الخميس، 28 فبراير 2019

قراءة في ديوانين للشاعر عادل نافع..


  
   

  
   يتميز عادل نافع، وهو من شباب شعراء العامية بالسويس، بأن له صوتًا متفردًا، وبوحًا متجددًا؛ فلا يزال يحاول الإبحار في مناطق تعطيه جديدًا أو يخلق منها جديدًا، ويبدو هذا جلًيا في ديوانه: "أنا الحَكَّاي" الذي اعتبر ما فيه "حكايات ساخرة على أنغام الزجل" باعتباره راويًا يلبس مسوح الحكمة فيرصد الواقع اتكاءً على خبرته الإنسانية وربما أظهر فيها استشرافًا للمستقبل في أسلوب من القصائد التي تعتمد على البناء الحكائي المرسوم ببراعة الحركة الكامنة فيه.

   يبدو للقارئ أن الشاعر عادل نافع يقطف قوافيه من الفروع القريبة بشكل عشوائي وبلا ترتيب، وهو ما ينسفه نافع تماما مع استكمال البناء المقصود في حكاياته التي ترتكز على جملة تأتي قبل النهاية يظهر من خلالها القراءة الواعية للمشهد بجوانبه السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهو ما يعني أن هناك ارتباطًا نفسيًا خاصًا بين الشاعر وبين النص الذي سهر عليه شكلا ومضمونا ويصلح أن يقرأه القارئ نصا في ديوان أو يراه مشهدا تمثيليا في دراما.

   لا تخلو الحكايات من الموسيقى المتسربة في الكلمات المتدفقة بالصور التي لا تعرف التوقف؛ فالشاعر يقدم الحكاية دفقة واحدة عبر المواجهة مع القارئ بلا مواربة، وأحيانا ما يستخدم الصورة الفانتازية التي تصنع الدهشة وتعقد الألسنة ثم يأتي بالمعنى المقصود من هذه التوليفة العجيبة المزركشة بالألفاظ التي تأتي عنيفة في تركيبتها أحيانا وأحيانا ما تكون صادمة على الذوق الذي لم يألفها لصراحتها، وهذه سمة تكاد تغطي قصائد نافع حتى في عمله التالي الذي سأتناوله.

   وراوي الشعر حاكٍ، وليس على الحاكي عَيْبٌ، ولا عليه تَبِعةٌ، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلا،  كما قال عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز، ونافع لم ينصر باطلا بل داعيا للحق، ما استطاع، غير أنه يجازف برسم صورة شعرية رمزية مقنعة لكنها صادمة للأذن المطبوعة على العرف والتقاليد كما في حكايته:"حلة بكرية".

   داعب نافع أوتار السياسة في أكثر من حكاية بألفاظ دلالية لا يغيب عنها الحضور الجمالي المبني في صياغته بحرفية وإن بدت عفوية بقوافٍ نمطية تولد صوتًا ومعنى، غير أن نافع يستخدم آليتي الهدم والبناء في القصيدة/الحكاية كما أشار إليه "جون كوين" في "بناء لغة الشعر": (لكي تكتمل القصيدة كقصيدة ينبغي أن تفهم ممن وجهت إليه، الإضفاء الشعري سبيل ذو وجهين تبادلي وتزامني.....هدم وإعادة للبناء، ولكي تؤدي القصيدة وظيفتها من الناحية الشعرية ينبغي "للمعنى" في وعي المتلقي أن يُفقد وأن يتم العثور عليه في آنٍ واحد)،  وهو ما يبرع فيه عادل نافع، والشواهد على هذا كثيرة غير أن نقل النصوص في هذا النمط من الحكايات سيفسد المعنى والغرض لو جيء به مبتورا عن سياقه ووظيفته في الاستدلال بالأشطر وما شابه.

