدث لغتها بسلاسة وسلامة ووضوح، فمناهجكم عقيمة، وأدواتكم قديمة، فلا تهيلوا التراب في كل مرة على رأس العامية، ذلك أنكم تعلمون علم اليقين أن لكل لغة دارجتها العامية، وأنها لن تنتهي مهما حاصرناها وحاربناها، فاعملوا على مكانتكم ببث الفصحى في النفوس بالحب، والفهم، والعلم، والتقنيات التعليمية الحديثة.