   يمتطي الشاعر عادل نافع صهوة العشق في ديوانه: "عن شطي ليه تبعدي" عبر قصائده التي يلح بعضها أن يكون أغنية عافية راقية،  وإن تناولت بعض قصائده العاطفة المشبوبة المتوهجة بالتعبير الحسي الصارخ الصادم كما في قصيدة "دورت عليك": (تسقيني بلذة أحلى لعاب) وشتان ما بين "شهد الرضاب" وهذا الوصف، وكذلك بعض الأوصاف التي أضفاها في "حر الشفايف نار" حين تكلم عن  القبلة التي شبهها بطعم القطايف والجبنة القديمة وهي تخالف الحس الجمالي والبلاغي وإن كان قصده التجديد وكسر التقاليد، لكنها تخالف التلازم الشديد في دلالات التشبيه ـ عند جون كوين ـ في كل العناصر.

  غير أن قصائد الديوان بعامة وإن تناولت نفس موضوعات العشق والهوى التي يطرقها الشعراء كثيرا إلا أن للشاعر عادل نافع لمساته التي أضفاها على كثير من النصوص التي تميزت بالسلاسة والعذوبة والتلقائية، وهو ينقل مفرداتها المختارة تارة بلسان الحبيب وتارة بلسان الحبيبة في ثنائية تقنع القارئ بمدى شفافية الشاعر لنقل التعبير عن شغاف العاطفة المستكنة في فؤاد العاشقة ولا تجد ألفاظا تعينها على البوح الصحيح فيكون لسان نافع خير ناقلٍ عنها.

     لا يجد الشاعر نافع أي غضاضة في أن يرسو قاربه الشعري على مرفأ الشاعر صلاح جاهين فيغترف من نهره المغداق الشطر الأول من رباعيته "أنا اللي بالأمر المحال اغتوى" لكنه يبحر في ذاتيته التي يعارض بها جاهين في سعيه للقمر بينما نافع وحبيبته أرق من القمر.

  لا يستطيع الناقد أن ينقل كل الدلالات والمضامين الشعرية في كل القصائد، وفك بعض رموز الكلمات المسكوت عنها، وكل الجماليات التي ساقها الشاعر الذي حاول أن يثبت فيها طاقته الشعرية المتجددة، وهذا ما استلزم منه جهدا فائقا في اجتناء ثمارها من أشجار حدائق بعيدة عن أيدي غيره من الشعراء، وهذا ـ بحق ـ ما يُحسب للشاعر عادل نافع أنه لم يحط عصاه في مدينة الشعر ويكتفي بل مازال لا يكف عن الترحال بحثا عن المعاني أو الألفاظ المسكونة بدلالاته التي يجهدها في البوح بما يريد.

   إن كل ديوان من ديواني الشاعر عادل نافع يستحق أن تفرد له دراسة وحده، ولكن حتى هذا لا يغني عن أن يبحر القارئ في الحكايات الشائقة في ديوانه: "أنا الحَكَّاي"، كما لا يغني عن التفاعل مع قصائده التي تصور العشق في أكثر حالاته بين الشوق إلى اللقاء، والإعلان عن الوجد باشتهاء في ديوانه الثاني: "عن شطي ليه تبعدي"،  فهذا أقصى ما يتمناه الشاعر أن تدق كلماته باب قلب القارئ، ويعيها عقله، وينطقها لسانه.. بهذا تصل رسالة الشاعر، وهذا يكفيه..        


السبت، 9 فبراير 2019

بين الوردي وكامل .. حوارٌ شبه متكامل..






    استمتعت بالحوار الذي أدارته ببراعة وحرفية وتخطيط مع سبق الإصرار والترصد العلمي الدكتورة رانيا الوردي الأستاذ المساعد بقسم اللغة الألمانية بكلية التربية جامعة عين شمس، مع الدكتور محمد حسن كامل رئيس إتحاد الكتاب والمثقفين العرب والمفكر الموسوعى العالمى، وسفير السلام فى فيدرالية السلام العالمى التابعة للأمم المتحدة.

   وقد دار الحوار في جزئه الأول حول "التنوير بين الأصالة والحداثة" بينما دار في جزئه الثاني والأخير بعنوان "حوار نحو الثورة الإصلاحية في أدب محمد حسن كامل"، وقد ضم الجزء الأول خمس أسئلة بينما زاد الجزء الثاني ليكون ست أسئلة مفرطة في الطول وهو ما أظهر أن الدكتورة الوردي طالعت مشروع المفكر محمد حسن كامل التنويري وكذلك بعض أعماله الأدبية وكونت عنها نظرة جيدة ثاقبة ناقدة، ولم يأتِ اهتمامها بمشروع التنوير إلا لارتباطه بمشروعها حول بناء العقلية الثقافية المصرية والعربية والمنهج الثوري للشباب حيث اختارت شخصية الكاتب الشاب الثائر الألماني "يورا صويفر" وسر اختيارها له أن ثورته لم تتوجه نحو إزالة النظام الديكتاتوري المتمثل في "هتلر" بل لأن ثورته في الأساس كانت ضد ما هو أهم ألا وهي العقلية الثقافية السائدة في هذه الحقبة التاريخية التي تشمل الحاكم والمحكوم معا.

   ولعل من سيطالع أسئلة المحاورة الوردي خلال هذا الحوار القيم سيجد أنها أخذت من الخطوط الرئيسة لمشروعها، النغمة السائدة وهو ما يعني اهتمامها الشديد بنقد هذه المرحلة التاريخية في حياة مصر والعرب على السواء، كما يتشابك سؤالها السادس والأخير في الجزء الثاني حول المعالجة الفريدة لمفهوم الحب وهل ستستثير اهتمام الشباب عامةً، ومن بينهم الشباب المصرى والعربى، لمواكبتها لعصور الحداثة بل ما بعد الحداثة أم أن استخدام المفردات العلمية الحديثة لتوصيف الحب سيمثل صدمة كبرى للشباب نفسه الذي اعتاد أن يسمع عن الحب فقط من خلال المفردات الإنسانية والرومانسية والحسية؟! وهو ما يأتي متسقا مع منهجها من خلال مقالها المعنون: "الحوار الثقافى عن الحب فى عصر العولمة ـ وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية للمجتمع المصري والعربي".

   بعد كل ما تقدم أقول أن هذا الحوار الرائع الذي دار بين الدكتورة رانيا والدكتور محمد  كان بين قطبين في مكنونهما مشروعيهما الذي يتلظى كل واحد من تلك المشاريع بنار الثورة الساعية نحو التغيير سواء الراديكالي أو الليبرالي، وإن بدا على وجهيهما وأسئلتها وإجاباته الهدوء والراحة بفعل تقليب الواقع وتقييمه في إناة وعلمية تزايلها ظلال العشوائية والتسرع والعجلة.

وهو الأمر الذي جعلني أقول: (أن الحوار "شبه متكامل") وليس هذا لعيبٍ فيه، ولكن لأنه لم يتم، فكنت أرى أن الدكتورة الوردي قد أفرغت طاقتها في دراسة المنتوج الفكري والإبداعي للدكتور محمد حسن كامل وقد قدمته للقارئ في جزئين حتى لا تثقل عليه لكثرته. غير أن الواجب عليها أن تدير في المستقبل  حوارا تاليا حول فكر الرجل في الأحداث الجارية على الساحتين العربية والغربية معًا خاصة وأنهما ـ أي الوردي وكامل ـ  يتقاسمان نفس الروح الفكرية المنقسمة بين ألمانيا وفرنسا ومصر والعرب، وذلك بالتنسيق بين مشروع المفكر محمد حسن كامل والدكتورة رانيا.

  كما كنت أتمنى أن تلملم الدكتورة الوردي كافة الأسئلة التي طرحتها في الجزئين وتطرحها عبر دراسة نقدية قائمة بذاتها سواء عن المشروع التنويري أو الأعمال الأدبية للدكتور محمد، وأن تفرد مقالة بذاتها تتناول فيها ما طرحته حول عمادة الدكتور محمد للأدب العربي في عصر العولمة وهو ما يتطلب تأصيلا لفكرتها ورأيها من حيث اهتمامها بدراسة العولمة.

   وبهذا أرى أننا ـ كقراء ـ سنسعد  بهذا الحوار المتنامي والساعي نحو الاكتمال ولا أرجو له التوقف بين جيلين مختلفين في العمر ولهما رؤية ومشروع يكاد يتناغم في الوسائل والأهداف لو تم صياغته في إطار من الإندماج أو التنسيق فسيكون مكسبا عظيما للمشروع التنويري في إعادة بناء العقلية الثقافية المصرية والعربية في هذه الفترة الانتقالية الحاسمة في تاريخنا المعاصر.